دروس الفلسفة والعلم والمنطق الاستقرائي (9)
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ
خلاصة الدرس
يمكن تلخيص النتائج التي انتهت اليها الوضعية المنطقية في تفسيرها للدليل الإستقرائي كالتالي:
1 ـ ان الدليل الإستقرائي يستحيل عليه ان يبلغ رتبة اليقين والتعميم مادام لا يرتكز على أي مصادرة قبلية كمبدأ الإستقراء.
2 ـ ان حسابات الإحتمال هي التي تعطي للقضية الإستقرائية درجتها الترجيحية، رغم انها بدورها تستمد من عملية إستقرائية سابقة، وهكذا يتوالى التراجع في الاسناد والمرجعية إلى ما لا بداية له.
3 ـ تتصف النتيجة في الدليل الإستقرائي بأنها قائمة على أساس القدر النسبي من حد التردد والتكرار الذي يمكن التوصل اليه خلال العملية الإستقرائية.
ولمناقشة هذه الحصيلة من النتاج الوضعي نتبع النقاط التالية:
الإستقراء والقيمة التصديقية
لا شك ان جوهر المشكلة الإستقرائية هي تبرير اليقين والتنبؤ بالحالات المستقبلية أو الجديدة. فقد اصبح من المسلّم به في الفكر الغربي ان أي محاولة ترمي إلى إثبات الحالات المستقبلية هي إما ان تقع في الدور، أو انها تصادر بعض المبادئ القبلية دون حق؛ كمبدأ الإستقراء.
وعلى الضد من هذا التوجه سعى المفكر الصدر إلى تحقيق الغرض السابق دون استناد إلى المصادرات العقلية المعروفة. ومن الناحية المبدئية نرى سلامة ما عليه هذا الموقف في تبريره لدرجة اليقين في القضية الإستقرائية ضمن شروط، وبالتحديد لا بد من التمييز بين القضايا الإستقرائية، حيث يمكن تبرير اليقين في بعضها دون البعض الآخر، أي اننا نواجه اكثر من صنف للقضايا الإستقرائية لا بد من التعامل معها بشكل مختلف.
الإستقراء ومبادئ الإحتمال
في الإستقراء الوضعي تتخذ النتائج على الدوام قيماً إحتمالية، بإعتبارها تعتمد على حد التردد الذي يستخلص من العملية الإستقرائية القائمة بدورها على حد تردد سابق، وهكذا إلى ما لا بداية له.
فعلى ضوء المثال الذي ذكره ريشنباخ، نفترض أننا قد حددنا نسبة الذكور بـ (60%) خلال إستقراء شمل مائة الف مولود. فهذا الحد الذي يبرر لنا قيمة التنبؤ في الدليل الإستقرائي هو في حد ذاته محتمل، وذلك لأنه يقوم على إحتمال يرجح صحة العملية الإستقرائية طالما لا يوجد لدينا دليل يؤكد عدم خطئنا في اجراء العد وحساب الترددات الخاصة بالذكور، واذا أردنا أن نحدد قيمة إحتمال صوابنا فسنعتمد على القيام باحصاء آخر يواجه مثل المشاكل السابقة، وهكذا نتراجع إلى ما لا بداية له.
ومن الواضح أن هذه العملية لو حللناها بدقة فسوف نرى أنها تفضي إلى ان تقترب قيمة صدق النسبة المشار اليها (60%) من الصفر، وذلك لأن صدق هذه النسبة تتوقف على صدق العمليات الاحصائية السابقة لها. فما دام بعضها يعتمد على البعض الآخر فلابد من اجراء الضرب، وحيث أن عوامل الضرب لا نهائية فيتحتم أن تقترب النتيجة من الصفر، وعندها نقطع ان النسبة المذكورة (60%) خاطئة تماماً، الأمر الذي يفضي إلى بطلان المعرفة الإستقرائية قاطبة.
وهي نتيجة قد توصل اليها رسل في نقده لريشنباخ، لكنها لم تقنع المفكر الصدر فاعترض عليها وقال في تعليقه على بعض الامثلة: ‹‹نفترض أن قيمة إحتمال وفاة الانجليزي في سن الستين: 1\2 على أساس نسبة تكرر الوفاة في أبناء الستين في الاحصاءات الرسمية، فاذا رجعنا بعد ذلك إلى الاحصاءات الرسمية ووجدنا في احصاء آخر: أن نسبة الخطأ في الاحصاءات الرسمية هي: 1\10، فهذا يعني أن النسبة السابقة وهي 1\2 من المحتمل بدرجة 1\10 أن تكون خطأ، وذلك إما بأن تكون النسبة السابقة أكبر من النصف، وإما بأن تكون أصغر منه. فإحتمال الخطأ يعبر - اذن - عن إمكانيتين متعادلتين: إحداهما تخفض والأخرى ترفع، وبذلك تبقى قيمة إحتمال وفاة الانجليزي البالغ ستين سنة: 1\2 ، لا 1\2 × 1\10››.
ما من شك ان الصيغة الرياضية الأخيرة في النص ليست دقيقة للتعبير عن الفكرة المطلوبة. كما ان النتيجة ليست صحيحة. ذلك ان درجة إحتمال الخطأ في النسبة المقدرة بـ (1\2) تظل (1\10) سواء كانت رافعة أو خافضة، أي ان قيمة صدق تلك النسبة هي (9\10)، وحيث اننا قد نخطئ في هذه المراجعة أيضاً، ولنفرض ان نسبة الخطأ هي نفس النسبة لكل مراجعة، وكذا نسبة الصواب، فإن ذلك يعني ان صدق نسبة التقدير الأولية (1\2) تعتمد على صدق النسب في المراجعات؛ لتوقفها عليها جميعاً. وبالتالي لا بد من اجراء عملية الضرب بين المراجعات ليتحدد من خلالها القيمة النهائية لصدق النسبة الأولية (1\2). وبالضرب تتنازل القيمة إلى ما يقارب الصفر، أو ان تصديقنا بتلك النسبة (1\2) يصبح صفراً عند اللا نهاية من المراجعات. الأمر الذي يعني ان هذه النسبة هي نسبة نقطع بخطئها تماماً، وليس بوسعنا ان نضع أي نسبة أخرى بديلة، بإعتبارها ستلقى نفس المصير، مما يعني ان العملية الإستقرائية تفشل في ان تؤدي دورها لتحديد أي قيمة إحتمالية.
وللايضاح اكثر، لو فرضنا ان قيمة إحتمال وفاة الانجليزي في سن الستين هي (80%)، وان بالمراجعة تبين لنا ان نسبة الخطأ في تحديد ذلك التقدير كانت كبيرة جداً، ولنفترض ان هذه النسبة في المراجعة الأولى كانت عبارة عن (99%)، أي ان إحتمالنا لوفاة الانجليزي بـ (80%) هو إحتمال في غاية الضآلة، وقيمته (1%). فهل يعقل ان نعتبر قيمة إحتمال الوفاة تظل ثابتة لا تزول بحجة اننا نجهل إن كانت المراجعة لصالح الرفع أو الخفض؟ ذلك انه لو فعلنا ذلك لكنا على شبه يقين بأننا على خطأ. بل لو تبين لنا بالمراجعة أننا متيقنون بالخطأ (100%)؛ فهل يعقل ان نظل متمسكين بتلك القيمة من الإحتمال للوفاة، وبنفس الحجة من اننا لم نعرف إن كان الخطأ لصالح عملية الرفع أو الخفض؟!
الإستقراء وحد التردد
يتوقف حد التردد والتكرار لدى الوضعية على قدر ما نقوم به من احصاء، وبالتالي فهو مؤقت وقابل للتغيير. لكن ما لذي يؤكد لنا هذه الفكرة وما هو مصدر الاعتقاد بها؟ صحيح ان ريشنباخ لا يصادر هذه الفكرة، وبالتالي فهو يعتبر انه لو كانت صادقة لأمكن الإستقراء ان يدلنا عليها. لكن ما يلاحظ انه ليس لدى ريشنباخ دليل على ما استنتجه سوى العادة المستمدة من الإستقراءات السابقة، وبهذا نعود مرة أخرى إلى التفسير النفسي دون ان نملك مبرراً منطقياً ينقذنا من المصادرة على المطلوب، فاننا لم نفعل شيئاً سوى ان جعلنا أساس الدليل على القضية الإستقرائية مستلهماً من الإستقراءات السابقة.
وهناك نقد آخر، وهو ما الذي يجعلنا نثق في اكتشاف الحد حتى مع فرض وجوده، إذ ليس كل ما هو موجود قابل للاكتشاف بالضرورة. وهنا لا تصح القاعدة الاصولية التي يقرها مناطقة الفقه: (لو كان لبان). بل على العكس يصح القول: (الوجود لا يدل على الوجدان)، وذلك على شاكلة القاعدة الصحيحة: (عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود). هكذا تصبح نظرية ريشنباخ مركبة على فرضين محتملين ومصادرين سلفاً، هما فرض الوجود والاكتشاف.
كذلك فإن هناك من الغربيين من نقد ريشنباخ وسالمون حول قاعدة حد التردد والتكرار، وهي انه إذا كان يمكن تطبيقها على التنبؤات في السلسلة الطويلة فإنه لا يمكن فعل نفس الشيء في السلسلة القصيرة المعول عليها في المجالات العلمية والحياتية. فمثلاً ان سالمون اعتبر انه إذا كان هناك قانون طبيعي مثل القول بأن (50%) من ذرات (الكاربون 14) تتحلل خلال مدة (5600 سنة)، فإن ذلك القانون سوف لا يكون بصدد أي عدد محدود من ذرات الكاربون التي يمكن ان تتحلل، وإنما هو بصدد التكرار الحدي في السلسلة الطويلة. والحال ان هذا الذي يذكره سالمون لا يتناسب مع التعامل العلمي والحياتي في الكثير من القضايا التي تخص المسائل المحدودة أو ذات السلسلة القصيرة. وقد نُقد ريشنباخ على ذلك، بل واتهم بأنه يقيد الكشوفات التنبؤية بحدود السلاسل الطويلة أو الكبيرة، كالذي ذهب اليه الاستاذان لينز وكاتز. وكان البعض قد استخدم عبارة كينز في نقد ريشنباخ، والتي تقول: ‹‹نحن خلال السلسلة من الجري الطويل نكون قد متنا جميعاً››. مع ان ريشنباخ لا يمانع من تطبيق قاعدته الإحتمالية على القضايا الفردية والمحدودة، مثل تقدير إحتمال كيفية ما سيكون عليه الطقس ليوم غد، معتبراً ذلك من الإحتمالات التقريبية، لكنه رغم ذلك واجه نقداً حتى من رفاقه المنظرين لنظرية الحد التكراري الذين رفضوا الحديث عن الحالات الفردية والتقريبية، معتبرين اياها بأنها صياغات بلا معنى. يضاف إلى ان قاعدته الإستقرائية ينافسها عدد غير محدد من القواعد الإستقرائية التي تتجه باتجاه حد التردد والتكرار، وقد لاقى مشكلة في تبرير ترجيحها على غيرها، واعتمد على مبدأ البساطة في الترجيح، معتبراً قاعدته مستقيمة بخلاف غيرها التي اطلق عليها القواعد الملتوية.