الفلسفة والعلم والمنطق الاستقرائي (6)
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً
خلاصة الدرس
ستيوارت مل ومصادرة الاستقراء والسببية
يمكن تحديد اعتقادات ستيوارت مل حول الدليل الاستقرائي بالنقطتين التاليتين:
1- انه يؤمن ايماناً مطلقاً بمبدأ الإستقراء كأداة صحيحة وسليمة لكسب المعارف جميعاً دون إستثناء. فحتى العلوم التي يعتبرها المذهب العقلي اولية كعدم التناقض والعلية ومبادئ الرياضيات؛ فإنها عند ستيوارت مل مستمدة من التجربة والإستقراء، بل وتخضع إلى تفسير قوانين تداعي المعاني التي ادلى بها هيوم. وكما يقول: ‹‹إن اصل كل العلوم، حتى تلك العلوم الإستنباطية أو البرهانية هو الإستقراء››.
2- انه قام بتبرير ما ينشأ لدينا من تعميمات مستقبلية طبقاً لما يلاحظ من ثبات في الوقائع المضطردة في الماضي، اعتماداً على السببية التي تستنتج طبقاً للمصادرة الاولى. فهذه المصادرة تعتمد على ما تنتجه المصادرة الأولى في توليد الخبرات السابقة.
هكذا فبحسب المصادرة الأولى لا فرق لاداة الإستقراء من ان تكشف ما عليه الطبيعة من علاقات؛ سواء إتصفت بالخضوع إلى السببية أو كانت صدفوية عديمة النسق. أما بحسب المصادرة الثانية فإنها يمكن ان تقوم بدورها اعتماداً على ما تخلص اليه المصادرة الأولى في الكشف عن السببية، إذ تقوم بتعميم الحكم على الحالات المستقبلية؛ تبعاً لإفتراض الاضطراد الملاحظ في الخبرات السابقة. ذلك ان مل يعتبر التجربة قد علمتنا بأن علاقات الطبيعة ليست فوضوية عشوائية، بل تسير على نسق واحد مركب من عدة اطرادات جزئية تسمى قوانين الطبيعة.
والملاحظ في هذا التفكير انه يواجه بعض الصعوبات كالآتي:
أولاً: ان مصادرته لمبدأ الإستقراء في تحقيق القضايا المعرفية يصطدم مع ما يلاقيه من مشكلة منطقية تلوح عملية الترجيح وتحويله إلى اليقين. ذلك ان معرفة قضايا الطبيعة لا يمكن فصلها عن إعتبارات مبادئ الإحتمال واصوله. فاذا كانت جميع المعارف نتاج التجربة والإستقراء؛ فكيف نبرر الحكم على قضية إستقرائية مثل سببية الحرارة لتمدد الحديد؛ مع انها تخضع للعديد من الإحتمالات الممكنة، وهذه الإحتمالات إذا كانت مستنتجة بدورها من خلال الإستقراء فسوف نقع في دوامة من الدور والتسلسل، ولو لم تكن إستقرائية لكانت مصادرة قبلية لا تتناسب مع ما عليه مذهب مل والاتجاه التجريبي عامة. كذلك فإن الاستناد إلى منطق الإحتمالات والترجيح لا يحول القضية الإستقرائية إلى يقين، الأمر الذي يحتاج إلى منطق آخر مختلف كالذي دعا اليه المفكر الصدر.
ثانياً: إن اعتقاده بأن الضرورة مستنتجة عن طريق الإستقراء لا يُقر عليه؛ إذ كل ما يمكن للإستقراء كشفه هو ثبات العلاقات الطبيعية، لكن إثبات هذا الثبات شيء وإعتباره خاضعاً للضرورة شيء آخر.
ثالثاً: إن جعل المستقبل على وتيرة الماضي إن كان يجد ما يفسره نفسياً عن طريق تداعي المعاني؛ فإنه لا يجد ما يبرره منطقياً. ويتضاعف الأمر عند التسليم بالتعميم من نوع على آخر. فمثلاً ان أنواع الظواهر التي يخضعها مل للبحث العلمي هي غير الانواع الملاحظة خلال التجارب الماضية، واذا كنا نرى في هذه الأخيرة اطراداً ثابتاً لبعض الانواع بين العلة ومعلولها؛ فكيف يحق لنا ان نفترض سلفاً نفس الثبات بالنسبة للانواع الأخرى من العلاقات؟!
موقف المفكر الصدر من إتجاه مل
تعرض الدرس الى موقف المفكر الصدر من اتجاه مل؛ فيمكن تقسيمه إلى جانبين؛ أحدهما فلسفي والاخر منطقي:
1 ـ الجانب الفلسفي للنقد
إتفق المذهبان على ان الإستقراء ليس بحاجة لإفتراض قضايا السببية سلفاً كما هو عليه الاتجاه العقلي. لكن مؤاخذة المفكر الصدر على اتجاه مل تتحدد بأن هذا الأخير رغم انه اعتبر الإستقراء دليلاً كاشفاً عن السببية من حيث الاصل؛ إلا انه عادَ واعتبرها أساساً لبناء التعميمات الإستقرائية اللاحقة. مع انه إذا كان الإستقراء قادراً على إثبات السببية وتعميمها؛ فبإستطاعته ان يثبت ذلك مع أي قضية إستقرائية أخرى بدون حاجة إلى إفتراض قضايا السببية كمصادرات قبلية.
كما ان للمفكر الصدر نقداً آخر ازاء موقف مل التجريبي، وهو يتعلق بخصوص طبيعة السببية. إذ يربط الصدر جميع التعميمات الإستقرائية بحالة إثبات السببية (العقلية) المتضمنة للضرورة، وهو لا يرى قدرة للترجيح والتعميم المستند إلى السببية (التجريبية) العارية عن الضرورة، بل ويرى ان هذه السببية لا تقبل الإثبات ولا الترجيح. ولا شك ان هذا الاشكال يلوح الاتجاه التجريبي الذي يؤكد انكار الضرورة في العلاقة السببية. أما اتجاه مل فما يبدو انه لا ينكر مثل هذه الضرورة.
2 ـ الجانب المنطقي للنقد
يمكن القول ان ستيوارت مل لم يصل إلى ضابط محدد في التمييز بين علاقات السببية والعلاقات الصدفوية، لكنه إكتفى بوضع عدة طرق نصح باستخدامها كأداة لاستخلاص السببية ضمن منهج الإستقراء العلمي. وهو مع ذلك حذّر الباحث من ان يقف عندها جامداً، كما اعتبرها لا تصلح للتطبيق في جميع الحالات. وتنحصر قواعد كشف السببية عند مل بأربع طرق اطلق عليها: الإتفاق والاختلاف والتلازم في التغير والعوامل المتبقية.
وبحسب المفكر الصدر ان جميع هذه الطرق رغم انها تساعد على تقوية ترجيح ظاهرة السببية الخاصة؛ إلا انها تظل غير قادرة على تبرير درجة اليقين والقضاء على ما يحتمل ان تكون العلاقة المطردة هي علاقة صدفوية. ولا شك انها نقطة جديرة بالاهتمام على الصعيد المنطقي للمشكلة الإستقرائية، الأمر الذي أولاها المفكر الصدر هذه الاهمية في بنائه للدليل الإستقرائي.