دروس الفلسفة والعلم والمنطق الاستقرائي (8)
فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً
خلاصة الدرس
تعود الوضعية المنطقية إلى جملة من المفكرين المعاصرين أمثال شليك وفايسمان وريشنباخ وكارناب وغيرهم. وخاصيتها الأساسية هي أنها تعترف بوجود مشكلة منطقية للإستقراء كتلك التي كشف عنها هيوم، لكنها تعتقد بالقدرة على التخفيف من عبئها دون القضاء عليها.
وتعتمد الطريقة التي اتبعتها في ذلك على النظرية العامة في التمييز بين المعارف التركيبية والتحليلية، حيث لا يوجد هناك قسم آخر للمعرفة سوى ما يخص القضايا الميتافيزيقية التي تصفها بأنها لا معنى لها.
والقضايا التركيبية ما هي إلا معارف كاشفة عما يوجد في الواقع الموضوعي، لذا كانت تخبر بشيء جديد؛ بإعتبار ان نتائجها غير منزوعة عن مقدماتها، فيقتضي الإستدلال عليها بطريق الإستقراء.
اما القضايا التحليلية فهي معارف لا تخبر عن الواقع بشيء جديد؛ وذلك لأن نتائجها مستبطنة داخل مقدماتها، أو ان المحمول فيها منتزع من نفس الموضوع.
ويُعد جون لوك اول من فرق بين هذين النوعين من القضايا، فلقّب الأولى بالحقيقية، والثانية بالتافهة. ثم اتبعه في ذلك هيوم ومن بعده كانت - مع شيء من الاختلاف - وأخيرا الوضعية المنطقية.
الدليل الاستقرائي والقضايا التحليلية
وبحسب الوضعية المنطقية أنه لا يمكن استخلاص الدليل الإستقرائي من القضايا التحليلية؛ بإعتبارها لا تخبر بشيء جديد، طالما انها تستند إلى مبدأ عدم التناقض الذي يصف الواقع دون أن يضيف لنا معرفة جديدة. فحينما نقول ان (أ) هي (أ) لا نضيف معرفة إلى الموضوع، إذ المحمول هنا يمثل عين الموضوع تماماً، وهذا هو علة كونه يتصف بالضرورة واليقين.
بهذا المنطق اعتبرت الوضعية أن القضايا التحليلية لا يمكنها أبداً أن تبرر لنا طبيعة الدليل الإستقرائي المتصف بأن نتائجه اعظم من مقدماته، وهو علة كونه يقبل التكذيب والتخطئة. فقد يأتي يوم نرى فيه الحديد لا يتمدد بالحرارة فنكتشف خطأ التعميم الذي بنيناه من غير تناقض. لهذا فإن الوضعية حذرة من استخدام التعميمات واليقينات، فهي لا تتحدث عن مطلق أفراد القضية الإستقرائية، بل تكتفي ان ترى فيها فئة تقيم عليها حدود الترجيح والإحتمال دون ان تمنحها درجة التعميم واليقين.
تبرير الدليل الإستقرائي
لقد رفضت الوضعية المنطقية كل ما له صلة بالتعميم واليقين ضمن العملية الإستقرائية. ومن مفكري هذه المدرسة من رفض الحديث حتى عن الصيغ الإحتمالية للتعميم الإستقرائي، معتبراً ذلك بلا معنى. فالتعميم إما ان يعبر عن حقيقة أو كذب، لكنه لا يخضع لإعتبارات الدرجة الإحتمالية. فمثلاً ان كارناب يعد إحتمال التعميم الإستقرائي صفراً، فلا امل يرجى من تأييد التعميمات والفروض الكلية، بل عنده ان التعامل يكون عالقاً بالنماذج الخاصة، شبيهاً بقاعدة ستيوارت مل التي تقر الإستنتاج من الخاصيات إلى الخاصيات. وبنظر الاستاذ باركر انه في العلم النظري قد تكون الفروض الكلية اكثر ضرورة للتوظيف والاستخدام من تلك الخاصيات، رغم انه لا يوجد شيء يمكن ان يعمل على تأييد الفرض الكلي.
مصادرة مبدأ الاستقراء في اليقين والتعميم
واهم تبرير تستند اليه الوضعية المنطقية في رفضها التسليم بالتعميم واليقين، هو اعتقادها ان ذلك لا يتم إلا عند إفتراض وجود مبدأ قبلي يسيّر العملية بهذا الاتجاه، كمبدأ الإستقراء الذي اعتبره البعض ضرورة أساسية لا مناص عنه، كما جاء عن برتراند رسل (سنة 1944)، حيث رأى انه لا يمكن ان يجاب عما إذا كان المستقبل سيحدث كالماضي، ما لم نسلم سلفاً بمبدأ الإستقراء، فنحن إما ان نتقبل هذا المبدأ بصورة اولية قبلية، أو نعمل على طرح كل التبريرات والقناعات الخاصة بالتوقعات المستقبلية، ومن ثم ليس هناك ما يبرر لنا ان نتوقع ان الشمس ستشرق غداً، أو نتوقع اننا لو رمينا انفسنا من الطابق العلوي فسنسقط إلى الاسفل. فحتى عندما نعلم ان المستقبل قد اصبح ماضياً وهو على نفس وتيرة الاطراد والتماثل مع الماضي، فنكون ذوي خبرة حول ما يطلق عليه المستقبليات الماضية، إلا ان ذلك لا يحل لنا المشكل المتعلق بخصوص المستقبل الذي لم يتحقق بعد، أو ما يطلق عليه مستقبليات المستقبل، إذ كيف يمكن ان نتحقق من انه على تماثل واطراد مع مستقبليات الماضي ما لم نفترض مبدأ الإستقراء سلفاً؟! فنحن لا نعرف ان المستقبل سيكون تابعاً لذات القوانين التي يخضع اليها الماضي من غير ان نكون حاملين ذلك المبدأ بشكل قبلي. هكذا إذا كانت الادلة على التنبؤ بالمستقبل صحيحة، فإن الذي يجعلها كذلك هو مبدأ الإستقراء. واذا لم يكن هذا المبدأ صحيحاً فإن كل محاولة للوصول إلى القوانين العلمية العامة، عبر المشاهدات الخاصة، تكون وهماً وخداعاً، وبالتالي ليس بالإمكان الإستدلال على هذا المبدأ عبر الاطرادات المشاهدة إذا ما اردنا لانفسنا ان لا نقع في الدور. كذلك فإن التجربة عاجزة عن ان تثبت أو تنفي هذا المبدأ، وهي عاجزة أيضاً عن ان تقول لنا شيئاً بخصوص الأشياء المستقبلية وغير المشاهدة، فلا يبقى - اذن - غير ذلك المبدأ مبرراً للتنبؤ بها.
والملفت للنظر ان رسل يعمم تطبيق مبدأ الإستقراء حتى على قانون السببية العامة، إذ يرى ان الاعتقاد بهذا القانون ناتج عن مبدأ الإستقراء ذاته، إذ يلاحظ ان الحوادث تقترن باسبابها باستمرار، ولا يوجد مبرر لتعميم هذا الأمر إلا من حيث إفتراض مبدأ الإستقراء سلفاً. مع انه في كتاب (المعرفة الإنسانية) اعتبر ان معرفتنا للعالم الطبيعي الخارجي تعتمد كلية على إفتراض وجود قوانين السببية، إذ نحن لا نتحسس بالاشياء الخارجية مباشرة، بل ان خبرتنا مقيدة باحساساتنا، وبالتالي فإن الاعتقاد بأن وراء هذه الاحساسات حقائق خارجية يتطلب الإيمان بالسببية سلفاً. ولا شك ان هذا الاعتراف يجعل من الاعتقاد بقانون السببية لا يتوقف على مبدأ الإستقراء، بإعتباره قبلياً هو الآخر، بل ومتقدماً عليه.
على ان الوضعية لم تقتنع بالنتيجة السابقة التي انتهى اليها رسل، إذ ترى أنه لو كان هناك مبدأ قبلي سابق على التجربة؛ لكان لا بد أن يتصف بالضرورة الصادقة ضمن القضايا التحليلية التي لا تخبر بشيء عن الواقع الموضوعي، مع أن في مبدأ الإستقراء دلالة واقعية واضحة، وكما يقول فتجنشتاين، وهو من القريبين من الوضعية والمحسوب عليهم: ‹‹وما يسمى بقانون الإستقراء لا يمكن بأية حال أن يكون قانوناً منطقياً، إذ من الواضح انه قضية ذات دلالة خارجية، ولذا فهو لا يمكن ان يكون قانوناً أولياً كذلك›› .
الا أن هذا الفيلسوف الذي رفض الأساس المنطقي للإستقراء لم يجد أمامه سوى تفسير الحالة على النحو النفسي كما صنع هيوم. وقد مثّل على ذلك بشروق الشمس، فاعتبر ان إفتراض كونها ستشرق غداً يتفق مع الخبرة التي الفنا فيها الشروق كل يوم باطراد. ومع ذلك فإن فتجنشتاين يختلف عن هيوم في كونه يثبت النتائج المحتملة للعملية الإستقرائية، وبالتالي ينزع عليها قالباً من الشكل المنطقي. وهي نتيجة يتفق عليها كافة أقطاب المنطق الوضعي. فمثلاً أن ريشنباخ يوافق هيوم على مقولته بأن الإستقراء عادة، لكنه لا يقف عند هذا الحد، بل أقر استقلال المشكلة المنطقية التي من خلالها يُخاط ثوب المعرفة الدقيقة للقضايا الإستقرائية.
الإستقراء والإحتمال
تعتبر خاصية التنبؤ والإخبار عن الواقع من الخصائص الرئيسة التي تمتاز بها القضية الإحتمالية. وقد ظن الكثيرون ومنهم الوضعية المنطقية ان هذه الخاصية تبرر نفي الحكم العقلي للإحتمال وإعتباره حالة مستنتجة بالدليل الإستقرائي.
لكن صفة الإخبار ليست منافية لخاصة الضرورة التي تمتاز بها الاحكام العقلية. ونحن نعتقد ان الإحتمال هو من القضايا التي تمتاز بهذه الخاصة، فعلى الاقل هناك صنف منه يتصف بوجود علاقة منطقية ثابتة، كما هو الحال مع الإحتمالات الثابتة لالعاب الحظ والمصادفة ذات الاشكال المنتظمة، حيث العلاقة الضرورية فيها لا تمس الجانب المنطقي فحسب؛ إنما هي أيضاً تعكس حكم الضرورة الاخباري عبر التقدير الثابت ضمن شروط محددة. أما مبدأ السوية أو ما يطلق عليه عدم التمييز فيعني انه لا يجوز ترجيح حالة على غيرها من الحالات ما لم يكن هناك سبب ما للترجيح. فالترجيح الحاصل في الحالات المتماثلة يفضي إلى عدم الاتساق، وهو بهذا المعنى يكون مستلهماً من مبدأ السببية العامة، بغض النظر عما إذا كان ذلك يدعو إلى ضرورة الحكم بتساوي الحالات، كما لو ثبت ان هناك تماثلاً بينها، أو ان الأمر لا يدعو إلى مثل هذا الحكم إلا بحسب الفرض والتقدير، وذلك فيما لو كنا نجهل طبيعة التماثل بينها.
التسلسل بين حسابات الاحتمال والاستقراء
مهما يكن فغالباً ما يتخذ الحل الوضعي للمشكلة المنطقية مسلكاً يعتمد فيه على حسابات الإحتمال المستخلصة بدورها من عملية إستقرائية سابقة تبرر تقدير القيمة الإحتمالية لقضية الإستقراء التي تواجهنا.
اذن ان ريشنباخ وغيره من اصحاب التبرير البراجماتي للإستقراء يتفقون على عدم إمكانية تبرير الإستقراء منطقياً، بإعتبار ان ذلك يحتاج إلى إفتراض مبدأ قبلي يقر انتظام الطبيعة واطرادها على الدوام، وحيث ان هذا المبدأ ليس عقلياً لذا فلا مجال للتحقق منه، وذلك لأن كل تحقيق يعتمد على الإستقراء، والإستقراء لا يمكن تبريره - منطقياً - إلا عبر هذا المبدأ، وبالتالي نكون في حلقة دور فارغة، مما يعني انه لا يوجد ما يبرر معرفة المستقبل طبقاً للملاحظات الماضية. لكن مع هذا فإن اصحاب الاتجاه البراجماتي يعتبرون انه إذا كان من الممكن معرفة المستقبل فإنه لا وسيلة لذلك بغير اداة الإستقراء، وبالتالي فهو الاداة العملية الوحيدة رغم انهم يقرون ان ذلك غير مضمون الوثوق. فحتى ان علوماً مثل التنجيم والعرافة والالهامات وغيرها من العلوم غير العادية التي تتحدث عن المستقبل، لا يمكن قبولها ما لم تكن تنبؤاتها صحيحة عن حوادث المستقبل على الدوام، مع ان الطريقة الوحيدة التي نستكشف فيها قيمة ما تقدمه هذه الطرق من تنبؤات مستقبلية؛ هي الإستقراء لا غير. وبالتالي فليس هناك من طريقة للتأكد من الوثوق المعرفي غير اداة الإستقراء ذاتها. لكن رغم ان نجاح العلم هو دليل إستقرائي موثوق لمعرفة المستقبل، وهذا ما قد يجعل منه مبرراً منطقياً للإستقراء، إلا ان اصحاب التبرير البراجماتي يرفضون مثل هذا المبرر كلياً.
ومن حيث المقارنة بين اداة الإستقراء وبين أي طريقة أخرى غيره، قام ريشنباخ برسم جدول بياني لتصوير الأمر ضمن حالتي إفتراض الانتظام وعدم الانتظام للطبيعة، وأوضح ان الدليل الإستقرائي يمكن ان ينجح في تأسيس المعرفة للحوادث المستقبلية وغير المشاهدة إذا ما كانت الطبيعة منتظمة أو مطردة، لكنه يفشل إذا ما كانت هذه الطبيعة غير منتظمة. في حين انه في الطرق الأخرى غير طريقة الإستقراء لا يوجد ضمان لنجاحها في إنتاج المعرفة فيما لو كانت الطبيعة منتظمة، وانه ستفشل حتماً فيما لو كانت هذه الطبيعة غير منتظمة. وهنا يكون من الواضح ما يمتاز به الإستقراء عن غيره من الطرق الأخرى، حيث انه ينجح في حالة انتظام الطبيعة وتماثلها، بينما ليس من المضمون ان ينجح غيره عند هذا الشرط. فهذا هو المكسب بلا خسارة الذي يعول عليه ريشنباخ في استخدام الإستقراء دون غيره من الطرق الأخرى.
وقد قدّم ريشنباخ تشبيهاً دقيقاً لهذا الغرض، فهو يعتبر ان من يقوم بالإستدلال الإستقرائي أشبه ما يكون بالصياد الذي يضطر لإختبار جانب محدد من البحر كي يلقي شباكه، رغم أنه لا يعلم إن كان سيصطاد أم لا، لكنه يعرف أنه لو كان هناك سمك فما عليه إلا أن يلقي ما عنده في البحر. وكما قال نوفاليس: >الفرضيات شباك من يرمي بها يجني ثمارها<. فكذا الحال مع التنبؤ الإستقرائي، إذ ما هو إلا عبارة عن رمي الشباك في بحر الحوادث الطبيعية دون أن نعلم يقيناً إن كنا سنكسب صيداً من الحدود الترددية، مما يعني أنه لا دليل على حد التردد والتكرار، فكل ما يبنى من إستدلال يفترض أنه لو كان هناك حد لأمكن التوصل اليه بالإستقراء، وهي عملية تقوم على أساس العادة بشهود الخبرات الماضية التي تجعل الدليل الإستقرائي يفترض وجود حد التردد والتكرار مؤقتاً دون أن يبرهن عليه أو يصادره سلفاً.
موقف الصدر من الاتجاه الوضعي
ويتحدد هذا الموقف من خلال المقارنة التالية:
أولاً: اتفق الجانبان على أن الدليل الإستقرائي ليس بحاجة لأي مصادرات عقلية، لكنهما اختلفا في النتيجة. فهي لدى الجانب الوضعي لا يمكنها أن تكون يقينة وإلا فسنضطر لإفتراض وجود تلك المصادرات القبلية التي تبرر ذلك من خلال تحويل الإستقراء إلى عملية قياسية يتحكم فيها العام بالخاص. أما لدى المفكر الصدر فإن الإستقراء يمكنه أن يحقق درجة اليقين في النهاية من غير اقتضاء للاشكال السابق، حيث تظل العملية إستقرائية لا تتحول إلى شكل القياس، ولا هي بحاجة إلى إفتراض المصادرات العقلية. لكن حالة تحقيق اليقين لا تتم عن طريق البرهان، وإنما تتم عبر إفتراض مصادرة قابلة للتبرير ضمن شروط مناسبة، والتي منها عدم وجود ما يبرهن على تبرير ثبات الإحتمال المضاد لليقين المفترض.
ويمتاز هذا اليقين بحالة خاصة تجعله لا يستمد قوته من منطق الضرورة والحتمية، وإنما يستمدها من ذات الطبيعة التي جُبل عليها الإنسان بتنمية معارفه آلياً. فاليقين بهذا الإعتبار ليس إلا شكلاً عملياً بوجه ما من الوجوه. وهو من هذه الناحية يتشابه مع اليقين الذي اقرت به الوضعية كصيغة عملية، رغم ما بينهما من اختلاف أساس. إذ يمثل اليقين الوضعي استجابة عملية تنبعث من مركز السلوك النفسي المتمثل بالعادة، وهو لهذا لا علاقة له بالشكل المنطقي من المبررات، بخلاف ما عليه اليقين ‹‹العملي›› لدى المفكر الصدر، حيث يتصف بكونه مشدوداً إلى المبررات التي تفرضها عليه حسابات الإحتمال رغم طبيعته الالية.
ثانياً: اختلف الجانبان حول وجهة النظر المتعلقة بالعلاقات السببية؛ فأفضى الأمر إلى اختلافهما حول تبرير الدليل الإستقرائي. فالاتجاه الوضعي يرى ان السببية العامة فيها من الشمول ما يعجز الإستقراء عن ترجيحها، وهو في جميع الاحوال ينفي ان تكون لها دور مفيد للعملية الإستقرائية، بل اكثر من ذلك انه لا يعلق المعرفة التنبؤية على مطلق السببية سواء كانت عامة أو خاصة، وإنما ينظر اليها كأي قضية واقعية أخرى، فهي - على رأيه - لا تتضمن الضرورة التي هي من شأن القضايا التحليلية. في حين ان المفكر الصدر علّق المعرفة التنبؤية على إثبات المعطى الموضوعي للسببية العقلية المتضمنة للضرورة.
ثالثاً: اتفق الجانبان كذلك على ان الإستقراء ليس مستقلاً عن مبادئ الإحتمالات، لكنهما اختلفا في مصدر وقيمة هذه المبادئ. فهي لدى المفكر الصدر صحيحة ومفترضة قبل الإستقراء، إلا انها لدى المنطق الوضعي ليست مفترضة، بل مستدل عليها بإستقراء سابق يمنحها قيمة مرجحة تقبل التغيير بحسب ما تكشف عنه الخبرات الإستقرائية اللاحقة.
وهذه النتيجة جعلت من المذهب الوضعي يقر بعدم إفتراض بداية محددة للمعرفة. إذ كل معرفة لها مبررات إحتمالية تنشأ عن إستقراء سابق تبرره إحتمالات أخرى، وهكذا إلى ما لا بداية له. وهي نتيجة لم يوافق عليها المفكر الصدر، حيث اعتبر ان عدم تحديد المعرفة ببداية يفضي إلى احالتها من الاصل.
ومع ذلك فهما يتفقان على ان الإحتمال الذي يقوم عليه الإستقراء لا يمكنه ان يبرر وجود اليقين في القضية الإستقرائية.
الصدر ومصادرات الاحتمال
على رأي المفكر الصدر ان الدليل الإستقرائي ليس بحاجة مطلقاً إلى مصادرات قبلية (عقلية). لهذا انتقد المنطق العقلي الذي يؤمن بوجود هذه المصادرات كأساس للدليل. لكن مع هذا يمكن ان يقال بأن المفكر الصدر قد اعتمد على مصادرات قبلية، حيث استند إلى مبادئ الإحتمال وهي من القضايا العقلية أو المفترضة، ذلك ان التسليم بها يأتي عن طريق احدى هذه الاطروحات الثلاث:
1 ـ ان هذه المبادئ مستنتجة عبر الدليل الإستقرائي الكاشف.
2 ـ انها قضايا عقلية لا تحتاج إلى دليل وبرهان.
3 ـ انها ليست عقلية ولا إستقرائية، بل مفترضة فحسب، كحاجة اجرائية.
ولا شك انه يمكن رفض الاطروحة الأولى، وذلك لأن الدليل الإستقرائي يقوم على تلك المبادئ، فكيف يكشف عنها أو يبرهن عليها إن لم نقع في الدور والتسلسل!
كما ان الاطروحة الثالثة تحتاج إلى تحليل، ذلك ان إفتراض تلك المبادئ تمثل حاجة اجرائية لا يصح ما لم يخضع إلى شروط معرفية مسبقة، وبالتالي يتعين علينا معرفة هذه الشروط إن كانت عقلية أو إستقرائية، ومن المحال ان تكون إستقرائية، بإعتبارها موضوعة لتبرير الدليل الإستقرائي. لكن يمكن ان تكون عقلية، مثلما يمكن تبرير الدليل الإستقرائي تبعاً للاطروحة الثانية التي تفترض مبادئ الإحتمال عقلية. ففي كلا الحالتين يعتمد الدليل الإستقرائي على قضايا قبلية عقلية أو مفترضة.
وإذا عدنا إلى الموقف الخاص بالمفكر الصدر فسنرى ان لديه بعض الاشارات التي تؤكد عقلية تلك القضايا. فهو في بعض المناسبات اعتبر التسليم القبلي لمبادئ الإحتمال ينسجم مع المذهب العقلي ولا يتفق مع المذهب التجريبي الذي يعجز عن إثباتها. كما اعتبر في مناسبة أخرى ان بعض المعارف الإحتمالية داخلة ضمن مجال القضايا العقلية الأولية.
لكن رغم ذلك انه يشير احياناً إلى ان طريقته غنية عن الحاجة إلى المصادرات العقلية. ولكي لا يكون هناك تناقض علينا ان نعتبر ان ما قصد اليه في عدم حاجة الدليل الإستقرائي إلى المصادرات العقلية؛ يتحدد فقط بالنتيجة النهائية من الدليل، وهي المتمثلة باليقين والتعميم، حيث لا تحتاج سوى إلى مصادرة مفترضة غير عقلية. أما قبل هذه المرحلة فالدليل الإستقرائي في حاجة إلى تلك القضايا العقلية المتمثلة بمبادئ الإحتمال.
ونعتقد ان ما يميز المفكر الصدر عن المنطق العقلي هو عدم تعليق النتيجة النهائية على أي مصادرة عقلية، ولولا ذلك لكان يمثل احد صيغه ومذاهبه الخاصة.