يحيى محمد
تتحدد العلاقة بين العقل والخطاب الديني طبقاً لوجود ثلاثة انماط من التأسيس العقلي. فمن حيث التسلسل المنطقي تكون البداية مع تأسيس النظر القبلي، ثم بعده تأسيس الخطاب من الخارج، واخيراً تأسيس هذا الاخير من الداخل. والوظيفتان الاخيرتان مختلفتان في الغرض، حيث تعمل الاولى على اثبات المسألة الدينية، في حين تعمل الاخرى على فهمها. لكن ما يجمع هاتين الوظيفتين هو التشريع العقلي ومنافسته لتشريع الخطاب. وسنفصّل الحديث عن كل منهما كالاتي:
1ـ التأسيس الخارجي للخطاب الديني
يتوقف اثبات المسألة الدينية على عدد من قضايا العقل كما يصورها اصحاب دائرة الكلام العقلية، بعضها يعود الى القضايا المشتركة، والبعض الاخر يختص بنوعين من التشريع العقلي، احدهما يعود الى ما نطلق عليه منطق (الحق الذاتي) كما يتمثل بكل من المعتزلة والزيدية والامامية الاثنى عشرية، ويعود الاخر الى منطق (حق الملكية) مثلما يتمثل بالاشاعرة.
واهم قضية يشترك فيها المنطقان الانفا الذكر هي تلك التي لها علاقة باثبات المسألة الالهية، حيث جنّد لها المنطقان ادلة مشتركة قائمة على الاعتبارات القبلية الخاصة بمفاهيم الجسم والعرض والجوهر والحدوث وما اليها.
ففيما يتعلق باثبات وجود الله قدم اصحاب الدائرة العقلية عدداً من الادلة اهمها ما يطلق عليه دليل الحدوث، وهو انه لما كانت الاشياء الخارجية مكونة من الاجسام او الجواهر الفردة، وان هذه الجواهر تقوم فيها اعراض او حالات متغيرة كالحركة والسكون والاجتماع والافتراق، فانه على ذلك تكون الاعراض حادثة باعتبارها تحدث بعد ان لم تكن ثم تزول، حيث الحدوث عبارة عن اخراج الشيء من العدم الى الوجود، وبالتالي فلا بد لها من محدث. وحيث ان الجواهر لا تنفك عن الحوادث، وكل ما لا يخل عن الحوادث فانه لا بد ان يكون حادثاً مثله، فالاجسام لا تنفك عن الاعراض، والاعراض حادثة، لذا فالاجسام حادثة مثلها، وبذا يثبت ان لها محدثاً، وهو الله، حيث لا يمكن ان يكون الامر متسلسلاً من غير نهاية (1).
وقد تعرض هذا الدليل لجملة انتقادات ابرزها ما قدمه الفيلسوف ابن رشد في هذا الصدد، حيث انه لخص الدليل بثلاث مقدمات قبل نقدها، وذلك كما يلي:
1ـ لا تخلو الجواهر من اعراض ولا تنفك عنها.
2ـ ان الاعراض حادثة.
3ـ كل ما لا ينفك عن الحوادث لا بد ان يكون حادثاً مثله.
وقد اعترض ابن رشد على المقدمة الاولى، فالخلاف حول الجوهر الفرد بين العلماء والفلاسفة كثير، او أن عليه أقاويل كثيرة متضادة، وأنه ليس معروفاً بنفسه، فهل له وجود أم لا؟ سيما وأن الفلاسفة ينفونه ويرون أن كل جزء من الجسم قابل للإنقسام الى ما لا نهاية له من الاجزاء. ولا شك أن أصحاب الدائرة العقلية على علم بمثل هذا الخلاف الحاصل بينهم وبين الفلاسفة، وان كلا الطرفين يضع من الأدلة لإثبات موقفه من ذلك الجوهر، إن كان يقبل الانقسام كما يقول الفلاسفة او لا يقبل كما يقول أصحاب الدائرة العقلية (2). وحول المقدمة الثانية اعتبر ابن رشد انه لا دليل للعقليين على حدوث جميع الاعراض، إذ بنوا هذه المقدمة طبقاً لدليل الشاهد على الغائب، فاذا كنا نشهد حدوث الاعراض في الاجسام الارضية، فان الامر في الجسم السماوي غير معلوم، سواء بالنسبة له او بالنسبة الى اعراضه الخاصة، اذ ليس بالضرورة ان يكون حاله حال الجسم عندنا. وينطبق الامر ايضاً على الزمان، حيث انه من الاعراض، لكن ليس للحس دلالة تشير الى انه حادث. وكذا ينطبق على المكان الذي يكون فيه العالم، فكل متكون فالمكان سابق له، الامر الذي يعسر تصور حدوثه.
أما المقدمة الثالثة فقد نقدها ابن رشد من حيث عدم امتناع ان يكون المحل مورداً لجنس الحوادث دون ان يكون حادثاً هو الاخر. فقد تتعاقب على المحل او الجسم اعراض غير متناهية متضادة وغير متضادة، مثل حدوث الحركات غير المتناهية الذي تعتقد به الفلاسفة (3).
وحول اثبات مسألة التوحيد اعتمد الكثير من اصحاب الدائرة العقلية على دليل التمانع، وخلاصته هو انه لو فرضنا وجود الهين، اراد احدهما خلق انسان، واراد الاخر عدم خلقه، ففي هذه الحالة إما ان يتحقق المرادان، او لا يتحقق، او يتحقق احدهما، فالفرض الاول مستحيل لانه يعني التناقض، والاخر مستحيل ايضاً لانه يعني الوسط المرفوع، اما الاخير فهو الصحيح وبه تثبت الالوهية، وهو معنى قوله تعالى : ((لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)) (4) .
وعادة ما يرد على هذا الدليل عدد من الاشكالات، مثل: لِمَ لا يفترض وجود الهين قادرين ينتج عنهما مقدور واحد؟ ولِمَ لا يفترض ان القادرين يتفقان فلا يتمانعان؟ كذلك لِمَ لا يكون لكل اله خلقه الخاص دون العلم بالاخر او القدرة على منعه؟ او كما جاء في شبهة ابن كمونة التي افترضت وجود هويتين بسيطتين كل منهما عبارة عن موجود بسيط مستغن عن العلة مطلقاً (5).
والحقيقة انه لا هذا الدليل ولا دليل الحدوث المقدم لاثبات وجود الله يمكن ان يقنع الباحث، انما الدليل على ذلك قائم على لحاظ الواقع. فمن جانب ان العرض والجوهر كلاهما متغيران بلا فرق، وان ذات الشيء وتغيره كلاهما يعبران عن حقيقة الموضوع الخارجي بما اطلقنا عليه في دراسة مستقلة (الوجود الصيروري) (6). وحيث ان التغير لم يكن على وتيرة واحدة، بل انه تغير بلا حدود، فان ذلك يكشف عن ان له اسباباً خارجية طبقاً لمبدأ السببية، اذ لو كان التغير حادثاً بحسب الطبيعة الذاتية للمادة لكان تغيراً على وتيرة واحدة، اي لكان التغير ثابتاً من غير تغاير، أما والتغاير حاصل؛ فذلك يحتاج الى تعليل مرده من الخارج، وهو ما يثبت العلل الميتافيزيقية، ومن ثم وجود الله.
من جانب آخر أنه بحسب الحسابات الاحتمالية لا يعقل اطلاقاً أن يكون النظام في الواقع المشهود قائماً على المصادفة العمياء، فإما أن نفسر النظام في علاقات الطبيعة طبقاً للمصادفات العشوائية، أو نفسره تبعاً لوجود عقل حكيم. ولا شك أن العمل باجراء الحساب الاحتمالي لا يُبقي للفرض الأول قيمة يعد لها اعتبار، بل تنسحب أغلب القيم الاحتمالية لصالح محور اثبات تلك القضية، حيث أن استنتاجها لا يختلف عن استنتاج النظريات العلمية من حيث النظر الى وحدة الأساس، بل تفوق غيرها بكسبها ما لا يحصى من القرائن الدالة عليها دون منافس، فليست هناك ظواهر مضادة تعمل على تكذيبها. كما تتصف الأطراف فيها بأنها مغلقة وضيقة للغاية، خلافاً للنظريات العلمية المفتوحة. فأي نظرية علمية تُتخذ للتفسير يمكن استبدالها باخرى تفوقها، وهكذا من غير حدود. الأمر الذي لا ينطبق على المسألة الإلهية باعتبارها تتضمن طرفين فقط؛ احدهما لصالح هذه القضية، والآخرى لصالح المصادفات العشوائية المحضة، وبالتالي إذا كانت القرائن متجهة نحو اثبات القضية فذلك يعني دحضاً للطرف الآخر، إذ ليس هناك طرف ثالث منافس في هذه المعادلة. ويمكن القول أنه لا توجد قضية خارجية يمكن أن تحظى بتأييد معرفي مثلما هو الحال مع هذه المسألة، فحتى القضايا الحسية رغم اننا نتعامل معها بحسب القطع واليقين، لكنها من حيث التحليل لا تصل الى الدرجة المعرفية التي تختزنها تلك المسألة، لكثرة ما تحظى به من قرائن لا نهائية (7).
وينطبق هذا الحال على اثبات التوحيد، فوحدة هذا النظام تدل على وحدة المصدر، اذ لو كان هناك اكثر من اله لكنا نجد اثار الاختلاف في الخلق، او فساده واضطرابه، وحيث اننا لم نجد ذلك؛ فالامر دال على صدوره عن واحد احد. وهو ما يرشد اليه قوله تعالى: ((ما اتّخذ اللّه من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض)) (المؤمنون/91) وقوله: ((لو كان فيهما آلهة إلا اللّه لفسدتا)) (الأنبياء/22). حيث تدل الاية الاولى على نفي الاختلاف، وتدل الاخرى على نفي الاضطراب والفساد. وبالتالي فلو كان هناك اتفاق بين الهين لبان التعدد في اثارهما، ولدلّت عليه الحسابات الاحتمالية، مثلما دلت على عظمة الخالق ووحدته. كذلك فان افتراض وجود الهين قادرين ينتج منهما مقدور واحد، هو افتراض معقد لا مبرر له، حيث يكفي ان يكون المقدور الواحد صادراً عن اله فرد. مثلما انه لا مبرر لافتراض التسلسل في الالهة او العلل، حيث يكفي تفسير النظام القائم طبقاً لاصل واحد تبعاً لمبدأ البساطة الذي تعتمد عليه العلوم الطبيعية (8).
***
يضاف الى ما سبق هناك قضايا رئيسة أخرى يتوقف عليها اثبات المسألة الدينية. وهنا يأتي دور المنطقين الخاصين بالدائرة العقلية، فلكل منهما تشريعه الخاص تبعاً للاعتبارات التي يفرضها اصله المولد، وهو ما سنتعرف عليه كالتالي:
الحق الذاتي والتأسيس الخارجي
يرى منطق الحق الذاتي ان اول الواجبات هو الواجب العقلي المتمثل بوجوب النظر، والذي يؤدي الى معرفة الله وصفاته الرئيسة. فعلى ذلك يتأسس التشريع العقلي الخاص بسائر الالطاف ومتفرعات الحسن والقبح، كما يتأسس الخطاب الديني من الخارج. فبحسب هذا المنطق انه لا يمكن الاستدلال بالسمع ما لم تتقرر جملة من الامور العقلية، كمعرفة الله وعدالته وحكمته وانه لا يفعل القبيح مطلقاً. فلهذه المعارف اهمية خاصة لتصحيح صدق الباري في كلامه واخباره، وانه لا يُجري المعجز على يد الكذابين. وعندئذ يمكن الاستدلال بالسمع والاحتجاج به، لان صحته تتوقف على هذه الامور العقلية (9). ومن الواضح ان جميع هذه القضايا، باستثناء معرفة الله، هي قضايا معيارية تحددها قاعدة الحسن والقبح العقليين. بل حتى معرفة الله انما تتحقق بشكلها الطبيعي عبر تلك القضية المعيارية الخاصة بوجوب النظر العقلي كما اسلفنا. وبالتالي فان اثبات المسألة الدينية متوقف على تلك القاعدة. لذلك قال بعض اتباع هذا المنطق: ان عزل العقل عن ادراك الحسن والقبح يوجب هدم اساس اثبات الصانع، ويلزم عنه افحام الانبياء، وبالتالي يوجب هدم اصل الشريعة (10).
ويمكن القول ان التشريع العقلي لدى هذا المنطق يفضي الى تأسيس العديد من المسائل الوجودية، وعلى رأسها المسألة الالهية. ولاجل ذلك ظهر البحث في القضايا الكونية، كالبحث في الجسم والاعراض والجوهر والجزء والخلاء والمكان والزمان وغيرها. فالغرض من هذه البحوث هو اثبات المسألة الالهية، وان الغرض من هذه الاخيرة هو اثبات التكاليف العقلية والدينية وفقاً للحق الذاتي، رغم ما يفضي اليه الامر من الدور كما لاحظنا في السابق. وعرفنا ايضاً ان التكاليف الدينية تتوقف على صحة التكاليف العقلية من غير عكس. فبحسب هذا المنطق تحتوي العقول على ادراك الامور التكليفية بصورة اجمالية، ولا تُعرف تفاصيلها الا عبر السمع او الخطاب الديني (11). وهو بذلك يجعل من هذه التكاليف مبرراً لاثبات منظومة الحقائق الدينية. لذلك كان وجوب النظر هو اول هذه التكاليف واساس اثبات سائر التكاليف الاخرى، سواء العقلية منها او الدينية.
ويضيف هذا المنطق الى أن الخطاب الديني قد حثّ على النظر؛ كمنبّه لما ينبغي على العقل فعله، لذلك أشار جماعة من أتباعه الى أن الله تعالى قد وبّخ الكفار بسبب تركهم الاستدلال بعقولهم على وحدانيته وربوبيته بما يشاهدونه في أنفسهم وغيرهم، فقال تعالى: ((لآيات لأولي الألباب)) (آل عمران/190)، وقال: ((لأولي النهى)) (طه/54)، وقال: ((أفلا تعقلون)) (البقرة/44)، وقال: ((لقوم يعقلون)) (البقرة/164)، وقال: ((وقالوا لو كنّا نسمع أو نعقل)) (الملك/10) (12). ويتوقف اثبات المسألة الدينية على العديد من الواجبات والشروط العقلية التي تجمعها نظرية اللطف، ومن ذلك اثبات البعثة وعصمة الانبياء، وكذا الائمة لدى بعض المذاهب، حيث ان هذه القضايا هي المفصل المباشر لتأسيس الخطاب من الخارج، كالذي سنتعرف عليه أدناه:
لمنطق الحق الذاتي عدد من المبررات التي تؤكد وجوب بعثة الأنبياء على الله تبعاً لنظرية اللطف، كالتي ذكرها الشيخ الطوسي بقوله: «الذي يدل على حسن بعثة الرسل فهو ما يؤدونه الينا من المصالح والالطاف؛ لانه لا يمتنع ان يعلم الله تعالى ان في افعال المكلَّف ما اذا دعاه الى فعل الواجب العقلي او صرفه عن فعل القبيح العقلي، او ما اذا فعله دعاه الى فعل القبيح والاخلال بالواجب، فيجب اعلامه ذلك، لان الاول لطف له والثاني مفسدة، ويجب عليه تعالى ازاحة علته في التكليف في فعل اللطف على ما بيناه فيما مضى، ولا يمكن اعلام المكلف ذلك الا بأن يبعث اليه نبياً يعلمه ذلك، وانما قلنا ذلك لانه لا يمكن الوصول الى ذلك باستدلال عقلي، ولا يحسن خلق العلم ضرورة بذلك لان التكليف يمنع منه، فلم يبق بعد ذلك الا بعثة الرسول ليعرفه ذلك، وهذا الوجه الذي نقول انه متى حسنت بعثة الانبياء وجبت، فلا ينفصل الحسن من الوجوب، وانما قلنا لا يمكن العلم بهذه الالطاف ضرورة؛ لانا قد بينا ان العلم بالله تعالى انما يكون لطفاً اذا كان كسباً، وإن كان ضرورة لا يكون لطفاً» (13).
بهذا المعنى تكون التكاليف السمعية الطافاً للتكاليف العقلية، فاللطف يدعو الى كل من فعل الواجبات وترك المناهي، ومنها الواجبات والمناهي العقلية، فمثلاً «إنا نعلم ضرورة ان الانسان اذا واظب على فعل الصلاة والصوم مثلاً دعاه ذلك الى العلم بالله تعالى وصفاته، ليعلم ان العبادة هل هي لائقة به ام لا. وكل لطف واجب كما تقدم» (14).
وشبيه بذلك ما اكده القاضي الهمداني حول تحديد وجوب لطف النبوة بما تقرر لدى العقل من ان الافعال يدعو بعضها الى بعض ويصرف بعضها عن بعض «فاذا علم الله ان فعل المكلف ما اذا تمسك به كان اقرب الى فعل الواجبات، او انه يكون فاعلاً لها لا محالة، ولم يكن في قوة العقول ما يمكن معه الوقوف على تفاصيله، فلا بد من حكمة ان يبعث اليهم من يعرفهم به. وبعبارة اخرى ان ما يحصل للمكلفين من الصلاح في بعض أفعالهم التي لا يمكنهم ان يقفوا عليها بعقولهم فلا بد من ان يزيح الله علتهم بالبيان ونصب الادلة، كما لا بد فيما هو لطف من فعله تعالى ان يفعله، فاذا لم يكن لضرورة العقل مدخل في معرفة ذلك، ولا لادلة العقول والنظر مجال، فلا بد من طريقة اخرى يعلمهم الله بواسطتها، وهذه هي طريقة السمع والنبوة». واكد القاضي ايضاً بان سبب وجوب البعثة هو ان فيها وجوهاً تحسن عليها (15).
كما قدّم هذا الشيخ تفصيلاً حول وجوب البعثة وعدمه، فذكر ثلاثة أحوال:
«1ـ فإما ان يكون من المعلوم من حالهم - اي حال المكلفين - التمسك بسائر ما كلفوه عقلاً، سواء تمسكوا بما نزل عن طريق النبوة او لم يتمسكوا به، ومثل هذا المكلف لا تجب بعثة الرسول له لتأكيد ما يستملك به الامور العقلية، ولكنها واجبة لما يتصل بالتكليف السمعي.
2ـ ان يكون المعلوم من حالهم انهم لا يتمسكون بما في عقولهم او بعضها، وهؤلاء لا تؤثر البعثة في حالهم من حيث اداؤهم الواجبات العقلية، ولذلك لا تجب بعثة الرسول اليهم عقلاً، ولكنها تجب سمعاً لاقامة الحجة، ومعرفة التكليف السمعي.
3ـ واخيراً فان هناك من المعلوم من حاله انه اذا تمسك ببعض الشرائع صلح في بعض ما كلف به شرعاً وعقلاً واختار الواجب، ولولاه كان لا يختاره، وهذا النوع هو الذي تحسن البعثة له وتجب عقلاً وشرعاً. وإذاً فان النبوة تجب للمكلفين جميعاً، وإن اختلفت سبل وجوبها لهم» (16).
***
نستخلص مما سبق النقطتين التاليتين:
أ ـ أن سبب وجوب بعثة الانبياء يعود الى كونها لطفاً؛ لحثّها على الواجبات ومنها الواجبات العقلية وتفصيلها لما يجمله العقل من واجبات ومنهيات.
ب ـ أن تعيين هذا الوجوب مستند الى ملاحظة جهات الحسن فيها.
فحول هاتين النقطتين سنجمل نقاشنا عبر الفقرتين التاليتين:
1ـ أول ما يلاحظ أنه لا يمكن البت في وجوب اللطف، فليس كل ما يدعو الى فعل الحسن يكون واجباً، ولا كل ما يدعو الى فعل القبيح يكون محظوراً. ويظل العلم بهذا الوجوب متوقفاً على العلم بالحكمة. والعلم العقلي بطبيعة الأخيرة منفي لمجمل الأفعال الإلهية. ولو اخذنا بنظرية اللطف لأعتبرنا بأن من الواجب ملئ فراغ الفترات الشاغرة للأنبياء والائمة، فاستمرار وجودهم من غير انقطاع يعمل على حفظ الدعوة الى فعل الحسن وتجنب القبيح، بل لكان من الواجب ايضاً أن تكون بعثات الانبياء ورسالاتهم شاملة لكل الناس على السواء، لذات العلة من لطف الدعوة الى فعل الحسن وتجنب القبيح، ولأصبحنا اليوم نحفل بوجود عدد من الانبياء او الأئمة، طالما ظلت الحاجة اليهم قائمة لرفع اللبس والانقسام بين الناس حول معرفة الحقيقة الدينية وتقويم السلوك، وذلك لنفس المبررات والدواعي التي وجبت بها بعثة الانبياء في السابق.
2ـ كذلك يمكن القول أنه لا دليل على وجوب النبوة تبعاً لملاحظة وجوه الحسن فيها، إذ ما الذي يؤكد أنه لا بديل لهذه الوجوه؟ فلعل هناك مصالح أخرى سوى البعثة لا نعلمها قد تستوجب التعيين؛ مثل افتراض أن تكون حكمة الله ناظرة الى ما يتحقق للانسان من مكاسب وتطورات بفعل الخبرة التاريخية، كالذي يُشاهد في القضايا الدنيوية التي تتقبل البحث العلمي. وبالتالي يتعذر علينا معرفة الواجبات الإلهية الفعلية؛ طالما ليس باستطاعتنا العلم بكافة وجوه الحسن والحكمة في الخلق والتدبير.
على ان هناك صورة اخرى لاثبات النبوة منسوبة الى الحكماء (الفلاسفة)، وهي طريقة كلامية غير فلسفية، وتقريرها كالتالي: «كلما كان صلاح النوع مطلوباً لله تعالى كانت الشريعة واجبة، وكلما كانت الشريعة واجبة كانت البعثة واجبة، فكلما كان صلاح النوع مطلوباً فالبعثة واجبة» (17). وواضح انه لا يمكن البت في المقدمة الاولى، اذ قد يكون صلاح النوع مطلوباً بأمر آخر غير المسألة الدينية. كما ان استخدام مصطلح (الوجوب) إن كان يقصد به ما تعارف لدى اهل الكلام من ان تركه قبيح؛ فهو غير لازم عن تلك المقدمة، وإن كان يقصد بالوجوب ما تعارف لدى اهل الفلسفة من معنى مرادف للضرورة والحتمية؛ فهو غير معقول بالمرة.
ومن الناحية العقلية الصرفة تظل مسألة البعثة مرجحة تبعاً لقضايا الاحتمال، حيث من مصلحة الناس ان يأتيهم الانبياء لحثهم على الفعل الحسن وتجنب القبيح، وان يطمئنوا الى ان ما يفعلونه من خير وما يصيبهم من شر لا يذهب سدى، فمثل ذلك لا يتحقق بقوة اخرى افضل من النبوة. اما اثباتها فيعتمد على دراسة الواقع الخاص بمدعي النبوة وفقاً للقرائن الاستقرائية وحسابات الاحتمال، كالذي فصّل الحديث عنه المفكر الصدر في (المرسل، الرسول، الرسالة)، فلو ثبت صدق جزئية واحدة موجبة لدل ذلك على صدق القضية على النحو الكلي.
حق الملكية والتأسيس الخارجي
كنا قد عرفنا - تبعاً لمنطق الحق الذاتي - ان تأسيس المسألة الدينية يستند الى الواجبات المعيارية قبل اي اعتبار اخر، فتبدأ العملية باثبات الواجبات المتعينة على المكلَّف، وعلى رأسها وجوب النظر، ليتم من خلالها اثبات حالة الثبوت التي تتعين بها الواجبات المفترضة على المكلِّف، ومنها واجبات بناء المسألة الدينية وفق بعثة الانبياء والعصمة. لكن الامر مع منطق حق الملكية يختلف تماماً، فهو لا يسمح بوجود واجبات عقلية مفترضة سلفاً، طالما أن كل واجب تكليفي مبعثه من المالك الحقيقي لا غير، مما يعني أنه لا بد من إذن شرعي لتبرير الواجبات دون أن يكون للعقل حظ من التشريع. وايضاً فإنه بحسب اعتبارات البداهة الأولية لهذا المنطق لا مجال للقول بواجبات المكلِّف، طالما أن الأخير يمتلك سلطة الواجبات باطلاق دون أن تعلو عليه سلطة أخرى كما هو واضح. وهذا يعني أن المسألة الدينية لا يمكنها أن تتأسس على القضايا المعيارية، فأي تأسيس لها على هذه القضايا يفضي بها الى التناقض والصدام مع الأصل المولد، وهو ما كان يعيه أصحاب هذا المنطق تماماً.
والسؤال المطروح: على ماذا تتأسس المسألة الدينية إذاً؟
من الواضح أنه لم يبق من الأمر شيء سوى أن يكون تأسيسها قائماً على القضايا الوجودية او التكوينية. واذا كنا نعلم أن الغالب على المسألة الدينية هو المضمون المعياري، فهذا يعني أن المعيار أصبح يتأسس وفقاً للامر الوجودي، مما يقرب هذا الإتجاه من الإعتبارات التي عوّل عليها النظام الوجودي، بخلاف ما كان عليه منطق الحق الذاتي الذي جعل الأخير قائماً على الأول، مثلما يتعلق بالأساس الأول للواجبات الملقاة على عاتق المكلَّف، وهو وجوب النظر، والذي تتأسس عليه المسألة الإلهية والدينية.
نعود لنسأل: ما هي القضايا الوجودية المعول عليها في اثبات المسألة الدينية؛ كبعثة الانبياء وما اليها؟ إذ كنا مع منطق الحق الذاتي نعتمد على قاعدة العدل ومشتقاتها فيما يخص المكلِّف، وعلى وجوب النظر العقلي فيما يخص المكلَّف. لكن ماذا مع منطق حق الملكية؟
من المقرر لدى هذا المنطق أن اثبات المسألة الدينية يستند أساساً الى نظرية (الكلام الالهي). إذ تشكل هذه النظرية المناط الذي يربط القضايا العقلية بالدينية، كالذي يوضحه نص الإمام الغزالي التالي: إن «المعلوم بدليل العقل دون الشرع فهو حدوث العالم ووجود المحدث وقدرته وعلمه وارادته، فإن كل ذلك ما لم يثبت؛ لم يثبت الشرع، إذ الشرع يبنى على الكلام فإن لم يثبت كلام النفس لم يثبت الشرع، فكل ما يتقدم في الرتبة على كلام النفس يستحيل اثباته بكلام النفس وما يستند اليه، ونفس الكلام ايضاً فيما اخترناه لا يمكن اثباته بالشرع» (18).
وما يعنيه هذا النص هو تأسيس المسألة الدينية عبر العقل النظري، إذ لا مجال للعقل العملي كالذي يفيده منطق الحق الذاتي. وبعبارة أخرى لا مجال للقول بنظرية اللطف والوجوب العقلي على المكلِّف. لكن قد تثار مشكلة بهذا الصدد، وهي أن عدم أخذ اعتبارات الوجوب السابقة يمكن أن يفضي الى جواز اتصاف الأخبار الإلهي بالكذب والخداع، وهو ما ينفيه أصحاب هذا المنطق اعتماداً على العقل النظري، إذ اعتبروا كلام الله كلاماً نفسياً ثابتاً وصادقاً يستحيل عليه الكذب. فالصدق والكلام كلاهما من الصفات الذاتية للمكلِّف (19). وتبرير هذه المقولة يستند الى قولهم بانه لما كان الصدق من صفات الله تعالى، وان الكذب نقص، فان النقص محال عليه. وهم وإن جوزوا الكذب في مواضع مختلفة؛ الا انهم جوزوه لاغراض صحيحة من وجود ضرورة وحاجة، والله منزه عن الضرورة والاغراض والمصالح (20).
وتواجه هذه المسألة مشاكل أربع كما يلي:
الأولى: إن استخدام العقل النظري لتبرير نفي الكذب الإلهي يمكن أن يثير مشكلة حول صلاحيات هذا العقل وفقاً لذات البداهة الأولية لحق الملكية، فماذا نقول لو أن المالك يمنعنا من استخدام هذا العقل؟ صحيح ما قد يجاب على ذلك بأنه لا دليل على هذا المدعى، لكن صحيح ايضاً أنه لا دليل على العكس، إذ ما الدليل على جواز استخدام العقل قبل ورود الشرع وقيام المسألة الدينية؟ فلو اعتمدنا على المرجعية الدينية في جواز استخدام العقل لأوقعنا ذلك في الدور، إذ كيف نعلم حجية هذا الاستخدام من غير اثبات المسألة الدينية، وان اثبات هذه المسألة موكول على عدم ممانعة المالك في استخدام العقل، والعلم بعدم الممانعة لا يعرف إلا من حيث ثبوت المسألة الدينية، وهكذا نقع في الدور والتسلسل.
الثانية: لا يوجد لدى العقل ما يدل على استحالة الكذب في الأخبار الالهي، فطالما أن القدرة حاصلة والاختيار ممكن، فذلك يجعل من الصدق والكذب امرين ممكنين، وان حتمية احدهما لا تكون إلا على ضوء الفهم الوجودي كالذي يبشرنا به النظام الوجودي.
الثالثة: لا يتوقف الأمر عند الحد السابق، فحتى مع سلامة حتمية صدق الأخبار الالهي، تظل هناك مشكلة أخرى تتعلق بالصدق البشري، إذ كيف يمكن التأكد من صدق الناس الذين ينقلون كلام الله تحت عنوان النبوة؟ فقد تكون دعوى النبوة كاذبة، سيما وأن أصحاب هذا المنطق يرون أن الأفعال البشرية هي أفعال الهية، وان كل شيء يعود اليه بحكم العادة، وان من الجائز أن ينقلب كل شيء الى ضده، وعليه ما المانع من أن يُظهِر الله المعجزات على يد الكذابين؟ واذا كانت قد جرت عادة الله أن لا يُظهِر المعجز على يد الكذابين فكيف نعلم بذلك ونثبته ونحن لم نطلع على الغيب ولم نعرف أن كان أجراها سابقاً على يد كذابين أم لا؟
فكل ما يقوله أصحاب هذا المنطق هو احالة ظهور المعجزة عند دعوى الكاذب؛ باعتبارها تتضمن تصديقاً، فالخارق للعادة «يمتنع من الدعوى لأنه يكون تصديقاً لكاذب، وتصديق الكاذب محال، ولا يمتنع مع عدمها». او أن المعجزة لا تظهر على يد الكاذب؛ لأنها لو ظهرت لدلت على صدقه، وتصديق الكاذب مستحيل في قضايا العقل (21).
وحقيقة الامر انه لا توجد استحالة عقلية فيما ذُكر، لكن القائلين بذلك اضطروا لهذا القول؛ لانهم لا يملكون دليلاً اخر يمكنهم به اثبات المسألة الدينية، مثلما الجأتهم الضرورة الى اعتبار الكلام الالهي صادقاً صدقاً محتماً. وكل ذلك يتنافى مع الاعتبارات المعيارية لهذه القضايا. وقد ظهر من اصحاب هذا الاتجاه من ناقض نفسه، فجمع بين الاخذ بنظرية التقبيح والتحسين الشرعيين، وبين الاعتقاد بوجوب عصمة الانبياء عقلاً في الحالة التي لا تناقض فيها مدلول المعجرة، وهي عبارة عن صدقهم فيما يبلغون (22).
الرابعة: أضف الى ما سبق أن في هذا المنطق ما يفقد مدلول المعجزة عن معناها. ذلك أنه إذا كانت السببية عبارة عن عادة الهية تتضمن الخلق المستمر للاعراض، وانه لا يوجد تأثير لبعض الاشياء على البعض الآخر، بل الله هو المؤثر المباشر، فذلك يجعل من المعجزة فعلاً لا يختلف نوعاً عن سائر الأفعال الإلهية الأخرى، فليس هناك خرق لقوانين الطبيعة، ولا ايقاف لتأثير بعض القوى على البعض الآخر، إنما الموجود هو أفعال نتوهم أنها جاءت خارقة للقوانين، وإلا فالكل عبارة عن فعل الله المباشر، وكل شيء جائز الحصول، وبالتالي فإن مقولة (لا فاعل في الوجود إلا الله) كما يقرها هذا المنطق لا تبرر لنا المعجزات بمعناها الخارق، ومن ثم فانها لا تبرر صدق دعوى النبوة.
***
أخيراً نقول بأن اتباع هذا المنطق يدركون أن ما يترتب على نفي عقلية الحسن والقبح يفضي الى استحالة اثبات الصدقين الخاصين بالإله والنبوة، أي أنه يفضي بالنتيجة الى عدم امكان تأسيس المسألة الدينية برمتها، ومن ثم عدم اثبات صحة ما يخبرنا التشريع الديني بقبح الكذب والخداع، إذ قد يكون ذلك من الكذب المتعلق بالكلام الالهي، او الكذب المتعلق بالنبوة. فلأجل الفرار من مثل هذه اللوازم الفاسدة اعتبروا الصدق من الأمور الحتمية في الكلام الالهي، مع أن التسليم بالصفة الذاتية الثابتة للكلام الإلهي لا يستلزم ضرورة الاتصاف بالصدق دون الكذب، فالكلام شيء، وصدقه او كذبه شيء اخر، ومثلما يحتاج الأول الى دليل، فالآخر يحتاج الى دليل غيره. أما اقوالهم عن علاقة النبوة بمقولة الصدق التي يترتب عليها تأسيس المسألة الدينية؛ فهي مضطربة وضعيفة. إذ لا مبرر للقول باستحالة إجراء المعجزات على يد الكذابين، كما لا مبرر للقول بأن ذلك جار ضمن العادة الإلهية من دون خرق.
وبذلك نصل الى أن كلا المنطقين السابقين لم يتمكن من اثبات المسألة الدينية بالادلة العقلية التي تم طرحها وفق ما تعارف عليه من الأصول المولدة.
2ـ التأسيس الداخلي للخطاب الديني
يتأسس فهم الخطاب حسب الدائرة العقلية وفقاً لتشريعات العقل القبلية، سواء تلك المترتبة على منطق الحق الذاتي، او على منطق حق الملكية. ففي كلا الحالين يتخذ فهم الخطاب صوراً ومراتب مختلفة ابرزها تلك التي تُعرف بالتأويل والتي يحكّم فيها العقل على نص الخطاب، كما سيأتي بيانه.
ولهذا التأسيس مبرران: فمن جانب أن للعقل اصوله وتشريعاته القبلية، ومن ذلك الأصل المولد ومشتقاته المعرفية، فكل هذه القضايا معدة من المسلمات القطعية التي تتحكم بفهم الخطاب الديني وتوجيهه، وبالتالي لا يمكن فصل تأسيس «الفهم» عن التأسيس القبلي للنظر العقلي.
ومن جانب آخر فهو أن التأسيس الخارجي للخطاب قائم على التشريع العقلي، إذ لولا الأخير لتعذّر إثبات حجية الخطاب وجعل قضاياه صحيحة ومعتمدة. وهو ما يبرر للتأسيس الداخلي أن يرتكز عليه، أي على شاكلة ما أُعتمد عليه في التأسيس الخارجي، وأن الفصل بينهما - من وجهة نظر هذه الدائرة - يفضي الى التناقض وعدم الاتساق، إذ لا يمكن أن يُقبل التشريع المذكور في الحال الأول باطلاق، ويُرفض في الحال الآخر باطلاق، فإما أن يُقبل فيهما معاً، او يُرفض كلية. لذلك كثيراً ما يردد نقاد هذه الطريقة بأنها تستغني بالعقل عن النقل، وأنها تحكّم الأول في الثاني عند التعارض، بل وتبالغ بقدرته في التشريع. ومع أن هذه التهمة توجّه ضد المعتزلة عادة، إلا أن متأخري الاشاعرة لم يختلفوا كثيراً عن نظرائهم المعتزلة كما سنرى.
فعادة ما يقال وسط الدائرة العقلية أن اثبات المسألة الدينية قائم على الدليل العقلي باطلاق، وأن إنكار دور الأخير في الفهم يفضي الى العجز عن اثبات تلك المسألة. وهذا الادعاء يفترض ضمناً أن القضيتين متماثلتان؛ فبطلان احداهما يقتضي بطلان الأخرى. مع أن الدليل العقلي فيه من العموم والاطلاق ما يتعسر تحديده والاتفاق على قبوله، فما يعد دليلاً وبرهاناً لدى اتجاه يعد عكسه لدى اتجاه اخر. كما أن هذه الدائرة لم تميز بين ما يدخل ضمن قائمة العقل القبلي وما يدخل ضمن قائمة العقل البعدي، ولم تميز أيضاً بين قيم الأدلة الناشئة عن الإعتبارات الخاصة عن غيرها مما يعد ضمن الإعتبارات المشتركة.
وتتحدد وظيفة العقل في تأسيسه لفهم الخطاب بعدد من الجوانب، إذ يتصف العقل بالمشرع المحكم؛ فيستقبل ما تُعرض عليه من قضايا الخطاب لتصحيحها؛ سواء بالتأييد والتأكيد، او بعدم الممانعة، او بالتوجيه والتأويل، او بالرفض والانكار، كإن يكون بصدد تكذيب الأخبار والاحاديث المنافية للنظر القبلي. فالحَكَم الفصل عائد الى التشريع العقلي لا الخطاب الديني، ويستند تبرير ذلك الى اعتبار النص الديني مصدر التشابه والاحتمال والمجاز، خلافاً للعقل الموصوف بأنه مصدر الإحكام والقطع والحقيقة. وكما قال الشيخ الطوسي: «الظواهر تبنى على ادلة العقول، ولا تبنى ادلة العقول على الظواهر» (23). وقال القاضي الهمداني: «ان ادلة العقول بعيدة عن الاحتمال، والالفاظ معرضة لذلك من حيث تدخلها الحقيقة والمجاز» (24). وكذا ذهب الفخر الرازي الى أن الدليل اللفظي لا يفيد القطع واليقين باطلاق، لكونه يتوقف على عشرة امور ينبغي التيقن منها، ومن هذه الأمور عدم المعارض العقلي، وعنده أن انتفاء المعارض العقلي أمر مظنون لا معلوم، لاستحالة القطع، إذ يجوز أن يكون في نفس الأمر دليل عقلي يناقض ما دلّ عليه القرآن ولم يخطر ببال المستمع (25).
وفي جميع الأحوال كان لا بد من عرض الأدلة السمعية على دليل العقل للتأكد من عدم المنافاة بينهما، وبذلك يتخذ التشريع العقلي عدة مواقف إزاء مضامين الخطاب الديني؛ نجملها بما يلي:
1ـ التفصيل العقلي لما ينبّه عليه التشريع الديني. فوظيفة الخطاب الديني في هذه الحالة هي التنبيه لما في العقول من قضايا، دون أن يكون له صلة بتفصيل هذه القضايا، ومن ذلك التنبيه على طرق الاستدلال على المسألة الإلهية. فالغافل قد لا يلتفت الى الطريقة الصحيحة للاستدلال العقلي، وبالتالي فهو يحتاج الى مثل هذا التنبيه ليقوم العقل بدوره من التفصيل العلمي المستقل.
2ـ التأييد العقلي للتشريع الديني. فأحياناً أن العقل يؤيد ما يرد في الخطاب، ويصبح التشريعان متطابقين. ومن ذلك ما يتعلق بمسائل الحسن والقبح، كالذي يشير اليه منطق الحق الذاتي، فهي واردة في الخطاب الديني على نحو الامضاء لا التأسيس، بمعنى أن الخطاب يؤكد ما يحكم به العقل، وأن الأخير يؤيد ما ينطق به الأول. ومن حيث الدقة يرى أتباع المنطق السابق أن مسائل الحسن والقبح قد تُدرك بالعقل المستقل، سواء على نحو الضرورة او الاستدلال، كما قد لا تُدرك به، لكن في حين جميع الأحوال يأتي الخطاب الديني إما كاشفاً عنها على نحو التأسيس، او منبهاً عليها على نحو الامضاء والتأكيد.
3ـ عدم الممانعة العقلية للتشريع الديني. فالعقل لا يدرك تفاصيل الامور، لكنه يدرك المجمل منها، لذا فالتشريعان غير متنافيين. فمثلاً أن العقل لا يدرك تفاصيل العبادة المفروضة على العباد كما يأتي بها الخطاب الديني، إنما يدرك مجمل ما يلزمه من وجوب اتباع التكليف الذي تأتي به النبوة عبر الوحي. وعليه ميّز القاضي الهمداني بين الأدلة السمعية والعقلية، فاعتبر أن ما لا دليل عليه بالعقل لا بد من بحث القرائن الدالة عليه من نص الخطاب، كما هو الحال مع الصلوات الواجبة وشروطها (26). كما أقرّ بان هناك افعالاً يكون المرء عندها اقرب الى فعل الواجبات وتجنب القبائح ولا تعلم بالدليل العقلي، لاختلاف شروط الافعال والاحوال والظروف المحيطة بالمكلفين، حيث قد يجب على مكلف في ظرف وحال ما قد يقبح من الاخر، وكل ذلك يعلم تفصيله بالشرع لا العقل (27).
4ـ الممانعة العقلية لما ينسب الى التشريع الديني، كما هو الحال مع نصوص الحديث. فكثيراً ما يلجأ اصحاب الدائرة العقلية الى الاعتراض على الروايات بدعوى المعارضة مع العقل، مثلما هو مسلك اتباع منطق الحق الذاتي. فمثلاً انهم جعلوا الروح والعقل من الاعراض، وان الاعراض لا تقوم بنفسها بل بغيرها، لذلك ردوا الروايات التي تشير الى ان خلق الروح كان سابقاً على الجسد، وكذا الروايات التي تشير الى ان العقل كان مخلوقاً قبل سائر الاجسام (28). لذا قال الزمخشري: «إمش في دينك تحت راية السلطان، ولا تقنع بالرواية عن فلان وفلان. فما الأسد المحتجب في عرينه، أعز من الرجل المحتج على قرينه. وما العنز الجرباء تحت الشمأَل البليل، أذل من المقلد عند صاحب الدليل» (29).
5ـ الممانعة العقلية للتشريع الديني وممارسة التأويل، كالذي يحصل عادة مع النص القرآني، وأحياناً مع الحديث. فإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن خاصية التأويل، كما في بعض التعاريف الحديثة، تأتي للإحساس بوجود ثغرة في النص يراد تسديدها بفعل القراءة التي يباشرها القارئ او المفسر.. فسيتمثل المسدد للثغرة المفترضة داخل النظام المعياري بالتشريع العقلي، حيث يعمل على توجيه الدلالة السمعية الى ما يوافق دلالة العقل عند المعارضة.
ولاهمية الموقف الأخير سنسلط عليه الضوء تبعاً لمنطقي الدائرة العقلية، وسنبدأ بالحديث عن التأويل الذي يخص اعتبارات منطق الحق الذاتي، ثم نتحدث بعده عن التأويل الخاص بالملكية، وفق الفقرتين التاليتين:
الحق الذاتي والتأويل
ليس غرضنا - هنا - استعراض واحصاء كل ما يصدر عن منطق الحق الذاتي من تأويلات، بل هدفنا هو فهم الممارسة التطبيقية لعملية التأويل وعلاقتها بقضايا العقل القبلي، وعلى رأسها تلك التي لها علاقة بالاصل المولد. ولهذه الممارسة تطبيقات كثيرة كتلك الجارية حول مسائل العقيدة التي نطق بها الخطاب الديني، سواء في المجال المعياري او المجال الوجودي، كالذي سنتعرف عليه خلال الفقرتين التاليتين:
1ـ التأويل في المجال المعياري
من الممارسات التأويلية في المجال المعياري ما جاء حول مسألة القضاء والقدر، حيث غرضها دفع حالات الجبر والالجاء كما تبدو من النصوص القرآنية. والحاكم في هذا التأويل هو التشريع العقلي الذي ينص على أن الفعل الإلهي مقيد بالعدل تبعاً للأصل المولد، وان الجبر والالجاء هو مما يتنافى مع هذا العدل.
وابرز النصوص التي طالتها يد التأويل بهذا الصدد تلك التي تتعلق بالهداية والضلال، ومن ذلك ما ذكره الشريف المرتضى حول معنى الآية القرآنية: ((إنّك لا تهدي من أحببت ولكنّ اللّه يهدي من يشاء)) (القصص/56)، فاعتبر معناها هو انك لا تنجي من العذاب من احببت. ثم قال: «فإن قيل: فلم زعمتم أن هذا هو تأويل الآية؟ قيل له: لما كان الله قد هداهم؛ بأن دلهم على الايمان، علمنا أنه لم يهدهم بهدى الثواب، وقد بيّن الله تعالى أن الهدى بمعنى الدليل قد هداهم به، فقال ((إن يتّبعون إلا الظنّ وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربّهم الهدى)) (النجم/23) يعني الدلالة والبيان. فإن قيل له: إنما أراد به ليس عليك نجاتهم، ما عليك إلا البلاغ ولكن الله ينجي من شاء. فإن قيل: فلِمَ قلتم هذا؟ قيل له: لما اخبر الله تعالى أن النبي (ص) قد هدى الكافر فقال: ((وإنّك لتهدي إلى صراط مستقيم)) (الشورى/52)، وانما يريد انك تدل، فلما كان قد دلّ المؤمن والكافر كان قد هدى الكافر والمؤمن، فعلمنا أنه أراد بهذه الآية هدى الثواب والنجاة. فقس على ما ذكرناه جميع ما يسأل عنه من امثال هذه الآية» (30).
بهذا التحديد قام المرتضى بتقسيم الهدى الى نوعين؛ احدهما بمعنى الدليل والبيان، والآخر بمعنى الثواب والنجاة، ودللّ على كل منهما ببعض الشواهد القرآنية، فعلى النوع الأول قوله تعالى: ((وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى)) (فصلت/17)، وقوله: ((وما منع النّاس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى)) (الإسراء/94)، وقوله: ((انا هديناه السبيل أما شاكراً وإما كفوراً)) (الانسان/3)، وعلى النوع الثاني قوله تعالى: ((والذين قتلوا في سبيل الله فلن يُضِلّ اعمالهم، سيهديهم ويصلح بالهم)) (محمد/4ـ5)، وقوله: (( يهدي به اللّه من اتّبع رضوانه سبل السّلام)) (المائدة/16)، وقوله: ((ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بايمانهم تجري من تحتهم الانهار في جنات النعيم)) (يونس/9) (31).
بيد أن هناك نوعاً اخر للهداية تفسر به الايات التي أوّلها الشريف المرتضى الى معنى النجاة والثواب (32) ، حيث ظواهرها يشير الى معنى (الالجاء) الخاص بدفع السلوك البشري باتجاه معين من غير شعور، كإن يخلق الله الدواعي للفعل باتجاه معين دون غيره. ويحظى هذا المعنى، الذي تدل عليه الكثير من الايات، بتأييد من الواقع. وينطبق الامر على مسألة (الضلال) والتي حصرها المرتضى بالمعنى المحدد للعقاب والهلاك كجزاء على الكفر، ومن ذلك ما استدل به في قوله تعالى: ((ان المجرمين في ضلال وسعير)) (القمر/47)، أي أن المجرمين في هلاك وسعير، مع أن هناك الكثير من الآيات التي تتحدث عن إضلاله تعالى للكافرين بما تدل عليه من (الإلجاء)، وذلك على شاكلة ما يجري مع الهداية، فالالجاء لا مفر منه سواء بالهداية او الضلال، كما يدل عليه قوله تعالى: ((من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً)) (الكهف/17)، وقوله: ((يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً)) (البقرة/26)، ويؤيده الواقع بما يحمل من سنن انسانية، كالذي سنشير اليه فيما بعد.
وعلى هذه الشاكلة جاء عن القاضي عبد الجبار الهمداني تأويله الكثير من الآيات بهذا الصدد، ومن ذلك تفسيره لقوله تعالى: ((فمن يرد اللّه أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيقاً حرجاً)) (الأنعام/125)، حيث اعتبر أن المراد بالهدى في تلك الآية هو زيادة الهدى لكي ينشرح صدره للاسلام والايمان. كما اعتبر أن المراد من الإضلال في الآية هو الاضلال عن تلك الزيادات لعلمه تعالى بأنه لا ينتفع بها فيجعل صدره ضيقاً حرجاً فتضطرب عليه اعتقاداته الفاسدة إذا فكّر فيها. وقد عدّ تفسيره هذا دليلاً على أنه تعالى «يفعل بالمؤمن ما يكون اقرب الى ثباته على الإيمان من شرح الصدر بزيادات الأدلة، ويفعل بالكافر ما يكون اقرب الى أن يقلع عن الكفر من ضيق الصدر» (33). مع أن هذا التفسير جاء على عكس الظاهر الذي يبدو من الآية، إذ تدل صراحة على كون انشراح الصدر هو سبب الهداية لا العكس، وكذا أن انقباض الصدر وضيقه هو سبب الضلال.
كما قام الهمداني بتأويل قوله تعالى: ((فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة)) (الأعراف/30)، فعلى رأيه أنه إذا كان الله تعالى قد هدى الجميع؛ فما معنى اضلاله للبعض كما نطقت به الآية السابقة؟ لهذا ذكر أن المراد بها هو الجزاء في الاخرة، فيكون الهدى بمعنى الثواب، والضلالة بمعنى العقاب (34). وعلى هذه الشاكلة فسّر قوله تعالى: ((من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون)) (الأعراف/178)، فاعتبر بان المراد هو من يهد الله الى الجنة والثواب فهو المهتدي في الدنيا، ومن يضلل عن الثواب الى العقاب فهم الخاسرون في الدنيا. وكذا الامر في تفسير قوله تعالى: ((من يضلل اللّه فلا هادي له)) (الأعراف/186)، اي من يضلله عن الثواب في الاخرة فلا هادي له اليه. كما جاء في تأويله لقوله تعالى: وأنّ اللّه يهدي من يريد)) (الحج/16) بان المراد هو ان الله يكلّف من يريد، باعتبار ان بعض الناس لا يبلغون حد التكليف، واحتمل في الاية مراداً آخر هو الهداية الى الثواب الخاص بالمطيعين دون غيرهم (35). ومنها ما ذكره في تفسير قوله تعالى: ((أتريدون أن تهدوا من أضلّ اللّه)) (النساء/88)، فقال بأن المراد بذلك هو من اضله الله تعالى عن الجنة، إذ لا يصح ان يهديه اليها وقد حكم عليه بالعقاب (36). وكذا بالنسبة لتفسيره للاية: ((يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً)) (البقرة/26)، حيث اوّلها الى معنى الثواب والعقاب (37). كما ذكر في تفسير قوله تعالى: ((ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم)) (البقرة/7)، بان للعلماء جوابين ممكنين: الاول استبعد فيه ان يكون الله تعالى هو من منعهم عن الايمان والهداية، والا لما ذمهم، وعليه فإن معنى الغشاوة على السمع والبصر هو من باب التشبيه، اذ رغم ازاحة كل العلل المانعة عن الايمان فإنهم مع ذلك لم يؤمنوا وكأن عليهم غشاوة. ثم ذكر استدراكاً لهذا الجواب، وهو انه حتى لو ثبتت الغشاوة حقيقة لما جاز ان تكون مؤثرة على واقع كونهم عقلاء مكلفين. أما الجواب الثاني للاية فيتضمن بأن الختم علامة يفعلها الله تعالى في قلوبهم كي تعرف الملائكة كفرهم فيكونوا محل ذم لها (38). وهو جواب بعيد عن ظاهر معنى الاية. وعلى هذه الشاكلة اعتبر ان المراد في قوله تعالى: ((في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاًَ)) (البقرة/10)، هو ان في قلوبهم غماً او حسداً على ما يخص الله تعالى به رسوله واصحابه، فقد كانوا يغتاظون ويعظم غمهم، لذا فمعنى قوله ((فزادهم الله مرضاً)): اي زادهم غماً بما يفعله الله بالرسول ويجدده له من المنزلة حالاً بعد حال. وقد انكر ان يكون معنى المرض الكفر والنفاق باعتباره يفضي الى نفي العدل عن الله (39). كذلك اعتبر المراد في قوله تعالى: ((ويمدهم في طغيانهم يعمهون)) (البقرة/15)، هو ان يمدهم الله في جزاء طغيانهم، لا ان يمدهم في نفس طغيانهم، كما احتمل ان يكون ذلك عاقبة امرهم، فمعنى يمدهم اي يبقيهم على حالهم (40). وهناك تأويل آخر ذكره في (متشابه القرآن) وهو ان معنى يمدهم هو امداده لهم في العمر نعمة منه عليهم كي يستدركوا ما فاتهم فيتوبوا، وهم مع ذلك يعمهون في طغيانهم ولا يزدادون الا شراً، فالذي ينسب الى الله تعالى هو المد في العمر، اما الطغيان والعمه فيضاف اليهم (41). وايضاً انه اعتبر المراد في قوله تعالى: ((ان الذين لا يؤمنون بالاخرة زينّا لهم اعمالهم)) (النمل/4)، هو تزيين ما ينبغي ان يعملوه وما يجب عليهم السعي فيه (42). ومن ذلك ايضاً انه اعتبر قوله تعالى على لسان ابليس: ((قال فبما أغويتني)) (الأعراف/16) ان المراد منه هو بما احرمتني من الثواب وخيبتني منه، لا ان المراد به الضلال، بل الحرمان (43). وكذا بالنسبة الى تفسيره لقوله تعالى على لسان نوح: ((ولا ينفعكم نصحي إن اردت ان أنصح لكم إن كان الله يريد ان يغويكم)) (هود/34)، فاعتبر ان ما اراده نوح (ع) هو ان نصحه لا ينفع مادام الله اراد حرمان قومه عن الفوز بالثواب وانزال العقاب (44). وكذا تفسيره لقوله تعالى: ((ولا يحسبن الذين كفروا انما نملي لهم خير لأنفسهم انما نملي لهم ليزدادوا اثماً)) (آل عمران/178)، بان اللام في ((ليزدادوا)) للعاقبة لا للتعليل (45) ، مع ان الظاهر هو العكس. وايضاً تفسيره لقوله تعالى: ((ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين)) (الزخرف/36)، حيث اعتبر المراد به هو ان من يعش عن ذكر الرحمن في الدنيا فان الله يقيض له شيطاناً في الاخرة فيصبح قرينه، ثم استدرك في هذا التأويل وذكر ان بدونه يمكن تفسير النص طبقاً للتخلية بين الكافرين والشياطين، مثلما جاء في تفسير قوله تعالى: ((ألم تر أنّا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم ازاً)) (مريم/83)، اذ بسبب كفرهم خلى بينهم وبين الشياطين (46).
ومثل ذلك ما ذكره الشريف الرضي في (حقائق التأويل)، حيث فعل الشيء الذي فعله شقيقه الشريف المرتضى من تأويل الايات الخاصة بالهداية والاضلال، ومن قبله الهمداني، فقام بتأويل بعض ايات الازاغة، مثل قوله تعالى: ((فلما زاغوا ازاغ الله قلوبهم)) (الصف/5)، فاعتبر ان الازاغة الثانية هي على سبيل العقوبة في الاخرة، وهو ان الله أزاغ قلوبهم عن طريق الجنة والثواب، تبعاً للإزاغة الأولى منهم في الدنيا، وبالتالي كانت الازاغة في الدنيا قبيحة، وفي الآخرة حسنة (47).
مع هذا فقد نقل الشريف الرضي رأياً يعود الى بعض التابعين لذات المنطق؛ لا ينكر فيه الازاغة في الدنيا، لكنه يفسرها تبعاً لتخلية الله تعالى بين العبد ولطفه، كعقوبة تأتي بعد المعصية والانحراف. وبحسب ما جاء في هذا الرأي هو ان إضلال الله وإزاغته ليسا كإضلال إبليس وإزاغته، لان الله تعالى قد ذم ذلك وبرئ منه، فعلمنا أنه تعالى لا يضل عن الحق وهو يدعو إليه، ولا يمنع منه وهو يأمر به. لذا لم يأتِ ان الله ابتدأ قوماً بالإزاغة، بل قال: ((فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم))، فأخبر الله بأنه فعل ذلك بهم عقوبة على زيغهم وجزاء على فعلهم، فمنعهم الالطاف والفوائد التي يؤتيها سبحانه كل من آمن به، ووقف عند حده، وخلاهم واختيارهم، وأخلاهم من زيادة الهدى التي ذكرها في كتابه، فقال: ((والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم) (محمد/17) فأضاف سبحانه الفعل في الازاغة إلى نفسه، على اتساع مناهج اللغة في اضافة الفعل إلى الآمر، وإن وقع مخالفاً لأمره، فسمي من كان سبب الضلال مضلاً، وان لم يكن منه دعاء إلى الضلال ولا إلى ضده، مثلما قال سبحانه: ((وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبنيّ أن نعبد الاصنام، رب إنهن أضللن كثيراً من الناس)) (البقرة/126)، فأضاف تعالى ضلال القوم إلى الاصنام، إذ جعلوها سبباً لضلالتهم، وهي جماد لا يكون منها صرف عن طاعة ولا دعاء إلى معصية. ومثل ذلك ما يقال: إن الرجل يشغف بالمرأة، فإذا عظم وجده بها وقلقه من أجلها، قال لها: قد أسهرتِ ليلي، وأمرضتِ قلبي، وكدرتِ صفاء عيشي، ولعلها لم تعلم بشيء من أمره، ولم تشعر بأوقات قلقه وسهره، ولكنه لما اعتقد أنها سبب لذلك - وإن لم تفعله - جاز أن ينسب إليها فعله. وآكد من ذلك أنها لو شعرت بما يقاسيه فيها ويعانيه من حبها، فزجرته عن نفسها وخوفته عواقب الاشتغال بها، فكان ذلك سبباً في تضاعف شغفه، فانحلت قوى أمره واسترخى وتر صبره وطال بها سهر ليله وتشاغل عن مصالح نفسه، كان جائزاً أن ينسب ذلك إليها، فيقول: إنها أسهرت ليلي وأطالت فكري، واقتطعتني عن مصالحي، وذهبت بي عن مراشدي، وهي لم تعظه إلا ليتعظ، ولم تزجره إلا ليزدجر. وكذا ما يتعلق في الاية حول الازاغة، وهو ان الله ليس هو المباشر في الازاغة، بل قد يكون ذلك بفعل الاحالة بينهم وبينه دون ان يقدّم لهم الالطاف الهادية بسبب انحرافهم (48). وهو تفسير على شاكلة ما سبق اليه القاضي الهمداني لبعض الايات التي مرّت معنا. وان كان ذلك لا يفسر لنا معنى الالجاء الذي تؤكده النصوص الدينية بما يخالف ما ذهب اليه هذا الاتجاه.
ومن التأويلات الاخرى ما جاء عن المفسر الزمخشري، حيث فسّر قوله تعالى: ((ومن يُرِد اللهُ فتنته فلن تملك له من الله شيئاً اولئك الذين لم يُرِد الله ان يطهّر قلوبهم، لهم في الدنيا خزي ولهم في الاخرة عذاب عظيم)) (المائدة 41)، بمعنى ان الله تركه مفتوناً ومخذولاً، بان لا يمنحه وامثاله من الطافه ما يطهّر به قلوبهم (49). وكذا تأويله لقوله تعالى: ((ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم)) (البقرة/7) حيث صرح بأنه لا ختم ولا تغشية على الحقيقة، وانما هو من باب المجاز تبعاً للاستعارة او التمثيل. وهو بذلك ينفي ان يكون الختم والتغشية من قبل الله تعالى، باعتبار ان ذلك يخالف منطق الحق في عدالة الله وحسن صنيعه، واعتبر انه يجوز ان يستعار الاسناد في نفسه من غير الله لله؛ فيكون الختم مسنداً الى اسم الله على سبيل المجاز، كإن يكون الشيطان او الكافر هو الخاتم في الحقيقة، الا ان الله لما كان هو الذي اقدره ومكّنه فقد اسند اليه الختم. كما احتمل ان ذلك جاء لأن هؤلاء الكفار اصبحوا بلا طريق للايمان طوعاً واختياراً الا بالقسر والالجاء، لكن لو حصل هذا لانتقض غرض التكليف، لذا عبّر عنه بالختم. وهناك وجوه محتملة أخرى طرحها الزمخشري كلها تصب في نفي أن يكون الختم والتغشية راجعيْن الى الله بالذات (50).
***
ويلاحظ في التأويلات السابقة انها تتفادى الوقوع في مستنقع الجبر الذي يحيله اصحاب منطق الحق الذاتي سمعاً وعقلاً، بتبرير انه يتنافى مع العدل والاصل المولد. أما من حيث التحقيق فالواقع يشهد على صور الالجاء ضمن ما يعرف بالسنن الاجتماعية والكونية، ومن ابرزها سنن التطبع والعادة وما يترتب عليها من نتائج تتعلق بالتأثير على قوة ميل الارادة عند الممارسة المتكررة. فمن حيث هذه القوة ان من فعل شيئاً لمرات معدودة ليس كمن اعتاد عليه، وابلغ ما تظهر به صورة الالجاء هي عند الحد الذي يطلق عليه العادة والتطبع. فالذي يعتاد على ممارسة شيء يكون كالمجبر عليه، وكلما زاد الفعل كلما زاد الاعتياد والالفة، الامر الذي يؤثر على فعل الارادة وقوتها (51). ولا يتوقف الحال عند هذا الحد، بل يحدث نوع اخر من الالجاء يتصف بكونه من سنخ الشيء المعتاد عليه. وبعبارة اخرى يحصل فيما نحن بصدده تطوران من الالجاء؛ حيث تبدأ الممارسة بالتطور الكمي للفعل الذي يترتب عليه الاعتياد والتطبع، ومن ثم تفضي العملية الى تطور كيفي، حيث يبدأ بممارسة أفعال اخرى تتسق مع تلك التي تم الاعتياد عليها، وهي بدورها قابلة للتحول الى العادة والتطبع بفعل التكرار. وكل ذلك يتضمن الالجاء.
وعليه فالانسان محكوم بقدرين: ارادته من جهة، والسنن الكونية والاجتماعية من جهة اخرى. الامر الذي غفل عنه اصحاب المنطق السابق، حيث بهذين القدرين يمكن تفسير ما تشير اليه النصوص القرآنية التي مرت معنا دون حاجة للتأويل. وهي حقيقة لا تتنافى مع العدل الالهي، حيث ان الالجاء المشار اليه في النصوص؛ كالمد في الطغيان، وزيادة الكفر ومرض النفاق في القلوب، وجعل الغشاوة، وتسليط الشياطين على الكافرين.. الخ، كل ذلك جاء عقوبة لسوء الفعل والاختيار دون إلغاء الإرادة كلياً. فهو عبارة عن جزاء مرتب وفق ذات السنن الكونية في ضغطها على الإرادة وميولها. ولا يتنافى ذلك مع حكم الاخرة الذي لسنا معنيين به على نحو التفصيل لجهلنا بخصوصيات الحساب والتقدير وفق العدل والاحسان.
والشيء نفسه يقال حول الالجاء المتعلق بالهداية، حيث كلا الحالين (الهداية والضلال) يخضعان للأسباب والمسببات، والآيات القرآنية تشير الى هذا المعنى وتضع المسؤولية على عاتق الانسان وخياراته، إذ تترتب عليها النتائج الخاصة بالهداية والضلال، ومن ذلك النصوص التالية: ((ان الذين امنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بايمانهم)) (يونس/9).. ((الله يجتبي اليه من يشاء ويهدي اليه من ينيب)) (الشورى/13).. ((يُضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يُضل به إلا الفاسقين، الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض اولئك هم الخاسرون)) (البقرة/26ـ27).. ((إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل)) (النحل/37).. ((أفرأيت من اتّخذ إلهه هواه وأضلّه اللّه على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوةً فمن يهديه من بعد اللّه أفلا تذكّرون)) (الجاثية/23).. ((يثبّت اللّه الّذين آمنوا بالقول الثّابت في الحياة الدّنيا وفي الآخرة ويضلّ اللّه الظّالمين ويفعل اللّه ما يشاء)) (إبراهيم/27).. ((فلما زاغوا ازاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين)) (الصف/5).. ((كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)) (المطففين/14).. ((نسوا الله فنسيهم)) (التوبة/67).
فبحسب هذه النصوص أن سبب الهداية والضلال مناط بخيار الانسان، وهو أمر لا ينقطع من حيث المد والزيادة ((ويزيد الله الذين اهتدوا هدى)) (مريم/76)، فالهداية تجر الهداية، والضلال يجر الضلال، وهكذا بلا حدود. ومنه يتبين فشل الممارسة التأويلية التي ابداها أصحاب منطق الحق الذاتي، سواء عولنا في ذلك على كثرة النصوص القرآنية التي تبدي المعاني الخاصة بالالجاء، او عولنا على ما يظهره الواقع الخارجي من الحقائق والسنن الكونية.
مع هذا نشير الى ما حكي عن بعض اتباع هذا المنطق من أنه اعترف بصور الالجاء التي جاء ذكرها في القرآن؛ مثل الختم والطبع والغشاوة والازاغة والاضلال وغيرها، إذ ذهب الشيخ عبد الواحد بن زيد البصري (المتوفى سنة 150هـ او 177هـ) وابن أخته بكر الى اعتبارها توابع وعقوبات من الله لأصحاب الجرائم، كالذي تدل عليه ظواهر النصوص (52).
2ـ التأويل في المجال الوجودي
اما الممارسات التأويلية في المجال الوجودي فابرزها تلك المتعلقة بقضايا الصفات الالهية. ومن ذلك تأويل الشيخ المفيد لسمع الله وبصره، وهو انه عالم بالمسموعات وعالم بالمبصرات (53). وكذا تأويل الشيخ الطوسي لمسألة حب الله وهو انه يأتي بمعنى الارادة فحسب، كما في قوله تعالى: ((إنّ اللّه لا يحبّ المعتدين)) (البقرة/190)، اي انه لا يريد ثوابهم ولا مدحهم (54). وجاء عن اصحاب هذا المنطق تأويلهم لايات الرؤية، كما في قوله تعالى: ((وجوه يومئذ ناضرة الى ربها ناظرة)) (القيامة/22ـ23)، حيث تعني عندهم بان وجوه المؤمنين منتظرة ثواب ربها ونعيمه، او بمعنى ان المؤمنين ينظرون الى هذا الثواب، ولدى البعض لا مانع من المعنيين معاً، حيث لا تنافي بينهما (55).
ومن ذلك ايضاً ما قام به الزمخشري من تأويل اية الكرسي: ((وسع كرسيه السماوات والارض)) (البقرة/ 255)، معتبراً ان مفاد الاية هو غير هذا الظاهر، بل هناك وجوه للمعنى، منها: انها جاءت لتصوير عظمة الله وتخيلها «ولا كرسي ثمة ولا قعود ولا قاعد». إذ أنها جاءت بمثل ما جاء به قوله تعالى: ((وما قدروا الله حق قدره والارض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه)) (الزمر/67)، حيث لا توجد قبضة وطي ويمين «وانما هو تخييل لعظمة شأنه وتمثيل حسي» بدلالة مقدمة الاية ((وما قدروا الله حق قدره)). وهناك وجه اخر لمعنى الكرسي، وهو العلم، فسمى العلم كرسياً تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالم. كما هناك وجه ثالث، وهو ان الكرسي بمعنى الملك، باعتبار ان الله مالك كل شيء (56). كما قام الزمخشري بتأويل اية الامانة: ((إنّا عرضنا الامانة على السماوات والارض والجبال فابيْنَ ان يحملنها واشفقْنَ منها وحملها الانسان، انه كان ظلوماً جهولاً)) (الاحزاب/ 72)، معتبراً ان عرضها على الجماد من السماوات والارض والجبال وعدم حملها واشفاقها منها انما جاء مجازاً لا حقيقة (57). ومثل ذلك تأويله لخشوع الجبل وتصدعه في قوله تعالى: ((لو انزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله)) (الحشر/ 21)، حيث اعتبر ذلك من التمثيل والتخييل كالذي جاء في عرض الامانة، بدلالة مؤخر الاية ((وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون)) (الحشر/21) حيث الغرض منها توبيخ الانسان على قسوة قلبه وقلة خشوعه عند تلاوة القرآن وتدبر قوارعه وزواجره (58). وعلى هذه الشاكلة تأويله لقوله تعالى: ((ثم استوى الى السماء وهي دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعاً او كرهاً قالتا اتينا طائعين)) (فصلت/11)، حيث عد ذلك من المجاز والتمثيل، وانما الغرض هو تصوير اثر قدرته في الاشياء بلا قول ولا جواب (59). وجاء في تأويله لاية الميثاق الذي اخذه الله على عباده في سابق الزمان: ((واذ اخذ ربك من بني ادم من ظهورهم ذريتهم واشهدهم على انفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنّا عن هذا غافلين)) (الاعراف/172)، فاعتبر ذلك من التمثيل والتخييل والتصوير، والمعنى عنده هو ان الله نصب لهم الادلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم لتميّز بين الهدى والضلالة، فكأنه اشهدهم على انفسهم بما جاء في الاية، ومثل ذلك اقرارهم، وكل هذا من التمثيل (60).
***
نستخلص مما سبق النقاط الثلاث التالية:
1ـ يتضح من الممارسات التأويلية السابقة ان للعقل استقلالية في التشريع والاحكام، وهو بذلك لا ينافس تشريع الخطاب فحسب، بل يكون حاكماً عليه. اذ غرض ممارسات التأويل هو تسديد الثغرة الخاصة بعدم انسجام ما يبدو من نص الخطاب مع قبليات العقل وتشريعه، لذلك كان تسديد هذه الثغرة مستمداً من مفردات هذا العقل وتصوراته الاولية ضمن اطار منطق الحق الذاتي. حيث استند هذا المنطق في تبريره للثغرة الانفة الذكر الى المفاهيم المترتبة على اصله المولد، ومن ذلك مفهوم الحكمة، حيث ان افعال الله لا تخلو من الحكمة، ومن بين ذلك ما يتعلق بجعل الخطاب الديني بعضه متشابهاً. وكان من الاصول التي اعتمدها هذا المنطق هو رد المتشابه من النصوص الدينية الى المحكم منها. فمن الوجوه التي ذكرت في علة وجود المتشابه في القرآن، هو ان الله اراد تكليفنا بازالة التشابه عبر النظر في النص والاجتهاد في معرفة معناه كي لا يكون هناك جهل وتقليد، وبالتالي كان لا بد من التشريع العقلي واعتباره حاكماً على الخطاب (61).
2ـ كما يلاحظ ان الممارسات التأويلية في المجال المعياري تعتمد على ما للعقل من تشريع مستمد من الاصل المولد لمنطق الحق الذاتي. فكما عرفنا ان الغرض من تأويل نصوص مسألة القضاء والقدر هو ابعاد الشبهة المتعلقة بالجبر والالجاء والتي لا تتسق مع مبدأ العدل الالهي المنتزع عن بداهة الحق الذاتي.
أما الممارسات التأويلية في المجال الوجودي، كما هو الحال مع نصوص الصفات الالهية، فيلاحظ انها لا تتعلق بالاصل المولد للحق الذاتي مباشرة، لكنها تعزز من اعتبارات هذا الاصل، طالما ان لها علاقة بالعدل الالهي. حيث حرص هذا المنطق على أن تتصف الذات الالهية بكامل التجريد عن المشابهة مع المخلوقات وصفاتها الجسمية، وذلك كي لا تكون محكومة باعتبارات النقص الذي عليه هذه المخلوقات وطبائعها، سواء فيما يتعلق بـ «النقص الوجودي» كحالات التركيب والتغير في الذات، او ما يتعلق بـ «النقص المعياري» كحالات الظلم وغياب الحكمة؛ لاعتبارات الشهوة والغضب وما اليها من النقائص الاخرى التي هي من طبائع المخلوقات. فهذا هو التوحيد في اقصى درجاته من التجريد كما يتصوره منطق الحق الذاتي، وبالتالي كان لا بد من تأويل الايات التي تتنافى معه، كتلك التي تتعلق بالقضايا الوجودية للصفات الالهية، لا فقط لاعتبارات التعالي عن الجسمية والمادة، بل كذلك للتعالي عن طبائع المخلوقات الباعثة على الظلم او الفعل القبيح. الامر الذي تتوثق به الصلة بين الاعتبارين الوجودي والمعياري.
3ـ تتصف الممارسة العقلية للتأويل، سواء لدى منطق الحق الذاتي او حق الملكية، بأنها لا تفيد اثبات شيء من التفسير بقدر ما تفيد نفي ظاهر النص. إذ انها لا تهدف من الممارسة التأويلية اكثر من عدم معارضة النص لقبلياتها المعرفية، وبالتالي فانها لا تمانع من طرح وجوه ممكنة للتفسير دون الاقتصار على وجه معين بالخصوص، خلافاً لمسلك النظام الوجودي الذي يستهدف باستظهاره وتأويله واستبطانه اثبات المعنى التفسيري؛ كما هو منعكس عن قبلياته المعرفية الوجودية، سيّما الاصل المولد المتمثل بالسنخية.
حق الملكية والتأويل
لا يختلف منطق حق الملكية عن نظيره السابق في أن له اعتبارات عقلية تنافس ما عليه سلطة التشريع لدى الخطاب الديني. لكن هذه الإعتبارات حددت مجال العقل خارج دائرة التكليف والواجبات الملقاة على عاتق المكلَّف. وقد يُستشف من هذه الازدواجية وجود نوع من التناقض وعدم الاتساق. فمن جهة أن هذا المنطق وضع ثقته بالخطاب في كل ما يتعلق بالتكليف، وهو اعتراف ضمني ببيانية الخطاب وقطعيته، وهذا ما رام اليه الأشعري في تأسيس مذهبه الجديد، معتبراً طريقته على شاكلة السلف، الى الحد الذي تعبّد فيه بجميع ما نطق به الخطاب الديني من اسماء توقيفية ومن صفات لا يستسيغ ظاهرها العقل.. أما من جهة ثانية فهي أن هذا المنطق قد تعامل مع القضايا الأخرى للخطاب الديني معاملة قائمة على الظن والتشابه. وبذلك أصبح التعامل مزدوجاً. فتارة يضع المنطق المذكور ثقته في العقل دون الخطاب، واخرى يجعلها في الأخير دون الاول. مما يعني الوقوع في شرك التذبذب والتناقض.
وبتعبير اخر، إذا كان هذا المنطق يعترف بأن الخطاب الديني هو مصدر التشريع، وان العقل العملي لا يملك هذه الصلاحية، فكيف اجاز للعقل النظري ممارسة دوره في التشريع دون إذن من ذلك الخطاب؟ بل كيف جعل منه حاكماً على هذا الاخير؟ فهذا التناقض هو على خلاف الاتساق الذي حظي به منطق الحق الذاتي في علاقته مع الخطاب.
ويمكن القول أن التطورات التي حصلت داخل المذهب الأشعري جعلته يضيق ببيان الخطاب الديني مع تقدم الزمن باضطراد، حيث أخذ الدليل العقلي يحل محل الدليل اللفظي. ولم يكن هذا الحال جارياً داخل المذهب الاعتزالي، إذ ظل موقفه ثابتاً إزاء ترجيح الدلالة العقلية على اللفظية عند التعارض. وأما ما جرى على المذهب الأشعري فهو أنه نشأ لغرض الدفاع عن منطق الخطاب الديني قبال التشريع العقلي، لكن تطورات المذهب افضت الى قلب المعادلة رأساً على عقب، إذ أصبح الهدف هو الدفاع عن منطق العقل قبال الخطاب الديني. وبذلك وقف المذهب الأشعري على ذات الخشبة التي وقف عليها عدوه التقليدي المعتزلي، واصبح كلا الاتجاهين يدافعان عن العقل قبال النص، مع فارق التناقض الذي اصاب الأول خلافاً لما عليه غريمه الآخر. كذلك مع لحاظ جانب الاختلاف في المعاملة التي كان يبديها المذهب الأشعري للنصوص المتعلقة بالمجال المعياري مقارنة مع تلك التي تتعلق بالمجال الوجودي. فهناك ثبات في الرؤية التي عبر عنها المذهب اتجاه المجال الأول (المعياري)، حيث ظل الموقف العام معبراً عن ممارسة نمط من التأويل لكل ما لا يتسق مع البداهة الأولية لحق الملكية. وذلك على خلاف ما حصل من تباين في الرؤية ازاء التعامل مع المجال الثاني (الوجودي)، إذ نجد اختلافاً واضحاً في الرؤية والتطور. وكل ذلك كان له مضاعفاته على الازمة التي لاحت المذهب وأصله المولد.
أما بخصوص ممارسات هذا الإتجاه التأويلية فسنستعرض جملة منها ضمن المجالين المعياري والوجودي، وذلك كما يلي:
اولاً
لنبدأ بذكر شواهد من الممارسات التأويلية ضمن المجال المعياري، كتلك التي قام بها الباقلاني، كما في تأويله لقوله تعالى: ((لا يكلف الله نفساً الا وسعها)) (البقرة/286)، ومثله قوله: ((لا يكلف الله نفساً الا ما اتاها)) (الطلاق/7)، اذ ذكر بان المراد من ذلك هو ان الله تعالى لم يكلف احداً بنفقة الزوجة الا بما تمكن من المال الذي في حوزته دون ما لا يتملك، واعتبر ان الايتين لا تريدان اثبات الاستطاعة قبل الفعل (62). وهو تأويل جاء ليتسق مع البداهة الاولية لحق الملكية في نفي تلك الاستطاعة. كذلك قام بتأويل قوله تعالى: ((فوكزه موسى فقضى عليه، قال هذا من عمل الشيطان)) (القصص/15)، حيث نفى ان يكون ذلك العمل من فعل الشيطان كما هو نص الاية، واعتبره من فعل الله وعمله، لكنه مع هذا استدرك فاعتبر ان الواجب الذي يلزم على العبد الذي يقع في الذنب؛ هو ان ينسب ذلك الى نفسه ووسوسة الشيطان، ولا يجوز ان ينسبه الى فعل الله، حتى لا يكون احتجاجاً عليه تعالى (63). ويعود مصدر هذا التأويل الى ما تمسك به اصحاب هذا المنطق من رد جميع الافعال والاعمال الى الله دون سواه، حيث انه الفاعل الوحيد في الوجود.
لكن هذه الطريقة تجعل ما ينسبه الله الينا من افعال واعمال يوحي بالوهم والخداع، الامر الذي يفضي الى التناقض. فهي من جانب تتسق مع البداهة الاولية لحق الملكية، لكنها من جانب اخر تصطدم مع مقولة هذا المنطق حول ضرورة صدق الكلام الالهي الذي يتوقف عليه اثبات المسألة الدينية كما عرفنا.
كما اعتبر الباقلاني ان معنى قوله تعالى: ((والله لا يحب الفساد)) (البقرة/205)، هو ان الله تعالى لا يحب كون الفساد ديناً وصلاحاً، او لا يحبه من اهل الصلاح؛ وإن أحب ان يكون قبيحاً من اهل الفساد. وكذا الحال مع تأويله لآية: ((ولا يرضى لعباده الكفر)) (الزمر/7)، حيث اعتبر معنى الاية هو ان الله لا يرضى بالكفر ديناً وشريعة لعباده، او هو لا يرضاه للمؤمنين من عباده دون الكافرين (64) ، وقد كرر الجويني المعنى الاخير في (لمع الادلة) (65).
وتستمد هذه التأويلات تبريرها من سلطة الاصل المولد لحق الملكية، حيث يفعل الله ما يريد ويشاء، ولا حسن ولا قبح الا ما حسّنه الله وقبّحه. فالكفر والفساد مذمومان؛ لا لأن حقيقتهما الذاتية هي كذلك كما يقول اصحاب منطق الحق الذاتي، بل لان الله ذمهما ولم يجعلهما ديناً وشريعة، ولو ان الله جعلهما كذلك لكانا ممدوحين مقبولين كدين يدين الله بهما عباده.
وعلى هذه الشاكلة تم تأويل الايات الخاصة بالغرض والحكمة الالهيين، كما اعتبرت اللامات المتعلقة بذلك لامات عاقبة لا لامات تعليل، مثلما جاء في قوله تعالى: ((وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون)) (الذاريات /56).
ثانياً
أما الممارسات التأويلية في المجال الوجودي فالملاحظ انها شهدت نوعاً من الاختلاف والتطور لدى اصحاب هذا المنطق. صحيح انهم اتفقوا في المجال الطبيعي على ممارسة التأويل فيما يخص القضايا التي لا تتسق مع الاصل المولد الذي اعتمدوه، ومن ذلك انهم قاموا بتأويل الايات التي وردت فيها الباءات التي تربط بين الاسباب ومسبباتها، معتبرين ذلك دالاً على المصاحبة لا السببية، تعويلاً على مقولتهم لا فاعل في الوجود الا الله، وهي المقولة التي عرفنا انها تتسق مع بداهة حق الملكية.. لكن الحال في المجال الوجودي الذي لا علاقة له بالبداهة الاولية فأمره مختلف.
فرغم اتفاق اتباع هذا المنطق على ضرورة ممارسة التأويل لكل ما يخالف احكام العقل القبلية، لكننا نجد خطين متمايزين لهم، يتمثل احدهما بالمتقدمين الذين تأثروا بالاتجاه السلفي، كما هو الحال مع الشيخين الاشعري والباقلاني. ويعود الاخر الى المتأخرين الذين تاثروا بالتيارات العقلية، كما يظهر عند الجويني وابن فورك والرازي وغيرهم. وقد اختلف الفريقان حول الكثير من القضايا التي لها علاقة بفهم الخطاب، وابرزها تلك المتعلقة بالاوصاف والاسماء الالهية، كما هي مذكورة في القرآن والحديث، من قبيل ان لله عينين ووجهاً ويدين واصابع واستواءاً على العرش وما الى ذلك. فبينما اجرى الفريق الاول تلك الاوصاف على حالها مانعاً بذلك التأويل، اضطر الفريق الثاني الى تأويلها تماشياً مع نزعته العقلية. وهذا الاختلاف بينهما ليس اختلافاً حول اثبات التجسيم ونفيه، فالفريق الاول صريح في منعه (66)، بل ان اطلاق هذا اللفظ على الله لا يجد له مساغاً لدى عموم اصحاب هذا المنطق، فهم يمنعون اطلاق الاسماء عليه وعلى صفاته ما لم يرد في ذلك نص من الكتاب او السنة (67) ، فالاسماء عندهم توقيفية لا تطلق الا بإذن شرعي، وكما يقول امام الحرمين الجويني: ان اطلاق الالفاظ في الذات والصفات موقوف على اطلاق النص الشرعي (68). لذا ادرك المتقدمون ان فهم تلك الاوصاف لا يكون صحيحاً ما لم يتم اجراء الوصف على حاله من غير جسمية. فقد اعتقد الاشعري بان اليد هي صفة لله تعالى غير القدرة، كما ان الوجه صفة له غير الوجود، واعتبر الاستواء صفة اخرى غير الاستيلاء، وهكذا مع البقية (69). كما صرح الباقلاني بأن الوجه والعينين واليدين هي من صفات الله الذاتية، لكنها ليست من الجوارح ولا تعطي مدلولاً جسمياً (70). فمثلاً بالنسبة للاية: ((ما منعك ان تسجد لما خلقت بيديّ)) (ص/75) منع الباقلاني ومن قبله الاشعري تأويل اليدين بمعنى القدرة او النعمة، واستدل على ذلك بانه لو كان المعنى هو القدرة لكان لله تعالى قدرتان، ولو كان بمعنى النعمة لكانت له نعمتان في خلقه لادم، مع ان نعم الله على ادم وغيره لا تحصى. كما انه لا يجوز ان يقول القائل مثلاً: «رفعت الشي بيدي» او «وضعته بيدي» او «توليته بيدي» وهو يعني بذلك نعمته (71).
ولا شك ان هذا الفهم لا يتسق والمرونة التي عرفت بها لغة العرب في استخدام المجاز والتشبيه لتقريب المعنى. وليست اليد وإن ثنيت بعيدة في استخدامها عن معنى القدرة او النعمة. ويؤيد ذلك ما جاء في بعض الايات التي استشهد بها الباقلاني للدلالة على رأيه، وهي قوله تعالى: ((وقالت اليهود يد الله مغلولة.. بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء)) (المائدة/64)، فواضح ان معنى الغل والبسط في اليد او اليدين هو ما يتعلق برزق الله وانعامه، وانه لا يوجد معنى اخر يدل على اليدين غير تلك الدلالة المستنبطة من سياق النص. وكذا يقال عن معنى الوجه في قوله تعالى: ((ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام)) (الرحمن/27)، حيث ليس له من معنى راجح سوى الذات الالهية.
مع هذا فهناك مشكلة تخص مسألة الاستواء كما في قوله تعالى: ((ثم استوى على العرش)) (يونس/3)، اذ منع الباقلاني ان يكون معنى الاستواء هو الاستيلاء الذي يعني القدرة والقهر، ورأى ان الله تعالى لم يزل قادراً قاهراً عزيزاً مقتدراً، وفي قوله ((ثم استوى...)) دلالة على استفتاح هذا الوصف بعد ان لم يكن. ومع ذلك فان الباقلاني يرى ان الله على عرشه لا بالمعنى الجسمي من الملاصقة والمجاورة (72) ، حيث الكيف مجهول، كالذي اشتهر عن الامام مالك حين سُئل عنه فقال: «الاستواء معقول، والكيف غير معقول، والايمان به واجب، والسؤال عنه بدعة» (73). والحاصل في جواب الباقلاني هو ان يكون الاستواء معقولاً والكيف غير معقول، وهو موقف احترازي يبعد الجانب الالهي عن اشكال المكان والجسمية، وإن كان لا يعطي اي فكرة اخرى يستعاض بها عن ذلك المحذور.
وسبق للاشعري ان أكد على تلك الصفة من الاستواء وانه ذو جهة فوق السماوات السبع، فذكر: «إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له نقول: ان الله عز وجل مستو على عرشه كما قال: ((الرحمن على العرش استوى)) (طه/5) و((اليه يصعد الكلم الطيب)) (فاطر/10) وقال: ((بل رفعه الله اليه)) (النساء/158) وقال: ((يدبر الامر من السماء الى الارض ثم يعرج اليه)) (السجدة/5) وقال حكاية عن فرعون: ((يا هامان ابنِ لي صرحاً لعلّي ابلغ الاسباب، اسباب السماوات فاطلع الى اله موسى، واني لأظنه كاذباً)) (غافر/63)، حيث كذّب موسى في قوله ان الله عز وجل فوق السماوات، وقال عز وجل: ((أأمنتم من في السماء ان يخسف بكم الارض)) (الملك/16)، فالسماوات فوقها العرش، فلما كان العرش فوق السماوات قال: ((أأمنتم من في السماء)) لانه مستو على العرش الذي فوق السماوات، وكل علو فهو سماء، فالعرش اعلى السماوات وليس اذا قال ((أأمنتم من في السماء)) يعني جميع السماوات، وانما اراد العرش الذي هو اعلى السماوات» (74). كما ذكر بعض الاحاديث الدالة على كون الله على العرش وانه ينزل الى السماء الدنيا، وروى عن ابي هريرة من ان النبي قال: «اذا بقي ثلث الليل ينزل الله تبارك وتعالى فيقول: من ذا الذي يدعوني فاستجيب له، من ذا الذي يستكشف الضر فاكشفه عنه، من ذا الذي يسترزقني فارزقه؟ حتى ينفجر الفجر» (75). وهناك ايات اخرى وظفها الاشعري حول المكان الالهي وجهته فوق العرش، ومن ذلك قوله تعالى: ((يخافون ربهم من فوقهم)) (النحل/50)، ((تعرج الملائكة والروح اليه)) (المعارج/4)، ((ثم استوى الى السماء وهي دخان)) (فصلت/11)، ((ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيراً)) (الفرقان/ 59)، ((اني متوفيك ورافعك الي)) (ال عمران/ 55)... الخ (76).
مع ان هناك ايات اخرى ينص بعضها على ان الله محيط بكل شيء، وانه اقرب الاشياء الينا، وانه في الارض مثلما في السماء، وانه ظاهر الاشياء وباطنها. وبالتالي فان التعويل على ظواهر تلك النصوص يعني تأويلاً للاوصاف الاخيرة، والعكس صحيح ايضاً.
وفي القبال مارس الاشاعرة المتقدمين التأويل بحق الايات التي تتحدث عن بعض الصفات الالهية، ومن ذلك صفة الكلام وصفة الحب والرضا والبغض والغضب والولاية والعداوة وما اليها. فقد حدد الباقلاني صفة غضب الله ورضاه بمعنى ارادته الذاتية في العقاب والثواب. والتبرير الذي لجأ اليه هو ان من المحال وصف الله تعالى بالغضب الذي يعني نفور الطبع وتغيره، وكذا بالرضا الذي يعني سكون الطبع بعد تغيره. لهذا اعتبر ان الغضب والرضا وكذا الحب والبغض والولاية والعداوة؛ كلها بمعنى واحد هو ارادة النفع والاضرار لا غير (77).
ومع ان عقولنا تستبعد حقاً ان يكون معنى الغضب والرضا هو بمثل ما عندنا من صفة وغريزة، الا ان هذا لا يبرر تفسير معناهما على نحو الارادة فحسب، بل هما من امور الغيب التي يستحيل معرفة معناهما على نحو التشخيص والتفصيل (78).
أما صفة الكلام فقد علمنا ان هذا المنطق يوليها وظيفة جوهرية لتأسيس الخطاب الديني من الخارج، لذلك تم تأويل النصوص التي تخصها اتساقاً مع الاصل المولد. ومن ذلك ما قام به الاشعري واتباعه في تأويل الاية: ((ما يأتيهم من ذِكر من ربهم محدث الا استمعوه وهم يلعبون)) (الانبياء/ 2)، حيث فسرها بان «الذكر الذي عناه الله عز وجل ليس القرآن، بل هو كلام الرسول (ص) ووعظه اياهم، وقد قال الله تعالى لنبيه: ((وذكّر فان الذكرى تنفع المؤمنين)) (الذاريات/ 59)، وقال:((قد انزل الله اليكم ذِكراً، رسولاً يتلوا عليكم آيات الله مبينات..)) (الطلاق/ 10ـ11)، فسمى الرسول ذِكراً والرسول محدث، وايضاً فان الله عز وجل قال: ((ما يأتيهم من ذِكر من ربهم محدث الا استمعوه وهم يلعبون)) يخبر انهم لا يأتيهم ذِكر محدث الا استمعوه وهم يلعبون، ولم يقل: لا يأتيهم ذِكر الا كان محدثاً، واذا لم يقل هذا لم يوجب ان يكون القرآن محدثاً» (79).
مع ان الذِكر في الاية منسوب الى الله صراحة وليس الى الرسول، وقد وصفه بأنه محدث صراحة.
كذلك قام الاشعري بتأويل الاية: ((إنّما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون)) (النحل/40)، فظاهرها يؤيد فكرة حدوث القول الالهي، وهو ما لم يتقبله الاشعري، ورأى فيه استحالة عقلية لاعتقاده بقدم كلام الله وكونه احد صفاته الذاتية. بل انه استدل عقلاً من الاية ذاتها على استحالة حدوث كلام الله، وذكر بانه لو كان القرآن - وهو كلام الله - مخلوقاً لكان الله تعالى قائلاً له (كن)، وهذا الاخير لما كان مخلوقاً ايضاً باعتباره قولاً فهو يحتاج الى قول (كن) اخر، وهكذا الى ما لا نهاية له من الاقوال وهو مستحيل (80).
ومع ان سياق الاية السابقة ليس بصدد المعنى اللفظي واللساني للقول والكلام بقدر ما له من المعنى الكوني (81) ، الا انه حتى مع التسليم بكون الاية تنص على المعنى اللساني للقول، وهو انه ما من شيء يخلقه الله الا ويقول له باللسان الحرفي (كن)، فان ذلك لا يدل على قدم الكلام، والا كانت الاية متناقضة والاشياء قديمة غير حادثة. فالاية صريحة على حدوث القول؛ فكيف يستدل من خلالها على نقيض ذلك؟ ذلك ان خلق الاشياء مناط بالقول، فلو كان القول قديماً لا حادثاً لكان خلق الشيء قديماً مثله، وكذا فان ارادة الشيء في الاية لو كانت ارادة قديمة لكان الشيء المراد قديماً مثلها، وهو ما لا يقره اغلب أتباع النظام المعياري ومنهم اصحاب هذا المنطق.
بل ان التسلسل الذي تحدث عنه الاشعري في اثبات قدم الكلام الالهي لا يستقيم الا عندما نعمم لفظة (شيء) في الاية على القول والكلام ذاته، لكن اذا عرفنا ان الاية قد ذكرت هذه اللفظة بتمايز عن لفظة القول؛ علمنا انه لا يصح تعميم الاولى على الثانية.
وبعبارة اخرى، يدل النص على ان الشيء لا يُخلق ما لم يكن ذلك مسبوقاً بقول (كن) - فضلاً عن الارادة - مما يعني ان من غير الممكن ان يكون القول خاضعاً لمسمى الشيء، والا حصل التناقض، حيث يكون المعنى هو ان الشيء لا يُخلق الا عندما يكون مسبوقاً بالشيء، وهو تناقض. لذا فبحسب تمييز الاية هو ان القول غير الشيء، وانه اذا اعتبرنا القول حادثاً، واعتبرنا الشيء حادثاً مثله، فالملاحظ ان بينهما تمايزاً، وهو ان خلق الشيء يتوقف على عاملين بحسب الاية، هما قول الله وارادته، في حين ان القول لا يعتمد الا على عامل واحد هو ارادة الله. ويمكن تصوير هذه العملية بان خلق الشيء يتوقف على حدوث قول الله مباشرة، وان هذا القول يتوقف بدوره على الارادة.
كذلك هناك اختلاف بين الشيء والقول في الاية، فالقول منسوب الى الله، حاله في هذا حال الارادة، في حين ان الشيء اجنبي غير منسوب اليه، وربما لهذا الاختلاف جاءت بعض الروايات عن الامام الصادق تشير الى ان كلام الله محدث لا مخلوق، مثل الرواية القائلة: «ان القرآن كلام الله محدث غير مخلوق وغير أزلي مع الله تعالى.. كان الله عزّ وجل ولا شيء غير الله معروف ولا مجهول، كان عزّ وجل ولا متكلم ولا مريد ولا متحرك ولا فاعل.. فجميع هذه الصفات محدثة عند حدوث الفعل منه..» (82).
***
أما المتأخرون من اصحاب هذا المنطق فقد ذهبوا الى ممارسة عملية التأويل بطريقة موسعة، ومن ذلك تأويلهم للنصوص المتعلقة بالصفات الالهية والتي منع تأويلها المتقدمون. وسبق للغزالي ان وصف الاشاعرة بقوله: «ذهبت طائفة الى الاقتصاد، وفتحوا باب التأويل في كل ما يتعلق بصفات الله سبحانه، وتركوا ما بالاخرة على ظاهرها، ومنعوا التأويل فيه، وهم الاشعرية» (83). ويبدو انه قصد بالاشعرية - هنا - المتأخرين منهم دون المتقدمين الذين ابقوا النصوص الخاصة بالصفات على حالها دون تأويل كما عرفنا. أما المتأخرون من امثال الجويني وابن فورك (المتوفى سنة 460هـ) فقد ذهبوا الى تأويل تلك النصوص.
فمثلاً جوّز الجويني في (الارشاد) تأويل اية الاستواء على العرش بمعنى القهر والغلبة، واعتبر ذلك سائغاً في اللغة. كما لم يستبعد معنى كون الاله قصد الى امر العرش، مثلما هو تأويل سفيان الثوري (84). وقال بهذا الصدد: «فانا نعلم ان الاستواء اذا لم يكن تمكناً بالذات وتخصصاً ببعض الجهات فلا بد ان يرجع اما الى معنى القهر، واما الى معنى علو العظمة، واما الى فعل من افعال الله عز وجل، ولا مزيد على هذه الاقسام» (85). كما انه نفى الجهات عن الله وقال: «ومن ينتمي الى الحق من الائمة ومخلصي الامة يعترف بتقدس الرب عن الجهات والمقابلات» (86) ، بل وعقد فصلاً في كتابه (الشامل في اصول الدين) هاجم فيه الذين عولوا على ظواهر الايات والاحاديث الخاصة بصفات الله، وسمى هذا الفصل: (في ذكر تأويل جمل من ظواهر الكتاب والسنة).
وعموماً ذهب الاشاعرة المتأخرون الى الاعتراف بضرورة تأويل كل ما يشعر بالجهة والتجسيم لاستحالتها على الله (87)، ومن ذلك ما صرح به الغزالي من ان الاشاعرة تنفي الجهة والجسمية (88) ، وهو موقف يختلف عما كان عليه الاشعري والباقلاني القائلان بالجهة وسائر الصفات الاخرى. كما ذهب صاحب (مرهم العلل المعضلة) الى عدم القطع بتعيين التأويل في احاديث الصفات، حيث نفى كل ما يدل على الجسمية والتغير والنقص، لكنه لم يقطع بالمراد (89) .
وعلى ما ذكره ابن فورك من ان تأويل قوله تعالى: ((وهو الله في السماوات وفي الارض)) (الأنعام/3) بأن معناه لدى اصحابه من الاشاعرة هو «ان الله جل ذكره يعلم سركم وجهركم الواقعين في محل السماوات والارض.. ولا يصح الوقوف على معنى قوله تعالى: ((وهو الله في السماوات وفي الارض)) دون ان يوصل بقوله تعالى: ((يعلم سركم وجهركم)) » (90). كما ذكر في تفسير قوله تعالى: ((وجاء ربك والملك صفاً صفاً)) (الفجر/22) بان من الاشاعرة من قال ان معناه هو جاء ربك بالملك صفاً، وزعم ان الواو ههنا بمعنى الباء، ومنهم من قال انه بمعنى جاء امر ربك (91). كما ذكر في تفسير قوله تعالى: ((هل ينظرون الا ان يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة)) (البقرة/210)، هو ان معناه بحسب ما قاله بعض اهل التفسير: هل ينظرون الا ان يأتيهم الله بالعذاب في ظلل من الغمام، وهو امر سائغ في اللغة حيث يعبر عن الشيء بفعله اذا وقع عن امره وتدبيره.. وقال بعضهم ان قوله: ((في ظلل من الغمام)) يراد به بظلل من الغمام وان (في) جاءت بمعنى الباء. وقد روي ذلك في التفسير عن ابن عباس.. وروى ابن ابي نجيح عن مجاهد في تفسير تلك الاية انه قال بانها السحاب التي يأتي بها الله يوم القيامة.. وروى ابو صالح عن ابن عباس ايضاً انه قال يأتيهم بوعده ووعيده وان الله يكشف لهم عن امور كانت مستورة عنهم، ومثل ذلك روي عن الحسن (92).
كما قال ابن فورك بصدد تأويل الايات الخاصة بتحديد المكان: «فأما قرب المكان فلا يليق بوصف الله تعالى، وعلى ذلك يتأول جميع ما في القرآن، مثل قوله تعالى: ((ونحن اقرب اليه من حبل الوريد)) (ق/16) وقوله: ((نحن اقرب اليه منكم)) (الواقعة/85) وقوله: ((فكان قاب قوسين او ادنى)) (النجم/8ـ9) وقوله: ((واسجد واقترب)) (العلق/19).. فجميع ذلك لا يخلو من ان يكون قرباً بالطاعة من العبد او قرباً بالكرامة واظهار الرحمة من الله» (93).
كذلك قام ابن فورك بتأويل الكثير من الاحاديث التي يبدو انها تدل في الظاهر على التشبيه والتجسيم، اذ وضع العديد من التأويلات الممكنة المحتملة على طريقة المتأخرين؛ مخالفاً في ذلك ما اشتهر لدى السلف، ومن هذه الاحاديث نذكر ما يلي:
خلق الله ادم على صورته، وخلق ادم في قبضة قبضها الله، والحجر الاسود يمين الله، وان الله استلقى ووضع احدى رجليه على الاخرى، وقال الله لداود مر بين يدي، وضحك الرب لقنوط عباده، وان الله خلق الملائكة من شعر ذراعيه، وان هناك من سئلت اين الله فأشارت الى السماء فاعتبرها النبي مؤمنة، وان لله صفة العجب (قد عجب ربكم..)، وكذا صفة الغيرة (ان الله أغير من سعد)، وهناك حديث النزول، وحديث الرؤية حيث «ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضارون في رؤيته»، وان الله يطوي المظالم فيجعلها تحت قدمه، وان الله يجعل ذلك في كفه، وان قلوب بني ادم بين اصبعين من اصابع الرحمن، وان لله ساعداً اشد من ساعدك، وان الله يستحي..، وانه دخلت على ربي فاذا هو شاب جعد..، وانه يكشف عن ساق، واني رأيت ربي جعداً قططاً، وانه في صورة شاب امرد، وان الله في السماء، وان له وجهاً، وله عينان، وله يد وكف وقبضة ويمين وساق وقدم ورجل يمنى ورجل اخرى..
***
نستخلص مما سبق عدداً من الملاحظات النقدية كالتالي:
1ـ عرفنا بأن هذا المنطق اضطر عند تأسيسه للخطاب الديني من الخارج الى تحويل بعض القضايا المعيارية الى قضايا وجودية حتمية، وبالتحديد انه اعتبر قضية صدق الكلام الالهي من الصفات الذاتية الثابتة، كالذي يدعو اليه النظام الوجودي.
2ـ ان جعل الكلام الالهي صفة ذاتية وقديمة للمكلِّف؛ يعني ان الامر والنهي، الذين يعدان جوهر العملية التشريعية، قديمان بالضرورة قدم الكلام النفساني ذاته. فالتكليف محدد اوصافه واركانه ازلاً، وهو امر محتم لا مفر منه ابداً. وهنا نعود الى الاشكالية التي تقرب هذا الاتجاه من منطق النظام الوجودي.
3ـ لقد اسفر هذا الاتجاه عن تناقض صريح، فهو من جهة يفضي الى اعتبار الخطاب بيّناً ليعلم منه التشريع حسب ما يقره المالك الحقيقي. لكنه من جهة اخرى يصطدم مع ما في هذا الخطاب من قضايا لا تتسق والاصل المولد. الامر الذي اضطره الى ممارسة التأويل. وقد ذهب متأخرو هذا الاتجاه الى تبرير هذه الممارسة والتنظير لها، وان بعضهم - مثل الفخر الرازي - رأى في نص الخطاب حالة التشابه وغياب البيان، وهو امر يفضي الى الاخلال بمعرفة قرارات المالك الحقيقي من التشريع والتكليف.
4ـ هناك مشكلة اخرى تواجه هذا الاتجاه في تعامله المجزء مع الخطاب، فهو يعتبر بعضه بيناً والبعض الاخر متشابهاً. مما يعني ان الكلام الالهي القديم يتصف ذاتاً بهذا التجزء من البيان والتشابه دون ان يتخذ صفة موحدة من الاتساق. وتظل المشكلة قائمة حول معرفة مضامين القسم المتشابه، اذ ما الذي يؤكد لنا صحة ما تستكشفه عقولنا لمعاني هذا القسم، سيما ونحن غير مطلعين على هذا السبق التوقيفي للكلام القديم؟ كذلك ما الذي يجيز لنا فحص الخطاب المتشابه والكشف عن مضامينه بطرق التأويل العقلية، اذا كان ذلك يتوقف فقط على إذن المالك المطلق، وانه لا سبيل لمعرفة هذا الإذن عن طريق العقل؟
الهوامش
(1) الباقلاني: تصحيح الأب رتشرد يوسف اليسوعي، المكتبة الشرقية، بيروت، 1957م، ص22ـ23، والهمداني: شرح الاصول الخمسة، تعليق الامام احمد بن الحسين بن أبي هاشم، حققه وقدم له عبد الكريم عثمان، مكتبة وهبة، مصر، الطبعة الثالثة، 1416هـ ـ1996م، ص94، والمفيد: النكت الاعتقادية، طبعة طهران، ص5ـ6 .
(2) يلاحظ بهذا الصدد ان العلم الحديث يخالف كلا النظريتين الفلسفية والكلامية حول انقسام الجزء، كالذي بيناه في بعض الدراسات (انظر: نقد العقل العربي في الميزان، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الاولى، 1996م، الفصل الخامس)..
(3) ابن رشد: مناهج الأدلة في عقائد الملة، تحقيق وتقديم محمود قاسم، مكتبة الانجلو المصرية، الطبعة الثانية، ص140 .
(4) الاشعري: اللمع، مطبعة مصر، 1955م، ص20ـ21، والتمهيد، ص25 .
(5) لاحظ هذه الشبهة في: صدر المتألهين الشيرازي: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، مع تعليقات ملا هادي السبزواري ومحمد حسين الطباطبائي، دار احياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1981م، ج6، ص58ـ60، وج1، ص132 .
(6) انظر كتابنا: الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية، دار الهادي، ص51 .
(7) انظر حول ذلك كتابنا: الاستقراء والمنطق الذاتي، مؤسسة الانتشار العربي، ص212ـ214.
(8) لاحظ كتابنا: القطيعة بين المثقف والفقيه، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الاولى، 2005م، ص20ـ21..
(9) شرح الاصول الخمسة، ص226 و355.
(10) الكاظمي: فوائد الاصول، من افادات الميرزا محمد حسين النائيني، تعليقات ضياء الدين العراقي، مؤسسة النشر الاسلامي، قم، ج3، ص59 .
(11) الهمداني: المجموع المحيط بالتكليف في العقائد، تحقيق عمر السيد عزمي، مراجعة احمد فؤاد الاهواني، المؤسسة المصرية للتأليف والانباء والنشر، ج1، ص22 .
(12) الزركشي: البحر المحيط، شبكة المشكاة الالكترونية، فقرة 81.
(13) الطوسي: مهيد الاصول في علم الكلام، انتشارات دانشگاه طهران، 1362هـ.ش، ص313، كما لاحظ على هذه الشاكلة: النكت الاعتقادية، ص26 .
(14) الحلي: كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، مؤسسة الاعلمي، بيروت، الطبعة الاولى، 1979م، ص375 .
(15) عبد الكريم عثمان: نظرية التكليف، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1391هـ ـ1971م، ص94ـ95، وشرح الاصول الخمسة، ص564.
(16) نظرية التكليف ص95ـ96.
(17) السيوري الحلي: ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين، منشورات مكتبة المرعشي النجفي، قم، 1405هـ، ص297ـ298 .
(18) الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، ضبطه وقدم له موفق فوزي الجبر، دار الحكمة، دمشق، الطبعة الاولى، 1415هـ ـ1994م، ص184 .
(19) اللمع للاشعري، ص90 و118، والتمهيد، ص343، والفخر الرازي: محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين، والطوسي: تلخيص المحصل، ص267 .
(20) اليافعي: مرهم العلل المعضلة، ص291ـ292.
(21) مرهم العلل المعضلة، ص154 .
(22) الجويني: الارشاد، نشر مكتبة الخانجي، مصر، ص356 ، وكأنه بهذا عبّر عن وجدانه في حقيقة كون هذه القضايا معيارية غير محتمة.
(23) الاقتصاد في الاعتقاد للطوسي، ص162.
(24) المجموع المحيط بالتكليف، ج1، ص419.
(25) الفخر الرازي: اصول الدين، ص25، والمحصل، ص71، كذلك كتابنا: مدخل الى فهم الاسلام، ص340 .
(26) الهمداني: متشابه القرآن، تحقيق عدنان محمد زرزور، ص35 و38 .
(27) الهمداني: المغني في أبواب التوحيد والعدل، تحقيق أبي العلا عفيفي، مراجعة ابراهيم مدكور، اشراف طه حسين، الدار المصرية للتأليف والترجمة، ج15، ص27 .
(28) السيوطي: صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام، تعليق علي سامي النشار، دار الكتب العلمية، بيروت، ص174ـ175 .
(29) الزمخشري: أطواق الذهب في المواعظ والخطب، المقالة السابعة والثلاثون، مكتبة الوراق الالكترونية، عن موقع: http://islamport.com .
(30) رسائل الشريف المرتضى، اعداد مهدي رجائي، تقديم واشراف احمد الحسيني، نشر دار القرآن الكريم، قم، 1405هـ، ج2، ص228ـ229.
(31) رسائل الشريف المرتضى، ج2، ص224ـ225 .
(32) يضاف الى وجود نوع اخر للهداية لا يتعلق بالتكليف، انما يراد به الغريزة والفطرة التي تسهل للحيوان تحقيق اغراضه ومعاشه، كالذي يشير اليه قوله تعالى: ((الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى)) (الأعلى/2ـ3).
(33) الهمداني: تنزيه القرآن عن المطاعن، دار النهضة الحديثة، بيروت، ص137 .
(34) المصدر السابق، ص146 .
(35) المصدر السابق، ص271 .
(36) المصدر السابق، ص103 .
(37) المصدر السابق، ص19ـ20 .
(38) المصدر السابق، ص14 .
(39) المصدر السابق، ص15 .
(40) المصدر السابق، ص16 .
(41) متشابه القرآن، ج1، ص57 .
(42) تنزيه القرآن، ص301 .
(43) تنزيه القرآن، ص144 .
(44) المصدر السابق، ص183 .
(45) المصدر السابق، ص83
(46) المصدر السابق، ص379، وص112 .
(47) الشريف الرضي: حقائق التأويل في متشابه التنزيل، شرحه محمد الرضا آل كاشف الغطاء، دار المهاجر، عن مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ج5، ص23ـ25 .
(48) حقائق التأويل في متشابه التنزيل، ص26ـ29.
(49) جار الله محمود بن عمر الزمخشري: الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، مكتب الإعلام الاسلامي في الحوزة العلمية، قم، الطبعة الاولى، 1414هـ، ج1، ص634.
(50) الكشاف، ج1، ص48 وما بعدها. .
(51) يلاحظ بهذا الصدد مقالنا: القضاء والتطبع، مجلة الغدير، لبنان، عدد (5)، 1981م، ص28ـ33 . (52) ابن القيم: شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ص88 .
(53) النكت الاعتقادية، ص15.
(54) الطوسي: التبيان في تفسير القرآن، مقدمة وتحقيق آغا بزرك الطهراني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج2، ص144.
(55) الطبرسي: مجمع البيان في تفسير القرآن، مؤسسة الاعلمي، بيروت، الطبعة الاولى، 1415هـ ـ1995م، ص198 و200.
(56) الكشاف، ج1، ص301.
(57) الكشاف، ج3، ص564.
(58) الكشاف، ج4، ص509.
(59) الكشاف، ج4، ص189 .
(60) الكشاف، ج2، ص176.
(61) شرح الاصول الخمسة، ص599ـ600.
(62) التمهيد، ص251ـ252 .
(63) التمهيد، ص284 .
(64) التمهيد، ص284
(65) لمع الأدلة، ص99ـ100 .
(66) لاحظ: اللمع للاشعري، ص23، والتمهيد، ص264 .
(67) اللمع، ص24
(68) الجويني: الشامل في اصول الدين، تحقيق علي سامي النشار وفيصل بدير عون وسهير محمد مختار، ص350، وشرح المواقف، ج3، ص168 .
(69) تلخيص المحصل، ص313 .
(70) التمهيد، ص259ـ260 و262 .
(71) التمهيد، ص258ـ259، والابانة عن اصول الديانة، ص79ـ82.
(72) التمهيد، ص262 و264
(73) الشامل، ص551، والغزالي: قواعد العقائد في التوحيد، ضمن رسائل الامام الغزالي (2)، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الاولى، 1414هـ ـ1994م، ص59، والذهبي: سير أعلام النبلاء، تحقيق شعيب الأرناؤوط ومحمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة، الطبعة التاسعة، 1413هـ، شبكة المشكاة الالكترونية، ج8، فقرة 100ـ101 .
(74) الاشعري: الابانة عن اصول الديانة، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الاولى، 1405هـ ـ 1985م، ص69ـ70.
(75) الابانة، ص72.
(76) الابانة، ص73ـ74.
(77) التمهيد، ص27ـ28 و262 .
(78) جاء عن الامام علي قوله بهذا الصدد: «يحب ويرضى من غير رقة، ويبغض ويغضب من غير مشقة» نهج البلاغة، ضبط نصّه وإبتكر فهارسه صبحي الصالح، منشورات دار الهجرة، قم، الطبعة الخامسة، 1412هـ، ص274.
(79) الابانة، ص65ـ66.
(80) اللمع، ص33ـ34، والابانة، ص42 و52 .
(81) ورد بهذا الصدد عن الامام علي ما هو قريب عن التفكير الاعتزالي، حيث قال في معنى الاية: «يقول لمن اراد كونه: ((كن فيكون))، لا بصوت يقرع ولا ابتداء يسمع، وانما كلامه سبحانه فعل منه انشأه ومثّله، لم يكن من قبل ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان الهاً ثانياً» (نهج البلاغة ص274). وكان الزمخشري يقول في هذه الاية: «هذا مجاز من الكلام وتمثيل ولا قول ثم» (الكشاف، ج1، ص181).
(82) الصدوق: التوحيد، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم، ص227، وإن كان في حديث اخر بيّنت الرواية ان علة عدم وصف كلام الله او القرآن بالمخلوق؛ هو لأنه يعني المكذوب (المصدر، ص225). لكن القاضي الهمداني أكد على صحة لفظ المخلوق، وردّ على الفرض الذي اعتبر هذا اللفظ بمعنى الكذب والمكذوب، إذ صوّر الخلق بمعنى التقدير، والمخلوق هو الفعل المقدر بالغرض والداعي المطابق له على وجه لا يزيد عليه ولا ينقص عنه (شرح الاصول الخمسة، ص546).
(83) الغزالي: قواعد العقائد، ص59، واحياء علوم الدين.
(84) مرهم العلل المعضلة، ص245.
(85) الشامل في اصول الدين، ص551.
(86)الشامل، ص551
(87) مرهم العلل المعضلة، ص234
(88) الغزالي: روضة الطالبين، ضمن رسائل فرائد اللآلي، نشر فرج الله ذكي الكردي، مصر، 1343هـ ـ1924م، ص175
(89) مرهم العلل المعضلة، ص252.
(90) ابن فورك: مشكل الحديث وبيانه، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، الطبعة الاولى، 1367هـ، ج1، ص50.
(91) مشكل الحديث وبيانه، ج1، ص63.
(92) مشكل الحديث، ج1، ص63ـ64.
(93) مشكل الحديث، ج1، ص70.