دروس الفلسفة والعلم والمنطق الاستقرائي (10)
يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ
خلاصة الدرس
تعرض الدرس الى تقسيم الوضعية المنطقية للقضايا، وهي القضايا التحليلية والتركيبية وتلك التي ليس لها معنى، مع نقد هذا التقسيم..
القضايا التحليلية
تنقسم القضايا التحليلية لدى الوضعية إلى قضايا منطقية واخرى رياضية، بإعتبارها تمتاز بطبيعة تكرارية خالية من المضمون الواقعي للمعرفة، مما يجعلها يقينة وضرورية.
ولو رمزنا إلى القضية التحليلية بـ (ح)، والتكرارية بـ (ت)، والضرورية بـ (ض)، واللا اخبارية بـ (لا)؛ فإن تعبير المذهب الوضعي عن تلك العلاقات يصبح كالاتي:
ح = ت = ض = لا
نقد علاقات القضايا التحليلية
يلاحظ ان المساواة التامة بين هذه القضايا لدى الوضعية ليس سليماً. صحيح ان القضية التحليلية إذا سلمنا كونها تكرارية - إذ المحمول فيها منتزع عن الموضوع - لا بد ان تكون ضرورية، لكن هذا لا يعني ان القضية الضرورية لا تخبر عن الواقع بشيء، كما لا يعني انه يتحتم عليها ان تكون تكرارية على الدوام، فضلاً عن ان القضية اللا اخبارية هي ليست دائماً تكرارية. ولأجل تبيان هذه الأمور علينا ان نتبع ما يلي:
1 ـ هناك من المبادئ ما لها طبيعة اخبارية وتتصف بالضرورة كما هو الحال مع مبدأ السببية القائل بأن لكل حادثة لا بد من سبب، وان الشيء الواحد لا يمكن ان يكون في أكثر من مكان في نفس الوقت، وكذا لا يمكن ان يكون شيئان في ذات المكان الواحد بنفس الوقت، فإن الضرورة التي تتضمنها مثل هذه القضايا ليست منطقية كما عليه القضايا التحليلية.
ومن الواضح ان اعتراض الوضعية على القضايا الضرورية وإعتبارها ليست إخبارية، هو لكونها غير قابلة للتكذيب بأي شكل من الاشكال، أو انها تكون صادقة مهما كان عليه الواقع الموضوعي، وبالتالي فإنها بهذا لا تقدم معرفة جديدة ولا أنها تقبل التكذيب. لكن يلاحظ ان هناك فرقاً بين القضايا التي تتصف بعدم التكذيب منطقياً، وبين القضايا التي تتحدانا في أن نجد شاهداً يكذبها، ونحن نعتبر ان مثل هذه القضايا تتصف بالجدة والاخبارية وانها ليست عديمة الفائدة كتلك التي لا تقبل التكذيب بالمعنى المنطقي. فكل ما في الأمر ان عقلنا يستبعد تماماً ان يكون هناك ما يعد شاهداً على تكذيبها، والامر يقبل التحقيق لمن يجد شكاً يراوده، بخلاف القضايا المنطقية التي لا تقبل مثل هذا التحقيق والشك، وبالتالي فإن الضرورة فيها تتصف باللا اخبارية دون شك. فالفارق بين الصنفين من القضايا هو ان الصنف الأول يتميز بالضرورة الوجدانية، وأن اللابدية فيه هي لابدية تحدّية، في حين ان الضرورة في الصنف الآخر هي ضرورة منطقية، وأن اللابدية فيه لا تقبل التحدي مطلقاً.
2 ـ من المعلوم انه في الضرورة الوجدانية لو كان هناك شاهد واحد يعارضها، لانتفت هذه الضرورة، لكن المشكلة هي كيف نثبت وجود الشاهد المعارض؟ فمثلاً كيف نأتي بشاهد يعارض مبدأ السببية العامة؟ فحتى لو اعتمدنا على وجهة النظر التجريبي، فاننا لا نجد ما يقطع بوجود شاهد معارض، حيث عدم وجدان السبب الذي يمكن ان يكون مؤثراً على الظاهرة لا يدل على نفيه تماماً، فكيف والعقل يشهد بالميل الغريزي والوجداني على تلك الضرورة التي يتضمنها المبدأ؟!
فمثلاً نحن نعلم أن مبدأ (اللا تحدد)، الكفيل بدراسة حركة الجسيمات العشوائية، لا يتمكن من تحديد الاسباب التي تؤثر على تلك الظاهرة، فإنه - في الوقت نفسه - غير قادر على نفي مطلق الاسباب، خلاف ما ظنه ريشنباخ من ان ذلك العلم (الجزيئي) لا يخضع إلى حكم تلك السببية.
وهذا يعني انه حتى لو احتملنا خطأ مبدأ السببية، فإن غريزة العقل لا يسعها ان تتخلى عنه بخلاف تعاملها مع غيره من المعارف.
3 ـ كما ان من القضايا الضرورية ما تتصف بكونها غير تكرارية ولا إخبارية، مثلما هو الحال مع قسم الرياضيات التطبيقية التي طوتها الوضعية ضمن القضايا التحليلية رغم ما تتصف به من حالة تركيبية بالنسبة لعلاقة المحمول بالموضوع.
وعلى العموم فإن العلاقات بين القضايا القبلية لا يمكنها ان تكون متساوية؛ بل فيها من الاختلاف ما يمكن توضيحه بالشكل الرمزي التالي:
ض > لا > ت = ح
أي أن القضية الضرورية هي أعم وأكبر من القضية اللا اخبارية، وهذه أعم وأكبر من التكرارية التي تعبّر عن نفس القضية التحليلية.
صفة المعنى في القضايا
تنقسم القضايا عند الوضعية إلى ثلاثة أقسام، فهي إما أن تكون تحليلية أو تركيبية أو قضايا ليس لها معنى. وتمتاز هذه الأخيرة بأنها تتحدث عن مواضيع خارجية يعجز الإستقراء والتجربة عن إثباتها أو نفيها. ولهذا وضع مبدأ ‹‹التحقق›› كي يميزها عن القضايا ذات المعنى المختصة بالواقع الفيزيقي، بإعتبارها تنفرد بصفتي الصدق والكذب. ومن الوضعيين من أضاف إلى هاتين الصفتين صفة اللا تحدد، كما هو الحال مع ريشنباخ.
وقد واجهت الوضعية عدة اعتراضات حول تمييزها السابق بين القضايا. وهناك عبارة شهيرة لفتجنشتاين وضعها فيما قبل العبارة الاخيرة من كتابه (رسالة منطقية فلسفية)، اذ اعترف بان ما اشاده من افكار في الكتاب تخلو من المعنى طبقاً للمبدأ الذي بناه، لكنه استدرك وطلب من القارئ الذي يفهم كتابه: بأن عليه العمل بأن >يُلقي بالسلّم جانباً بعد أن يصعد عليه<، فعندها سيرى العالم على نحو صحيح.
لذا من بين الاعتراضات ما يخص مبدأ ‹‹التحقيق››، حيث انه لا ينتمي إلى كل من القضايا التحليلية والتركيبية؛ مع ان اليه يسند التمييز بين القضايا التي لها معنى عن تلك التي ليس لها معنى، مما أثار الاتهام القائل: (ان الوضعية ترفض قضايا الميتافيزيق بمبدأ ميتافيزيقي)!
لهذا كانت هناك بعض المحاولات الرامية للخلاص من هذا المأزق. فمثلاً ان الاستاذ آير يعتبر ذلك المبدأ وضع كتعريف لا كتقرير تجريبي للواقع. وشبيه به ما ذكره الاستاذ زكي نجيب محمود من ان هذه القضية ترجع إلى احكام منطقية ذات مستوى اعلى من تلك التي يمكن ان تتصف بالصدق والكذب.
في حين لا يُشك ان ذلك المبدأ مستمد من الواقع عبر الخبرات والملاحظات الإستقرائية الماضية، فلولا هذه الخبرات ما كان بالإمكان ان تُعرف لهذا المبدأ فائدة تذكر. ويصدق ذات الأمر على مبدأ اللا تحدد، حيث انه أيضاً جاء نتيجة المعرفة المستمدة من الواقع الموضوعي، وصيغ بالشكل الذي يناظر ما عليه مبدأ التحقيق.
وعلى العموم فإن الاعتراضات التي تواجهها الوضعية بهذا الصدد يمكن ان تكون كالاتي:
1 ـ هناك بعض الإدراكات المعرفية المباشرة التي لا تنتمي إلى قائمة القضايا التحليلية ولا الإستقرائية ولا الميتافيزيقية، كإدراكنا المباشر لوجودنا، ولو على نحو الاجمال. وهو إدراك يحكم عليه بنوع من الضرورة نطلق عليها الضرورة الحضورية التي تجعل التصديق به تصديقاً أولياً ولازماً دون ان يخضع إلى أي دليل مهما كان نوعه وشكله.
2 ـ لو كان مبدأ التحقيق لا يتصف بالصدق والكذب كما يعلن بذلك بعض الوضعيين؛ لاقتضى ان يكون هناك قسم آخر يضاف إلى أقسام القضايا، مما يحتاج إلى عملية تفسير توضح منشأ معرفته وعلة عدم اتصافه بتلك الصفة.
3 ـ لا يملك مبدأ التحقيق القابلية على التطبيق لكافة قضايا الواقع ذات المعنى، وهذا ما شعر به ريشنباخ فأضاف اليه مبدأ اللا تحدد ليتناول المسائل الخاصة بالعلم الجزيئي. لكن المسألة لم تنته بعد، إذ هناك قضايا أخرى يُعترف بأن لها معنى، وهي مع ذلك لا تخضع إلى إعتبارات كل من التحقيق واللا تحدد؛ كما هو الحال مع قضية وجود الواقع الموضوعي الذي يعجز الدليل الإستقرائي عن ترجيحه أو إثباته، على ما سنعرف.
4 ـ من المعلوم أنه عند الوضعية لا يشترط في القضية التي لها معنى أن ينالها مبدأ التحقيق مباشرة؛ كمعرفة أن النار حارة والشمس طالعة، إذ يمكنه التطبيق ولو لم يستمد من الخبرة مباشرة، وذلك بالاستناد إلى منطق الإحتمالات أو ما على شاكلته، من قبيل إعتبار المادة مؤلفة من ذرات، والاعتقاد بوجود كائنات قد سبقت الإنسان، والتسليم بقانون الجاذبية في جميع العلاقات المادية... الخ.
لكن الملاحظ أن هذه الصورة من التطبيقات غير المباشرة هي في حد ذاتها تتسق مع إثبات بعض القضايا الميتافيزيقية، كالمسألة الإلهية التي تفسر وجود النظام في الكون، فهي تخضع لنفس دواعي المنطق العلمي المستند إلى إعتبارات نظرية الإحتمال أو ما على شاكلتها، فإما أن نفسر النظام في علاقات الطبيعة بأنه ناتج عن المصادفات العشوائية، أو نفسره بأنه نتاج عقل حكيم. ولا شك أن العمل باجراء الحساب الإحتمالي لا يُبقي للفرض الأول أي قيمة يعد لها الإعتبار، بل تنسحب أغلب القيم الإحتمالية لصالح محور إثبات تلك القضية، حتى مع عدم إفتراض أي مصادرة قبلية ترفضها الوضعية في مجال بناء الدليل الإستقرائي.
هكذا فليس هناك ما يدعو لتعميم الحكم القائل بأن قضايا الميتافيزيقا خالية من المعنى، طالما ان بإمكان مبدأ ‹‹التحقيق›› وما شاكله ان يثبت بعضاً منها. وبالتالي فنحن بين أمرين: إما ان نقبل تطبيق المبدأ الإستقرائي على أمثال القضية الإلهية السابقة ومختلف القضايا العلمية غير المباشرة معاً، أو نمنع تطبيقه على الجميع، وليس بين الأمرين ثالث يتسق إعتباره. وهي نتيجة سبق ان توصل اليها المفكر الصدر، إذ اعتبر الإنسان الوضعي مضطراً لأن يتبنى موقفاً بين أمرين: فهو إما ان يرفض العلم وقضية وجود الله معاً، أو يتقبلهما سوية، إذ الاخذ بأحدهما دون الآخر يعد تناقضاً؛ مادام انهما يرتكزان على محور الدليل الإستقرائي.
أخيراً تعرض الدرس الى عدد من القضايا الحديثة في الفيزياء ضمن نقده لاتجاه الوضعية المنطقية..