يحيى محمد
لا شك ان علاقة العلية في المنظور الفلسفي هي علاقة الوهة، اذ المعلول يتبع علته ويتشبه بها، ويُأوّل هذا الاتباع والتشبه بأنه عبادة، فالعلة رب، والمعلول مربوب، وان علة العلل هي رب الارباب التي تختزل في ذاتها جميع كمالات سائر الارباب، ولهذا فانها تمثل المعبود الحقيقي، وكل ما عداها فانه معبود على نحو الظاهر والمجاز، رغم ان المعلول ليس بوسعه ان يتعلق ويتشبه بأعظم من علته، وبالتالي فهو لا يتعبد بغير هذه العلة الناقصة. ومع ذلك فان جميع العبادات التي تؤديها المعاليل لعللها هي عبادات صحيحة تعبّر عن تابعيتها لاربابها، ومن ثم تابعيتها لرب الارباب، لأن كمالاته تفيض على كل شيء، مما يجعل اي شيء يشابه كل شيء، وان عبادة الجميع مشروعة ومؤدية الغرض بعبادة المبدأ الحق عبر الوسائط من العلل الناقصة. فلا يصح من الناحية التكوينية ان يتعبد المعبود بالمبدأ الحق مباشرة اذا ما استثنينا الصادر الاول المسمى بالعقل الاول. وهذا يعني ان جميع العلل بعد العلة الاولى هي ارباب والهة لما دونها، وهكذا يتسلسل الامر بالتسافل حتى اخر مراتب الوجود. فالوجود كله عبارة عن هرم من الالهة والمألوهات، والارباب والمربوبات، فمنها الكبار ومنها الصغار.
أما بحسب الرؤية العرفانية فحيث ان الوجود الواحد يتعدد بالصور المختلفة؛ لذا فانه مدعاة لصحة عبادة ايّ من هذه الصور، سواء تمثلت العبادة بالاصنام والاوثان، او بالارواح والمعاني المجردة الاخرى. ويمكن تبرير ذلك باعتبارين، الاول هو ان العبادة مربوطة باسم من اسماء الحق تعالى، وحيث ان كل اسم يضمر بقية الاسماء الاخرى مع ما له من غلبة خاصة عليها1؛ فان مآل العبادة يصبح لجميع الاسماء، ومن ثم للمبدأ الحق باعتباره عين الكل والجامع بينها.
اما الاعتبار الثاني فهو ان العبادة او الاعتقاد هو في حد ذاته عبارة عن تجلي الحق بصورة من الصور، فان تجلى بالصفات السلبية؛ قبلته العقول بالتسبيح والعبادة على وجه التنزيه، في الوقت الذي تنكره الاوهام والخيالات والنفوس غير المجردة، لأنها لم تصل الى مرحلة التجريد، ولم تدرك الحق الا في مقام التشبيه والتجسيم. وعلى العكس من ذلك فيما لو تجلى بالصفات الثبوتية، اذ تقبله النفوس والقلوب بالتشبيه من حيث تعلقها بالاجسام، في الوقت الذي تنكره العقول لأن مرتبتها مقيدة بالتجريد. وهكذا تقبل كل قوة ما يناسبها وتنكر ما لا يناسبها، وكأن الامر مما يصدق عليه قول الحق تعالى: {ما تعبدون من دونه الا اسماء سميتموها انتم واباؤكم ما انزل الله بها من سلطان} يوسف/ 0 4، سوى الانسان الكامل الذي يقبل الحق ويهتدي بنوره في جميع تجلياته، فيكون عبد الله على وجه الحقيقة2.
ومبرر ذلك هو ان هوية الحق تقبل الاضداد والصور لكونها محيطة بالكل وشاملة للجميع، وقد سئل ابو سعيد الخراز: بم عرفت الله؟ فقال: بجمعه بين الاضداد، فهو الاول والاخر والظاهر والباطن، فهذه الحدود تصدق عليه من وجه واحد وليس من وجوه متعددة كالذي يتوهمه العقل ويحيله3، فالعقل لا ينسب الضدين الى شيء واحد الا من جهتين مختلفتين، لذلك كان هناك طور فوق طور العقل المشوب بالوهم4، بل ليس لنا الاحاطة بحدود جميع صور العالم وارواحها وحقايقها ومعانيها، وعليه لا يمكن حد الحق، فهو لا يتميز بخصوصية تفصله عن خصوصية اخرى، والا كان محدوداً ومقيداً بتلك الخصوصية، وبالتالي فحيث لم تنحصر الصور وتنضبط التعينات غير المتناهية؛ لذا لا يمكن حد الكل الا بمجمل كليته5.
وبمثل هذه الذرائع يتحتم خضوع وسجود كافة الخلائق لله، كطاعة منها لامره القضائي الذي لا مفر منه. الامر الذي يعني تابعية العالم السفلي لما يتحكم به العالم العلوي من قضاء. وبذلك يكون المضل كالمطيع في طاعته للمبدأ الحق، لان كلاً منهما يخضع الى اسم من اسماء الله، ويكون تابعاً له6، فيتوزع العباد في عباداتهم للاسماء، فمثلاً ان عبدة الاوثان يعبدون نور العزة والجمال ويحجبون به عن سائر صفات الله وانواره، وعبدة الاشجار والحيوانات والناس يتصفون بانهم محجوبون بنور الجمال مع ظلمة الحس، وعبدة النار فانهم محجوبون بنور السلطة والبهاء، وعبدة النجوم فانهم محجوبون بنور العلو والاشراق والاستيلاء، وكل ذلك من انوار الحق تعالى واسمائه7.
هكذا فبسبب تعدد الصفات والاسماء الالهية المتجلية فانه قد تنوعت الاديان والعقائد، حيث تجلى الحق باسم الهادي، كما تجلى باسم المضل، والمطيع يعبد الله باسم الهادي، في حين يعبده العاصي باسم المضل، والحق يتجلى على هذا وذاك، وكلا الفريقين يعبدان الحق، وعبادتهما صحيحة لأنها تستجيب الى تجليات الحق بالكامل من دون تعطيل. ومن ذلك فان عصيان ابليس وعناده يعدان من الطاعة للحق، فإباؤه هو حقيقة سجوده وطاعته للحق، لانه يعبّر عن ارادة الحق ويوافق ما يقتضيه القضاء الازلي. وبحسب هذه الرؤية يكون المنكر مقراً في عين انكاره، والفارّ مجيباً في عين فراره، والعاصي مطيعاً في عين عصيانه8. حيث تخضع هذه الامور الى اعتبارات التبعية لاسماء الله المفاضة على ماهيات الاشياء بالفيض الوجودي المقدس؛ بعد ان كانت ثابتة في العلم الالهي بحسب القضاء الازلي المعبر عنه بالفيض الاقدس. وبحسب تبعية الماهيات للاسماء فانه ما من شيء الا ويكون مرده في الاصل الى الاسماء والحقيقة الالهية؛ بما في ذلك الشياطين التي هي مظاهر اسماء الحق.
اذن ان كل الخلائق لا تعبد غير الحق في مختلف صوره وتجلياته، وكما يقول الجيلي في تفسيره للاية القرآنية: {لااله الا انا} طه/14، هو انها تعني بان ‹‹الالهية المعبودة ليست الا انا، فانا الظاهر في تلك الاوثان والافلاك والطبائع، وفي كل ما يعبده اهل كل ملة ونحلة، فما تلك الالهة كلها الا انا، ولهذا اثبت لهم لفظة الالهة، وتسميته لهم بهذه اللفظة من جهة ما هم عليه في الحقيقة تسمية حقيقية لا مجازية.. لان الحق عين الاشياء وتسميتها بالالهية تسمية حقيقية.. وان حكم الالوهية فيهم حقيقة، وانهم ما عبدوا في جميع ذلك الا هو، فقال: {لا اله الا انا}، اي: ما ثم ما يطلق عليه اسم الاله الا وهو انا، فما في العالم ما يعبد غيري››9.
وعليه فجميع العبادات والعقائد لدى العرفاء تعد صحيحة، سواء كانت وثنية او دنيوية او دينية، وكما يقول ابن عربي: فالكل مصيب لانه من المطلق الحق، فلكلٍّ حظ ونصيب وكل مصيب مأجور، وكل مأجور سعيد، وكل سعيد مرضي عنه. وان من شقى زماناً في الدار الاخرة، فقد مرض وتألم اهل العناية مع علمنا بانهم سعداء اهل الحق في الحياة الدنيا.10
وانشد الجيلي في ابيات له من الشعر:
واسلمت نفسي حيث اسلمني الهوىوما لي عن حكم الحبيب تنازع
فطـوراً تـراني في الـمسـاجـد راكـعاًواني طوراً في الـكـنائس راتـع
واذا كنت في حكـم الشريعـة عاصيـاًفاني في عـلـم الحـقيقـة طـائـع
ومع ذلك يمكن القول ان اصح العبادات والعقائد لدى العرفاء هي تلك التي تستغرقها جميعاً تبعاً لنظريتهم في وحدة الوجود الشخصية، وكما يؤكد ابن عربي من ان التعبد بالكل هو اكمل الايمان، لذلك فانه يحذر ويقول: ‹‹فاياك ان تتقيد بعقد مخصوص وتكفر بما سواه فيفوتك خير كثير، بل يفوتك العلم بالامر على ما هو عليه، فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات، فان الله تعالى اوسع واعظم من ان يحصره عقد دون عقد››11.
وله بيت من الشعر يقول فيه:12
عقد الخلائق عقائداًوانا اعتقدت جميع ما عقدوه.
كما له ابيات اخرى يقول فيها13:
لقد كنت قبل اليوم انكر صاحبياذا لم يكن ديني الى دينه دان
لقـد صـار قلبي قـابـلاً كـل صورةفمرعى لغزلان، ودير لرهبان
وبـيـت لاوثـان، وكـعـبـة طائـفوالواح توراة، ومصحف قرآن
ادين بدين الحـب انى توجهـتركائبه، فالحب ديني وايماني
وفي الابيات ربط بين الحب والدين، او بين الحب والتكليف، حيث فيه رفع المشقة والكلفة بأي وجه كانت، فالحب هو دين المحمديين بدلالة قوله تعالى: {فاتبعوني يحببكم الله} آل عمران/31، وان محمداً هو المخصوص عند الله بصفة الحبيب، فدينه دين الحب14.
وسبق لاخوان الصفا الاعتقاد بأن الفوز والنجاة لا يتمان الا بالسعي لأن يكون مذهبهم جامعاً ومستغرقاً لكل المذاهب والاديان والعلوم15. وهي الخطوة التي توّجتها محاولة ابن عربي في بسط نظريته حول التوحيد بين العقائد والاديان جميعاً، اتساقاً مع مذهبه في وحدة الوجود.
***
تلك هي نظرية العرفاء في حقيقة العبادة والتكليف، وقد افضت الى تأويل النصوص الدينية وتحريفها، بل وقلب المفاهيم التي تتضمنها رأساً على عقب. ومن ذلك ان الجيلي يستدل من قوله تعالى: {إن تعذبهم فانهم عبادك} بأن قوم عيسى كانوا صادقين في العبادة التي يؤدونها، ودليله هو انه لو لم تكن هذه العبادة صحيحة للزم ان يقول: (ان تعذبهم فانك شديد العقاب)، بل قال: {وان تغفر لهم فانك انت العزيزالحكيم} المائدة/118، مما يعني - على رأيه - انهم لم يتجاوزوا الحق، اذ ان الحق تعالى هو حقيقة عيسى وحقيقة امه وحقيقة روح القدس، بل حقيقة كل شيء16.
كما ان ابن عربي هو الاخر اعتبر قوله تعالى: {وقضى ربك الا تعبدوا الا اياه} الاسراء/23؛ له دلالة على القضاء التكويني، فالكل محكوم عليه بعبادة الرب شاء ام ابى17، رغم ان سياق الاية دال على الامر التشريعي لا التكويني بدليل تتمة الاية {وبالوالدين احساناً}، لكنه انتهز تلك المناسبة ليعزز الحكم بصحة جميع العبادات وفقاً لمنطق السنخية ووحدة الوجود18. فالمعبود باي صورة كان هو الحق، سواء كانت صورته حسية كالاصنام، او خيالية كالجن، او عقلية كالملائكة، وان التفريق والكثرة هي مظاهر لاسمائه وصفاته، فمثلها كمثل القوى الروحانية والنفسية بالنسبة الى النفس الواحدة19. وهذا ما جعله يعترف بصحة عبادة المشركين، وأنْ يلتمس في الايات ما امكنه من مناسبات، مهما كانت واهية، ليعزز بها ذلك الحكم. اذ لا فرق عنده بين عبادة المشركين وعبادة الانبياء الا بالصورة. فعلى رأيه ان فرعون - مثلاً - لم يعص موسى الا في الصورة، ولم يكن عصيانه الا عين الطاعة، معتبراً العصيان والطاعة مظهرين وصورتين لجوهر واحد، فلا يختلف عنده العصيان عن الطاعة الا بمقدار اختلاف الحية عن العصا التي انقلبت اليها بطريقة التغير في الصور20. وكذا عدّ السامري انما صنع العجل لاجل محبة الله21، اذ ان الله يحب ان يعبد في كل صورة22، لذلك فان العارف يرى الحق في كل شيء، بل ويراه عين كل شيء، وهذا ما كان موسى يربي هارون عليه ليعلم ان عبادة العجل وصنعه كانت صحيحة، باعتبارها من صور الحق التي لا تتناهى. اذ اعتبر ان موسى لم ينكر على عبدة العجل الا لأنهم حصروا الاله فيه فقط، وانه عاتب اخاه هارون لجهله بانهم لم يعبدوا غير الله الذي حكم {وقضى ربك الا تعبدوا الا اياه}23.
وهنا رأى القيصري ان كلام ابن عربي يعتبر صحيحاً وحقاً لا غبار عليه من حيث الولاية والباطن، لكنه لا يصح من حيث النبوة والظاهر، فيجب على النبي انكار العبادة للارباب الجزئية مثلما يجب عليه ارشاد العباد الى الحق المطلق، وعليه انكر جميع الانبياء عبادة الاصنام وإن كانت في ذاتها عبارة عن مظاهر للهوية الالهية24.
ويظل الشرك عند العرفاء هو اثبات التعدد في الوجود، فان من يرى الوجود عبارة عن حق وخلق، وانه ينزه الحق عن الخلق، فانه يثبت اثنين في الوجود، ويكون من هذه الناحية مشركاً، اي جاعل الحق ثاني اثنين، وهذا هو كفره او ستره للوحدة الحقيقية. فالمنزه كالمشبه كلاهما واقعان باثبات الاثنينية ومن ثم الشرك والكفر بستر الوحدة الحقيقية، فهو كمن قال ثالث ثلاثة ورابع اربعة وهكذا25.
وعلى هذه الشاكلة قام ابن عربي بتأويل قوله تعالى: {ان الله لا يغفر ان يُشرك به} النساء/48، حيث احال امكانية وقوع الشرك، اذ لا وجود لغيره في العين، وكل ما يتصور انه الاله فهو حق، لهذا فانه لا يغفر لمن يشرك به، والغفران بمعنى الستر، والمعدوم الذي هو الشرك لا يمكن ستره باعتباره عدماً، حيث لا يُستر الا من له وجود. 26
وقد صوّر ابن عربي العلاقة بين الانبياء والمشركين بانها اشبه بعلاقة التمثيل على المسرح السينمائي، فالادوار المتعارضة التي توزع على الممثلين لا تعكس تضاداً حقيقياً، لان الادوار التي يؤدونها ليست سوى تمثيلاً وهمياً فحسب. فدعوة الانبياء لا تريد الا المكر والخديعة بالمشركين، لغرض تغيير صورة ما هم عليه من عبادة تشبيهية الى صورة اخرى تنزيهية. ويتضح هذا الامر من خلال تفسير ابن عربي للنصوص القرآنية الخاصة بقوم نوح، فبحسب هذا التفسير ان نوحاً اراد بقومه المكر والخديعة، لكنهم ردوا عليه بمكر مضاد: {ومكروا مكراً كباراً} نوح/22، ولم يستجيبوا لدعوته لكونها تريد الفرقة والفرقان لتبعدهم عن الصورة الصحيحة التي هم عليها من عبادة، وإن كان ما يدعوهم اليه يعتبر صورة صحيحة ايضاً. وتبعاً لوجهة نظر هذا العارف ان نوحاً لو دعاهم الى القرآن او الجمع بين التنزيه والتشبيه كما فعل نبي الاسلام لاستجابوا له، لان هذه الدعوة تعطي اصح العبادات واوفاها27. لهذا جاء في ابيات له من الشعر28:
فإن قلت بالتنزيه كنتَ مقيِّداًوإن قلتَ بالتشبيه كنتَ محدِّداً
وإن قلتَ بالامرين كنتَ مسدَّداًوكنت إماماً في المعارف سيداً
وبحسب هذه الاعتبارات تتعين مشاهدات الناس واذواقهم، وبها تتحدد صورهم، فان كان شهودك الوجود الحق فان ذلك يعني ان الحق ظهر في عينك الثابتة، وبالتالي فأنت حق. وإن كان مشهدك الكثرة والتجدد والتحدد والتعين والاختلاف والتميز والتبين؛ فانت بهذا خلق وعالم وغير وسوى. أما لو كان مشهدك انك ذو وجهين حق وخلق، فانت حق من وجه وخلق من وجه اخر، اي انك بهويتك وعينك حق واحد احد، وبصورتك وانانيتك خلق او ظاهر للحق29. وهذا يعني ان بالمشاهدة تتحدد عبادة الانسان وعقيدته، حيث يتحد الشاهد بالمشهود، وبالاتحاد تكون العبادة عين الالوهة، وتظل الالوهة هي الاصل تبعاً لاعتبارات وحدة الوجود.
ولابن عربي ابيات من الشعر ينشد فيها30:
فلولاه ولولانا لما كان الذي كانا
فانا اعبد حقاً وان الله مولانا
وانا عينه فاعلم اذا ما قلت انسانا
فلا تحجب بانسان فقد اعطاك برهانا
فكن حقاً وكن خلقاً تكن بالله رحمانا
وغـذِّ خـلـقـه مـنـه تكن روْحاً وريحانا
فاعطيناه ما يبدو به فينا فاعـطـانـا
فصار الامر مقسوماًبـايـاه وايـانـا
***
نخلص مما سبق عدة امور نجملها كالاتي:
1ـ ان الفهم الوجودي للعبادات والعقائد جار على نحو تكويني. وهو من هذه الناحية لا يخضع للخطأ والصواب واللوم والعقاب. اذ الكل محكوم بحسب ما عليه الحال في المفارقات او الاسماء الالهية او ارباب الانواع او غير ذلك من الاعتبارات. وبالتالي فالعبادة حسب الفهم الوجودي لها طابع مجاز؛ تعبّر فيه عن حتمية الارتباط والتبعية للعلل والارباب. مما يعني ان التكليف بدوره امر مجاز، سواء من حيث الرؤية الفلسفية او العرفانية، وان السلوك المتبع هو السلوك المتجه نحو الحق إما بعبادة المفارقات والنفوس الجرمية او الخضوع تحت احكامها مثلما هو التصور لدى الرؤية الفلسفية، او باعتبار الحق المتجلي في كل شيء، بما في ذلك نحن السالكين، حيث نكون من ضمن هذا الحق المتجلي فينا، فكيف نكلَّف ونحن هو، وهو نحن، والعين واحدة؟!
2ـ تعتبر العبادات من حيث الرؤية العرفانية صحيحة، لا بمعنى انه يمكن ان يكون بعضها غير صحيح، او انه يأتي بغير ما هو المطلوب، وانما من حيث ان وحدة الوجود تحتم ان يكون المتعبد مرتبطاً بصورة من صور هذا الوجود المطلق، وهو في هذا الارتباط يعبد الحق، سواء كان ارتباطه بالصور التنزيهية او التشبيهية. مما يعني ان من المحال ان تكون هناك صورة خارجة عن عين الحق، باعتباره يتجلى في صور الوجود كله، او هو عين هذا الكل من غير حصر.
3ـ ان اصح العبادات عند العرفاء هي تلك التي تجمع بين التنزيه والتشبيه، او تلك التي تضم كل صور الارتباط والعبادة للاشياء، اتساقاً مع نظرية وحدة الوجود الشخصية. أما العبادات التجزيئية فهي تمثل شركاً بالمعنى الذي فيه تستر الوحدة الحقيقية الشاملة، لكنها مع هذا تعتبر صحيحة لكونها تصيب المطلوب وهو الحق المتجلي في عين كل شيء. اما الشرك فليس له وجود البتة، اذ ليس في الوجود غير الحق ديّار.
1 شرح الفصوص، ص342-343. قال ابن عربي: نقل عن ابي القاسم بن القسي انه يقول بان كل اسم الهي يسمى بجميع الاسماء الالهية وينعت بها. وذلك ان كل اسم يدل على الذات وعلى المعنى الذي سيق له ويطلبه، فمن حيث دلالته على الذات له جميع الاسماء. لكن من حيث دلالته على المعنى الذي يتفرد به فانه يتميز عن غيره من الاسماء، فالاسم هو المسمى من حيث الذات، والاسم هو غير المسمى من حيث ما يختص به من المعنى الذي سيق له.
2 لاحظ: ايقاظ النائمين، ص40-41. وشرح الفصوص، ص439-441.
3 شرح الفصوص، ص279. والفتوحات المكية، مصدر سابق، ج1، ص2432. وترجمان الاشواق، ص85.
4 مطلع خصوص الكلم، ج1، ص260.
5 شرح الفصوص، ص277-278.
6 الجيلي: الانسان الكامل، ج2، الباب الثالث والستون، ص74-75.
7 مشكاة الانوار، ضمن مجموعة رسائل الامام الغزالي (4)، ص29.
8 فسر صدر المتألهين اية سجود ابليس {فسجد الملائكة كلهم اجمعون الا ابليس استكبر وكان من الكافرين} ص/ 73-74، فقال: ‹‹ان اباء ابليس عن السجود واستكباره وعصيانه بحسب ظاهر الامر هو عين سجوده وطاعته وخدمته وتواضعه لربه باعتبار القضاء الازلي، فان العزيز الجليل اقامه في حجاب العزة والجلال ذليلاً محجوباً حتى يكون ابليس مطروداً ملعوناً محترقاً بنار البعد والضلال في الدنيا ومعذباً بنار الجحيم والنكال في الاخرى حسب ما جرى عليه القضاء، فلم يكن له بد من موافقة علمه تعالى الذي هو عين ارادته، ولذلك اقسم بعزته تبارك وتعالى للاغواء، لان الاغواء من مقتضيات العزة، والاحتجاب يجب الجلال.. وهكذا فعصيان العصاة وتمردهم نحو من الطاعة والامتثال لحكم الاسماء، فاهل الحجاب او عباد الكثرات لا يجيبون دعوة التوحيد، ومن كان في مرتبة الجمع يطلع على مراتبهم ويعذر الكل فيما هم عليه ويعلم ان انكارهم عين الاقرار وفرارهم عين الاجابة لدعوة العزيز الجبار›› (تفسير صدر المتألهين، ج6، ص150).
9 الانسان الكامل، دار الكتب العلمية، ص103.
10 شرح فصوص الحكم، ص441 و459. ومطلع خصوص الكلم، ج2، ص45-46.
11 شرح الفصوص، ص441. ومطلع خصوص الكلم، ج2، ص44.
12 شرح الفصوص، ص441. والفصوص والتعليقات عليه، ج2، ص289.
13 ترجمان الاشواق، ص43-44. مع لحاظ ان البيت الاول اقتبسته من مصادر اخرى دون ان يكون في الكتاب المشار اليه، كذلك يلاحظ ان الابيات المذكورة قد اختلف نقلها في بعض المصادر. فمثلاً جاء في (جامع الاسرار، ص8) ان الابيات الثلاثة الاخيرة كالتالي:
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعى لغزلان، وديراً لرهبان
وبيـتاً لاوثان، وكـعـبة طائـف والواح توراة، ومصحف قرآن
ادين بدين الحب انى توجهت ركائبه، ارسلت ديني وايماني
14 ترجمان الاشواق، ص44.
15 رسائل اخوان الصفا، مصدر سابق، ج4، ص41.
16 الانسان الكامل، دار الكتب العمية، ص129-130.
17 الفصوص والتعليقات عليه، ج1، ص72، وج 2، ص39.
18 مع هذا نشير الى ان ابن عربي في (الفتوحات المكية، ج1، ص841) خفف من لهجته السابقة وهو بصدد تفسير الاية المشار اليها في المتن، معتبراً ان عبدة الاشياء كالشمس - مثلاً - انما عبدوها لتخيلهم انها اله، فما سجدوا الا لله لا لعين الشمس او غيرها، وقد استشهد على رأيه هذا بأحد الاشخاص من عبدة الشمس، قائلاً له: ما ثم الا الله، وهذه الشمس اقرب نسبة الى الله حيث جعل فيها من النور والمنافع.
19 مطلع خصوص الكلم، ج1، ص304-305.
20 مطلع خصوص الكلم، ج2، ص436-437.
21 وذلك استناداً الى قوله تعالى: {فكذلك القى السامري فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار فقالوا هذا الهكم واله موسى..} طه/ 87-88.
22 شرح الزيارة الجامعة الكبيرة، ج3، ص181.
23 الفصوص والتعليقات عليه، ج1، الفص الرابع والعشرين، ص192، وج 2، ص285.
24 مطلع خصوص الكلم، ج2، ص385-386.
25 شرح الفصوص، ص285.
26 الفتوحات، دار احياء التراث العربي، ج4، ص110.
27 الفصوص والتعليقات عليه، ج1، الفص الثالث، ص70-74، وج 2، ص37-43. وشرح الفصوص، ص300-303.
28 مطلع خصوص الكلم، ج1، ص290 . ونقد النقود، ص663-664.
29 مطلع خصوص الكلم، ج1، ص342.
30 نقد النقود، ص665.