يحيى محمد
معلوم ان المنطق الأرسطي يستعين بمبدأ عدم تكرر الصدفة أكثرياً ودائمياً للكشف عن علاقات السببية بين الظواهر الطبيعية. فعندما نرى مثلاً ان الغربان تتصف باللون الأسود على الدوام فإن ذلك يجعلنا نعتقد ان للغراب علاقة سببية ما بهذا اللون، وفقاً للمبدأ الأرسطي الآنف الذكر. لكن ما مدى دقة هذا المبدأ في كشفه عن العلاقات السببية في الطبيعة؟ فهناك العديد من النقاط التي تقف حائلاً دون هذه الدقة، كالذي يتبين من الأمثلة والنقاط التالية:
أولاً:
ان المشاهدات الحسية لا تكفي وحدها لتحديد العلاقات السببية بدقة. فمثلاً عندما نشاهد إقتراناً أكثرياً للعلاقة بين ظاهرة الصعود على الجبال وحالة نزف الدم من بعض فتحات الجسم المعروفة؛ فإن ذلك لا يعطينا نتيجة دقيقة تبعاً للمبدأ الأرسطي في عدم تكرر الصدفة أكثرياً ودائمياً. فكل ما يمكن أن يخبرنا هذا الإقتران هو وجود علاقة سببية بين الظاهرتين. فبالرغم من أن الصعود على الجبال يمثل إحدى وسائط حدوث النزف، لكنه على أي حال لا يمثل حقيقة السبب، وإن إقترن به.
كذلك عندما نشاهد ظاهرتين مقترنتين معاً بصورة دائمة، فإنه قد يتعذر علينا ان نعرف اياً منهما سبباً في وجود الآخر. فمثلاً ان الإقتران الدائم بين العفونة والجراثيم يجعل المشاهدة عاجزة عن أن تحدد من هو السبب في وجود الآخر. لهذا شهد القرن التاسع عشر جدلاً عنيفاً بين المعتقدين بأن العفونة هي سبب تولّد الجراثيم، وبين القائلين عكس ذلك، ولم يحسم الموقف إلا من خلال التجارب الدقيقة التي قام بها باستير وامثاله من العلماء.
اضافة إلى ذلك، قد يحصل ان الظاهرة الواحدة ربما يتم إنتاجها من خلال عدة عوامل، بعضها تدل عليه المشاهدة الحسية، وبعضها الآخر لا يعرف إلا بالتجارب الدقيقة، وبالتالي لو اننا اكتفينا بالاسباب المشاهدة حسياً، فسنكون قد فسّرنا الظاهرة تفسيراً ناقصاً غير دقيق. فمثلاً عندما نشاهد الماء يغلي في درجة حرارة قدرها (100م)؛ قد نتصور ان غليان الماء في هذه الدرجة كان بسبب الحرارة فحسب، إذ لم نشاهد أي عامل غيرها في حدوث الظاهرة. في حين أن الإختبارات الدقيقة تكشف لنا بأن هناك عاملاً آخر غير محسوس يتمثل بالضغط الجوي، فلو تغيرت درجة هذا الضغط لأدى ذلك إلى تغيير درجة الغليان. وفي هذه الحالة يصبح التعميم القائل بأن كل ماء يغلي في درجة (100م) تعميماً غير دقيق؛ ما لم يؤخذ بإعتبار درجة ذلك الضغط.
ثانياً:
في كثير من الأحيان يكون التعميم القائم على المشاهدة خالياً من الدقة، لحدوث حالات الشذوذ بين الحوادث المتكررة. فمثلاً كم من الفرق بين ان نقول: كل غراب أسود؛ تبعاً للحاظ عدد كبير من الغربان السود، وان نقول: كل حديد يتمدد بالحرارة؛ استناداً إلى عدد من الإختبارات التي كشفت حقيقة هذا التمدد؟ فعادة ما نتوقع الشذوذ في المثال الأول دون الثاني. في حين لا يوجد فرق موضوعي لدى المنطق الأرسطي بين الحالتين، وإن كان له تفرقة قائمة على الإعتبارات الذاتية، كما يبدو مما ذكره الشيخ الطوسي، حيث يقول: ‹‹ان التجربة قد تكون كلياً وذلك عندما يكون تكرر الوقوع بحيث لا يعتبر معه تجويز اللا وقوع. وقد يكون حكم واحد مجرباً كلياً عند شخص وأكثرياً عند آخر، وغير مجرب أصلاً عند ثالث››1.
ثالثاً:
يفترض المنطق الأرسطي ان تكون الظروف التي لوحظ فيها الإقتران هي نفسها كي يمكن تحديد دائرة التجربة والتعميم. لكن هذا الإفتراض قد يواجه مشكلة تتعلق بعدم الدقة في تحديد دائرة الظروف التي نشأت فيها التجربة والإستقراء. فهناك ظروف تطالها التغيرات دون ان نشعر بها، كما هناك ظروف غير محسوسة لها تأثير حاسم على صحة العملية الإستقرائية. فمثلاً قد نعتبر الحكم القائل بتوقف حياة كل حيوان على وجود الهواء هو من التجربة الصحيحة، ولنفترض اننا قصدنا بالهواء هو هذا الذي نتحسس به، ففي هذه الحالة لو ان أحد عناصر الهواء الأساسية في الحياة - كالاوكسجين مثلاً - أصبح مفقوداً؛ لكان حكم التجربة السابق غير صحيح، رغم وجود الهواء المحسوس الذي يوهم بأنه نفس الظرف السابق.
ولا شك ان هذا الخطأ والاشكال لم يغب عن ذهن ابن سينا الذي ذكر يقول: ‹‹ان التجربة كثيراً ما تغلط أيضاً إذا أخذنا ما بالعرض مكان ما بالذات فتوقع ظناً ليس يقيناً. وإنما يوقع اليقين منها ما اتفق إن كان تجربة فيها الشيء المجرب عليه بذاته. فأما إذا أُخذ غيره مما هو أعم منه أو أخص، فإن التجربة لا تفيد اليقين››2. وبذلك فرغم أن ابن سينا قد قيّد التجربة بعدد من الشروط المتعلقة بوحدة الظرف، إلا انه يجيز الخطأ، كما يجيز الشذوذ بسبب بعض العوامل الطارئة التي تمنع من حدوث النتيجة عند وجود السبب.
رابعاً:
لقد حصر المنطق الأرسطي إمكان صدق التجربة في الحدود الظرفية التي ينشأ فيها الإستقراء دون ان يتعدى ذلك إلى الظروف الأخرى. في حين هناك إستقراءات صحيحة بإمكانها ان تتجاوز الوحدة الظرفية. فمثلاً ان إستقراءنا للاختلاف الحاصل في وجهات النظر بين الناس في شتى المجالات الفكرية يبرر لنا تعميم ذلك على مختلف الحضارات القديمة والحديثة، وذلك لاسباب تعود إلى وجود عوامل كثيرة تقوي من إحتمالات الاختلاف والتباين مقارنة بتماثل الاراء.
خامساً:
ان إستنتاج السببية من الإقتران الكثير وتعميمها يفترض كونها لا تتغير في ظل وحدة الظروف، إذ لو تغيرت لبطلت التجربة والتعميم. وحيث ان من الممكن ان تتغير السببية الخاصة بفعل عوامل مؤثرة، وحيث ان هذه العوامل تمثل اسباباً أخرى قابلة لأن تتأثر بغيرها من الاسباب، لذا فكل ذلك يكشف عن الطابع غير الحتمي للسببية، ومن ثم بطلان حكم التجربة والتعميم. فمثلاً يمكن بحسب المنطق الأرسطي ان نعمم قضية ولادة السود في السودان بفعل الإقتران الدائم في هذه الولادة. لكن السؤال المطروح هو: ما المانع من أن تتدخل عوامل من شأنها تغيير طبيعة المادة الوراثية وإحداث الطفرات فيها؟ الأمر الذي يؤدي إلى ايجاد أجيال مطردة من البيض في السودان لعدد من الناس، ومن ثم تصبح التجربة والتعميم خاطئين.
سادساً:
لابد من التفريق بين نوعين من الإستقراءات. فهناك نوع يلاحظ فيه جانب السببية بين ظاهرتين مقترنتين معاً، مثل قولنا: إن تمدد الحديد يحصل بسبب الحرارة. كما هناك نوع آخر لا ينظر فيه إلى السببية، بل تقرر فيه الحقائق الثابتة الاطراد، مثل قولنا: ان المادة آخذة في التحول نحو الطاقة، وان الطاقة تنتقل من المستويات العالية لها إلى المستويات المنخفضة، وان العادة الإنسانية تميل إلى التطورين الكمي والكيفي في السلوك، وان الانتحار يتناسب عكسياً مع التماسك الاجتماعي، وان الشمس تشرق وتغرب، وان السمك يعيش في الماء، وان اغلب الناس جاهلون، وما إلى ذلك مما لا يحصى.
ويلاحظ في النوع الأول انه ينطوي على العلم بالسببية في العلاقة الإستقرائية، في حين لا يتضمن النوع الثاني هذا المعنى. وتبعاً لهذا التمييز يمكن ايضاح كيف تتدرج المعرفة الإنسانية، حيث تبتدئ اولاً بإدراك النوع الثاني من الإستقراء، ثم يتحول الأمر إلى إدراك النوع الأول منه. وعادة ما تتركب العلاقة التكاملية بينهما وفق تأسيس النوع الثاني على الأول. فمثلاً ان الدراسات الاجتماعية تبتدئ أولاً بعملية المسح الاحصائي لدراسة أنماط السلوك الفردي والاجتماعي، وذلك قبل ان تشرع في البحث عن الاسباب والدوافع التي لها علاقة بهذه الأنماط. وهذا يعني ان العلاقة بين الامرين هي علاقة تتحدد بمستوى الدقة والسعة، حيث ان النوع الأول ادق واوسع من الثاني.
وعليه رغم أن للمنطق الأرسطي تمييزاً للعمليات الإستقرائية يشابه ما ذكرناه سلفاً، كتمييزه بين التجريبيات والحدسيات، لكنه - على ما يبدو - لا يميز بينهما من حيث الدقة والسعة المعرفية وطبيعة ما يمكن أن ينشأ بينهما من العلاقة التراكبية، وبالتالي لا يعير لهذه المعرفة من اهمية، خاصة وانه يعدهما من القضايا العقلية.
سابعاً:
في كثير من الأحيان، تتركب القوانين الإستقرائية فيما بينها حتى تؤلف قانوناً عاماً وشاملاً يتجاوز مرحلة الظروف المقترنة باكتشاف القوانين الجزئية؛ كل على حدة، كالذي يوضحه قانون الانتحار الاناني لعالم الاجتماع الفرنسي دوركايم، حيث درس جملة من الظروف المختلفة التي لها علاقة بظاهرة الانتحار، فتوصل إلى ان نسبته في المدن تزداد عما عليه في القرى، كما تزداد عند العزاب أكثر من المتزوجين، وعند المتزوجين أكثر ممن لهم اطفال، ولدى هؤلاء أكثر ممن لهم عدد أكبر من الاطفال والعيال. كما تزداد نسبته لدى المنتسبين للمذهب البروتستانتي أكثر من المنتسبين إلى المذهب الكاثوليكي، ويزداد أقصى حدّ للانتحار عند من يسمون بالاحرار، في حين أن أقل نسبة لهذه الظاهرة هي لدى اليهود.
فهنا لدينا مجموعة من الدراسات ذات الظروف المختلفة، وكل دراسة تفضي إلى قانون إستقرائي، ومجموعها يؤلف مجموعة القوانين الإستقرائية، ومنها تم إستنتاج القانون العام الذي يضمها جميعاً، والذي يؤكد بأن الانتحار يتناسب تناسباً عكسياً مع التماسك الاجتماعي. وواضح ان هذا القانون ليس فيه أثر للظروف التي تمت فيها القوانين المختلفة السابقة. مما يعني انه لا يخضع للشرط الخاص بمراعاة الوحدة الظرفية كما فرضها المنطق الأرسطي لاجل إنتاج الإستقراء الصحيح.
كما ان عنصر التركيب في قانون الانتحار لا يخضع للمتطلبات التي الزمنا بها هذا المنطق. ذلك انه إذا كان من الممكن الاستفادة من المنطق الأرسطي في تطبيق مبدأ (عدم تكرر الصدفة أكثرياً ودائمياً) على العلاقة الخاصة بين ظاهرة الانتحار والمدينة مثلاً، أو بين هذه الظاهرة واي ظرف اخر، فإنه من الصعب تطبيق ذلك على العلاقة بين الانتحار والتماسك الاجتماعي، وذلك بإعتبار ان هذا التماسك ليس ملحوظاً في الإستقراءات أو النسب الاحصائية المختلفة الآنفة الذكر.
ولو قيل ان النتيجة في القانون الأخير يمكن استخلاصها عبر مبدأ الحدس وفقاً للمفهوم الأرسطي، لقلنا انه يشترط في الحدس - حسب هذا المفهوم - معرفة ماهية السببية، وليس في القانون السابق أي اشارة تدل على هذه الماهية. فعدم التماسك في حد ذاته لا يؤدي إلى الانتحار، وإلا لكانت كل عزلة مفضية إليه لا محالة.
يضاف إلى ذلك ان المبدأ الأرسطي السابق ليس بوسعه المصادقة على الإستقراءات الجزئية التي يتضمنها قانون دوركايم. فمثلاً لو قدّرنا عدد نفوس إحدى المدن بمليون نسمة، وقد اظهرت الاحصاءات ان نسبة الانتحار في هذه المدينة هي بمعدل خمس حوادث في الشهر الواحد. وعليه هل يمكن تطبيق المبدأ السابق على هذا المقدار؟
حقيقة الأمر هو ان المبدأ الأرسطي يفترض ضرورة حصول الكثرة أو الدوام في التكرار والحدوث. في حين أن المقدار المذكور هو في غاية الضآلة مقارنة بعدد نفوس المدينة، وبالتالي فإنه يشكل بمثابة الصدف العارضة التي لا إعتبار لها بحسب المنظور الأرسطي.
هذا فضلاً عن أن طبيعة التعميم في القانون الاحصائي تختلف عن طبيعة التعميم في القضايا الإستقرائية الأخرى التي يصدق عليها المنطق الأرسطي. فالقانون الاحصائي يرتكز على المسحة العامة دون ان يكون له تأثير بالضرورة على العناصر الفردية، فحين نقول ان الانتحار يتناسب طردياً مع العزلة، لا يعني ان كل من يتصف بالعزلة من شأنه الانتحار، وذلك لأن طبيعة هذا القانون غير ناظرة للجانب الفردي، بل لها مسحة عمومية. في حين أن القضايا الإستقرائية الأخرى التي اعتمد عليها المنطق الأرسطي لا تنطوي على مثل هذه المسحة (العامة)، بل ناظرة إلى العناصر الفردية كشرط لا غنى عنه في صحة التجربة والتعميم. فمثلاً حين نقرر بأن السقمونيا يسهل الصفراء، فهذا يعني ان من شأن كل سقمونيا ان يسبب الاسهال. ولو لم تحصل هذه النتيجة أحياناً، لكان ذلك على سبيل الشذوذ بسبب تدخل بعض الصدف العارضة. وهذا الحال لا يجري على القوانين الاحصائية كما هو واضح.
ثامناً:
من الصعب على المنطق الأرسطي ان يبرر القضايا الإستقرائية المستمدة من العلاقات الاجتماعية، وذلك لأن هذه العلاقات كثيراً ما تكون متشابكة ومعقدة وذات تأثيرات متبادلة، كما انها تتأثر بعوامل أخرى مختلفة. فلا يكفي في مثل هذه الدائرة الاعتماد على مبدأ عدم تكرر الصدفة أكثرياً ودائمياً، حيث لا بد من الاستعانة بقرائن أخرى تفيد في الكشف عن تلك القضايا. فمثلاً إذا لاحظنا ظاهرة إقتران التطور الاقتصادي بالتطور الاجتماعي، يمكن أن نستنتج طبقاً للفهم الأرسطي ان بينهما سببية ما، وإلا لما إقترنا بهذا الشكل المستمر، ومن ثم باستطاعته تعميم الظاهرة. إلا انه من حيث الدقة يجب ان نميز بين السبب والمسبب في هاتين الظاهرتين المقترنتين، فهل التطور الاقتصادي هو سبب ظهور التطور الاجتماعي، أم العكس هو الصحيح؟
ففي مثل هذا الالتباس الحاصل في القضايا الاجتماعية لا يمكننا إستنتاج وتحديد السبب والمسبب تبعاً للمبدأ الأرسطي، وذلك ما لم نستعن بقرائن أخرى مختلفة تبين لنا طبيعة الحال بين الظاهرتين، حيث تكشف لنا هذه القرائن عن العلاقة الجدلية من التأثير المتبادل بين الظاهرتين، فكل من التطورين مؤثر في الآخر باستمرار..
تاسعاً:
في الطبيعة هناك جملة من الإقترانات الأكثرية والدائمية رغم أنها تخلو من ارتباطات السببية. ومن ذلك ظاهرتا الحياة والموت اللتان تتكرران على الدوام من غير انقطاع، ففي الوقت الذي يموت فيه بعض الناس؛ يحيا غيرهم. ورغم هذا الإقتران الزماني فليس هناك من يزعم ان بين الظاهرتين علاقة لزومية أو سببية.
هكذا يمكن أن نعود إلى بحث المبدأ الأرسطي، فماذا يعني هذا المنطق بقوله: ان الصدفة لا تتكرر أكثرياً ودائمياً؟ فهو يعتبر الصدفة أو الإتفاق إقتران ظاهرتين معاً بغير لزوم تبعاً لبعض العلل العارضة. فمثلاً قد يقترن وقت زواج أحد الاشخاص بموت اخر، وقد يقترن سقوط المطر مع هبوب الرياح، كما قد يقترن حدوث زلزلة مع الإصابة بمرض الطاعون، وغير ذلك من الإقترانات التي لا لزوم بينها مطلقاً.. أي ليس يلزم من زواج أحد الأشخاص موت الآخر، ولا يلزم من سقوط المطر هبوب الرياح، كما لا يلزم من حدوث الزلزلة الإصابة بمرض الطاعون، وهكذا... في حين يلزم من اتصال الحديد بالحرارة تمدده، ومن تعرض الثوب للنار احتراقه، ومن دوران الارض حول نفسها وحول الشمس حدوث الليل والنهار والفصول الأربعة، وغير ذلك من الإقترانات اللزومية.
وهنا نعود إلى ما كنا عليه من السؤال السابق، إذ يقصد المنطق الأرسطي من أن الإقترانات بين الظواهر إذا لم تكن لزومية فإنها لا تتكرر أكثرياً ودائمياً. ومنه يستنتج بأن الإقترانات لو كان تكررها أكثرياً أو دائمياً فإنها ستدل على وجود العلاقة السببية، حيث من المحال تكرر الإقترانات الخالية من اللزوم باستمرار.
ولا شك انه لا يمكن حمل هذا المعنى على اطلاقه من غير شروط وقيود، وذلك لأن أغلب الإقترانات الحادثة في عالم الطبيعة والحياة تعتبر صدفوية خالية من اللزوم. إذ أي لزوم يربط بين إقتران مجمل الحوادث التي تحصل في بلد ما كافغانستان، واخرى تحدث في افريقيا أو فرنسا أو غيرها؟ فلا يخلو مكان ولا زمان من حوادث، وهي إذ تحدث في مكان ما لا بد من أن تقترن مع غيرها في مكان آخر بذات الوقت، ومع هذا فليس ثمة لزوم بين المجموعتين منها. وبالتالي كان لا بد من تقييد المبدأ الأرسطي ببعض الشروط.
اذاً لنفترض أن التقييد يندرج ضمن دائرة العلاقة النوعية. بمعنى انه لا يُلتفت إلى حالات الإقتران الحاصلة بين مطلق الأشياء، بل يقيد الأمر بدائرة إقتران أفراد نوع معين بأفراد نوع اخر، فإذا لوحظ ان هناك تكراراً أكثرياً أو دائمياً بين أفراد النوعين كان بالإمكان إستنتاج العلاقة اللزومية والسببية بينهما. فمثلاً يصح إعتبار السقمونيا مسهلة للصفراء، بسبب ملاحظة الإقتران المستمر بينهما. فهذه العلاقة اللزومية مستنتجة من خلال لحاظ الإقتران الحاصل بين أفراد نوع السقمونيا وافراد نوع الاسهال.
لكن مع هذا هناك حالات نوعية يحدث فيها الإقتران المستمر رغم أنها جارية على مجرى الصدفة والإتفاق وليست لزومية. فمثلاً أي علاقة لزومية تربط بين عمل الفلاحين في مزرعة ما من المزارع، وبين عمل أفراد خلية للنحل موجودة هناك، رغم أن العملين يمكن أن يكونا مقترنين باستمرار؟ وكذا أي علاقة لزومية تربط الإقتران المستمر بين حدوث حالات الزواج، وبين حالات القتل في العالم؟ أو بين تجدد الحياة، وبين حالات الموت المطردتين؟ فلا شك ان مثل هذه الإقترانات المستمرة تعتبر صدفوية لا تقوم على إعتبارات اللزوم والسببية.
وحتى لو قيل انه يشترط في ذلك وحدة الزمان أو المكان، أو كلاهما معاً، فمع ذلك هناك إقترانات ذات علاقات سببية لا تحتفظ بمثل هذه القيود. فمثلاً نحن نعلم أن اليورانيوم يتحول إلى رصاص، وهو يحتاج بذلك إلى فترة زمنية طويلة جداً، كما نعلم ان حركة الأجرام في مداراتها تتأثر بقوة الجذب فيما بينها، رغم أن أمكنتها مختلفة وبعيدة للغاية. وعليه إذا قيّدنا المبدأ الأرسطي بشرط الزمان أو المكان، فسيكون من المحال علينا تبرير مثل تلك القضايا الإستقرائية. بل هناك إقترانات دائمة لظواهر تتفق زماناً أو مكاناً رغم أنه لا تربطها علاقات السببية، مثل ظاهرتي الأكل والشرب اللتين تحدثان كل لحظة باستمرار لدى المعمورة كافة، وكذا إتفاق وجود البحر مع وجود بقعة الارض التي تحته.
ولا ينفع ما قد يقال انه يشترط في ذلك ان يقوم الإنسان بنفسه في إقامة التجربة وإثبات العلاقة اللزومية، كالذي شهدناه لدى البعض في تأويله للمبدأ الأرسطي، حيث هناك جملة من الظواهر الطبيعية لا تحتاج إلى تجارب للكشف عن علاقاتها السببية، بل تكفي المشاهدة الحسية لمعرفة كونها لزومية وليست إتفاقية، ومن ذلك ما يحصل في الظواهر الفلكية.
كما لا ينفع - أخيرا - ما لو فرضنا أن المبدأ الأرسطي مقيد بحالات التكرر الفردية ضمن النوع الواحد. فبحسب هذا الشرط لو شهدنا تكرر الحدوث لفرد مع آخر في نوع واحد باستمرار، فسيأذن لنا ذلك بإستنتاج علاقة اللزوم والسببية. لكن حتى في مثل هذه الحالة نرى بعض الظواهر ما لا يصدق عليها تلك العلاقة. فنحن نلاحظ - مثلاً - ان جزيئات الغاز في حركة دائبة مستمرة، ولنفترض اننا عينا جزيئتين من هذا الغاز لنتحقق فيما لو كانت تربطهما علاقة سببية ما، اعتماداً على مبدأ عدم تكرر الصدفة أكثرياً ودائمياً، وفي هذه الحالة سوف تتأكد لنا علاقة اللزوم بسبب حالة الإقتران الدائمة لحركة كل منهما، إذ الإقتران المستمر دال على عدم تكرر الصدفة، الأمر الذي تثبت فيه علاقة اللزوم والسببية. مع انه طبقاً لقرائن كثيرة يمكن التأكد بعدم وجود أي علاقة لزومية بين حركتي الجزيئتين.
وبهذا ننتهي إلى ان المبدأ الأرسطي يحتاج إلى صياغة معقولة، وان علاقة السببية لا تستنتج منه، وإلا لكنا إعتبرنا الكثير من الإقترانات الصدفوية بأنها إقترانات لزومية، وهو قلب للحقيقة والواقع.
عاشراً:
هناك إصلاح جذري للمبدأ الأرسطي أجراه المفكر الصدر عليه. وينص هذا الاصلاح بأنه كلما كانت هناك ظروف وملابسات كثيرة متغيرة ومتحركة، كلما تضاءل إحتمال تكرر الظاهرة المتأثرة بهذه الظروف والملابسات. وعلى العكس كلما تضاءلت مثل هذه الظروف التي من شأنها التأثير على حرف الظاهرة، وازدادت في الوقت نفسه الدواعي التي تدعو لايجادها، فإنه سيزداد إحتمال تكرر الظاهرة. وكما يقول الصدر: ‹‹كلما كان دور الجزء الثابت - أي العوامل الداعية لايجاد الظاهرة - أكبر كان ترقب تكررنفس الظاهرة مرات عديدة أقوى، وكلما كان دور الجزء المتحرك - أي العوامل التي من شأنها حرف الظاهرة عن الحدوث - أكبر كان ترقب اختلاف الظاهرة أقوى››3. واستنتج من ذلك إن العوامل المتحركة - التي من شأنها حرف الظاهرة - إن كانت كثيرة، فسوف تختلف الظواهر الناتجة دون أن تتماثل في الوقوع والحدوث. وهو بمثابة ان الصدفة لا تتكرر باستمرار ما دامت الظروف متحركة وغير ثابتة. وقد سمى هذه الحالة ‹‹قاعدة عدم التماثل›› عوض تسميتها ‹‹مبدأ عدم تكرر الصدفة أكثرياً ودائمياً››، لِما في ذلك من اصلاح وتعديل للمبدأ الأرسطي.
فمثلاً على هذه القاعدة لنفترض انه قمنا باحصائية لدراسة ظروف ألف شخص مصابين بظاهرة الانعزال أو الانطواء، وقد بينت لنا هذه الدراسة أن هؤلاء الأفراد يختلفون في عقائدهم وتقاليدهم وظروفهم الحياتية بشكل كبير. ففي هذه الحالة ما هو إحتمال أن ينتحر جميع هؤلاء، كتطبيق لقانون دوركايم؟
من الطبيعي ان القيمة الإحتمالية للانتحار في هذه الحالة ستكون ضئيلة جداً، بإعتبار ان ظروف كل واحد من هؤلاء الاشخاص متنوعة ومختلفة بشكل كبير، وربما تكون اغلب هذه الظروف غير داعية للانتحار. لكن لنفترض للتبسيط ان القيكة الإحتمالية لظروف كل واحد منهم تدعوه إلى الانتحار هي (1\2)، ففي هذه الحالة تكون قيمة إحتمال انتحار الجميع عبارة عن نصف مضروبة في نفسها ألف مرة، وهي قيمة في غاية الضآلة، وعملياً انها اقرب إلى الصفر. لذلك فهناك مبرر للإعتقاد بنفي حدوث مثل هذه الحالة.
وما يعنينا من ذلك انه لما كانت هناك ظروف مختلفة من شخص لاخر فإن اجتماع الصدف التي تجمعهم على الانتحار هي في غاية الضآلة، وهو نفس معنى كون التماثل لا يستمر طالما هناك ظروف متغيرة من شأنها حرف الظاهرة عن التماثل.
وعليه إذا أردنا أن نعرف إذا ما كانت ظاهرة ما من الظواهر تتكرر أم لا، فلا بد من دراسة ظروفها الخاصة، فكلما علمنا بأن اغلب الظروف متحركة - أي داعية إلى حرف الظاهرة عن التماثل - كلما توقعنا ان الظاهرة لا تتكرر باستمرار. وعلى العكس فيما لو علمنا أن أغلب الظروف ثابتة - أي داعية إلى ايجاد الظاهرة - حيث سنتوقع تماثل الظاهرة وتكررها. وهذا يعني انه لا بد من معرفة ظروف الظاهرة ودور نسبة تأثير العوامل الثابتة والمتغيرة من تلك الظروف، بالاعتماد على حسابات الإحتمال التي لم تحض باهتمام المنطق الأرسطي.
مع هذا يمكن القول ان الصياغة الجديدة للمبدأ الأرسطي لا تنطوي، من حيث ذاتها، على كشف السببية. فهي تتحدث عن إحتمالات الترقب ودور العوامل الثابتة والمتغيرة في إنتاج الظاهرة، بغض النظر عن وجود السببية وعدمها. وهذا يعني ان هناك حالات تتماثل فيها الظاهرة، ومع ذلك فهي لا تتضمن الكشف عن السببية. فمثلاً لو كانت لدينا ألف كرة سوداء مع عشر كرات بيض، واردنا ان نسحب عشوائياً ثلاث منها، فسوف نتوقع ان الكرات التي نسحبها ستكون كلها سوداء. فمع انه ليس بين الكرات المسحوبة أي اثر من اثار السببية، ولا بينها وبين بقية الكرات، إلا ان ذلك لا يمنع من أن نتوقع عدم تكرر الصدفة في أن تكون جميع الكرات المسحوبة بيضاء، وذلك لوجود عوامل تدعونا إلى خفض القيمة الإحتمالية لهذه الصورة إلى ابعد حد ممكن، ورفع القيمة الإحتمالية لصالح سحب الكرات السود.
هكذا لم تكن الصياغة الجديدة كاشفة من حيث ذاتها عن السببية.
1 منطق الاشارات والتنبيهات، ص217.
2 البرهان، ص96.
3 الأسس المنطقية للإستقراء، ص396.