الاسس المنطقية للفهم الديني (7)
فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ
خلاصة الدرس
التفسير وأنماط القراءة الثلاثة
للتفسير انماط مختلفة، فعندما يتأسس على الظاهر نطلق عليه (التفسير الاستظهاري)، لكنه عندما لا يرتبط باي علاقة مع الظاهر فانه لا يخرج عن نمطين من العلاقة، فهو إما ان يكون متأسساً على التأويل فنطلق عليه (التفسير التأويلي)، او يكون متأسساً على الرمز فنسميه (التفسير الاستبطاني او الرمزي).
لذا فهناك مجموعتان احداهما تترتب على الاخرى من غير لزوم، حيث نطلق على الاولى (الاشارة)، وعلى ما يترتب عليها (التفسير). وان الفارق بينهما هو ان الاشارة تبحث عن المعنى، لكن التفسير يبحث عن شرح المعنى، او انه عبارة عن معنى المعنى.
ومن حيث الاشارة لدينا كل من استظهار النص وتأويله واستبطانه. فاستظهار النص هو ذلك الذي يحافظ على الظهور المجالي وتكون فيه الدلالات اللفظية معلومة بحسب الظاهر. وتأويل النص هو ذلك الذي يبتعد عن هذه الدلالات الظاهرة، وإن التزم بالظهور المجالي. أما استبطان النص فانه على خلاف كل من الاستظهار والتأويل حيث يتصف بعدم الالتزام بكل من الظهورين اللفظي والمجالي.
ومن حيث التفسير لدينا كل من التفسير الاستظهاري والتأويلي والاستبطاني. وخاصية الاول هو انه يعتمد على الاشارة الظاهرية ليكشف عن الكيفية التي عليها العلاقتين المفهومية والمصداقية، كالذي مر علينا تبيانه. كما ان خاصية التفسير التأويلي هو انه يعتمد على الاشارة التأويلية بالكشف عن طبيعة العلاقتين المفهومية والمصداقية للمعنى. فقد يكون التأويل محض اشارة من غير تفسير، وذلك عندما يكون هناك نفي للظهور اللفظي وحمله على التأويل من غير ان تتوضح فيه كل من العلاقتين المفهومية والمصداقية.
فمثلاً ان إبعاد المعنى الظاهر للألفاظ الخاصة بالصفات الالهية وتأويلها ولو من غير تعيين، او بتعيين المعنى ولكن من غير ايضاح لكل من العلاقتين المفهومية والمصداقية، لا يعد من التفسير المكتمل للنص. فنحن هنا نواجه نفس الحال الذي سبق مواجهته مع حالات الحاجة التفسيرية عند الاستظهار. ومن ذلك ان العلماء حينما حملوا اية (استواء الرحمن على العرش) على خلاف الظاهر، وهو قولهم بان ذلك يعني استيلاء الرحمن وغلبته على العرش مثلاً، لم يكشفوا عن كيفية العلاقتين المفهومية والمصداقية لهذا المعنى. فمن حيث العلاقة المفهومية هو ان الله له الغلبة والاستيلاء على كل شيء فما جدوى هذا التخصيص بالعرش؟ وكذا لو قيل ان معنى الاستواء جاء ليدل على الملكية، وهو ان العرب يقولون استوى فلان على البلد بمعنى استملكه، فذلك لا يكفي ايضاً للتعبير عن الدلالة المفهومية من حيث تصورنا القبلي عن مالك الوجود الذي يملك كل شيء اولاً واخراً. أما من حيث العلاقة المصداقية فيبقى السؤال وارداً، وهو: ما معنى هذه العملية الاستيلائية او التملكية للعرش؟ وبذلك نعد المفسرين الذين ذهبوا الى هذا المعنى انما حملوا النص على التأويل ولكن من غير تفسير مكتمل.
أما خاصية التفسير الاستبطاني فهو انه يعتمد على الاشارة الرمزية ليوضح من خلالها طبيعة العلاقتين المفهومية والمصداقية للمرموز اليه. فلو توقف الحال على الاشارة الرمزية من دون ايضاح الكيفية التي تخص هاتين العلاقتين؛ فإن ذلك لا يعد من التفسير، رغم تأديتها للفعل الاستبطاني، وذلك باستبعاد كل من الظهورين اللفظي والمجالي.
فمثلاً ليس من التفسير بشيء اذا توقف الحال على اعتبار شجرة ادم وقصته يرمزان الى امور ليس لنا العلم بها سوى انها خلاف ظاهر ألفاظ القصة ومجالها. وكذا ليس من التفسير بشيء لو حددنا معنى الشجرة كرمز يشير الى قضية اخرى اجنبية لكن من غير توضيح للعلاقة المفهومية لهذا المعنى بسائر المعاني الرمزية المستخلصة من القصة، ومثل ذلك فيما لو كشف عن هذه المعاني ولكن من دون ايضاح الكيفية المصداقية لها. ففي كل هذه الاحوال لا يمكن ان نعد ذلك من التفسير المكتمل. اذ يشترط في التفسير الإستبطاني للنص الكشف عن العلاقة المفهومية للمعاني المستخلصة من خلال الرموز اللفظية مع تبيان ما عليه حقيقتها المصداقية.
فمثلاً ان لابن عربي تصوراً رمزياً لقصة يوسف، يعتبر فيها ان المقصود بيوسف من حيث الباطن هو النفس المؤمنة، وأبيه يعقوب هو العقل، واخوته هم النفس الامارة واللوامة، وان امرأة العزيز هي النفس الكلية وهكذا.. فهو تبعاً لهذه الاشارات المفهومية يذكر بأن الله تعالى لما اراد من النفس المؤمنة ان تسافر اليه اشتراها من اخوتها الامارة واللوامة بثمن بخس، وحال بينها وبين ابيها العقل، فبقي هذا العقل حزيناً لا تفتر له دمعة، وذلك بعد ان كان يتنزه في الحضرة الالهية بوجود هذه النفس، فلما حصلت الحيلولة بينهما اصابته الظلمة في بصره من الحزن، وهكذا.. فهذه التصورات الرمزية تدل على ابراز جانب من العلاقة المفهومية، أما العلاقة المصداقية فهي عبارة عن مصاديق الرؤية العرفانية التي تشرح طبيعة العلاقة التراتبية بين العقول والنفوس وتسخير بعضها للبعض الاخر.
التمثيل على الآليات الست للقراءة
للتمثيل على المقارنة بين الآليات الست المختلفة للاشارة والتفسير؛ نتبع ما يلي:
- لو أخذنا مثال اليد الالهية كما وردت في النص القرآني، وقلنا بأن لله يداً لكنها غير معلومة الكيفية؛ فكلامنا هذا يعبر عن حقيقة اللفظ وظاهر النص وان لم نعين تفسيره بالتحديد إن كانت هذه اليد جارحة كأيدينا مثلاً او غير ذلك. فهو بالتالي مجرد اشارة ظاهرية فحسب.
- ولو قلنا بأن هذه اليد معلومة وموضحة؛ كإن ندعي أنها كأيدينا، او هي عين هذه الأيدي، او انها أيدٍ بالمعنى المجرد، فإن ذلك يدخل في التفسير ولا يقتصر على مجرد الأخذ بالظاهر، وهو ما نطلق عليه التفسير الاستظهاري.
- ولو قلنا بأن يد الله ليست مرادة على ظاهر اللفظ، لكن لا نعلم تفسيرها ضمن سياق النص، او أننا عيّنا معناها ولكن مفهوم النص الذي يتضمنها غير مكتمل المعنى والتوضيح، او لاعتبارات تتعلق بعدم وضوح ما النص عليه من الناحية المصداقية.. فكل ذلك يكون تأويلاً من حيث الاشارة لا التفسير.
- ولو قلنا بأننا نعلم المراد كمفهوم ونتخيل المصداق عبر المعنى المأول، كإن يكون المراد عبارة عن القدرة او النعمة او غير ذلك تبعاً لما عليه مجال النص، فإن الأمر يصبح تفسيراً بحسب التأويل.
- ولو قلنا بأن يد الله ليست مرادة بحسب الظاهر وانها ترمز الى امر اخر غير مرتبط بالمجال الذي وردت فيه الكلمة، وإن كنا لا نعلم تحديد معنى هذه الكلمة ومجالها، او كنا نعلم ذلك لكن من دون ايضاح لكلا العلاقتين المفهومية والمصداقية، فالامر يكون عبارة عن مجرد اشارة رمزية من غير تفسير.
- ولو قلنا بأننا نعلم بتحديد المعنى مفهوماً ومصداقاً، كإن نفسر اليد بمعنى العقل الاول وما شاكل هذا المعنى ونوضح ما يرتبط بذلك من العلاقات، فالامر يصبح تفسيراً بحسب الباطن.
الاتفاق حول الاشارة دون التفسير
تبعاً للتقسيم الانف الذكر بين المجموعتين يتجلى أن لا تلازم بينهما من حيث الرد والقبول، فقد يكون المعنى المحدد بحسب الاشارة متفقاً عليه من حيث القبول، أما التفسير فهو موضع الخلاف، اي ليس كل ما يقبل من حيث الاشارة فإن تفسيره يقبل هو الاخر، وكل ذلك يعود الى اختلاف ما عليه القبليات، خصوصاً تلك التي تعود الى الانظمة المعرفية.
فمثلاً قد يتفق العرفاء مع غيرهم في فهمهم للاشارة الاستظهارية، لكنهم مع هذا يفسرون الاشارة تفسيرهم الوجودي المعهود بما يختلفون فيه عن الغير، بل وبما يبتعدون فيه عن اجواء النص وسياقه، وبما قد لا يستسيغه العقل والوجدان، رغم انه يقوم على الاشارة الظاهرية. وفي هذه الحالة نطلق على هذه العملية (الاستظهار الجدلي).
وفي الجملة ان ما يعنيه الاستظهار الجدلي هو ان تكون الاشارة ظاهرية، في حين يكون تفسيرها قائماً على المباطنة والتأويل البعيدين؛ بفعل ما تتحكم به قبليات الانظمة المعرفية.
ومن ذلك ما جاء في إستظهار قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ))، وقوله: ((مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)). فالظاهر معلوم وهو ان مبايعة النبي هي مبايعة لله، وان طاعة الاول هي طاعة للاخر، فهذا المعنى هو موضع الاتفاق بين العلماء، لكن من حيث التفسير فان القبلية الوجودية لدى ابن عربي تجعله لا يرى الثنائية الظاهرة بين النبي والله، انما الموجود واحد، وهو الله المتعين بحسب الصورة المحمدية، وبالتالي فان مبايعة النبي وكذا طاعته هي ذاتها مبايعة الله وطاعته، حيث لا وجود لغيره.
وعلى هذه الشاكلة اتفق ابن عربي مع غيره من المفسرين على المفهوم الظاهر لقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ))، لكنه اختلف معهم في تفسير العلاقة المصداقية للفقر بين الله والناس، اذ اعتبر الفقراء هم الذين يفتقرون الى صور الاسباب التي هي عين الله، او انه المتجلي فيها. فهم إذاً يفتقرون الى الله في كل شيء، وليس الى غيره حيث لا وجود للغير، طالما ان الله ظاهر في كل شيء.
المراتب الوسطى بين آليات القراءة الثلاث
ان مصاديق كل من آليات الاشارة والتفسير الثلاث تتفاوت فيما بينها قوة وضعفاً تبعاً لاعتبارات كل من الظهور اللفظي والحالة التي عليها سيكولوجية القارئ واعتباراته القبلية. فقد تتفاوت حالات الاستظهار من نص الى اخر لدى القارئ، كما قد يتفاوت استظهار النص الواحد من قارئ الى اخر، بحيث يحصل ما هو اكثر او اقل استظهاراً مقارنة مع الاخر.
وينطبق الحال نفسه بخصوص الآليتين الأخريين. فقد يحصل من التأويل وكذا الاستبطان ما هو اكثر تأويلاً واستبطاناً بالنسبة الى الاخر، سواء كان هذا الاخر عبارة عن النظير من النصوص، او النظير من القراء. بل قد تكون هناك حدود وسطى بين الآليات الثلاث، ومن ذلك ما اطلقنا عليه المجاز الظاهر، فهو لا يخلو من التأويل القريب، لكنه يعبر في الوقت ذاته عن حالة من حالات الظاهر بدلالة ما يحصل من التبادر، وذلك بفعل القرائن المنفصلة المركوزة في الذهن. وبالتالي فنحن - هنا - امام حالة مزدوجة تجمع بين التأويل والاستظهار، حيث يمكن عدها من الاستظهار بفعل القرائن المركوزة في الذهن، كما يمكن عدها من التأويل بفعل ما فيها من المجاز اللفظي.
فمثلاً على ذلك قوله تعالى: ((إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ))، اذ لو عزلنا هذا النص عن اي قرينة منفصلة، كالقرينة الخارجية الحسية، لكُنا قد استظهرنا من النص الدلالة على موت النبي والاخرين موتاً حقيقياً وقت نزول الخطاب. فالظاهر دال على انهم ميتون حقيقة، لكن بفعل القرينة والضرورة الحسية يتبين ان الأمر ليس كذلك، حيث يتبادر المعنى طبقاً لموجهات القرائن الخارجية، او القبليات المعرفية، ومنه نعلم ان ظاهر النص دال على معنى كون النبي والاخرون سيموتون لا محالة، لا انهم ميتون فعلاً. وهذا التوجيه او التأويل القريب هو ليس كالتأويل البعيد الذي يبتعد عن سياق النص وحقيقة ألفاظه ابتعاداً كثيراً.
وينطبق هذا الحال - ايضاً - على قوله تعالى: ((واسأل القرية))، حيث يفهم القارئ مباشرة وبحسب ما لديه من المخزون الذهني للقبليات الحسية ان المقصود بذلك هو اهل القرية. وكذا قوله تعالى: ((فوجدا فيها جداراً يريد ان ينقض فأقامه))، حيث يتبادر الى فهم القارئ، تبعاً للقرائن القبلية المتمثلة بالحس، ان المقصود من الارادة في النص هو الميل، وليس تلك الصفة الحيوية التي تُطلق على الانسان وغيره من الاحياء.
لكن هناك ما هو اقل من ذلك ظهوراً وإن لم يبتعد كثيراً عنه. ومن ذلك ما جاء في تأويل قوله تعالى: ((يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ))، اذ قيل فيه ان معناه هو اخراج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، وكذا العالم الفطن من الجاهل البليد، وهذا الجاهل من العالم.
تأويلات المعتزلة والاشاعرة حول القضاء والقدر
كما هناك ما هو بعيد عن الظهور اللفظي، مثل الكثير من معاني الفهم التي وضعها كل من المعتزلة والاشاعرة ازاء النصوص الدينية، كما يتبين ذلك في الموقف من النصوص القرآنية الخاصة بمسألة القضاء والقدر. اذ قامت المعتزلة ومن على شاكلتها بتأويل ظواهر الايات الدالة على التدخل الالهي في اضلال العباد والختم على قلوبهم. وعلى الضد لجأت الاشاعرة الى تأويل ظواهر الايات الدالة على نسبة الاعمال الى العباد.
تأويلات ابن عربي حول فرعون
كذلك فهناك ما هو اكثر بعداً وايغالاً في التأويل، بحيث يصل الى درجة التحريف، كما يدل على ذلك الكثير من الممارسات التي قام بها الفلاسفة والعرفاء تبعاً لقبلياتهم الوجودية. فمثلاً على ذلك ما قام به ابن عربي في تأويله للنصوص التي تخص المصير الذي عليه فرعون، حيث اظهره بانه من الناجين من العذاب والنار.
ذلك انه استفاد من قول فرعون في لحظته الاخيرة قبل مماته: ‹‹آمنت بالله››، ومن قول امرأة فرعون في حق موسى انه ((قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ))، ومن حيث ان الاسلام يجب ما قبله، فعلى ذلك خلص الى تحقق نبوءة كون موسى قرة عين لفرعون، حيث ان الله منحه الايمان في اخر لحظة عند الغرق، وذلك عندما قال كما في الاية: ((حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)). وكما يقول ابن عربي: ان الله ‹‹قبضه طاهراً مطهراً، ليس عليه شيء من الخبث، لانه قبضه عند ايمانه، قبل ان يكتسب شيئاً من الاثام، والاسلام يجب ما قبله، وجعله اية على عنايته سبحانه لمن شاء، حتى لا ييأس احد من الله الا القوم الكافرون، فلو كان فرعون ممن يئس ما بادر الى الايمان، فكان موسى (ع) كما قالت امرأة فرعون عنه انه قرة عين لي ولك عسى ان ينفعنا، وكذلك وقع، فان الله نفعهما به››. ويتابع ابن عربي في دفاعه عن نجاة فرعون فيقول: ‹‹فنجّاه الله من عذاب الاخرة في نفسه ونجّى بدنه.. فقد عمّته النجاة حساً ومعنى.. ثم انا نقول بعد ذلك: والامر فيه الى الله، لما استقر في نفوس عامة الخلق من شقائه وما لهم نص في ذلك يستندون اليه››.
وفي (الفتوحات المكية) تدارك ابن عربي ما جاء في الاية الكريمة: ((آَلآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ))، حيث اعتبرها على عكس المطلوب وهو انها دالة على اخلاصه في ايمانه، وفيها عتاب على ما سبق له من العصيان والفساد، لذلك فالنص وارد بحسب ما عليه من قبل وليس فيما هو عليه بعد، والا لقال الله له: وانت من المفسدين.
كذلك تدارك ما جاء في قوله تعالى: ((يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ))، حيث عدّ الاية لا تنص على دخول فرعون النار مع قومه الداخلين، وانما هو يقدمهم فحسب، مثلما جاء في قوله تعالى: ((أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ))، ولم يقل ادخلوا فرعون وآله، وبالتالي فرحمة الله اوسع من ان لا يقبل ايمان المضطر. وبذا فقد شهد الله لفرعون بالايمان، وما كان الله ليشهد لأحد بالصدق في توحيده الا ويجازيه به وبعد ايمانه، حيث قبِل ايمانه وطهّره، اذ الكافر اذا اسلم وجب عليه الغسل، فكان غرق فرعون غسلاً وتطهيراً له. وقد وجد هذا المعنى تأييداً من صدر المتألهين الذي قال بصدده: انه ‹‹يفوح من هذا الكلام رائحة الصدق، وقد صدر من مشكاة التحقيق، وموضع القرب والولاية››.
تأويلات صدر المتألهين والاملي والقيصري
وكذا ما قام به صدر المتألهين في تأويله للاية: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا))، حيث قلب حقيقة الظاهر فيها وعدها تعني بأن الله قد حكم بكفر من اعتبر النبي ذا حقيقة بشرية، بخلاف الظهور اللفظي للاية وسائر الايات. ومثل ذلك ما قام به حيدر الاملي والقيصري من تأويل اية الامانة: ((إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً)) الاحزاب/72، فقد اعتبر الاملي بأن ما ورد في الاية من وصف الانسان بالظلم والجهل لا يعد ذماً، بل هو مدح لا يفوقه مدح اخر. وقبله كان القيصري يرى ان معنى الاية هو ان الانسان ظلوم لنفسه مميت اياها بافناء ذاته في ذات الله تعالى، وانه جهول لغيره بحيث انه ينسى كل ما سوى الحق، وينفي ما عداه بقوله: «لا اله الا الله».
إذاً فهناك تفاوت في الظهور والتأويل، وهناك حالات وسطى للآليتين السابقتين.
المراتب الوسطى بين الظهور المجالي والتأويل المجالي او الباطني
قد تظهر بعض المراتب التي هي ابعد من المجال المجازي، لكنها لا تدخل ضمن المجال التأويلي او الباطني البعيد. فهي بين بين. ومن ذلك بعض النماذج التي يركز عليها العرفاء ضمن مبدأ ما يسمى (الاعتبار)، وهو المنهج الداعي الى العبور من ظاهر النص الى باطنه لقرينة مناسبة دالة على هذا الامر او منبهة عليه، من حيث الانتقال من النظير الى النظير، او من الشيء الى شبيهه او الى ما يناسبه. اذ يمثل الظاهر اشارة لما يناسبه. وسمي بالاعتبار تبعاً لقوله تعالى: ((فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ))، او قوله: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ)). وقد يتخذ كقراءة – سواء اشارية او تفسيرية - للنص، كما قد يتخذ كقياس وجداني مسترسل ضمن ذكر النظير بالنظير. وفي الحالة الثانية لا نعتبره عائداً الى الاليات الستة من الاشارة والتفسير، بل قائم عليها.
فمثلاً سئل الشبلي (المتوفي سنة 334هـ) عن قوله تعالى: ((قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ))، فقال: ‹‹ابصار الرؤوس عن محارم الله تعالى، وابصار القلوب عما سوى الله تعالى››. كما جاء في تفسير ابن حيون الاسماعيلي لقوله تعالى: ((وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ))، ان الظاهر من النص هو تطهير وتنظيف هذه الثياب مما يعلق بها من اوساخ وقاذورات، والباطن هو تطهير النفس من الذنوب التي كنى عنها بالثياب. وجاء ان بعض العرفاء كان يقول ان المراد في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ))؛ هو النفس، اي اننا امرنا بأن نقاتل النفس باعتبارها اقرب شيء الينا. وذكر ابن الصلاح الشهرزوري (المتوفي سنة 643هـ) في فتاويه: وجدت عن الامام ابي الحسن الواحدي ان ابا عبد الرحمن السلمي صنف كتاب (حقائق التفسير) وقال: ان اعتقد السلمي ان ذلك تفسير فقد كفر. ثم اردف ابن الصلاح قائلاً: الظن بمن يوثق به من الصوفية انه اذا قال شيئاً من امثال ذلك انه لم يذكره تفسيراً، ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة في القرآن العظيم، فانه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية، وانما ذلك منهم ذكر لنظير ما ورد به القرآن، فان النظير يذكر بالنظير، فمن ذلك مثال النفس في الاية المذكورة، فكأنه قال: أُمرنا بقتال النفس ومن يلينا من الكفار، ومع ذلك فياليتهم لم يتساهلوا في مثل ذلك، لما فيه من الابهام والالتباس. وعلى شاكلة هذا النموذج ما ذكره الغزالي بالنسبة الى قوله تعالى في حق موسى: ((إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ))، حيث يكون المعنى هو بحسب الظاهر عبارة عن خلع النعلين الذين يشكلان ملبس القدمين للانسان، وبحسب الباطن عبارة عن طرح الكونين او العالمين.