الفلسفة والعلم والمنطق الاستقرائي (5)
قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً
خلاصة الدرس
توزيع مذاهب الاستقراء
يمكن توزيع المذاهب التي عالجت مشكلة الاستقراء وفقاً للفارق بين اثبات الدليل الاستقرائي وتبريره. وقد كان التوزيع كالتالي:
1ـ عدم الاعتراف بوجود مشكلة منطقية للاستقراء اعتماداً على الافتراضات القبلية. فهو الاتجاه الافتراضي، ويشمل المذاهب العقلية وعلى راسها المنطق الارسطي، وبعض المذاهب التجريبية مثل اتجاه بيكون وستيوارت مل والماركسية وغيرها.
2ـ الاعتراف بالمشكلة المنطقية للاستقراء، مع امكانية اثبات نتائجه على مستوى الترجيح وتبرير اليقين. فهو اتجاه الحل الاثباتي كما هو الحال مع الشهيد الصدر.
3ـ اثبات وجود مشكلة منطقية مستعصية للاستقراء دون حل. فهو الاتجاه النقدي كما يتمثل بديفيد هيوم وكارل بوبر.
4ـ الاعتراف بالمشكلة المنطقية للاستقراء مع امكانية تبرير نتائجه دون اثبات، فهو الاتجاه التبريري، كما يتمثل بالوضعية المنطقية.
الاتجاه الافتراضي والنزعة القبلية
المدرسة الارسطية
لدى المدرسة الارسطية ثلاثة شروط لانتاج الدليل الاستقرائي الصحيح، وهي:
أ - التشابه في الخصائص الأساسية للحالات او الافراد المستقرأة (الماهية).
ب - وحدة الظروف او تماثلها.
ج - معرفة السببية. وهو الشرط الاساس لقيام الدليل الاستقرائي.
وحول معرفة السببية فتارة يتم التعرف عليها اجمالاً، ويسمي المنطق الارسطي الدليل الاستقرائي طبقاً لهذه المعرفة (التجربة). وتارة اخرى يتم التعرف على ماهية السبب على نحو التعيين، وهو يسميها (الحدس).
الحلول الارسطية لمشاكل الاستقراء
توجد مشاكل ثلاث تخص الدليل الاستقرائي، احداها تتعلق بمشكلة السببية العامة، والثانية تتعلق بمشكلة السببية الخاصة، اما الثالثة فتتعلق بالتعميم. وقد كانت حلول المنطق الاستقرائي من خلال ثلاث مبادئ افترضها عقلية كالتالي:
1ـ حل المشكلة الاولى من خلال مصادرة مبدأ السببية العامة باعتباره مبدأً عقلياً.
2ـ حل المشكلة الثانية من خلال افتراض مبدأ عدم تكرر الصدفة اكثرياً ودائمياً كمبدأ عقلي.
3ـ حل المشكلة الثالثة من خلال مبدأ الانسجام او التناسب كمبدأ عقلي.
نقد المفكر الصدر للاستقراء الارسطي
لقد قدم المفكر الصدر اعتراضات على المنطق الارسطي في معالجته للاستقراء، ابرزها ما يلي:
1ـ عدم حاجة الدليل الاستقرائي الى المبادئ الارسطية الثلاثة لحل مشاكل الاستقراء.
2ـ يمكن للدليل الاستقرائي ان يدلل على تلك المبادئ الثلاثة وجميع القضايا العقلية الضرورية باستثناء مبدأ عدم التناقض وما يحتاجه الدليل الاستقرائي من مصادرات كمصادرات الاحتمال.
3ـ اذا كان مبدأ السببية العامة ومبدأ الانسجام من المبادئ العقلية الضرورية، فان الحال مع مبدأ عدم تكرر الصدفة باستمرار لا يعد مبدأ عقلياً، بل هو نتاج الاستقراء، ومن ثم لا يصلح ان يكون اساس الدليل الاستقرائي اطلاقاً. ذلك ان القضية العقلية تتصف بالضرورة خلاف غيرها، ومبدأ عدم تكرر الصدفة لا يتضمن الضرورة، حيث لا يوجد مانع منطقي من تكرر الصدف باستمرار. فما يشير اليه المنطق الارسطي لا يتعدى حدود كون علل الاتفاق غير منتظمة ولا محدودة، وهذا لا يكفي في جعل العلاقة تحكمها الضرورة العقلية. وبحسب الاستاذ يحيى محمد فان المفكر الصدر حاول ان يبرر صحة المبدأ الارسطي فقام بصياغته صياغة علمية افضت الى اصلاحه جذرياً، ففيها شرط اساس لم يخطر على ذهنية المنطق الارسطي، وتبعاً للشرط تكون الصياغة الجديدة للمبدأ الارسطي عقلية وليست استقرائية كما يقول الاستاذ. فالصياغة الجديدة والتي سماها المفكر الصدر بقاعدة عدم التماثل تنص:
كلما كثرت الظروف والملابسات المختلفة الشديدة التغير، كلما تضاءل احتمال تكرر الظاهرة الشديدة التأثر بتلك الظروف والملابسات.
ولنفترض هنا ان الظاهرة قد تكررت باستمرار على الرغم من وجود مثل تلك الملابسات المتحركة؛ كإن يحدث ان رمينا قطعة النقود مليون مرة، وفي كل مرة يظهر وجه الصورة بشكل مستمر.. ففي مثل هذه الحالة نتوقع ان هناك سبباً مجهولاً يرجع اليه تكرر الحادثة، دون ان نعزوها الى المصادفة من الناحية المنطقية ذاتها.. وهذا يعني نظرياً انه من غير الممكن تصور وجود عالم تتعايش فيه الصدف باستمرار وسلام، فطبقاً لمبادئ الاحتمال ان احتمال وقوع مثل هذا التعايش يشبه ان يكون منفياً مادامت قيمته ضئيلة للغاية.