يحيى محمد
قد لا يعرف الكثير ان مسألة وجود الله تخضع لنفس دواعي المنطق العلمي المستند إلى إعتبارات نظرية الإحتمال أو ما على شاكلتها من معايير، فكلاهما يقوم على أساس الدليل الإستقرائي.
وبالتالي فنحن بين أمرين: إما ان نقبل تطبيق المبدأ الإستقرائي على أمثال هذه المسألة ومختلف القضايا العلمية غير المباشرة معاً، أو نمنع تطبيقه على الجميع، وليس بين الأمرين ثالث يتسق إعتباره. وهي نتيجة سبق ان توصل إليها المفكر الصدر، إذ إعتبر الإنسان الوضعي مضطراً لأن يتبنى موقفاً بين أمرين: فهو إما ان يرفض العلم وقضية وجود الله معاً، أو يتقبلهما سوية، إذ الاخذ بأحدهما دون الآخر يعد تناقضاً؛ مادام انهما يرتكزان على محور الدليل الإستقرائي1. ويكفينا شاهد على ذلك ما وُصفت به بعض المبادئ العلمية من صفات ‹‹ميتافيزيقية›› بحيث فُسرت بشكل يتسق تماماً مع ما كان يُنظر إلى القضايا الميتافيزيقية ومنها المسألة الإلهية. فمثلاً يقول فيلسوف العلم المعاصر فيليب فرانك: ‹‹من الواضح على وجه التأكيد أن مبدأي الثبات والنسبية اللذين يؤلفان العمود الفقري لنظرية النسبية لاينشتاين لا يمكن إستنباطهما من الحقائق المكتسبة من خبرتنا، أو حتى من التجارب التي يعدها ويجريها علماء الفيزياء. ومع ذلك، إذا وصفنا هذه المبادئ بأنها عقائد فإن علينا أيضاً ان نصف مبدأ القصور الذاتي بأنه (عقيدة). فعندما قدم غاليلو ونيوتن هذا المبدأ كان أيضاً مخالفاً جداً لخبرة الفطرة السليمة ولم يكن ليقبل إلا لأن الإستنتاجات المستخلصة منه كانت متفقة مع المشاهدات الواقعية››2.
ويزداد الأمر اتساقاً عند لحاظ ما ابداه بعض المؤلفين من أن التفسيرات الشمولية هي تفسيرات غير ذات معنى بإعتبارها تتضمن نصوصاً لا يمكن تدقيقها بالمشاهدة والخبرة التجريبية3.
وهنا نصل إلى ان مثل هذه التفسيرات تصطف مع الكشف الخاص عن المسألة الإلهية، فهل نرفضهما معاً، الأمر الذي يوصد الباب أمام التقدم العلمي؟ أو نعتبر كلا المجموعتين مبررتين بمصدر واحد مشترك؟ فما سبق ان وُصفت به بعض المبادئ العلمية هو أمر يتفق تماماً مع لحاظ المسألة الإلهية، بإعتبارها ليست مكتسبة من الخبرة مباشرة ولا قابلة لتحضيرها تجريبياً، لكن ما يترتب عليها يتفق مع المشاهدات الواقعية. فأهم ما يستنتج من الإعتقاد بها هو شمولية النظام وغائيته. فإذا كنا نعتبرها مستخلصة من لحاظ عدد من النظم الكونية، فإن ما يستنتج منها هو تعميم النظام في الكون والإعتقاد بالفعل القصدي والغائية الوظيفية. ولا يعني ذلك ان المسألة الإلهية تصبح مسألة علمية كالمسائل العلمية الأخرى، إنما يعني ان إستنتاجها لا يختلف عن إستنتاج النظريات العلمية من حيث النظر إلى وحدة الأساس، بل تفوق غيرها بكسبها ما لا يحصى من القرائن الدالة عليها من دون منافس، طالما لا توجد ظواهر مضادة تعمل على تكذيبها. كما تتصف الأطراف فيها بأنها مغلقة وضيقة للغاية، خلافاً للنظريات العلمية المفتوحة. فأي نظرية علمية تُتخذ للتفسير يمكن استبدالها بأخرى تفوقها، وهكذا من غير حدود. فهناك إختلاف في القيمة المعرفية التي تترتب على الفارق الذي حددناه حول القضية العلمية والمسألة الإلهية. فالنظام العلمي المفتوح لا يبعث على القطع في القضايا غير المدركة مباشرة، وهو خلاف النظام المغلق لوجود الحصر، خصوصاً عند لحاظنا بأن تاريخ العلم – كما في الفيزياء - يشهد بأنه تاريخ لإبطال النظريات. وهو ما لا ينطبق على المسألة الإلهية بإعتبارها تتضمن طرفين فحسب؛ أحدهما لصالح هذه القضية، والآخر لصالح المصادفات العشوائية المحضة، وبالتالي إذا كانت القرائن متجهة نحو إثبات القضية فذلك يعني دحضاً للطرف الآخر، إذ ليس هناك طرف ثالث منافس في هذه المعادلة.
بل حتى لو إفترضنا ان إمكانات الصدفة متوفرة للتحقق فان التفسير يتردد بينها وبين الفعل القصدي بالتساوي، فلو كانت لدينا قطعة نقد متكافئة الوجهين، ورميناها عشر مرات، فان ظهور أحد الوجهين في جميع هذه الرميات هو مستبعد للغاية، فقيمته الإحتمالية تساوي (1\1024) أو (2-10). بمعنى أننا لأجل توقع ظهور أحد الوجهين عشر مرات؛ علينا ان نقوم برمي قطعة النقد (1024 في 10) مرة، فسلاسل الرميات تساوي (1024)، وكل واحدة منها تتضمن عشر رميات. فضمن مجاميع هذه السلاسل من المتوقع ان تظهر واحدة منها تفي بالغرض المذكور.
وعليه إذا كان الإحتمال الأول ضعيفاً ضمن سلسلة الرمي العشر، فانه سيكون على عكس ذلك متوقعاً في حالة السلاسل الكثيرة السابقة. ولو إفترضنا أننا أُخبرنا بتحقق ظهور الوجه عشر مرات كما في الحالة الأخيرة، فذلك يعني وجود تفسيرين مقبولين لهذا التحقق، فهو إما ان يحدث بفعل التوقعات الإحتمالية للرميات العشوائية الكثيرة، أو يحدث بفعل الممارسة القصدية. فلو أننا لم نعرف أي شيء عن ظروف الرمي؛ لكان لا يمتنع ان نقول بأن هناك فاعلاً قد تعمد إظهار الوجه المعني في كل رمية قصداً، مثلما يحصل في حالة خفة اليد والسحر والشعوذة. فهذا التفسير يكافئ التفسير الآخر وفق الحسابات الإحتمالية لكثرة الرمي العشوائي. لكن رغم ذلك يُفضل التعويل على التفسير الإحتمالي للبساطة الإقتصادية فحسب، فمن الناحية المنطقية ان التفسيرين متكافئان من دون ترجيح إحتمالي.
والشيء ذاته يقال عندما نفترض وجود عدد كبير جداً أو غير متناه من الأكوان. فهذا العدد الكبير قد يزودنا بواحد أو اكثر من الأكوان المنظمة والصالحة للحياة عشوائياً. رغم ان هذا الحال يتقبل التفسيرين السابقين معاً: الصدفة المتوقعة والفعل القصدي، فهما تفسيران متكافئان، وإن كان يُفضل الأخذ بالأول لإعتبارات البساطة الإقتصادية كما ذكرنا4.
لكن المشكلة تكمن في ان إفتراض وجود عدد كبير أو غير متناه للأكوان يتحلل إلى إفتراضات محتملة وكثيرة جداً، وكلما زادت هذه الأطراف المحتملة كلما ضعفت قيمة إحتمال اي عدد نختاره. فنحن لا نعرف لحد الآن سوى كون واحد فقط هو كوننا الذي نحيا فيه، وان فكرة تعدد الأكوان هي فكرة مفترضة، لذا فهي محتملة بدرجة النصف من الناحية الذاتية وفقاً لمبدأ عدم التمييز. ومن حيث التفصيل قد يكون هناك كون واحد اضافي أو اثنان أو ثلاثة أو مائة أو مليون.. الخ. وكل عدد من هذه الأعداد هو طرف محتمل ضئيل للغاية، ومجموع إحتمالاتها كلها يعادل درجة النصف، رغم ان توقعات الحدوث المنظم للكون عشوائياً لا تكون إلا في حالة إفتراض الأكوان اللامتناهية أو الكثيرة للغاية وفقاً للحسابات الرياضية، وهو إحتمال ضئيل جداً يقارب النفي أو الصفر.
وهنا يتبين خطأ إفتراض فكرة الأكوان اللامتناهية كما يعول عليها الفيزيائيون المعاصرون من أمثال دعاة نظرية الاوتار الفائقة. فبحسب بعض العلماء ان عدد الأكوان الممكنة حسب الأشكال الهندسية منخفضة الطاقة يُقدّر بعدد ضخم لا يمكن تصوره، وهو أكثر من (10 500)، في حين ان عدد ذرات الكون كله لا يزيد على (10 60)5، وان عدد فوتونات الكون كله يقدر بـ (10 87).
وبذلك فان فرضية الأكوان الكثيرة لا يمكنها منافسة فكرة الفعل القصدي.
ويمكن القول إنه لا توجد قضية خارجية يمكن أن تحظى بتأييد معرفي مثلما هو الحال مع هذه المسألة، فحتى القضايا الحسية رغم أننا نتعامل معها بحسب القطع واليقين، لكنها من حيث التحليل لا تصل إلى درجة ما تختزنه تلك المسألة من تقديرات معرفية، لكثرة ما تحظى به من قرائن لا تقبل الحصر والحدود. حتى ان هذه الكثرة جعلت المبرر لبعض الفيزيائيين ان يطرح نظريةالمبدأ الإنساني (Anthropic Principle).. فالذي يطلع على نظريات الفيزيائيين ومثلهم علماء الأحياء يجد أنهم يتعاملون مع قضايا تُشعرنا بأنها أشبه بالسحر والمعاجز الكونية والحياتية.
فمثلاً واجه الفيزيائيون مشكلة تتعلق بالعشوائية الناتجة عن الإنفجار العظيم(big bang)بما لا يتسق مع تحقق النظام الكوني بشكل مذهل يفوق الخيال، فما الذي جعل الكون يحقق حالة الاستقرار والتسطح؟ لقد افترض بعض الفيزيائيين حصول انتفاخ مفاجئ ضخم هو ما يمكن ان يطوي المراحل الكثيرة دفعة واحدة دون ان يظهر في الأفق أي مجال للعشوائية. لذا يُفترض ان لا يتجاوز حداً معيناً في غاية الضآلة، وهو المعبر عنه بعدد اوميكا. فهو حد يمنع من انكماش الكون وتشتته. وفي محاضرة للفيزيائي روبرت ديك حدد فيها قيمة اوميكا عندما كان عمر الكون ثانية واحدة فحسب، فاعتبر هذه القيمة تترواح بين عددين في غاية القرب إلى الواحد الصحيح، وهما (0,99999999999999999) و(1,00000000000000001)، ففي أي من العددين هناك سبعة عشر رقم بعد الفاصل. وتشير هذه القيمة الحدية المتناهية الضآلة إلى ان أي زيادة عليها أو نقصان تفضي إلى خراب الكون بالتقلص والانسحاق، أو إلى عكسه من التمزق الكبير، إذ يشير أحد الرقمين إلى حالة التقلص الدقيق للغاية بفعل التثاقل والكثافة الكونية، في حين يشير العدد الآخر إلى عكس ذلك، وهو التمدد والانشراح الدقيق للغاية بفعل ضعف التثاقل والكثافة الكونية قبال الاندفاع للخارج، وبين هذين العددين الدقيقين يقع الواحد الصحيح الذي يمثل حالة التسطح المطلق أو التام. أما لدى الفيزيائي جوث فقد كانت النتيجة أكثر مفاجأة مما طرقه ديك لتحديد مدى ضآلة التفاوت في التسطح بين التقلص والتمدد. فحصيلة معادلاته الرياضية بينت بأنه منذ زمن بلانك كان الفارق بين العددين في غاية الضآلة مقارنة بما سبق، حيث ان عدد التسعات يبلغ (64) بعد الفاصلة الصفرية قبال (63) من الاصفار مع رقم (ا) وكلها على اليمين بعد فاصلة الواحد على اليسار. لذلك كان ينبغي ان تكون هناك سرعة مذهلة لتجاوز هذا الممر الضيق بسلام، وتجعل من الكون متضخماً بشكل مذهل كي لا يتأثر بتقلبات عدد اوميكا. ومن هنا افترض جوث ذلك التضخم الهائل خلال فترة زمنية دقيقة للغاية6. وهذه النتيجة لو كانت واقعية فهي من المعاجز العظيمة.. ومثلها سائر التشكلات الكونية وفقاً لنظريات الفيزيائيين، فهي معاجز كونية تفوق التصور والخيال.
لذلك فإن القضية الحسية رغم قطعيتها فإنها قاصرة عن منافسة مسألة وجود الله، لكثرة القرائن الدالة على الأخيرة وقوة دلالاتها. بل كثيراً ما يحصل لنا الخطأ في التقديرات الحسية المباشرة لقلة القرائن.. فمثلاً نحن نرى الشمس ونتصور بأن رؤيتنا لها لحظية، مع أن العلم يحيل علينا الرؤية المباشرة، فما نراه هو أثرها المتمثل بالضوء المتخلف عنها بعد ثمان دقائق، والأمر يصدق حتى على رؤيتنا للأشياء القريبة عنا؛ حتى لو كان قربها يبلغ أقل بمليارات المرات من السنتمتر الواحد.. فدليل الرؤية اللحظية هو دليل حسي مباشر يتفق عليه جميع الناس، في حين أن الدليل الثاني هو دليل غير مباشر رغم أن قيمته المعرفية أعظم من الأول الحسي. وكذا نقول فيما يخص التفرقة بين المسألة الإلهية والقضايا الحسية المباشرة، كالذي سبق عرضه.
1 الاسسالمنطقيةللاستقراء،ص507. يعدالإنسانالوضعيأبرزمنينطبقعليهالحكمالمذكور،لكونهلايعيراهميةلسائرالأدلةكالفلسفيةمثلاً،خلافاًللإنسانالمقتنعبجدوىالأخيرة،إذليسمنالتناقضالإيمانبوجوداللهمعرفضالعلم،وذلكعبررفضالدليلالإستقرائيمعالاحتفاظبالادلةالفلسفيةالتيمنشأنهاإثباتوجودالله.
2 فيليبفرانك: فلسفةالعلم،ترجمةعليعليناصف،المؤسسةالعربيةللدراساتوالنشر،الطبعةالأولى،1983،ص233ـ234.
3 فلسفةالعلم،ص283.
4حولتحليلنالمبدأالبساطةوتقسيمنالهاإلىبساطةإقتصاديةوشموليةانظرالفصلالرابععشرمن: منهجالعلموالفهمالديني.
5 الجائزةالكونيةالكبرى،ص228ـ229 و231.
6 انظر: منهج العلم والفهم الديني.