يحيى محمد
عادة ما يؤرخ لبداية الفلسفة بأنها تبدأ بطاليس المالطي الذي عاش خلال القرنين السابع والسادس قبل الميلاد. وتعد مالطا أشهر المدن الأيونية الاثنتي عشرة والتي ضمت العديد من الفلاسفة القدماء، كان أولهم طاليس الذي يعتبر أول فيلسوف ظهر في تاريخ الفلسفة كما نصّ على ذلك أرسطو، ولم يجد المؤرخون والفلاسفة ما يفنّد هذا الزعم. ويميل المؤرخ (هيرودوتس) إلى إعتبار طاليس فينيقياً شرقياً[1].
ويرجّح عدد من الباحثين بأن تاريخ الفلسفة يعود إلى ما قبل طاليس والحضارة اليونانية، فلها أصول ترجع إلى الحضارات الشرقية القديمة، كالحضارة البابلية والمصرية. وعلى الأقل فهناك شيء من التأثر بتلك الحضارات، ومن ذلك ما قاله شارل فرنر: «هناك حقيقة لا تنكر، وهي أن الفلسفة اليونانية إنما نشأت من تماس اليونان بالشرق. فقد نشأت الفلسفة في المستعمرات التي أقامها اليونان في أيونيا الواقعة على حدود آسيا الصغرى، حيث وجدوا أنفسهم في تماس مع الشعوب الشرقية»[2].
وكان اليونانيون يدركون بأنهم مدينون لحكمة الشرق. وكان المؤرخ هيرودوتس يعتقد بأن ديانة اليونان وحضارتها قد جاءتا من مصر. وفي محاورة طيماوس لإفلاطون يوجه أحد الكهنة المصريين إلى سولون كلمته التالية: «أيها اليونانيون أنكم أطفال»[3].
واعتبر هنري توماس بأنه «على أرض مصر عاش الحكماء الأوائل العظام في التاريخ.. فإلى مصر نزح الكثيرون من فلاسفة العالم القديم يستلهمون الوحي ويسعون وراء التدريب، فقد كان يُضرب بحكمة المصريين المثل بين اليونانيين القدماء، حتى أن افلاطون اعترف بفضل المصريين عليه كرواده واساتذته في كل ما هو سام من عمل أو فكر»[4]. وروي أن افلاطون زار مصر وتتلمذ على أيدي رجال الدين المصريين[5].
وكان نومونيوس، رائد الافلاطونية المحدثة خلال القرن الثاني للميلاد، يقول: لم يكن افلاطون غير موسى يتكلم اللغة اليونانية[6].
وبرأي بعض الباحثين الأمريكيين أن الفلسفة اليونانية ما هي إلا فلسفة مصرية مسروقة؛ انتشرت أول الأمر في أيونيا ثم منها إلى ايطاليا، وبعدها إلى أثينا، وأنه منذ حياة طاليس إلى حياة أرسطو لم يكن الأيونيون مواطنيين يونانيين، بل كانوا بداية رعايا مصريين، ثم بعد ذلك رعايا للفرس[7]. وبحسب هذا الرأي تعد أيونيا قلعة من قلاع مدارس نظم الأسرار المصرية[8].
وبرأي عدد من المفكرين أنه يمكن إرجاع الكثير من الأفكار اليونانية إلى مصر. بل ويرى البعض أنه يمكن إرجاع أصل التفكير الحديث إلى حكمة المصريين، عن طريق افلاطون والفلاسفة اليونانيين. لكن غالبية المفكرين يخالفون مثل هذه الآراء، رغم الإتفاق على أن اليونانيين قد استعانوا بالحضارات الأخرى بكل ما له علاقة بالشؤون العلمية والعملية مما هو خارج نطاق الفلسفة. ومن ذلك ما يذكر بأن مصر كانت أعظم مركز تعليمي أمّه اليونانيون. ويروى أن طاليس قد تتلمذ على أيدي الكهنة المصريين الذين قبلوه مريداً مبتدئاً لتلقي الأسرار والعلوم المصرية. كما يروى أنه أثناء اقامته في مصر تعلم الفلك ومساحة الأراضي وفن القياس والهندسة وفقه الإلهيات المصري[9]. وعُرف عن طاليس بأنه عالم فلكي إستطاع التنبؤ بكسوف الشمس الكلي، كما حدث في (28 مايس عام 585 قبل الميلاد) مثلما حكى ذلك المؤرخ هيرودوتس، وأنه قد أخذ علم الفلك عن البابليين، وبنى ذلك التنبؤ على الحسابات الفلكية البابلية[10].
كذلك هو الحال مع فيثاغورس الذي تعلم من المصريين الطب والهندسة والرياضيات والموسيقى، وقيل أنه قضى في المعابد المصرية إثنين وعشرين سنة[11]. وكان اليونانيون يعتقدون بأن طاليس وفيثاغورس قد حملا العلوم الرياضية من مصر. فهذا ما قاله اوديموس إلى طاليس، وايزوقراطس إلى فيثاغورس[12]. ومثل ذلك ديمقريطس الذي أقام في مصر خمس سنوات لتلقي العلم فيها[13]. كما نُسب إليه رحلاته إلى الهند وغيرها ففُسّرت بها علومه الموسوعية[14].
وكان افلاطون وأرسطو يشيران إلى أهمية مصر وبابل العلميتين، ومن ذلك ما أشار إليه افلاطون من أن «الإله» تحوت المصري هو أول من اكتشف علم العدد والحساب والهندسة والفلك[15]. كما أن أرسطو كان يقول: إن العلوم الرياضية قد نشأت في أرض مصر[16].
وعلى الصعيد الفلسفي يقال بأن عدداً من الفلاسفة اليونانيين زاروا الهند واقتبسوا منها العديد من الأفكار، ومن ذلك ما ذُكر بأن فيثاغورس قد تأثر بآراء الهند، ومثله أرسطو، حتى قيل بأن المنطق الأرسطي متأثر بمذهب النيايا، وكذا أن المذهب الذري لديمقريطس له جذور هندية[17]. ويرى البعض، مثل شارل فرنر، بأنه ليست للمصريين والبابليين فلسفة، فالشعب الوحيد الذي كانت له فلسفة إلى جانب اليونانيين هو الشعب الهندي. ومع ذلك فإنه ينفي أن تكون الفلسفة اليونانية أتت من الهند، بل العكس هو الصحيح، فالتصور السائد هو أن الفلسفة الهندية متأخرة قليلاً عن الفلسفة اليونانية. مع هذا يعترف فرنر بأن اللاهوت الصوفي الذي يعبّر عنه كتاب (الاوبانيشاد) والمذهب البوذي كلاهما يخص الهند ذاتها دون شك، لكنه نوع من اللاهوت أكثر منه نوعاً من الفلسفة الحقيقية[18].
وتعود بداية الفلسفة الهندية إلى التأملات المسجلة في نصوص (الفيدا)، وهي نصوص الحكمة التي تبدأ بعام 1500 قبل الميلاد، وأقدم نص للفيدا هو الريج فيدا، ويعني أشعار الحكمة. وأُلحق بالفيدا نصوص ختامية تُعرف بـ (الاوبانيشاد)، وجرى تأليفها خلال الفترة الممتدة بين (800 و500) قبل الميلاد[19]. وتعد نصوص الفيدا دينية أكثر منها فلسفية. أما الاوبانيشاد فهي ذات طابع فلسفي، بإعتبارها خالية من قيود الحقيقة المقررة سلفاً، وهي تتضمن إعترافاً بالحاجة إلى تقديم دليل على دعواها، كما أنها تُعنى بالمبادئ الأساسية للوجود. مع ذلك اعتبرت ليست فلسفية بالمعنى الدقيق للكلمة، لكونها تمضي قدماً دون أي تحليل شكلي لمعايير الحقيقة، ولا تبدي علاقة بين الأخيرة والبرهان. وفي أغلب الأحوال تُتخذ التجربة الشخصية كبرهان مقنع على صحة الدعوى. إذ تميل الاوبانيشاد إلى تأكيد أهمية مضمون رؤية الحكيم أكثر من ميلها إلى التشديد على الوسائل التي يمكن عن طريقها تبرير هذه الرؤية. فهي تقارير عن تجربة الحكماء وليست نظريات فلسفية تنتظر التبرير، فتجربة الحكماء هي التي تقدم البرهان على صدق الدعاوى فحسب[20].
وعموماً يلاحظ بأن اللاهوت اليوناني يقدّم لنا شيئاً من التشابه مع كل من اللاهوت الهندي والبابلي والمصري. وطبقاً لهذا التشابه اعتقد الباحث (غلاديش) بأنه لا بد من أن تكون اليونان قد تأثرت بالشرق أولاً من خلال اللاهوت، ثم انتقل هذا التأثير إلى الفلسفة. بيد أن (فرنر) اعترض على هذا التصور، معتبراً بأن ضروباً من التشابه حاصل أيضاً بين اللاهوت اليوناني والخرافات الناشئة في بلاد أبعد، مثل بلاد البولينزيا، وهو ما لا يمكن إقامة رابطة مباشرة بينهما. وبالتالي يميل هذا الباحث إلى أن هذه الضروب من التشابه تعود إلى نوع واحد من رد الفعل الذي يقوم به الوجدان الجماعي إتجاه قوى الطبيعة [21].
ولا شك أن ما يقوله فرنر يصدق على الحالات البسيطة من التشابه، أما الحالات المعقدة، مثل منظومة التصورات الغيبية، فمن الصعب إرجاعها إلى الوجدان الجماعي، ولا بد من إفتراض حالة التأثر والإقتباس. وهو ما سنجده واضحاً في بعض التصورات العائدة إلى الفكر المصري القديم.
فحول الأفكار الفلسفية نجد تشابهات عديدة بين الفكر اليوناني من جهة، وما كانت عليه التصورات المصرية القديمة من جهة ثانية، ومن بينها التشابهات الخاصة بأفكار افلاطون وأرسطو مع فلسفة (بتاح حتب) المصرية. ويعود زمن (بتاح) إلى ما قبل افلاطون بما يقرب من ألفين وثلاثمائة عام، أي أنه عاش حوالي سنة 2700 قبل الميلاد[22]. والبعض يرى أنه عاش قبل ذلك بزمن طويل، فهناك حجر مصري محفوظ في المتحف البريطاني يحتوي على آراء المصريين القدماء حول النظام الكوني وأصله، ويرجع تاريخه إلى عام 700 قبل الميلاد، وهو يحمل إسم فرعون مصري يقرر أنه استنسخ نقشاً لأسلافه. وأمكن التحقق من ذلك طبقاً للغة ونظام ترتيب النص. ويعود التاريخ الأصلي لهذه الآراء إلى زمن مدينة الإله (بتاح) ممفيس، وذلك ما بين ثلاثة آلاف وخمسمائة إلى أربعة آلاف سنة قبل الميلاد[23]. وكان بتاح حتب - حاكم ممفيس - يهدف كما عبّر عن نفسه: «أن يقلد الأب الحكيم المحب الذي هو في السماء»[24].
وبالفعل نصاب بالدهشة عند التشابه الكبير الذي نجده بين الفلسفة اليونانية، كما لدى افلاطون وأرسطو، وما جاء من نصوص مصرية قديمة، سيما حول النظام الكوني وعلاقته بموجده. فليس فقط أن بين هذه النصوص تلك العبارة الشهيرة المنسوبة إلى سقراط: (اعرفْ نفسك)، وهي التي وجدت منقوشة في الجدران الخارجية للمعابد المصرية.. ولا فقط ما ينسب إلى افلاطون في الفضائل الأربعة الرئيسية (العدالة والحكمة والإعتدال والشجاعة)[25].. ولا أيضاً ما تبناه أرسطو في نظريته حول صفة مبدأ الوجود وهي أنه المحرك الأول غير المتحرك.. بل أكثر من ذلك أن نظرية الفيض والصدور التي شاعت لدى الفكر اليوناني، لا سيما لدى افلاطون، نجدها في النص القديم العائد إلى عصر مدينة ممفيس قبل حوالي ثلاثة أو أربعة آلاف سنة قبل الميلاد. إذ ترد بعض الإشارات المتعلقة بوجود ارباب للأشياء ومن قبلها رب الأرباب، فهناك الإله (بتاح) الذي هو بمثابة القلب واللسان للآلهة جميعاً، ويحمل في قلبه كل موجود، وبكلمته خلقهم جميعاً. ومع الإله بتاح هناك الإله (آتوم) وهو الوسيط بين الإله الأول وسائر الخلق، فهو الإله الصانع الموظف للخلق والإبداع، وهو بمثابة الصادر الأول لدى الفلسفة اليونانية، أو ما يسمى بالعقل الأول. ويضاف إلى هذا الإله هناك آلهة ثمانية أخرى، فيكون مجموع الآلهة عشرة بمن فيهم الإله بتاح، وبدونه فالآلهة أو العقول تسعة، وهي الإله الصانع آتوم والصوادر الثمانية المخلوقة منه، وجميعها متحدة في ربوبية واحدة. ولا شك أن هذه الآراء شبيهة بتلك التي جاء بها افلاطون[26].
وفي النصوص القديمة نجد ثالوثاً مصرياً يتألف من ثلاثة آلهة متحدين بواحد، كالثالوث المسيحي الذي ظهر بعد قرون طويلة. ففي النص أن كل الآلهة ثلاثة، هم آمون ورع وبتاح، فإسم الكائن الأحد هو آمون، رأسه رع، وجسمه بتاح، وثلاثتهم واحد، ولكل منهم هوية منفردة[27].
كما ظهر لدى حكماء مدينة واست، وهي ما تُعرف اليوم بمدينة أقصر المصرية، بعض الآراء التي سبقت الفكر اليوناني، فقد ذكر هؤلاء الحكماء بأن الروح الإلهية التي اعتاد الناس أن يتعبدوا لها في المعابد لم تكن في الحقيقة غير روح واحدة وإن تعددت أوضاعها، فهي قد صدرت جميعها عن واحد وارتدت إلى واحد[28].
وشبيه بالرؤية السابقة ما كان لدى الهند. فقد اعتقد الهنود القدماء بفكرة الوجود الواحد والكلي المختفي وراء مظاهر العالم المتغير[29]. وجاء وصف هذا الوجود الواحد في الاوبانيشاد ما هذا نصه: «لا سبيل إلى رؤيته أو الإحاطة به، لا نسل له ولا لون، بلا عين ولا أُذن، وبلا أيد ولا أقدام، يتخلل كل شيء، وهو كلي الوجود، أنه الواحد الذي لا يتغير، وهو الذي ينظر إليه الحكماء بإعتباره مصدراً للموجودات»[30].
وقد عُرف عن فيثاغورس بأنه أبرز الذين تأثروا بالفكر الهندي، ومن ذلك تبنيه لفكرة تناسخ الأرواح، وهي أن الروح خالدة تنتقل من مخلوق إلى آخر، ومن حياة إلى أخرى، حتى تصل في رحلتها العلوية إلى الله. ومثل ذلك فكرة بنوة الإنسان للحيوان المصحوبة بمنع تناول اللحم، وكما يقول: «كل المخلوقات الحية تمِتّ لنا بصلة القرابة، وينبغي أن تُعامل على أنها لحمنا ودمنا»، وكلاهما يعود إلى الفلسفة الهندية[31]. وحول الفكرة الأخيرة يُحكى عن فيثاغورس بأنه، كالقديس فرانسيس، كان يعظ الحيوانات كما يعظ البشر، سواء بسواء[32].
ومما إمتازت به الفلسفة اليونانية هو أن فكرها كان يدور حول تفسير الكثرة النوعية للأشياء وردها إلى أصل واحد. ومع أن بداية بحثها قد غلب عليه الطابع المادي، إلا أنها أفضت إلى نهاية ميتافيزيقية واضحة المعالم، وهي نهاية سبق إليها الفكر الهندي بشكل واضح وجلي. لكن على العموم أنه سواء مع الهند أو اليونان، هناك ميل لإرجاع الأشياء المتكثرة إلى الوحدة، سواء بالقول بوحدة الوجود صراحة، كما عليه الفكر الهندي، أو ما يقرب النظر من ذلك كما لدى قدماء اليونان الذين ردّوا تفسيراتهم إلى مبدأ الأصل والشبه أو السنخية. فمثلاً كان طاليس يعوّل على الماء بأنه مصدر كل الأشياء، كما يعوّل على أن هذه الأشياء مليئة بالكائنات الإلهية، والبعض يوجه هذا القول إلى المعنى الدال على أن الله موجود في كل الأشياء[33]. ومثل ذلك ما فعله تلميذه أناكسيماندر (عاش حوالي 575 ق.م)، فقد اعتبر الأشياء متكونة من شيء آخر غير الماء، وهو مادة دقيقة اطلق عليها (اللامتناهي أو اللامحدود)، ووصفه بأنه خالد وأزلي، وهما لفظتان من ألفاظ الشاعر الاغريقي هوميرس المكررة في نعت الآلهة[34]. وكذا هو حال الفلاسفة الآخرين، مما أفضى إلى القول – أخيراً - بوحدة الوجود بأشكال مختلفة.
السنخية والفلسفة اليونانية
لقد اشتهر عن طاليس بأنه أول من بحث في أصل الأشياء بطريقة تحليلية علمية بعيدة عن الرؤى الاسطورية، لذلك أُعتبر أول الفلاسفة. فرغم تقدم الكثير من ذوي الحضارات الشرقية القديمة عليه كما عرفنا، إلا أنه لم يرد عنهم تلك النزعة التحليلية العلمية. ورغم أن طاليس لم يأت بنتيجة مختلفة عمن سبقه من أهل الحضارات القديمة، إذ كان يقول بأن الماء هو أصل الأشياء، وقد سبقه بذلك كثيرون، حتى احتمل العديد من المؤرخين بأن طاليس متأثر بمن سبقه من حكماء الحضارات الشرقية القديمة[35]، لكن الفارق يكمن في طريقة التفكير، وهي أن ما ذكره القدماء لا يتجاوز الرؤى الاسطورية، خلافاً لما قدّمه طاليس وأتباعه من رؤية تحليلية في الكشف عن الأسباب العامة للوجود أو الطبيعة، وما الفلسفة كما عُرّفت إلا البحث عن الأسباب والعلل. فقد لاحظ طاليس بأن الرطوبة هي الحياة، وعدم وجودها هو الموت، وكل الأشياء الحية تخرج من البذرة الرطبة، أما الأشياء الميتة فتتعفن وتتحول إلى تراب جاف. وعندما يتبخر الماء يصبح هواء وناراً، وإذا ما تجمّد أصبح ثلجاً وصخراً. لذلك صرح بأن الماء هو الأصل الأساس الذي تتكون منه سائر الأشياء[36].
مع هذا فما زالت التصورات حول طاليس وغيره من قدماء الفلاسفة غير واضحة، لقلة ما نقل عنهم من نصوص. وعادة ما تحتمل هذه النصوص تصورين مختلفين، أحدهما يرى أن إعتقادات هؤلاء طبيعية لا علاقة لها بالأمور الإلهية والروحية. في حين يميل التصور الآخر إلى المعاني الأخيرة. ومن ذلك أن أقوال طاليس تحتمل هذين المعنيين من التفسير (الطبيعي والإلهي)[37]. وأرسطو ذاته ينقل عن طاليس بأن العالم مليء بالإلهة أو الأنفس، فيضفي بذلك الصورة الإلهية والروحية على العالم[38].
أما المتأخرون فقد نزعوا على طاليس وغيره من القدماء نزعة هي ذاتها نجدها عند المتأخرين من فلاسفة اليونان، فقد اعتبروه أول من بحث عن الوجود العام ونظّر له تنظيراً حتمياً، كما أنه أول من أقام تفسيره على «الثابت الأساس» الذي أدان له تاريخ الفلسفة بالبقاء والدوام، فقد ظلّ ثاوياً وراء مختلف الرؤى الفلسفية للوجود.. وهو القانون الذي يشير إلى مبدأ (الأصل والشبه) بين الكائنات. ولا يهمنا ما عسى تكون عليه فلسفة طاليس وأتباعه القدماء حقيقة، إذ ما وردنا عنهم قليل، ويعوّضنا عن هذا النقص ما نقله المتأخرون، وعزاؤنا في ذلك هو أنه يتسق مع نظريات الفلاسفة الذين ظهروا منذ افلاطون وحتى آخر الفلاسفة المسلمين.
وإذ لا نجد مساغاً لطرح كامل ما صوّره لنا المتأخرون من نظرية أبي الفلاسفة طاليس وذريته التابعين له، فسنكتفي بإطلالات لا تخرج عن غرضنا من البحث الذي يستهدف - كخطوة أولى - الكشف عن ذلك القانون وعلاقته الثابتة بتاريخ الفلسفة.
فقد نقل المتأخرون في الحضارة الإسلامية أن طاليس كان يعتقد بأن مبدأ الوجود الأول قد أبدع عنصراً «فيه صور الموجودات والمعلومات كلها. فانبعث من كل صورة موجود في العالم على المثال الذي في العنصر الأول. فمحل الصور ومنبع الموجودات كلها هو ذات العنصر. وما من موجود في العالم العقلي والعالم الحسّي إلا وفي ذات العنصر صورة له، ومثال عنه»[39].
ومع أن هذا التفكير قائم على (الأصل والشبه) كالذي يعرضه النص السابق، إلا أن هذا القانون ظلّ يواجه مشكلاً أساسياً، ليس ضمن حدود التفكير المنسوب إلى طاليس فحسب، بل انجرّ إلى جميع الوجوديين من الفلاسفة والعرفاء. فتاريخ الفلسفة والعرفان يشهد تردداً في خضوع مبدأ الوجود الأول - والهيولى أو المادة الأولى أيضاً - لحكم ذلك القانون، فكثيراً ما كان يُعتبر حالة فريدة شاذّة لا يمكن وصفه بوصف سوى المجهول، خشية أن يصاب بالتكثر في ما لو خضع إلى الحكم الآنف الذكر. فهذا المشكل نراه واضحاً لدى ما ينسب إلى أبي الفلاسفة طاليس، فهو إذ يجعل التشابه في جميع الكائنات من العنصر الأول المبتدع وحتى أدناها، لا يرضى أن يعممه على مبدأ الوجود، ويفضّل إعتبار هويته مجهولة ومتصفة بالوحدة التامة، خشية التكثر بأن يكون محلاً للصور الكثيرة في ما لو كان خاضعاً لحكم ذلك القانون. وعليه اعتبر أن إدراكه يحصل عبر آثاره لا من جهة هويته الخاصة، إذ لا صورة له عند ذاته، وما يتصوره العامة أن في ذاته صوراً إنما هي في مبدعه لا ذاته[40].
وسواء صحّ ما ينقل عن طاليس أم أنه من إفتعال المتأخرين كما هو الرأي الحديث، فإن الحقيقة التي لا شك فيها هي أن الرؤية العامة للتفكير اليوناني تتأسس على قانون (الأصل والشبه) لتفسير الوجود ككل، مع تردد واضح حول علاقة مبدأ الوجود الأول بهذا القانون. وهي ذات الصورة التي تبناها الفلاسفة المسلمون.
وقد تكررت هذه الصيغة لدى فيلسوف مالطي معاصر لطاليس هو انكساغورس، فهي لا تختلف - أيضاً - عن سابقتها في كونها مشتقة من ذات القانون. فكما جاء عن أرسطو ما كان يقوله هذا الفيلسوف العتيق بأن أي جزء من العالم فهو على مثال الكل، فأي شيء يتولّد من كل شيء. إذ الشيء لا يكون إلا من مثله وشبيهه في الصورة[41]. كما اعتبر الأشياء لا تتحدد بأربعة عناصر كما شاع الإعتقاد بها آنذاك، بل هي غير متناهية العدد[42].
مع ذلك، يبدو أن ما جاء عن هذا الفيلسوف لا يختلف عما نُقل عن طاليس في جعل مصداقية (الأصل والشبه) تنطبق على الصادر الأول وما تحته، لكنها لا تنطبق على مبدأ الوجود الأول. فقد نُسب إليه أنه اعتبر ذلك الصادر الذي أبدعه المدبّر الأول هو «جسم أول متشابه الأجزاء، وهي أجزاء لطيفة لا يدركها الحس، ولا ينالها العقل»، منها تكوّن الكون كله، العلوي منه والسفلي، بإعتبار أن المركبات مسبوقة بالبسائط، وكذلك المختلفات مسبوقة بالمتشابهات «أليست المركبات كلها إنما امتزجت وتركبت من العناصر، وهي بسائط متشابهة الأجزاء؟ وأليس الحيوان والنبات وكل ما يتغذى فإنما يغتذي من أجزاء متشابهة أو غير متشابهة، فتجتمع في المعدة فتصير متشابهة، ثم تجري في العروق والشرايين فتستحيل أجزاء مختلفة مثل الدم واللحم والعظم؟»[43].
وعليه يكون هذا الفيلسوف «أول من قال بالكمون والظهور، حيث قدّر الأشياء كلها كامنة في الجسم الأول. وإنما الوجود ظهورها من ذلك الجسم نوعاً وصنفاً ومقداراً وشكلاً وتكاثفاً وتخلخلاً، كما تظهر السنبلة من الحبة الواحدة، والنخلة الباسقة من النواة الصغيرة، والإنسان الكامل الصورة من النطفة المهينة، والطير من البيض، فكل ذلك ظهور عن كمون، وفعل عن قوة، وصورة عن إستعداد مادة، وإنما الإبداع واحد، ولم يكن بشيء آخر سوى ذلك الجسم الأول»[44]. كما اعتبر العقل حاكماً على كل شيء وأنه بث النظام في كل شيء[45].
وهناك فيلسوف آخر من المالطيين، هو اكسيمانس (عاش حوالي 475 ق.م)، وحاول أن يتماشى مع قانون (الأصل والشبه) ليطبقه على مبدأ الوجود الأول، خلافاً لنظرية طاليس. فكما نُسب إليه أنه وإن اعتبر مبدأ الوجود الأول لا هوية تشبهه، لكنه أقرّ بواحد من إفتراضين: فإما أن يكون المبدأ أبدع الموجودات من غير أن يعلمها، أو أبدعها وهو يعلمها مما في ذاته من صورها الأزلية. واستشنع القول الأول، وسلّم بالثاني، معتبراً أن كل ما يظهره من إبداع، فإن صورته موجودة في علمه السابق دون أن تتكثر ذاته بتكثر صور الموجودات. وأول الأشياء التي أبدعها صورة العنصر، فانبعث عن هذه الصورة صورة العقل، فأخذ العنصر يرتب في العقل «ألوان الصور على قدر ما فيها من طبقات الأنوار وأصناف الآثار، وصارت تلك الطبقات صوراً كثيرة دفعة واحدة، كما تحدث الصور في المرآة الصقيلة بلا زمان، ولا ترتيب بعض على بعض. غير أن الهيولى لا تحمل القبول دفعة واحدة إلا بترتيب وزمان فحدثت تلك الصور فيها على الترتيب. ولم يزل الأمر كذلك في العالم بعد العالم على قدر طبقات تلك العوالم، حتى قلّت أنوار الصور في الهيولى، وقلّت الهيولى، وصارت منها هذه الصورة الرذلة الكثيفة التي لم تقبل نفساً روحانية، ولا نفساً حيوانية، ولا نباتية»[46].
هكذا يظهر عند اكسيمانس أول صور التردد في تطبيق قانون (الأصل والشبه) على مبدأ الوجود الأول، وكأنه يقول بذلك ولا يقول به. إذ يجعل من الأول حاملاً لصور الموجودات التي أبدعها، رغم نفيه لأي شكل من أشكال الشبه مع غيره. وللهذا التردد تواصل وإمتداد على طول مراحل النظام الوجودي بشقيه الفلسفي والعرفاني.
وهناك محاولة كبيرة لعملية تجريد الوحدة الإلهية عن الصفات الزائدة ظهرت على يد فيلسوف القرن الخامس قبل الميلاد، انبادقلس (عاش حوالي 445 ق.م)، شبيهاً بتلك التي تبناها الفلاسفة المسلمون. فطبقاً لما نسب إليه المتأخرون فإن مبدأ الوجود الأول عنده هو علم محض، وإرادة محضة، وهو جود وعزّة وقدرة وعدل وخير وحق، فهو كل هذه الصفات، وهي هو بلا فرق، وقد أبدع العنصر الأول البسيط «ثم كسر الأشياء المبسوطة من ذلك المبدع البسيط الواحد الأول، ثم كوّن المركبات من المبسوطات». كل ذلك حصل عبر علاقة العلة بالمعلول، فكل عال ينحت ما تحته من صور، فالعنصر الأول ينحت ويصوّر ما عنده من الصور الروحانية في العقل، وكذلك يفعل الأخير مع النفس الكلية التي تحته، وهي تفعل نفس الشيء مع الطبيعة الكلية بما استفادته من العقل[47].
وإذا كان التطور الذي أحدثه انبادقلس متعلقاً بطبيعة المبدأ الأول بما ينطوي عليه من وحدة الذات والصفات وعينيتهما، كما نُسب إليه، فإن الجديد الذي جاء به فيثاغورس هو نظريته حول المشاكلة بين نظام العدد ونظام المراتب الوجودية بما فيها المبدأ الأول، إذ يرى أن بمعرفة العدد وكيفية نشوئه من الواحد يتحقق العلم بوحدانية المبدأ الأول. كما وأن بمعرفة خواص الأعداد وكيفية ترتيبها ونظامها يتحقق العلم بسائر الموجودات والمخترعات وكيفية نظامها وترتيبها، كالتي إستند إليها الإسماعيلية وإخوان الصفا في الحضارة الإسلامية. ومع ذلك فإن فيثاغورس لا ينكر كون الوحدة في المبدأ الأول تخالف الوحدات الأخرى لسائر الموجودات[48]. وعموماً يعتقد الفيثاغوريون بأن كل شيء يمكن نفيه عن الوجود إلا العدد، فمثلاً أن ورقة الشجر خضراء، لكن ليس كل شيء أخضر، كما أن من الأشياء ما ليس له لون، ومثل ذلك ينطبق على الأذواق والروائح والمواد الأخرى بإستثناء العدد، فهو صفة كلية شاملة تنطبق على كل شيء، ومن المحال أن نتصور وجوداً لا يقبل العد والحساب. فالعدد أساس العالم، والعالم ناشئ من العدد[49].
إضافة إلى أن فيثاغورس قام بتوظيف قانون (الأصل والشبه) وتطبيقه على الموجودات، فاعتبر العالم في قبال الإنسان إنساناً كبيراً، والإنسان في قبال العالم عالماً صغيراً[50]. وهي الفكرة التي تبناها كل من الفلاسفة والعرفاء داخل الحضارة الإسلامية لإبراز التشاكل بين العالم والإنسان. ومن المؤكد أنها كانت شائعة لدى فلاسفة اليونان، حتى ذكر الكندي أن السبب الذي جعل الفلاسفة القدماء يحسبون الإنسان عالماً صغيراً هو لأن فيه جميع القوى الموجودة في العالم ككل، كالنبات والحيوان والمنطقي، كما فيه الأرض مثل العظام وما شابهها، وفيه الماء كالرطوبات البدنية والأوردة ونقاعها والمعدة والمثانة وما إلى ذلك، وفيه الهواء وهو جو باطنه وجوفه، وفيه النار بصورة حرارته الغريزية[51]. وطبقاً لهذه الفكرة من التشاكل، اعتبر فيثاغورس أن الخير الأسمى للإنسان هو أن يتشبه بالإله[52].
كما ظهر أكسانوفان (عاش حوالي 500 ق.م) وهو يحمل الفكرة المتعلقة بوحدة الوجود؛ لإعتباره بأن الله هو كل شيء. فقد كان هذا الفيلسوف يسخر من مشاكلة الله للإنسان، أو إعتباره صورة مكبرة للأخير، كما شاع لدى الناس، فعلى رأيه «لو أن للماشية أو الخيل أو الأسود أيدياً، ولو أن في وسعها أن ترسم بأيديها؛ لرسمت الخيول صوراً للآلهة على هيئتها، ورسمت الماشية آلهة على هيئتها، وكل منها يصور جسم الإله على شاكلة جسمه». لذلك كان يعتقد بأن المبدأ الأول لا يشبه البشر في الشكل أو الملبس أو الصوت أو العقل، بل هو الأشكال جميعها، والأردية وكذا الأصوات والعقول جميعاً، فهو الكل في الكل، والكل واحد، وفكره يضم جميع أفكار المخلوقات كلها في جميع العصور. وما الكون إلا صورة محسوسة لفكره كتبت في مقاطع من حيوات متطلعة، ونجوم وهّاجة حتى يتمكن كل ذي عينين أن يرى[53]. ويصف أكسانوفان الإله بأنه «كله بصر وكله سمع وكله عقل»[54]، وهو واحد لا كثرة فيه، وثابت لا صيرورة له[55].
ولا شك أنه لا يمكن تفسير هذه الوحدة التي تحدّث عنها أكسانوفان من غير إعتبار علاقة الشبه بين الأشياء ومردّها إلى الوحدة، فالبصر الواحد، والسمع الواحد، والعقل الواحد، لا يمكن تحققه دون إشتراك الوحدة بين البصريات والسمعيات والعقول. وهي الصورة التي سنجد تبريرها لدى الفلاسفة والعرفاء في الحضارة الإسلامية.
وعلى هذه الشاكلة اعتبر بارمنيدس (المولود حوالي 514 ق.م) أن الإعتقاد بالواحد الأوحد يوجب إنكار كل ما عداه. وقد أفضت فلسفته إلى إنكار كل حركة وتغير[56]، معتبراً أن الوجود كلي ثابت ومتصل أزلي[57]. ويتسق هذا التصور مع منطق السنخية، وعبّر عنه الفلاسفة المتأخرون ببعض الأشكال القريبة.
ومن ثم جاء زينون الإيلي (المتوفى حوالي 430 ق.م) ليقدّم أربع حجج لإبطال الحركة والكشف عن ثبات الوجود، ومنه الوجود الطبيعي، ليدعم بذلك حجة استاذه بارمنيدس. فأي شيء لو أراد أن يتحرك إلى هدف معين، فعليه أن يقطع نصف المسافة، ثم بعدها عليه أن يقطع النصف الباقي، ومن ثم نصف الأخيرة، وهكذا إلى ما لا نهاية له، فلكي يصل إلى الهدف فإنه يحتاج إلى قطع ما لا نهاية له من المسافة، وهو يستغرق زمناً بنفس القيمة، وكل ذلك يجعل من قطع المسافة أمراً مستحيلاً. مما يعني أن كل شيء ساكن وثابت من دون حركة ولا تغير[58].
ولدى افلاطون (المولود حوالي سنة 428 قبل الميلاد) تكتسب علاقة (الأصل والشبه) أهمية خاصة لهيمنتها على مجمل تفكيره. ففي تقسيمه للعالم إلى الوجود الحسي والوجود المثالي، جعل افلاطون الوجود الأول على شاكلة الثاني، والحال ذاته ينطبق على علاقة المثل - في الوجود المثالي - بعضها بالبعض الآخر، إبتداءاً من مثال الخير الأعلى فنازلاً. فهو يؤكد على وجود مثال عقلي خارجي لكل نوع حسّي، يُعدّ حقيقة ذلك النوع وأصله، ولولاه ما كان للأنواع أن توجد، لكونها اظلالاً لتلك المثل العقلية. كما ترتبط هذه المثل بمثال أعلى هو مثال الخير الذي شبّهه بالشمس التي بدونها لا ترى العين ولا الأشياء تُرى، فكذا يكون هذا المثال حيث يُضيء سائر المثل كي تُرى عند المعرفة[59].
وربما يكون المقصود من مثال الخير عند افلاطون هو مبدأ الوجود الأول. كما يمكن أن يعبّر عن جميع المثل العقلية العليا المؤثرة على المثل «الرياضية» التي تحتها، تبعاً لمنطق الترتيب في (الصدور). فهو يضع عشرة عقول مثالية أولها المبدأ الأول، ثم تتسلسل حتى العاشر، على شاكلة ما عهدناه لدى (بتاح حتب) المصري، إذ يكون الثاني أول بداية للكثرة عن الوحدة. وتكون هذه العقول المجردة أساس وجود المثل الأخرى التي تتوسط بينها وبين الأجسام الحسية. فهو من منطق (المسانخة) أو المشابهة اضطر إلى جعل العالم المثالي (الرياضي) وسيطاً بين العالمين الآخرين، كي لا يكون هناك بون شاسع وفصل تام بين عالم التجرد البحت المتمثل بالعقول العشرة وبين عالم الأجسام الحسية. إذ يتشابه عالم المثل المتوسط مع كل من العالمين الآخرين. وبالتالي فإن هذه المثل ليست حسية ولا أنها محض مجردة، إنما هي بيْن بيْن. وعليه نفهم علة تقسيم الفلاسفة للبحث الفلسفي، وهو أنه على ثلاثة مطالب تعكس العوالم الثلاثة الآنفة الذكر، إذ تبتدئ بالفلسفة الدنيا (الطبيعية) وتنتهي بالعليا (الميتافيزيقية) مروراً بالوسطى (الرياضية).
هكذا أن مبرر افلاطون في إعتقاده بالمثل - سواء المتوسطة أو العليا - مستمد من قانون (الأصل والشبه). ومن إستدلالاته بهذا الشأن اعتبر أنه لما كان الجمال الملاحظ في عالم الأشياء المحسوسة يفتقر إلى الجمال المطلق التام، فلا بد أن يكون أصله معبّراً عن الأخير الذي لا يعتريه نقص ولا فتور، وهو محض الجمال بالذات[60]. وهو عين ما يسمى بقاعدة «الإمكان الأشرف» التي تعود إلى أرسطو، وتعد من أهم لوازم منطق (الأصل والشبه) أو السنخية. لذلك لم يكن تقسيم افلاطون للوجود إلى عوالمه الثلاثة اعتباطاً. فالعالم السفلي مدين في وجوده لعالم المثل الوسيط، حيث عنده «لا بد أن لكل أثر من مؤثر يشابهه نوعاً من المشابهة»[61]. كما أن العالم المثالي هو بدوره مدين في وجوده ومشابهته للعالم العلوي المجرد، فمهما بلغ من الكمال فسيظل ناقصاً ومحتاجاً للأخير؛ طبقاً للقاعدة الآنفة الذكر.
وبحسب منطق افلاطون فإن علاقة (الأصل والشبه) تصدق على كافة المراتب الوجودية بما فيها مبدأ الوجود الأول، كما يبدو.
***
أما مع المعلم الأول أرسطو (المولود سنة 384 قبل الميلاد)، فرغم أن ظاهر كلامه قائل بوجود مبدأين للعالم، هما العلة الفاعلة الإلهية، والعلة المادية المتمثلة بالمادة الأزلية، إلا أن تكوين نظام العالم طبقاً للصورة والغاية بحسب تقسيمه للعلل إلى أربع (فاعلية ومادية وصورية وغائية) يجعله خاضعاً لقانون (الأصل والشبه) بين المراتب الوجودية. فهو حتى مع قوله بأزلية المادة، يحيل إمكانية انفكاك المادة عن الصورة، فالمادة بدون صورة هي مجرد قوة أو قابلية وإمكان[62]. وبالتالي تصبح حقيقة الأشياء عنده متمثلة بالصور، فهي الموجودة فعلاً وحقيقة، والعالم كله عبارة عن صور مؤلفة من الحركة، فالصورة عنده تمام الحركة وكمالها[63].
وكما بيّن إبن رشد نظرية أرسطو بأن كل موجود محسوس فهو مؤلف من مادة وصورة «وأن الصورة هي المعنى الذي به صار الموجود موجوداً، وهي المدلول عليها بالاسم والحد وعنها يصدر الفعل الخاص بموجود موجود..»[64]. وهو في محل آخر أكد بأن الصورة متقدمة بالجوهر والوجود على الهيولى، وأن الهيولى إنما تستكمل بالأتم والأكمل من جهة الفعل لا القوة[65]، فهي بالتالي تستكمل من جهة الصورة التي هي عين الفعل ذاته.
ومع أن هناك الكثير ممن يضع فارقاً تاماً بين أرسطو وافلاطون حول أزلية العالم وحدوثه، حيث المتصور أن افلاطون قائل بالحدوث، خلافاً لأرسطو القائل بالأزلية أو القدم، إلا أن ما يقوله افلاطون عن حدوث العالم ليس من نوع الحدوث المنقطع زماناً والمتصل بالعدم كما يصرح به المتكلمون، بل هو حدوث دائم منذ الأزل[66]. وهذا ما سبق أن كشف عنه شارح أرسطو، فرفريوس، رداً على الوهم الآنف الذكر، فقد قال في رسالته إلى أبانوا: «وأما ما قذف به افلاطون عندكم من أنه يضع للعالم إبتداء زمانياً فدعوى كاذبة، وذلك أن افلاطون لا يرى أن للعالم إبتداء زمانياً، لكن إبتداء على جهة العلة، ويزعم أن علة كونه ابتداؤه»[67]. ونقل جلال الدين الدواني تأويل البعض لرأي افلاطون بأنه قائل بالحدوث الذاتي لا الحدوث الزماني، لكنه ذكر خلافاً لهذا التأويل بأنه رأى في بعض كتب الفلسفة بخط قديم ينقل عن أرسطو قوله: لم يقل أحد من الفلاسفة بحدوث العالم إلا رجل واحد، وقال مصنفه: إنما عني به افلاطون[68].
على أن معنى الحدوث الذاتي لا يختلف جوهراً عن القول بأزلية العالم وقدمه، وهو المنسوب إلى قدماء الفلاسفة ومنهم أرسطو، فهم لا يقصدون بالقدم على نحو ما يريده المتكلمون من معنى لهذا اللفظ، فكل شيء في عالمنا لديهم حادث، والعالم دائم الحدوث منذ الأزل والى الأبد، وبهذا المعنى يمكن أن يكون قديماً. وعلى ما يذكر إبن رشد «ان الفلاسفة يجوزون وجود حادث عن حادث إلى غير نهاية بالعرض إذا كان ذلك متكرراً في مادة منحصرة متناهية، مثل أن يكون فساد الفاسد شرطاً في وجود الثاني فقط»[69]. وهم حين يقولون بقدم العالم لا يعنون منه كما هو الظاهر من اللفظ، بل تحفظاً من معنى «المحدث» الذي هو من شيء وفي زمان وبعد العدم[70]. فهذا ما جعلهم يرجحون استخدام القول بقِدم العالم على حدوثه. وهو أمر ينطبق على عالمنا الأرضي المسمى بعالم ما تحت القمر، فهو عالم التغير والتجدد والكون والفساد أزلاً وأبداً، أما عالم الأفلاك فعلى خلافه، إذ يعدّ ثابتاً وشريفاً لا يخضع للكون والفساد، وبالتالي فهو قديم بقِدم علته، أو بحسب تعبير بعض الفلاسفة المسلمين أنه حادث من حيث الذات لا الزمان، وما فيه من حدوث آخر لا يتعدى عن حركاته الوضعية. ولعل لفظة قِدم العالم كان يقصد بها هذا الركن الرئيس من العالم وليس عالم ما تحت القمر.
وإذا كان المتوقع أن تتفق وجهة النظر العامة لافلاطون وأرسطو مع الروح الفلسفية القائمة على العلاقات الحتمية، والتي لا تدع فرصة للقول بالحدوث المنقطع، فإن من المحتمل أن يكون الخلاف بينهما ليس له علاقة برؤية العالم ككل، بل له علاقة بالمادة أو الهيولى بالخصوص. فربما كانا مختلفين حول قدمها وحدوثها، وهو أن أرسطو يقول بقِدمها وافلاطون بحدوثها. فالقول بقِدم المادة ربما يعني كونها منفصلة ومستقلة ذاتاً عن تأثير مبدأ الوجود الأول، خلافاً للقول بحدوثها، إذ تكون غير منفصلة ولا مستقلة عن تأثير ذلك المبدأ، رغم أن حدوثها لا ينافي قِدمها وأزليتها. بهذا التوجيه يصبح الخلاف بين افلاطون وأرسطو ليس خلافاً يخص قِدم العالم وحدوثه، ولا خلافاً يتعلق بحدوث المادة وقِدمها كما هو متبادر للفهم الساذج، بل هو خلاف يتعلق بالإستقلال عن مبدأ الوجود الفاعل وعدمه. وسواء قلنا بالحدوث الأزلي أو القِدم الأزلي، فما هو إلا نوع من القِدم والأزلية.
ومهما كان الخلاف حول هذه النقطة، فإنه لا يشكّل - بالنتيجة - عقبة أمام الرؤية العامة المستخلصة من مذهب أرسطو، وهو أنه خاضع لقانون (الأصل والشبه) ليصبّ آخر المطاف في قلب «وحدة الوجود». فرغم أن القول بقِدم المادة وأجنبيتها عن الخالق يحيل التشابه بينها وغيرها من الوجودات، إلا أن ذلك لا ينفي حصول مشابهة نوعية بين مبدأ الوجود الأول وصورة العالم أو نظامه الناشئ من تحريك المادة ذاتها. فالعلة الأولى - هنا - ليست علة لذات المادة أو الهيولى، بل هي علة لتحريكها، وذلك بإخراج صور العالم وإحلال النظام الطبيعي.
وحول مصدر الصورة فإن مذهب أرسطو يجعل وجودها حسب إعتبارين: فهي من جهة موجودة بالقوة في المادة الأولى، لكنها من جهة ثانية ترتبط سببياً بصور مجردة تصل في النهاية إلى العلة الأولى، أي مبدأ الوجود الفاعل، فهو صورة محضة تمثل جميع صور الموجودات بالفعل، بنحو ما من الأنحاء، إذ وجودها في المبدأ الأول «شبيه بوجود المصنوع بالفعل في نفس الصانع»[71]. وهي من حيث وجودها كصور خالصة في ذات الأول؛ تكون محض العقل، وكل عقل فهو عاقل ومعقول في الوقت نفسه[72]. فطالما كان هناك تجرد؛ فهناك عينية وإتحاد بين العقل والعاقل والمعقول. ومصدر هذا الإتحاد هو وجود التشابه فيما بينها، فجميع هذه العقول إذا انتقلت من القوة إلى الفعل تصبح شيئاً واحداً، فيكون العقل صورة الشيء المعقول مجرداً عن الهيولى، بينما هو شبيه به قبل ذلك، مما يعني وجود التشابه بين الصورة المختلطة مع المادة من جهة، وبين العقل المجرد، ومنه العقل الإلهي المحض، من جهة ثانية[73].
لذا فإن أرسطو يجعل من العقل الإلهي علة أولى تدرك ذاتها وتدرك جميع ما يصدر عنها بنفس إدراكها لذاتها، كما يتضح من نظريته في العلم الإلهي، وهو ما يتسق مع قانون (الأصل والشبه) في علاقة العلة والمعلول. فقد جاء في شرح ثامسيطوس لكتاب (حرف اللام) أن أرسطو كان يعتقد بأن الله لا يعقل الصور الخسيسة، بل يعقل ما هو غاية في الشرف، يتعذر عليه بالطبع أن يعقل الأشياء فرداً فرداً، بل عقله لشيء واحد فقط هو غاية في الفضيلة، وهو المتمثل بذاته، فيكون عقله للأشياء عبارة عن دفعة واحدة بعقله لذاته، فيكون العقل والمعقول منه واحداً، فالعقل الأول يعقل العالم لأنه إذا عقل ذاته عقل من ذاته أنه علة جميع الأشياء ومبدؤها[74].
بالفعل لا يدل هذا الكلام صراحة على إعتبار العلم الإلهي للذات الإلهية هو عين العلم بالأشياء، إذ ما يبدو أنه يجعل علم الأشياء لازماً عن العلم الإلهي للذات، لا أنه عينه. لهذا كان إبن سينا في شرحه لكتاب (حرف اللام) لأرسطو، متردداً في معرفة مراده بين أمرين: أحدهما أنه ينفي العلم بالأشياء كلياً، والآخر هو أن العلم الإلهي بالأشياء يكون لازم علمه بذاته، ولم يفترض خياراً ثالثاً يتمثل بكون العلم الإلهي للذات هو عين العلم بهذه الأشياء[75].
وهناك عبارات عديدة يؤكد فيها أرسطو على نفي علم الله للموجودات في أنفسها، فلا يعلم إلا ذاته فقط، بإعتبار أن غيره ناقص يستحيل الإلتفات إليه. ومن ذلك قوله: «إنه إذا لم يتعقل الله شيئاً، فإنه يكون حينئذ كالنائم، أي في درجة منحطة، وأسمى منها مرتبة درجة اليقظ، وبما أن الله هو الكمال والخير المطلق، فيجب أن ينسب إليه دائماً كل كمال، فإذا كانت حالة التعقل لشيء هي دائماً أسمى من حالة عدم التعقل لشيء فيجب أن يقال عن الله أنه يتعقل شيئاً».
وبحسب هذا النص، ظن بعض الباحثين المعاصرين بأن أرسطو لا يرى الله متعقلاً شيئاً آخر غير ذاته، لكونه يعتقد بأن شرف العقل بشرف المعقول، وأشرف المعقولات هو الخير الأعلى المتمثل بالله، فلو تعقل شيئاً آخر غير ذاته فسينحط، وهو ما يجب أن ينزّه عنه[76]. مع أن ذلك ليس صريحاً وبيّناً عن أرسطو، فهو وإن كان يعتبر العلم الإلهي علماً واحداً يأتي دفعة واحدة، في الوقت الذي يكون منزهاً عن العلم بالأشياء الناقصة والمنحطة، لكنه يلوّح أيضاً إلى العلم بالأشياء من جهة الكمال، مضافاً إلى ما ينقل عنه قوله: «إن الله لا يعلم الموجودات في أنفسها، بل يعلمها في ماهيتها، فالله علم كله»[77].
ولا يخرج رأي أرسطو عن إفتراضين، فإما أنه يرى الذات الإلهية تعلم الأشياء كلها في عين علمها بذاتها، بإعتبار الذات عين الأشياء من حيث الكل؛ طبقاً لقانون (الأصل والشبه)، أو أنه يراها لا تعلم الأشياء إلا بعد علمها بالذات، فبهذا العلم يلزم العلم بالأشياء تبعاً لتدرج علاقات العلل بالمعلولات. فمعرفة حقيقة نظرية أرسطو من بين هذين الإفتراضين يجعلنا ندرك الحدود التي يؤسس فيها أرسطو رأيه على ذلك القانون. فلو استثنينا الوضع الخاص للهيولى، لكانت هذه النظرية مترددة بين فرضين، فهي إما أن تعمم القانون على جميع المراتب الوجودية، أو أنها تستثني من ذلك الذات الإلهية، مثلما حصل مع طاليس وغيره.
وعلى العموم تظل مسألة تأسيس علاقة العلية مساوقة لتأسيس منطق الشبه بين العلة والمعلول، وبالتالي بين الموجودات جميعاً، الأمر الذي يتفق مع الروح العامة للمذهب الأرسطي، حتى أن إبن رشد يرى الظاهر من مذهب أرسطو وأصحابه، أو اللازم عن مذهبهم، هو توقف صدق قاعدة (علم العلة بذاتها يستلزم علمها بالمعلول) على الإقرار بوجود علاقة الشبه بين العلة والمعلول، وأن التفاوت بين العلة والمعلول هو تفاوت قائم على الشرف في النوع الواحد لا إختلاف النوعية[78]، الأمر الذي يفضي إلى وحدة الوجود.
بل لا يكتفي أرسطو بإخضاع نظريته لهيمنة (الأصل والشبه)، إنما كذلك يجعل من استدلالاته قائمة بوعي على ملاحظة الإتساق والانسجام بين علاقات الوجود، مما اصطلح عليه الفلاسفة بـ «السنخية» كتعبير يضم تشابه العلاقات إلى جنب تشابه الذوات. فهو يقيم جملة من استدلالاته إستناداً إلى كون الثابت لا يعلل إلا بالثابت، وكذا أن المتغير لا يعلل إلا بالمتغير. ومن ذلك أنه يستدل على ثبات حركة المتحرك الأول، أي السماء العليا أو الفلك المحيط، من خلال ثبات العلة الأولى. وهو حين يحدد العلاقة بين المتحرك الأول والتغير في عالمنا - عالم ما تحت القمر - لا يتوانى في اللجوء إلى تلك القاعدة. فهو إبتداءاً يعتبر العلة الأولى الثابتة وغير المتحركة قد حركت متحركاً أزلياً بشكل ثابت على الحركة، لإرتباطه بعلة ثابتة.
وكسؤال: كيف تمّ الإرتباط بين المتحرك الثابت والحركة الجارية لعالم ما تحت القمر؟ وهي الحركة التي تتصف بعدم الثبات، إذ تتغير حركة الأشياء فيحصل السكون والتحول والكون والفساد وما إلى ذلك، ربما لوجود المادة في هذا العالم بإعتبارها منبع التكثر والفساد والتغير.
فعن هذا السؤال يجيبنا أرسطو بأن ثبات حركة الأجرام الثابتة في العالم العلوي يجعل الحركة في عالمنا متصلة لا تنقطع، فهي على الدوام في حالة تغيّر ثابت لإتصال ودوام حركات الأجرام السماوية[79]. وبذلك يكون ثبات التغير في عالمنا مرتبطاً بثبات الحركة في العالم العلوي، فهذه الأخيرة تلعب دور الوسيط بين ثبات العلة الأولى من جهة، وبين التغير الدائم أو الثابت في عالمنا المادي من جهة ثانية. فللمتحرك الثابت علاقة مزدوجة، فهو ثابت ومتغير من دون تناقض، فحيث أنه متحرك فهو متغير، وحيث أنه لا يتغير في حركته فهو ثابت أيضاً.
ويشابه هذا التفسير الطريقة التي حدد فيها الفيلسوف المسلم صدر المتألهين الشيرازي كيفية إرتباط القديم بالحادث، والثابت بالمتغير، وذلك إستناداً إلى نفس القاعدة الأرسطية التي اختصرها بعبارة «علة الثابت ثابتة، وعلة المتغير متغيرة». فقد اعتبر هذا الفيلسوف أن تغير الأعراض في عالمنا مرتبط بعلة مباشرة هي الحركة الجوهرية للمادة أو الطبيعة. فهذه الحركة كتغير هي علة التغير العرضي في العالم، لإتساق العلاقة بين المتغيرين، لكن إرتباط الحركة الجوهرية بالثابت العقلي القديم، كعلة مباشرة لها، يجعلها ثابتة على الحدوث والتغير والحركة، أزلاً وأبداً، لإتساق العلاقة بين الثابتين.
كما من استدلالات أرسطو القائمة على الإتساق بين علاقات الوجود؛ تلك المتعلقة بإرتباط الكثرة بالكثرة والوحدة بالوحدة. فهو يستدل على وحدة العالم بوحدة العلّة الأولى، فيعتبر أنه لو كان العالم متكثراً، لكانت العلة الأولى متكثرة أيضاً، للإتساق بين الكثرة كمعلول والكثرة كعلة. وهو يرد الكثرة في العالم إلى الهيولى لا الصورة، بدلالة أن صورة الإنسان واحدة رغم أنها تنطبق على جميع أفراد الناس، وبالتالي فالتكثر فيهم من جهة الهيولى. وعليه لما كانت العلة الأولى خالية من الهيولى، لذا فهي واحدة بالفعل والصورة والعدد، وبالتالي يجب أن تكون حركة الجسم المتحرك عنها متصلة ثابتة وواحدة بالعدد، لإتساق الثبات بالثبات والوحدة بالوحدة، وبالنتيجة يكون العالم هو أيضاً ثابتاً وواحداً إستناداً إلى الإتساق نفسه.
أخيراً، عندما قام أرسطو بنقد نظرية المثل الافلاطونية، فإنه قد فعل ذلك باستلهام قانون الإتساق والشبه الدائر بين العلة والمعلول، أي السنخية. فهو يصرح قائلاً: «يزعم افلاطون أن الأشياء صور المثل، والمثل ثابتة لا تتغير، والعالم بخلافها متغير متحرك، فكيف يجوز إعتبار الأشياء المتغيرة صورة لمثل ثابتة؟»[80].
***
وإذا انتقلنا إلى الفترة التي تلت أرسطو، سنجد أنها أكثر اغراقاً وامعاناً في الأخذ بقانون (الأصل والشبه) أو السنخية. فهي فترة لا تختلف جوهراً عما قبلها، بل أنها تجمع لحظات ما قبلها، لحظة طاليس وفيثاغورس وافلاطون وأرسطو ومن قبل ذلك الأفكار المصرية والهندية..
فمما ظهر لدى المتأخرين بعد الميلاد إتجاه في بلاد فارس يسمى بمذهب المانديين، ويعتقد أتباعه بأن ما من شيء في عالمنا المادي إلا ويقابله ما يشابهه في العالم السماوي، والكون نفسه شبيه في شكله بخالقه وهو نموذج الإنسان. وهم مع ذلك يستثنون الإله من الشبه بالبشر، ولهذا يصفونه بأنه الكائن الذي لا شكل له، ويلقبونه بملك النور وسيد العظمة[81].
ويعد القرنان الثاني والثالث بعد الميلاد من أهم القرون المتأخرة التي تبلورت فيها ما يُعرف بالمفاهيم الهرمسية والافلوطينية. وهي مفاهيم بعضها قريب من البعض الآخر، حتى أنها في المحصلة تستقي من مصدر مشترك واحد. فإضافة إلى أن الناظر إليهما يجد وكأن أحدهما مشتق من الآخر، فكذلك أنهما مرتبطان معاً بالأصول المتمثلة بطاليس وأولاده من الفلاسفة والعرفاء، وبالتالي كان من الضروري أن يصبح لهما عناية فائقة بمحور التوليد الفلسفي والعرفاني المسمى بالسنخية.
ففي الطريقة الافلوطينية نجد هناك نوعاً من التفكير المنطقي المنظم إزاء علاقة (الأصل والشبه) في المراتب الوجودية، لكن مع بقاء حالة التردد إزاء مبدأ الوجود الأول قياساً بغيره من الوجودات المنبعثة عنه. فهناك خلاف بين افلوطين ونومينيوس الذي اوضحت الدراسات الحديثة أنه كان مصدراً هاماً للجانب المعرفي عند الأول. فمع أن نومينيوس كان يضع المراتب الوجودية تحت هيمنة قانون (الأصل والشبه)، إلا أنه يستثني من ذلك مبدأ الوجود الأول، فيعتبر علاقة هذا المبدأ بالعالم تتم من خلال العقل المنبعث عنه، إذ يقوم بصنع هذا العالم في الوقت الذي يكون هو عينه[82]، الأمر الذي يعني وجود مشاكلة بين العالم والعقل المنبعث، وأن الأخير يمثل صورة الأول وتمامه وعلته، كما توضحها الروح الفلسفية العامة. بينما يظل مبدأ الوجود الأول متعالياً ومجهولاً وكأنه لا علاقة له بالعالم!
وهذه الثغرة لا نجدها في تفكير افلوطين، فمنطق الأخير هو غاية في التنظيم والإتساق، طالما أنه لم يتقبل الشذوذ في قانون الشبه الوجودي. بل على العكس، أنه يبسطه ويجعله سارياً ليلوح البداية والنهاية من الوجود بلا استثناء. فهو يردّ جميع الأشياء إلى أصل واحد، في الوقت الذي يعتبر هذا الأصل هو كل شيء على نحو أتم وأكمل. ولأول مرة نجد وضوحاً في التعبير عن حلول وحدة وجود لا تقبل الثنائية. فمن جهة يصرح افلوطين بعلاقة الشبه بين العلة والمعلول من أعلى المراتب حتى أدناها، من مبدأ الوجود الأول حتى الهيولى، مصدر الفاقة والنقص والشر، مما لم نعهده عند فيلسوف آخر قبله، وذلك إعتماداً على قاعدة الإمكان الأشرف التي سبق لأرسطو أن قال بها. فقد جاء في (أثولوجيا) قوله: «المعلول أبداً مناسب لعلته، فكل علة قريبة من العلة الأولى، فهي أقل تكثر وأكثر معلولات وأقوى وأعم لقربها من العلة القصوى»[83]. وجاء في (تسوعاته) قوله أيضاً: إن «صفات المفعول كلها في الفاعل، إلا أنها فيه بنوع أرفع وأعلى طبقة»[84]. وشبيه بهذا ما جاء في الميمر الثاني من (أثولوجيا) إذ قال: إن «صفات المعلول أحرى أن تنسب إلى العلة منها إلى المعلول»[85].
وإستناداً إلى ما سبق يقيم افلوطين علاقة الشبه بين المراتب الوجودية، فيعتبر أن كل ما في هذا العالم موجود في العالم العلوي، لكنه نقي محض غير مختلط بشيء غريب هناك[86]. ثم أنه ينحى منحىً افلاطونياً مثالياً فيقرر «أن من وراء هذا العالم سماء وأرض وبحر وحيوان ونبات وناس سماويون. وكل ما في هذا العالم سماوي وليس هناك شيء أرضي البتة»[87]. وأن «هذا العالم الحسي كله إنما هو مثال وصنم لذلك العالم، فإن كان هذا العالم حيّاً فبالحري أن يكون ذلك العالم أتمّ تماماً وأكمل كمالاً لأنه هو المفيض على هذا العالم، الحياة والقوة والكمال والدوام. فإن كان هذا العالم تماماً في غاية التمام فلا محالة أن هناك الأشياء التي هيهنا، إلا أنها فيه بنوع أعلى وأشرف كما قلنا مراراً. فثم سماءٌ ذات حياة وفيها كواكبٌ مثل هذه الكواكب التي في هذه السماء غير أنها أنور وأكمل وليس بينهما افتراق، كما ترى هيهنا وذلك أنها ليست جسمانية، وهناك أرض ذات سباخ لكنّها كلها عامرة وفيها الحيوانات كلها الطبيعية الأرضية التي هيهنا، وفيها نبات مغروس في الحياة وفيها بحار وأنهار جارية جرياناً حيوانياً وفيها الحيوانات المائية كلها، وهناك هواءٌ وفيه حيوانات هوائية حيّة شبيهة بذلك الهواء والأشياء التي هناك كلها حيّة؛ وكيف لا تكون حيّة وهي في عالم الحياة المحض لا يشوبها الموت البتة، وطبايع الحيوان التي هناك مثل طبايع هذه الحيوانات إلا أن الطبيعة هناك أعلى وأشرف من هذه الطبيعة لأنها عقلية ليست حيوانية»[88].
ثم أنه يجسّد علاقة الشبه والسنخية باعطاء فكرة (الإنسان) مراتب وجودية متعددة. فمن جهة يقول: «إن في العقل الأول جميع الأشياء، وذلك لأن الفاعل أول فعلٍ فعلَه - وهو العقل - فعله ذا صور كثيرة وجعل في كل صورة منها جميع الأشياء التي تلائم تلك الصورة. وذلك أنه أبدع الإنسان العقلي وفيه جميع صفاته الملائمة له معاً..»[89]. فهو يؤكد على وجود طبقات متسانخة ومتكاملة من (الإنسان) بعضها أشرف من البعض الآخر، فهناك إنسان طبيعي وهو مثال وصنم للإنسان النفساني الأشرف منه، وهذا يعتبر مثالاً وصنماً للإنسان العقلي، كما أن هذا يعد مثالاً للذات الحقة، إذ هي إنسان إلهي[90].
وهو لا يكتفي برسم المسانخة بين الأصنام الدنيوية وأربابها من المثل الافلاطونية التي أطلق عليها الإشراقيون المسلمون (أرباب الأنواع)، بل يقيم مسانخة بين كل ذلك وبين ربها الأعلى (رب الأرباب). فإذا كان في العقل كل شيء «لأن فيه جميع صفات الأشياء وليس فيه صفة إلا وهي تفعل شيئاً مما يليق بها، وذلك أنه ليس في العقل شيء إلا وهو مطابق لكون شيء آخر»[91].. فإذا كان العقل هكذا عند افلوطين، فإن من الطبيعي أن يكون مبدأ الوجود الأول أولى وأحق بذلك، فـ «الواحد كل شيء، وليس أحد الأشياء، أنه علة كل شيء، وليس كلها، على أنه كل شيء، لأنها كلها تصدر عنه وتعود إليه»، أو أن «المبدع الأول الحق ليس شيئاً وهو جميع الأشياء، وليس الأشياء كلها، لأن الأشياء منه»[92].
ويزيد افلوطين على ذلك فيعتبر أن أي شيء فيه كل شيء، فالكل في الكل، والكل في الواحد، والواحد منها هو الكل، وإن كان يظهر ما هو الغالب في الشيء على سائر الأشياء. فقد جاء في (أثولوجيا) قوله: «.. الأشياء التي في العالم الأعلى كلها ضياء لأنها في الضوء الأعلى، وكذلك كل واحد منها يرى الأشياء في ذات صاحبه فصار لذلك كلها في كلها، وصار الكل في الكل، والكل في الواحد، والواحد منها هو الكل، والنور الذي يسنح عليها لا نهاية له، فلذلك صار كل واحد منها عظيماً، وذلك أن الكبير منها عظيم والصغير عظيم، وذلك أن الشمس التي هناك هي جميع الكواكب، وكل كوكب منها شمس أيضاً، غير أن منها ما يغلب الكوكب فيسمى شمساً، ومنها ما يغلب عليه الكوكب فيسمى كوكباً، وقد يرى كل واحد منها في صاحبه، ويرى كلها في واحد، والواحد يرى في كلها..»[93].
ولعل من المفيد أن نورد مثالاً نموذجياً لطبيعة التفاوت في ظاهرة الفيض والسنخية بين الوجودات عند افلوطين. فقد صُوّر ذلك بانبثاق نور الشمس، فكما يحمل النور خصائص الشمس، كذلك يحمل العالم خصائص مبدأ الوجود الأول «وكما أن النور كلما ابتعد تضاءلت فيه هذه الخصائص، كذلك هي حال الكون، تضعف خصائصه الإلهية تباعاً بإبتعاده عن مصدره، وما تزال تضعف وتندر حتى تكاد تنعدم في أسفل الكون المادي. لذلك قال - افلوطين - أن المادة المحسوسة ذات وجود سلبي لإنعدام الكمالات الإلهية فيها، واعتبرها سبب الشرور ومصدر النقص»[94].
ومع ذلك فإن افلوطين لا ينكر تحقق السنخية والمناسبة بين الهيولى ومبدأ الوجود الأول، فهو يعلل سبب كون الهيولى الأولى ساكنة غير متحركة ولا منتظمة إلى إعتبارها صادرة عن العلة الأولى للسنخية أو المناسبة بينهما[95]. وبهذا الإعتبار تكون الهيولى لدى افلوطين حادثة وليست أجنبية ومستقلة عن المبدأ الأول كما كانت لدى أرسطو.
وعلى العموم أن افلوطين كأرسطو لم يترك مشكلة العلاقة بين عالم التجدد والحركة وعالم الثبات والديمومة، فقد تناول علاج هذه المشكلة من المنطلق ذاته الذي شيّد فيه رؤيته للوجود، فأقر بوجود حركة وسكون حتى في العالم العلوي، واعتبر الحركة هناك محض النقاء، فهي لا تبدأ من شيء لتنتهي إلى شيء آخر، كما أنها ليست غير المتحرك، بل هي ذاته. وكذلك السكون فإنه نقي محض، فهو ليس مختلطاً بالحركة ولا هو أثر لها[96].
وهذا التحليل الذي يجعل للحركة نوعاً من الثبات والسكون، كما ويجعل للسكون نوعاً من الحركة، يتكشّف معناه بقول افلوطين في كتابه (أثولوجيا): «إن الله خلق العقل وبذر فيه جميع الأشياء، فلذلك هو ساكن ثابت لا يتحرك، لأن جميع ما يتكمّل به هو فيه وعنده. والحركة إنما تكون لشيء خارج وبالحركة يحصل، وهذا صفة النفس، فالنفس تتحرك إلى شيء ساكن غير متحرك، وهو العقل، وإنما له حركة أشبه شيء بالسكون عندما يروم علم علته الأولى، وحينئذٍ يتحرك حركة مستوية وهي حركة بنوع سكون، لأنها ثابتة بحال واحد، ولذلك هو أخضعُ الخلائق وأشدها اعظاماً له واجلالاً. وحركة العقل ليست إستحالة وانفعالاً ولا نُقْلة وزوْلاً، فإن تلك الحركات من غير إلى غير، وحركة العقل منه واليه، فلذلك كانت حركته بنوع سكون، وسكونه بنوع حركة»[97].
هذه هي مقولة الحركة في العقل لدى افلوطين، وقد فسّرها صدر المتألهين الشيرازي بأنها تعني «الصدور». فبحسب الكيف تكون كالوجوب والإمكان والوجود والماهية، حيث الصادر من جهة الوجوب والوجود غير الصادر من جهة الإمكان والماهية. أما بحسب الكم فتكون كدرجات القرب والبعد عن مبدأ الوجود الأول[98]. بل أن مفاد الحركة في العقل ليس بمعنى الصدور الدال على النزول فحسب، بل كذلك بمعنى الرجوع الدال على الصعود، والنص الذي نقلناه عن (أثولوجيا) افلوطين يشير إلى هذا النحو من الحركة الرجوعية.
ومع هذا فإن تفسير الحركة في العقل على ذلك الشكل لا يتسق كلياً مع حركة العالم السفلي طبقاً للسنخية وقانون الشبه، ما لم تكن حركات هذا العالم وتجدداته نسبية ومجازية خالصة، شبيهاً بما قدّمه زينون الإيلي تلميذ بارمنيدس القائل بثبات الوجود من حجج على بطلان الحركة. وبالتالي ليس هناك من تفسير جذري متسق إلا القول بأن الأشياء تكون حاضرة حضوراً وجودياً أمام المبدأ الأول وبكل ما تحمله من كيان، أزلاً وأبداً.
وفعلاً أن افلوطين يعتبر الممكنات حاضرة كلها عند جناب المبدأ الأول بدون زوال، وهو لا ينافي ما يحدث من زوال وغيبة في بعض أوعية الوجود[99]. وبلا شك أن هذا الإعتقاد يفضي إلى القول بأزلية الأشياء وإعتبارية الحركة والتجدد، وهو منطق أوفق ما يكون إعتباراً وإتساقاً مع السنخية. فحقيقة جميع الأشياء تصبح أزلية ثابتة بالمعنى البارمنيدي – نسبة إلى بارمنيدس ـ، وإن كانت تبدو لنا حادثة وزائلة لضيق بعض أوعية الوجود. وبذلك تعتبر طريقة افلوطين حلاً لمشكلة علاقة الحادث بالقديم، وكذلك مشكلة علاقة الثابت بالمتغير.
وجميع ما ذكره هذا الفيلسوف يعد صورة متكاملة ومتناسقة تظهر تفاصيلها وتشعباتها لدى الفلاسفة المتأخرين من المسلمين، لا سيما عند صدر المتألهين الشيرازي. فقد جمع افلوطين ثقافة كل من سبقه من الفلاسفة، كما أنه يكاد يكون قد قدّم للمتأخرين كل ما انتجوه من معرفة.
أما ما يُعرف بالهرمسية فهي لا تختلف جذراً عن الافلوطينية، وربما تكون أقرب إلى رؤية نومانيوس منه إلى افلوطين، فهي وإن جعلت من قانون الشبه والمشاكلة يسود جميع الموجودات، إلا أنها اعتبرت مبدأ الوجود الأول لا يقبل الوصف ولا يُعرف إلا بالسلب والتنزيه، فهو ليس له علاقة مباشرة بالعالم، فهذه العلاقة تتم من خلال العقل المنبعث عنه والمسمى بالإله الصانع أو (الله). فهذا الإله هو الذي يتولى صنع كل شيء، وكل ما يصنعه فهو شبيه به، فهو بالتالي كل الأشياء، لكن بمستوى النقاء المحض الذي يخلو من الشوائب. ونجد في الأدبيات الهرمسية - المنسوبة إلى هذه الفترة - تلويحات إلى وحدة الوجود والشهود والإتحاد والحلول أو سلاسل الصعود والنزول، فالصعود له دلالة على الإتحاد، مثلما أن النزول له دلالته على الحلول. فأهم ما فيها هو الكشف عن سلسلة الصعود والنزول، فهي تلخص فكرة الدوران لبداية تكوين الخلق وعودته طبقاً لقانون الشبه والسنخية. ففي هذه الأدبيات هناك كشف عن علة الخلق أو النزول، ففيها أن الله إنما خلق الكون ليُعرف، وكما يقول نص هرمسي: «مقدس هو الله الذي يريد أن يعرف..»، وهو الذي على شاكلته الحديث القدسي الشهير «كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أُعرف، فخلقت الخلق لكي أُعرف». والله إنما أحبّ معرفة خلقه له، لحبّه لنفسه، بما يرى الأشياء معبّرة عن ذاته، فهي مرآة له، وذلك لعلاقة الشبه بينهما. كما لوجود هذه العلاقة من الشبه تتحقق معرفة الخلق له، حيث ينظر الخلق إلى ما في ذاته من صفات إلهية، إذ أن الله لم يشأ أن يخلق الخلق إلا على صورته. هكذا جاء في بعض النصوص الهرمسية تعبيراً عن هيمنة قانون الأصل والشبه في تفسير عملية النزول والصعود للوجودات. ففي نص فيه خطاب موجّه لله تعالى: «تقدستَ يا من تستنسخ الطبيعة كلها صورته. تقدستَ يا من لم تستطع الطبيعة حمل كل صورته». وفي نص آخر يقول: «ثم أن العقل، أب الكائنات والذي هو حياة ونور، أنجب إنساناً شبيهاً به، فأعجب الأب بإبنه لأن الإبن كان جميلاً على صورة أبيه، وفي الحقيقة فإنما أحبَّ الله صورته هو في إبنه، وسخّر له جميع مخلوقاته»[100].
وواضح أن هناك حديثاً إسلامياً شهيراً على شاكلة هذا النص، وهو يقول: «خلق الله آدم على صورته»[101]، بل قد سبق لوجود هذا المعنى في سفر التكوين، وكذلك جاء في الانجيل أن الله قال: «نعمل الإنسان على صورتنا»[102].
على أن قصة النزول والصعود لم تنته بعد. فإذا كان الله أحبّ إبنه (الإنسان) حبّاً لنفسه لا لغيره، طبقاً لعلاقة الشبه، فإن هذا الأمر تسرب إلى الإبن ذاته، فهو أيضاً عشق الطبيعة حينما رأى صورته فيها لنفس العلاقة من الشبه، وهي قد ابتسمت له في المقابل حبّاً وعشقاً حيث رأت فيه صورة الله التي يحملها، رغم أن هذه الصورة مستنسخة فيها وإنْ بدرجة أضعف مما في الابن، فكان ذلك سبباً في نزول الإنسان إلى الطبيعة، فلاحته الخطيئة بسبب ذلك العشق، عشق العقل للطبيعة وإتحاده بها.
ويضاف إلى أن هذا العشق يعد سبباً للنزول والحلول أو الخطيئة، فهو أيضاً سبب للصعود والإتحاد من جديد، فالإنسان لكي يعرج ويتحد لا بد من أن يعود ليحب المعرفة، وبالتحديد معرفة النفس، حيث بها تتم معرفة الله، مثلما جاء في الحديث الإسلامي الشهير «من عرف نفسه فقد عرف ربه». لكن النفس في الرؤية الهرمسية بمثابة الجزء من الإله، فهي الإبن أو الإنسان الذي تعرّض إلى محنة العشق فنزل، وبالتالي كان عليه أن يرحل من جديد ليتحد أخيراً بالله فتحصل له السعادة التامة، وفاقاً مع منطق علاقة الشبه.
***
لا شك أن الأفكار الهرمسية السابقة لها جذور موغلة في القِدم. ويعتقد البعض من فلاسفة القرن الخامس عشر الميلادي أن النصوص الهرمسية هي أقدم أنواع الوحي التي وصلتنا، فهي أقدم من وحي موسى، وقد ألهمت كلاً من فيثاغورس وافلاطون مثلما ألهمت المجوس الفرس وغيرهم[103]. أما حالياً، وبعد أن تمّ فك شفرة اللغة الهيروغليفية (وهي اللغة المصرية القديمة) ومعرفة أسرارها أواخر القرن العشرين، وجد العلماء نصوصاً تعود إلى أكثر من خمسة آلاف سنة، هي بالضبط نفس تلك الأفكار المشهورة خلال القرن الثاني بعد الميلاد. إذ لاحظوا أن جدران القبور والمعابد المصرية ممتلئة بنصوص منسوبة إلى هرمس مثلث العظمة، ويرجح البعض أنه الحكيم المصري (تحوت) مما ولّد الإعتقاد بأن علماء الاسكندرية أعادوا تلك الأفكار القديمة وبنوا عليها ما شاء لهم من أفكار إبان هذه الفترة[104].
ومؤخراً نُشر نص مترجم باللغة الانجليزية منسوب إلى هرمس مثلث العظمة تحت عنوان: (الهرمسية، الحكمة المفقودة للفراعنة) لمؤلفه تيموثي فريك وبيتر غاندي (سنة 1997م)، وهو عبارة عن الكتاب السادس عشر من المتون الهرمسية المعروفة، وقد تمت ترجمته إلى اللغة العربية سنة 2002م تحت عنوان (متون هرمسية). ويرد في هذا النص كل ما تحمله الفلسفة اليونانية من أفكار، ومن بعدها كل ما تأثر بها من الفلسفة الرومانية والإسلامية. فالنص مشبع بالأفكار الفلسفية حول علاقة مبدأ الوجود الأول بالعقل والكون والإنسان، إستناداً إلى الحتمية وعلاقة الأصل والشبه. وعُرضت هذه الأفكار طبقاً للتأملات العرفانية دون استعراض الأدلة الفلسفية التي أبدعها اليونانيون. وسنقدّم للقارئ فقرات من هذا النص لكونه يشكل خلاصة كل ما قدمه الفلاسفة اليونانيون ومن تأثر بهم من الرومان والمسلمين.
يقول النص بلسان هرمس[105]:
الحكمة الخالصة هي الجهد الروحي في التأمل المستمر للوصول إلى معرفة الإله الواحد آتوم. لكن، سيأتي زمان لا يطلب فيه أحد بذل جهد في الحكمة بطهارة قلب ووعي. إن أولئك الذين يحملون الضغينة في نفوسهم سوف يحاولون منع الناس من اكتشاف هبة الخلود التي لا تقدر بثمن.
فالحكمة
ستصير غامضة مغلفة بصعوبة الفهم وستفسدها النظريات الوهمية، وسوف تشتبك في حيل
العلوم المحيرة كالرياضة والموسيقى والهندسة.
حب طاهر لآتوم يؤيده فكر وتوحد قلب، واتباع الخير الذي يريده، هو الحكمة التي لا
تلوثها الأهواء الدنيئة أو الآراء الفارغة. غير أني أتوقع أن يأتي في قادم الزمان
متكلمة أذكياء، غايتهم خداع عقول الناس لابعادهم عن الحكمة النقية. وفي تعاليمهم
سوف يدّعون: أن إخلاصنا المقدس كان بلا جدوى، وتقوى القلب وعبادة آتوم التي يرفعها
إليه المصريون ليستا سوى جهد ضائع. مصر صورة للسموات ويسكن الكون كله هنا في قدس
معبدها. لكن الإله سوف يهجرها، ويعود إلى السماء، ويرتحل من هذا البلد الذي كان
مقراً للروحانية. ستصبح مصر مهجورة، موحشة، محرومة من وجود الإله، يحتلها الدخلاء
الذين سيتنكرون لتقاليدنا المقدسة. إن هذا البلد الزاخر بالمعابد والأضرحة، سيضحى
مليئاً بالجثث والمآتم. والنيل المقدس سوف تخضبه الدماء، وستفيض مياهه محملة
بالقيح. هل يحملك ذلك على البكاء؟
آتوم هو الواحد الصمد غير متحرك ومع ذلك هو أصل الحركة ذاتها. لا يشوبه نقص. هو الباقي دوماً، هو الخالد أبداً. هو الواقع الحق كما أنه المطلق الأكمل الأسمى. هو جماع الأفكار التي لا تدركها الحواس، ولا تدركه المعرفة مهما عظمت. آتوم هو الفكر الأول، هو أعظم من أن يطلق عليه إسم آتوم. هو الخفي المتجلي في كل شيء. تعرف كينونته بالفكر وحده، وتدركه عيوننا في الآفاق. لا جسد له، ولكنه في كل شيء. وليس هناك ما ليس هو. لا إسم له: لأن جميع الأسماء اسمه. هو الجوهر الكامن في كل شيء. فلنعرفه بكل الأسماء ولنعرف كل شيء باسم آتوم. هو أصل ومنبع كل شيء. كل شيء له منبع سوى ذات آتوم، التي نبعت من ذاته. آتوم كامل، كمثل الواحد الذي يبقى واحداً لو ضرب في ذاته، أو قسم عليها، ومنه تأتي جميع الأرقام. آتوم هو كل الكل، ويحيط بكل شيء هو الواحد الذي ليس كمثله شيء هو الكل، وليس هو الكثرة. الوحدانية تشتمل على كل الوحدات، ولكنها ليست الأشياء الكثيرة كما تراها متفرقة. أما حين تراها متعلقة بالواحد، ونابعة من الواحد، يمكنك إدراك وحدتها، يرتبط بعضها ببعض، يضمها تناسق الوجود من اعلاه إلى أسفله، وتخضع جميعها لإرادة آتوم. ليس آتوم أباً لأنه خلق كل الأشياء. ليس ثمة نقص في آتوم فليس هناك ما يتمناه. ليس ثمة ما يفقده آتوم، فليس هناك ما يمكن أن يصيبه الحزن. آتوم هو كل شيء. خالق هو لكل شيء. كل شيء جزء من آتوم. آتوم خالق ذاته بنفسه وتلك هي عظمة آتوم. كينونته الحقة هي قدرته على الخلق، ويستحيل أن يتوقف عن الخلق، ويستحيل أن يتوقف عن أن يكون. آتوم في كل مكان، فالفكر لا يمكن أن يحاصر بسياج، وكل ما هو موجود خاضع للفكر فليس هناك ما يماثله في السرعة والقوة.
هل تعتقد أن آتوم خفي؟ لا تقل ذلك! فليس هناك ما هو أكثر وضوحاً من آتوم. لقد خلق كل الأشياء بحيث تراه من خلالها. هي رحمة آتوم العظيمة التي جعلته ظاهراً في كل شيء. العقل الأول الذي هو حياة ونور، خلق عقل الكون. والعقل الأول ثابت لا يتحرك، خالد لا يتغير، يحتوي على عقل الكون الذي لا تدركه الحواس. والكون الذي تدركه الحواس، هو نسخة وصورة من عقل الكون الخالد، كأنه إنعكاس في مرآة. فأول الخلق بلا بداية آتوم، وثاني الخلق الكون، مخلوقاً على شاكلة آتوم، خالد أبداً. ولأن كل ما في الكون هو جزء منه، فمن المستحيل أن يموت. والكون هو الحياة بأجمعها.
والعقل والروح تجسد للنور وللحياة، وكل شيء يتحرك بقوة الروح. وجسد الكون الذي يحتوي كل الأجساد مشبع تماماً بالروح. والعقل يضيء الروح بكاملها، والعقل ينبع بتمامه من آتوم. والروح تملأ وتحيط بجسد الكون بكامله، وتمنح الحياة للمخلوق العظيم الكامل الحي الذي هو الكون، والذي يمنح بدوره الحياة لكل المخلوقات الأدنى التي يحويها. والكون هو الكل الذي يولد ويغذي كل مكوناته كالأب الذي يحدب على أبنائه. ويستمد الكون قوامه من إحسان آتوم، وتلك هي قوة الخلق العظمى الحقيقية، فالكون صورة آتوم هو الخير المطلق، فكذلك الكون هو خير. بمعنى ما، فالكون لا يتغير، إذ تخضع حركاته لقوانين ثابتة تجعله يدور إلى الأبد بلا بداية أو نهاية. وأجزاؤه تظهر، وتختفي، وتخلق من جديد مرة بعد مرة، في نبضات الزمن التي لا تفتر. ومن خلال الزمن تنتظم الحياة وتستمر. ويجدد الزمن كل شيء في الكون بدورة التحولات التي يضبطها ملائكة السماء: يعودون أبداً إلى مواضعهم في دورانهم السرمدي. ينبثق الحاضر من الماضي، وينبثق المستقبل من الحاضر. وتتوحد جميع الأشياء بهذه الديمومة. ويحكم آتوم الملائكة السماوية، ويمنح منها في المادة قبضاً لا ينقطع من الروح. والمادة رحم خصب يحمل كل شيء. وتتشكل المادة في كل الأشكال، وتحولها طاقة الروح دوماً من شكل لآخر. ويشرف آتوم على هذه التحولات بحيث يقدر لكل شكل روحاً تناسبه في مقام الكائنات. والأرض هي مستودع كل المواد التي تعطي، ثم تأخذ بدورها الحياة من الأعالي.
خلق آتوم عقل الكون، وعقل الكون خلق الكون، والكون خلق الزمن، والزمن خلق التغير. جوهر آتوم هو الاحسان الأول، وجوهر عقل الكون هو الثبات والمثلية، وجوهر الكون هو النظام الجميل، وجوهر الزمن هو الحركة، وجوهر التغير هو الحياة. يعمل آتوم بالعقل والروح، ويعمل عقل الكون بالخلود والدوام، ويعمل الكون بالبدء والعود، ويعمل الزمن بالزيادة والنقصان، ويعمل التغير بالكيف والكم. وعقل الكون في آتوم، والكون في الأبدية والزمن في الكون، والتغير في الزمن. عقل الكون مرتبط أبداً بآتوم، والكون مكون من الأفكار التي في عقل الكون. وعقل الكون صورة من آتوم، والكون صورة من عقل الكون، والشمس صورة من الكون، والإنسان صورة من الشمس. الإنسان كل شيء. الإنسان في كل مكان. يستطيع الإنسان تلقي نور الحياة الربانية، كما يستطيع منح هذا النور. يستطيع الإنسان أن يرتفع إلى مصاف الملائكة، كما يستطيع أن يخلقها بفكره. وكما قدر آتوم أن يكون داخل الإنسان مخلوقاً على شاكلته هو، كذلك نخلق نحن على الأرض الملائكة على شاكلتنا. إلا يستحق ذلك العجب؟ هناك اذن ثلاثة: آتوم، والكون، والإنسان. آتوم يحتوي الكون، والكون يحتوي الإنسان. الكون إبن آتوم، والإنسان إبن الكون وحفيد آتوم. آتوم لا يتجاهل الإنسان، بل يعيه تماماً مثلما يريد أن يعيه الإنسان تماماً، ولذلك فقط كان هدف حياة الإنسان وخلاصه هو الصعود إلى السماء ومعرفة آتوم.
معظم الناس جاهلون بالحقيقة ويخافون الموت، يعتقدون أنه اسوأ الشرور. لكن الموت لا يعدو أن يكون هو تحلل الجسد الفاني، وينتهي دورنا كحراس للعالم عندما نتحرر من روابط الجسد، فنعود مطهرين إلى الحالة الأولى من طبيعتنا العلوية. وبعد أن نهجر الجسد، يتحرر العقل الذي هو رباني بطبيعته من كل متعلقاته. ويتخذ سمتاً من ضياء، يتردد في كل الأكوان، تاركاً الروح لتحاكم، وتعاقب حسب أعمالها. ولا تذهب كل الأرواح إلى مكان واحد، ولا إلى أماكن عشوائية، لكن كل روح تؤتمن إلى المكان الذي يناسب طبيعتها. الرياح العاصفة، ما بين السماء والأرض. ولن يعرف آتوم سوى الروح الربانية التي لم ترتكب خطأ في حق أحد. تلك الروح قد فازت في السبق إلى الطهارة وأصبحت عقلاً كلياً. وبعد أن تهجر كينونتها المادية تصبح روحاً في جسد من ضياء حتى تعمل في خدمة آتوم. وعندما يتحلل الجسد يتحلل الشكل المادي أولاً ولا يرى بعد ذلك. وتعود الروح الحية إلى الفضاء، وتعود الحواس الجسدية إلى الطبيعة، حيث تتألف بطرق جديدة، وتعمل أعمالاً أخرى.
كي تعرف آتوم عليك أن تتمثل به، فالشبيه فقط يعرف شبيهه بالحق. اهجر عالم المادة، وتخيل نفسك متسعاً بلا نهاية. ارتفع عن الزمن إلى الأبدية. واعتقد أنه لا شيء يستحيل عليك، تخيل أنك خالد وعالم بكل العلوم. واسكن خطرات كل كائن حي. ضع نفسك فوق كل ما يعلو، وتحت كل الأعماق. وتبنّ في ذاتك كل المتناقضات من حر وقر، من صلابة وسيولة. واعتقد أنك في كل مكان في نفس الوقت، على الأرض، وفي البحر، وفي السماء. تخيل نفسك جنيناً في الرحم، ولكنك أيضاً شاب وشيخ وجدث ميت، وفي عالم ما وراء القبر. وتأكد أن كل شيء يتعايش مع كل شيء في العقل، كل الأزمنة والأماكن، كل الأشياء بكل الأشكال وبكل الأحجام. عندئذ ستعرف آتوم. وإذا أمكن التحدث عن كنه آتوم، فمادته الإلهية هي العقل، ولا يعرف كنهه سواه. العقل لا ينفصل عن آتوم ولكنه يشع عنه كما الضوء عن الشمس. والعقل يلد الربوبية في بني البشر. فبالعقل يرتفع بعض بني الإنسان إلى أشباه للآلهة كما جاء في تعاليم أوزير: «الآلهة أناس خالدون، والناس آلهة فانون».
العقل هو القسم الإلهي في الكائن الإنساني بقدرته على التعالي إلى السماء. والقسم المادي الذي يتكون من النار، والماء، والتراب، والهواء، هو الجزء الفاني المرتبط بالأرض، حتى لا يهجر العقل الجسد الذي اؤتمن عليه. تتغذي الروح بالنار والهواء، ويتغذى الجسد بالماء والطين. والعقل هو الجوهر الخامس الذي يأتي من النور، ولم يمنح سوى للإنسان. ومن بين جميع الكائنات الحية، لم يوهب الروح إلا الإنسان، الذي ترفعه هبة العقل إلى معرفة آتوم. وهذه المعرفة ليست رأياً هو نسخة باهتة من المعرفة، وصدى لصوتها، كضوء القمر الكابي مقارناً بوهج الشمس.
والذين ولدوا من جديد لم يعودوا كما كانوا من قبل، فقد أصبحوا إلهيين، أبناء آتوم الإله الواحد. فهم يتسعون لكل شيء، وهم في كل شيء، وليسوا من المادة في شيء، فهم عقل محض. ليس هنالك تنافر بين سكان السماء فليس لهم سوى غرض أحد، وعقل واحد، وشعور واحد، حيث تربطهم تميمة الحب في كل متناسق. وسوف يبدو لهم الجانب الأرضي من الكون وقحاً وغثاً بدون ألحان التسابيح الحلوة.
وأنى لي أن أسبح بحمدك؟ فهل أنا حاكم على ذاتي؟ وهل لي ما هو ملكي؟ وهل أنا غيرك؟ فأنت كل ما هو أنا. أنت كل ما أفعل. أنت كل ما أقول. أنت كل ما يحدث. أنت كل ما لم يحدث. أنت العقل في فكرك. أنت الأب في خلقك. فأنت آتوم الذي يفعل كل شيء. فأنت الخير والاحسان الأول في كل مكان.
لقد أفصحت لي عن كينونتك فأمحيت، وجعلتني بهبة من روحك الخالدة في زمرة الملائكة، ولم أبرح جسدي بعد، فملأتني بالبهجة.
لقد أبدعت مني كائناً جديداً لم
يعد يرى بعين الجسد ولكنه يشهد بنور العقل. وعندما يولد المرء من جديد يفقد جسديته
الملموسة ذات الأبعاد ويصبح كله عقلاً. أدرك أنني أصبحت الكل. إنني في السماء
والأرض، إنني في المياه والهواء، إنني في الوحش والطير، إنني رضيع، إنني في الرحم،
أنني قبل الحمل، إنني الحضور الحاضر في كل مكان. أرى أعماقاً لا قرار لها، فكيف لي
بوصف هذه الرؤيا؟ بعقلي أرى العقل، وأعرف الواحد الذي يستعيدني من النسيان. أرى
روحي. أخشى أن أنبس..
[1] جعفر آل ياسين: فلاسفة يونانيون من طاليس إلى سقراط، منشورات مكتبة الفكر العربي، الطبعة الثالثة، 1985م، ص20.
[2] شارل فرنر: الفلسفة اليونانية، ترجمة تيسير شيخ الأرض، دار الأنوار، بيروت، الطبعة الأولى، 1968م، ص19.
[3] الفلسفة اليونانية، ص18.
[4] هنري توماس: أعلام الفلسفة، ترجمة مترى أمين، مراجعة وتقديم زكي نجيب محمود، دار النهضة العربية، القاهرة، ص3.
[5] جورج جيمس: التراث المسروق، ترجمة شوقي جلال، نشر المجلس الأعلى للثقافة، 1996م، ص56.
[6] الفلسفة اليونانية، ص15.
[7] التراث المسروق، ص26.
[8] المصدر السابق، ص25.
[9] نفس المصدر، ص54.
[10] فلاسفة يونانيون، ص21.
[11] بول ماسون ـ اورسيل: الفلسفة في الشرق، ترجمة محمد يوسف موسى، دار المعارف بمصر، ص56.
[12] الفلسفة اليونانية، ص18.
[13] التراث المسروق، ص54ـ55.
[14] الفلسفة اليونانية، ص18.
[15] المصادر الشرقية، ص130.
[16] الفلسفة اليونانية، ص18.
[17] علي زيعور: الفلسفات الهندية، دار الأندلس، الطبعة الثانية، 1404هـ ـ 1983م، ص63.
[18] الفلسفة اليونانية، ص15ـ16.
[19] جون كولر: الفكر الشرقي القديم، ترجمة كامل يوسف حسين، مراجعة امام عبد الفتاح امام، سلسلة عالم المعرفة (199)، 1416هـ ـ 1995م، ص44.
[20] الفكر الشرقي القديم، ص52ـ53.
[21] الفلسفة اليونانية، ص17.
[22] أعلام الفلسفة، ص4.
[23] التراث المسروق، ص134.
[24] أعلام الفلسفة، ص5.
[25] التراث المسروق، ص19.
[26] التراث المسروق، ص135ـ138. ولاحظ أيضاً: الفلسفة في الشرق، ص60.
[27] هنري فرانكفورت وآخرون: ما قبل الفلسفة، ترجمة جبرا ابراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثالثة، 1982، الفصل الثالث بقلم: جون ولسن، ص83.
[28] المصادر الشرقية، ص73.
[29] الفلسفة اليونانية، ص16.
[30] الفكر الشرقي القديم، ص55.
[31] أعلام الفلاسفة، ص77. والفلسفة اليونانية، ص20.
[32] أعلام الفلاسفة، ص77.
[33] التراث المسروق، ص64.
[34] ما قبل الفلسفة، ص282.
[35] ما قبل الفلسفة، الفصل الثامن، بقلم كل من: هنري فرانكفورت وغرينويغن فرانكفورت، ص280.
[36] أعلام الفلاسفة، ص69.
[37] ما قبل الفلسفة، المعطيات السابقة، ص279.
[38] ما قبل الفلسفة، ص279. وفلاسفة يونانيون، ص22.
[39] الشهرستاني: الملل والنحل، ص153.
[40] الملل والنحل، ص153 و154.
[41] أرسطو طاليس: الطبيعة، ترجمة اسحق بن حنين مع شروح إبن السمح وإبن متي بن يونس وأبي الفرج بن الطيب، تحقيق وتقديم عبد الرحمن بدوي، الدار القومية في القاهرة، 1384هـ ـ1964م، ج1، ص205 و42.
[42] فلاسفة يونانيون، ص79.
[43] الملل والنحل، ص154.
[44] المصدر السابق، ص155.
[45] فلاسفة يونانيون، ص80.
[46] الملل والنحل، ص155.
[47] الملل والنحل، ص156 و157.
[48] رسائل إخوان الصفا، دار صادر ـ دار بيروت، 1957م، ج3، ص200.
[49] تاريخ الفلسفة اليونانية، ص39ـ40.
[50] الملل والنحل، ص161.
[51] رسالة الكندي في الإبانة عن سجود الجرم الأقصى وطاعته لله، ضمن رسائل الكندي الفلسفية، حققها وأخرجها وقدّم لها أبو ريدة، دار الفكر العربي بمصر، 1369هـ ـ 1950م، ص260 ـ261.
[52] التراث المسروق، ص66.
[53] أعلام الفلاسفة، ص76ـ77.
[54] تاريخ الفلسفة اليونانية، ص46.
[55] التراث المسروق، ص68.
[56] ما قبل الفلسفة، ص287 و289.
[57] فلاسفة يونانيون، ص49.
[58] انظر حجج زينون في إبطال الحركة: أرسطو طاليس: الطبيعة، ج2، ص711 وما بعدها.
[59] يوحنا قمير: أصول الفلسفة العربية، المطبعة الكاثوليكية ببيروت، 1958م، ص63ـ64.
[60] انظر بهذا الصدد البحث القيم لمحمد علي أبي ريان، وهو بعنوان (الإشراقية مدرسة افلاطونية إسلامية)، وذلك في: الإشراقية مدرسة افلاطونية إسلامية، بحث في: الكتاب التذكاري شيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي، في الذكرى المئوية الثامنة لوفاته، اشراف وتقديم ابراهيم مدكور، المكتبة العربية في القاهرة، 134هـ ـ 1974م، ص45 ـ46.
[61] الملل والنحل، ص165.
[62] إبن رشد: تفسير ما بعد الطبيعة، دار المشرق، المطبعة الكاثوليكية ببيروت، 1961م، ج2، ص779.
[63] الاسكندر الافروديسي: مقالة في الصورة، ضمن: عبد الرحمن بدوي: أرسطو عند العرب، مكتبة النهضة المصرية، 1947م، ص289.
[64] تهافت التهافت، ص432ـ433.
[65] تفسير ما بعد الطبيعة، ج2، ص1192.
[66] الملل والنحل، ص166 و196.
[67] المصدر السابق، ص196.
[68] جلال الدين الدواني: رسالة انموذج العالم، ضمن ثلاث رسائل للدواني، تحقيق أحمد تويسركاني، مجمع البحوث الإسلامية، ايران، الطبعة الأولى، 1141هـ، ص482.
[69] تهافت التهافت، ص56ـ57.
[70] المصدر السابق، ص162.
[71] إبن رشد: تفسير ما بعد الطبيعة، ج3، ص1505.
[72] مقالة حرف اللام لأرسطو، ضمن: أرسطو عند العرب، ص6 و10.
[73] انظر مقالة الإسكندر الإفروديسي في القول في مبادئ الكل بحسب رأي أرسطو طاليس الفيلسوف، وذلك في: أرسطو عند العرب.
[74] شرح ثامسيطوس لحرف اللام، ضمن: أرسطو عند العرب، ص20.
[75] إبن سينا: كتاب الإنصاف، ضمن: أرسطو عند العرب، ج1، ص31.
[76] عبد الرحمن بدوي: أرسطو، دار القلم في بيروت، ص183ـ184. وانظر أيضاً: ماجد فخري: أرسطو طاليس، المطبعة الكاثوليكية، 1958م، ص100ـ101. ومحمد علي أبو ريان: تاريخ الفكر الفلسفي، دار الكتاب العربي، الطبعة الثانية، 1967، ج2، ص200ـ201. ويوحنا قمير: أصول الفلسفة العربية، المطبعة الكاثوليكية، 1958م ، ص83.
[77] علي سامي النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، دار المعارف، الطبعة السابعة، 1977م، ج1، ص536.
[78] كتاب ما بعد الطبيعة، ضمن رسائل إبن رشد، مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن، الطبعة الأولى، 1947م ـ1366هـ، ص150 و153.
[79] تفسير ما بعد الطبيعة، ج2، ص1205.
[80] عن: كمال اليازجي وانطون غطاس كرم: أعلام الفلسفة العربية، لجنة التأليف المدرسي ببيروت، الطبعة الثانية، 1964م، ص362.
[81] المعتقدات الدينية لدى الشعوب، أشرف على تحريره جفري بارندر، ترجمة امام عبد الفتاح امام، سلسلة عالم المعرفة (371)، 1413هـ ـ1993م، ص127ـ128.
[82] عن: محمد عابد الجابري: تكوين العقل العربي، ضمن سلسلة نقد العقل العربي (1)، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثالثة، 1988م، ص171.
[83] افلوطين عند العرب، نصوص حققها وقدّم لها عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية، 1900م، ص202.
[84] المصدر السابق، ص183.
[85] المصدر السابق، ص202.
[86] المصدر السابق، ص163.
[87] المصدر السابق، ص139.
[88] الشواهد الربوبية، ص173.
[89] افلوطين عند العرب، ص139.
[90] افلوطين عند العرب، ص146. وصدر المتألهين الشيرازي: عرشية، تصحيح وترجمة فارسية بقلم غلام حسين آهنى، كتابفروشي شهريار في أصفهان، 1341هـ.ش، ص240. وشرح أصول الكافي لصدر المتألهين، طبعة حجرية قديمة، كتاب التوحيد، باب النهي عن الجسمية.
[91] افلوطين عند العرب، ص96ـ97، وكذا ص134.
[92] افلوطين عند العرب، ص196. ولاحظ أيضاً: الملل والنحل، ص191. ونشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج1، ص186. وأصول الفلسفة العربية، ص94.
[93] افلوطين عند العرب، ص154.
[94] اعلام الفلسفة العربية، ص376 ـ377.
[95] افلوطين عند العرب، ص202.
[96] افلوطين عند العرب، ص154.
[97] المصدر السابق، ص209.
[98] الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج3، ص341 ـ 342.
[99] الأسفار، ج1، ص128ـ129.
[100] عن بنية العقل العربي، ص263 وما بعدها.
[101] صحيح البخاري، حديث 5873. ومثله: صحيح مسلم، حديث 2841.
[102] كتاب يمكنكم أن تحيوا إلى الأبد في الفردوس على الأرض، ص59.
[103] ميرتشيا إلياده: البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، ترجمة وتقديم سعود المولى، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى، 2007م، ص110ـ111، منتدى مكتبة الإسكندرية الإلكتروني، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com.
[104] انظر:
Timothy Freke and Peter Gandy, The Hermetica : the lost wisdom of the pharaohs, judy piatkus ltd. 1997, p. 18-20.
[105] نقلنا هذا النص عن: تيموثي فريك وبيتر غاندي: متون هرمس، ترجمة عمر الفاروق عمر، المجلس الاعلى للثقافة في مصر، 2002م، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com