يحيى محمد
ان فهم المعاد وفق الرؤية الوجودية يعتمد ولا بد على فهم التنزيل الذي تحدثنا عنه في دراسة مستقلة. فلهذه الرؤية شكلان من الحركة، احداهما نزولية (حلولية)، واخرى صعودية (اتحادية). وما لم يفهم التنزيل بكونه البدء والتكوين فسوف لا يفهم التصعيد بتمثيله للعودة الى ما عليه الاول. فكما ان هناك رقائق للصور تتنزل الى ادنى درجة لها في العالم السفلي، بما يسمى قوس النزول، فكذا تكون في قبالها صور تترقى لتعود مرة ثانية الى التجرد والالتحاق بالعالم العلوي تبعاً لما يطلق عليه قوس الصعود. وبالتالي فان المعاد هو العودة الى عالم الادراكات المجردة من العقول والنفوس السماوية، او هو ذات العالم الالهي. مما يؤكد ان فهم طبيعة المعاد لا يتم الا بفهم المبدأ الذي تنزل عنه العالم وعلة هذا التنزل.
وفي جميع الاحوال ان حلقات السلسلتين الانفتي الذكر تمثل حالات متفاوتة من الادراك، وان التجرد فيه هو غاية العودة والمعاد. فعلم الانسان مثلاً هو غاية وجوده في الحياة[1]، كالذي شهدناه في بعض الدراسات المستقلة.
فنحن نواجه اشكالية اساسية لها علاقة بعلة النزول والصعود لصور الكائنات، ومنها النفوس البشرية. فلماذا تتنزل الوجودات؟ كما لماذا تعود الى ما كانت عليه مرة اخرى؟ وكيف تجري العملية ازلاً وابداً؟ فالمبدأ هنا يساوق العودة والمنتهى..
لا شك ان هناك صوراً عديدة تطرحها الرؤية الوجودية لتبرير النزول والصعود ومن ثم دوام الفيض ازلاً وابداً، فتارة ان الامر عائد الى ما عليه نظام العلية، واخرى الى ما تستلزمه طبيعة الصفات والاسماء الالهية، وكذا ما يتضمنه العشق والحب، والى فعل العناية والسلوك نحو الغاية الكمالية عبر الاتصال المعرفي والاتحاد بالاصل مرة اخرى... الخ. فهي تفاسير متعددة ذات مضامين متقاربة.
المعاد والعودة إلى الأصل الإلهي
يُجمع الفلاسفة على ان النفس لها أصل إلهي سابق على البدن، وهم من هذا المنطلق اعتقدوا بضرورة مفارقتها له بعد اكتمال مهمتها من بلوغ الحد الذي يجعلها قابلة للانفصال عنه كلياً. مما يعني ان النفس لا بد لها ان تعود إلى عالمها الإلهي الذي تنزلت منه. أي فكما ان هناك تنزلاً، فهناك عود وصعود. وهنا نجد عدداً من المسائل المتعلقة بهذه العودة. فأولاً ان النفس لها قوى ودرجات متباينة من الإدراك والتجرد، وعلى هذا التعدد والاختلاف لا بد ان نميز: أي هذه القوى مؤهلة للعودة والبقاء، وأيها يندثر وينمحي بهلاك البدن؟ ثم كيف جرى تفسير العودة لدى الرؤية الوجودية؟ كذلك ما هو مصير النفوس الشريرة والجاهلة؟ فهذه المسائل وغيرها سنتعرف عليها خلال الفقرات التالية:
يؤكد الفلاسفة بأن النفس التي تفارق البدن هي تلك التي تتصف بالتجرد وتكون موضعاً للعلم العقلي. فهم يتفقون كما ينقل إبن رشد على ان النفس المخالطة للهيولى، والتي توصف بأنها مخلّقة لأنواع الأجسام والأبدان الأرضية ومصورة لها، تعود إلى مادتها الـروحانية الإلهية[2]. أما النفس التي لا تخالط الهيولى والتي ليس لها علاقة بتخليق البدن وتصويره، فإن الفلاسفة يختلفون في حدود ما هو قابل للتجرد والرجوع إلى الأصل الإلهي.
فعند أرسطو ان جميع قوى النفس تبطل سوى العقل المكتسب المسمى بالعقل المستفاد، بخلاف العقلين المتبقيين، وهما العقل الهيولاني والعقل بالملكة.
فالعقل الهيولاني هو عقل بالقوة، أي محض استعداد لقبول وإدراك المعقولات، فهو بالتالي خال من الصور. أما العقل بالملكة فهو العقل الذي تحصل فيه المعقولات وكان من الممكن استحضارها متى شاءت النفس من غير جهد ولا تكلف. في حين إن العقل المستفاد فهو ذلك الذي تكون فيه المعقولات حاضرة عند العقل من غير غياب.
فهذه هي قوى العقل الثلاث[3]، وكلها داثرة عند أرسطو باستثناء العقل الأخير.
لكن اتباع أرسطو من المشائين القدامى وجدوا ان العقل الهيولاني هو أيضاً محفوظ بالبقاء لا يقبل الفساد والاندثار.
ولإبن رشد أكثر من موقف، فهو في (تهافت التهافت) وقف مع سائر المشائين في عدم التسليم بفساد العقل الهيولاني، حيث وصفه بأنه يعقل أشياء لا نهاية لها في المعقول الواحد، ويحكم عليها حكماً كلياً، وما جوهره هكذا فهو غير هيولاني أصلاً[4]، كما انه ليس مجرد محض قوة واستعداد فحسب. لكنه في (تفسير ما بعد الطبيعة) لم يخالف أرسطو في فساد هذا العقل، انما خالفه حول العقل بالملكة الذي رأى ان فيه ما هو فاسد وما هو غير فاسد، فمن حيث فعله فهو فاسد، لكنه من حيث ذاته فهو باق غير مندثر باعتباره داخلاً علينا من الخارج[5].
ولدى بقية الفلاسفة المسلمين، فالمعوّل عليه هو ان العقل الهيولاني وكذا العقل بالملكة كليهما يعدان غير مندثرين، كالذي أكد عليه إبن سينا[6].
نظريات الفلاسفة للمعاد
تتخذ كيفية المعاد وفق الرؤية الفلسفية الوجودية عدداً من الاطروحات نجملها بأربع كما يلي:
الاطروحة الأولى:
وهي تلك التي قال بها أغلب الفلاسفة، وهي ان المعاد ليس جسمانياً، وانما يجب ان يكون محلاً للعلم بما لا ينقسم ولا يمكن الإشارة إليه حسياً[7]. وهو ما قال به الفارابيان واتباعهما. فابن سينا - مثلاً - صرح بنفي المعاد الجسماني في رسالة (الأضحوية في أمر المعاد) بما لا مزيد عليه[8]، كما انه لوّح إلى نفيه في رسالة (دفع الغم من الموت)[9]، وفي كتاب (المبدأ والمعاد) ذكر عنواناً اومأ فيه إلى ذلك المعنى، حيث كان نصه: (في السعادة والشقاوة الوهمية في الآخرة دون الحقيقية)[10]، وأبدى في كتاب (النجاة) نفس الحال من التلويح[11]، وإن كان في موضع آخر من الكتاب المذكور، وكذا في (إلهيات الشفاء)، ذكر نصاً حاول ان يظهر فيه مظهر المعتقد بالمعاد الجسماني، وكما قال: ‹‹يجب ان تعلم ان المعاد منه مقبول من الشرع ولا سبيل إلى إثباته إلا من طريق الشريعة وتصديق خبر النبوة، وهو الذي للبدن عند البعث.. ومنه ما هو مدرك بالعقل والقياس البرهاني، وقد صدقته النبوة، وهو السعادة والشقاوة الثابتتان بالمقاييس اللتان للأنفس››[12].
وأهم ما في الأمر هو ان الشيخ الرئيس قام بتقديم بعض المبررات التي دفعته إلى نفي المعاد الجسماني، حيث انها مستلهمة من الغاية التي حصر الفلاسفة عنايتهم بها، وهي الغاية المتمثلة بالإدراك المعرفي المجرد. باعتبار ان المادة تصبح معيقة لبلوغ هذه الغاية، ومن ثم تحصيل السعادة التامة[13].
وقد اختلف الفلاسفة حول النفوس الساذجة عن العلوم كلها؛ إن كانت تعدم أو تعاد[14]. فإبن سينا حيث انه لم يتمكن من إثبات تجرد القوة الخيالية للإنسان؛ فقد صار متحيّراً في بقاء النفوس الساذجة بعد الموت، فتارة اضطر إلى أن يقول ببطلانها كما في رسالته (المجالس السبعة)، وأخرى قال إنها باقية لكونها تدرك بعض الأوليات والعمومات[15]. وهو لم يقطـع باستـخدام النفس للجرم السماوي بعد مفارقة البدن، فهو وإن كان يبدو عليه شيء من الميل إلى هذا الاعتقاد في شرحه لكتاب (اثولوجيا)، إلا أنه اعترف في (المباحثات) بالقصور عن إدراك مثل هذا الأمر، دون أن يجزم إن كان فعلاً يمكن للنفس أن تستخدم الجرم السماوي بعد مفارقة البدن أم لا[16].
كما ظهر لدى شيخه الفارابي بعض التردد حول النفوس الجاهلة والشريرة. ففي كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة) اعتقد بأن النفوس الشريرة تبقى بعد الموت في آلام أبدية لا نهاية لها، مقراً إن ما يهلك ويصير إلى عدم إنما هي فقط النفوس الجاهلة على مثال ما يكـون لـلبهائم والسباع والأفاعي[17]. لكنه في (السياسة المدنية) اعتبر النفوس الشريرة التي لا تصغي إلى قول مرشد ولا معلم ولا مقوم تنحل وتعدم لأنها تظل نفوساً هيولانية غير مستكملة استكمالاً تفارق به المادة أو البدن، فإذا بطل البدن بطلت هي معه، وبالتالي لا بقاء إلا للنفوس الكاملة[18].
بل رغم ان هذا المعلم أقرّ - في مجمل ما كتبه - بجوهرية واستقلالية النفس عن البدن، ورأى أنها تفارقه كلياً دون أن تعود اليه[19]، لكن كما ذكر إبن طفيل، انه في شرحه لكتاب (الأخلاق) وصف ‹‹شيئاً من أمر السعادة الإنسانية وأنها إنما تكون في هذه الحياة التي في هذه الدار. ثم قال عقب ذلك كلاماً هذا معناه: (وكل ما يذكر غير هذا فهو هذيان وخرافات عجائز).. إذ جعل مصير الكل إلى العدم. وهذه زلة لا تقال››[20].
الاطروحة الثانية:
وهي التي تعود إلى إبن رشد في تبنيه لموقف الفلاسفة الاغريق من المشائين، حيث أنكر المعاد النفساني في صورته الجزئية، مثلما أنكر الحشر الجسماني حيث مآله الفساد والتحلل، واعتقد ان النفوس بعد مفارقة الأبدان لا بد ان تكون واحدة بالعدد. وبالتالي فالخلود الذي يتحدث عنه إبن رشد ليس فردياً، حيث تتحد النفوس البشرية بعقل الإنسانية الشامل والمعبّر عنه بالعقل الفعال. وقد شبّه ذلك بالضوء، حيث ينقسم بانقسام الأجسام المضيئة، ثم يتحد عند انتفاء الأجسام، وكذا الأمر في النفوس مع الأبدان، إذ تتحد بانتفاء الأخيرة[21].
لكن لإبن رشد رأياً آخر تجاوز فيه الرأي المشائي الآنف الذكر. فقد تبنى القول بالمعاد النفساني كالذي عليه الفارابيان حسب نظرية التمثيل التي سيمر علينا تفصيل الحديث عنها فيما بعد. وأكثر من هذا أشار إلى معنى آخر قد يكون مختلفاً عما سبق. ففي بعض كتبه - كما في التهافت والمناهج - أقرّ ببعث الأجسام، لكن لا بهذه الأجسام الطبيعية وانما بأمثال لها[22]. فالعائد انما هو أمثال هذه الأجسام الدنيوية وليس عينها، فالمعدوم يحال ان يعاد نفسه[23]. وهو لم يحدد إن كان يقصد بذلك نفي المعاد الجسماني كلياً على طريقة الفارابي وإبن سينا وغيرهما من جمهور الفلاسفة المشائين، أم كان يرى المعاد الجسماني على صورة المُثل المعلقة كما هو الحال عند الإشراقيين كالشيخ السهروردي، أو لا هذا ولا ذاك، بل شبيه بما لجأ إليه صدر المتألهين، كالذي سيمر علينا عما قريب؟
الاطروحة الثالثة:
وهي تعود إلى السهروردي القائل بأن المعاد الجسماني يعبّر عن عالم وسيط وجامع بين العالمين الحسي والعقلي، وهو عالم الخيال والمُثل المعلقة، فهو يجمع صور جميع الموجودات العقلية والحسية. وتتصف هذه المُثل بأنها خارجية منفصلة عن النفس في عالم التجرد والآخرة، على شاكلة ما كان يقوله افلاطون مع بعض الفوارق، حيث ان المُثل الافلاطونية نورية ثابتة، بينما المُثل المعلقة على صنفين، فمنها المستنيرة للسعداء، كما منها الظلمانية للأشقياء.
وفي جميع الأحوال ان المُثل المعلقة ليست حالّة في قوام مادي، كما إنها ليست خيالات نفسية داخلية، كالذي عليه نظرية الفارابيين وغيرهما. وهو أمر يتسق مع نظريته النورية في الشهود والحضور، حيث في هذه الحالة تكون النفس مدركة لتلك ‹‹البرازخ›› من المُثل إدراكاً حضورياً بالشهود.
الاطروحة الرابعة:
وهي تعود إلى صدر المتألهين، الذي عدّ مشكلة القول بنفي المعاد الجسماني هي من أهم المسائل التي دفعت الفلاسفة إلى ان يعتبروا الشرع خطابياً جاء ليقنع عوام الناس[24]، الأمر الذي أثار حفيظة هذا العارف فردّ عليهم بذات المقياس الذي شيدوه لفهم النص. فذكر في ردّه بأنه لو كان من الصحيح ان الشارع جاء ليقنع الناس بالإيهام؛ للزم ان يُضل الصالحين ويفضي بهم إلى العذاب المؤبد، نتيجة الجهل بحقيقة علم المعاد[25]. وإن كان هذا العارف هو أيضاً لم يراع هذا التحذير الذي نبّه عليه. ومن ذلك انه إعتبر معصية آدم التي شهد لها النص القرآني والكتب السماوية الأخرى لا تفيد المعنى الحقيقي للنص، وانما هي من التجوزات والرموز، مداراة لضعفاء العقول من الناس[26]. وكأنه بهذا أعاد إنتاج الصورة التي نادى بها الفلاسفة، وبرر لها بعضهم ضمن تصويره الخاص في حكايته الرمزية (حي بن يقظان).
وعلى رأي صدر المتألهين فإن هناك أنواعاً متعددة من المعاد للممكنات الوجودية حسب مراتبها؛ تصل إلى ستة أنواع[27]. وتتصف أغلب هذه المعادات بأنها صورية وقائمة بحسب اعتبارات نظرية الإتحاد، فكل شيء يتحد بما يناسبه. ومن بين هذه المعادات هناك المعاد الخاص بالإنسان والذي بدوره يشتمل على عدد من المعادات بحسب مقاماته ومراتبه.
ويعترف هذا الفيلسوف العارف بأن من ضمن هذه المعادات المعاد الجسماني، لكنه صوري يخلو من العنصر الطبيعي المادي، وبالتالي فإن له وجوداً متوسطاً بين عالمنا المادي والعالم العقلي المجرد، فلا هو من هذا العالم، ولا انه من ذاك، بل وسط أو بين بين.
والمعادات الستة هي كالتالي[28]:
1ـ عالم الروحانيات المحضة، وهي الأرواح العالية والعقول القدسية والصور المفارقة والمثل الإلهية والأرباب النورية، حيث معادها إلى الذات الأحدية.
2ـ عالم النفوس الفلكية.
3ـ عالم الأجرام العظيمة، حيث معادها بحسب قواها، فمن حيث قوتها الخيالية فإلى عالم النفوس والأمثال، ومن حيث قوتها الهيولية فإلى دار البوار ومهوى الأشرار ومنزل الكفار، ومن حيث طبيعتها المتجددة في كل حين وزمان فإلى ما إليه تميل وتستحيل من الصور المثالية المتماثلة المتصلة، لا المتضادة المتخالفة المتفاضلة.
4ـ عالم الصور المتضادة والعناصر المتفاسدة، حيث معادها يكون باعتبارين، أحدهما باعتبار التصالح والجمع والوحدة فيما بينها، فاول معادها إلى هيئة الجماد ومنه إلى النبات ثم إلى الحيوان. أما الاعتبار الآخر فمعادها إلى ما هو ضدها حيناً، وإلى ما يماثلها حيناً آخر.
5ـ عالم الهيوليات، ومعاد كل منها إلى البوار والهلاك.
6ـ عالم الإنسان، حيث له عدة معادات بحسب نشآته العديدة الحاصلة له من تركيب جسده وطبعه وروحه ونفسه وعقله. فله بحسب كل نشأة بعث وحشر ومعاد. مما يعني ان هناك خمسة منازل ومقامات في البعث للإنسان: فالأول عبارة عن بعث قالبه الجسدي من قبر الأرض بحسب غلبة الأرضية عليه. والثاني عبارة عن بعث قلبه من قبر قالبه. والثالث هو بعث روحه من قبر قلبه. والرابع هو بعث نفسه من قبر روحه. والخامس هو بعث عقله من قبر نفسه[29].
وبحسب هذا التعدد في المعاد فإن صدر المتألهين لجأ إلى تأويل بعض الآيات، كقوله تعالى: ﴿كما بدأكم تعودون﴾[30]، فإعتبرها تعني كما بدأكم في الأول من العقل ثم النفس فالجسد، فستعودودن على العكس؛ من الاكثف حتى الألطف فالألطف[31].
ويستفاد من ذلك بأن المعاد النهائي لأغلب الأنواع التي مرّت معنا هو الصورة أو الإدراك على أنواعه المختلفة.
وتبعاً لنظرية ملا صدرا يمكن القول بوجود نوعين من المعاد للنفوس البشرية، أحدهما هو الذي تتحد فيه النفوس بالعقل الفعال كلياً[32]، على شاكلة ما لجأ إليه إبن رشد في نظريته المشائية، أما الآخر فهو الذي تكون فيه النفوس على شكل صور مثالية عينية معلقة ومنفصلة عن بعضها، حيث أثبت مفارقة قوة النفس الخيالية التي كان الفلاسفة يظنون انها قوة مادية تفنى بفناء البدن.
ويعتبر صدر المتألهين أبرز القائلين بتعدد أنواع المعاد تبعاً لاعتقاده بتعدد أنواع البشر.
فوفقاً لرأيه ان الإنسان وإن كان نوعاً واحداً في الظاهر، بحسب ما تخرج مادته الجسمانية من القوة إلى الفعل، لكنه متخالف الماهية في الباطن، بحسب ما يخرج عقله الهيولاني من القوة إلى الفعل[33].
فعند خروج النفوس من القوة الهيولانية تصير أنواعاً متخالفة بحسب غلبة الصفات ورسوخ الملكات. فكل نوع من جنس هو ما يغلب عليه من صفات بهيمية أو سبعية أو شيطانية أو ملائكية[34]، وكل فرد من الإنسان يعود إلى مبدئه الذي انشأه. فالبعض يكون الحق علة وجوده، ومباشر تكوينه بيديه، فيكون معاده إليه. وبعض آخر يكون مبدأ وجوده القريب هو آخر مراتب العقول المفارقة، لذا فمعاده يكون إليه. كما ان هناك بعضاً ثالثاً يكون وجوده بمدخلية بعض الشياطين الذين هم عمّار عالم الشر، لذلك فمعاده إلى النار التي هي أصل وجوده حيث يتألف منها الشيطان.. وهكذا[35].
مهما يكن فالصورة التي رسمها صدر المتألهين للمعاد الإنساني هي أيضاً لم تعبّر عن ظاهر النص.
صحيح انه صرح بوجود جسم صوري عيني، لكنه نفى - من الناحية المبدئية - ان يكون للجسم الطبيعي وجود في العالم العلوي، معتبراً ان النشأة الآخرة إدراكية علمية، ففيها أبدان صورية ونفوس غير متناهية، إذ لا يمتنع اجتماع هذه الأعداد في غير الوضعيات المادية لعدم التزاحم والتصادم ونفي التركيب الوضعي والعلي[36].
على ان اعتقاد هذا الفيلسوف بجسم صوري عيني، قد جاء كحلٍّ يتوسّط فيه بين معطيات النص الديني من جهة، وقبليات النزعة الوجودية القائمة على منطق السنخية من جهة أخرى [37].
فقد خالف المشّائين في نفيهم للمعاد الجسماني، كما خالف الإشراقيين الذين عوّلوا على المثل الخارجية، غير أنه لم يقل بالبدن العنصري الطبيعي كما توحي بذلك ظواهر النصوص الدينية[38]، بل تبنّى بدناً صورياً، شبحاً ظلياً، وقالباً مثالياً ملازماً للجوهر النفساني المفارق، دون أن يتضمن استعدادات أو مواد أو حركات. إذ إن نشأة الأبدان في الآخرة لا تقوم على الجهات القابلية كما هو الحال في الدنيا، بل تصدر عن الجهات الفاعلية، بإبداع الحق لها كأظلال مثالية وصور فعلية للنفوس. فهي بهذا الاعتبار ليست مادية، لأن المادة متصفة بالزوال والتحوّل، بخلاف الصورة التي تتسم بالثبات والفعلية والبقاء[39].
ورغم ان هذا الفيلسوف يسلم مبدئياً بضرورة الأبدان الصورية في النشأة الأخرى، إلا ان موقفه بشأن أبدان النفوس الشقية أمر يختلف، إذ يعترف بأن لها أبداناً طبيعية عنصرية، الأمر الذي يلزم عنه بعض التناقضات، كما سنعرف لاحقاً. ناهيك عن بعض الترددات والمفارقات التي تخص الفوارق النوعية بين طبيعة أهل السعادة وأهل الشقاء.
فحول النفوس السعيدة من أهل الجنة، رأى هذا العارف ان تمتعها يكون بما لديها من صور محسوسة تتضاعف بلا مزاحمة ولا تضايق، إذ ليس من المحال اجتماع صور غير متناهية دفعة واحدة، طالما أنها لا تخضع للترتيب الزماني أو المكاني الذي يجري عليه براهين الامتناع[40]. وبالتالي فإن لأهل الجنة عالماً صورياً يتناسب مع كمالهم، فلا يجري عليهم تجدد واستحالة وتغير، إذ إن حركاتهم وأفاعيلهم تنتمي إلى نمط آخر من الوجود، لا عناء فيه ولا لغوب [41]، فالزمن لديهم زمنٌ يحضر فيه الماضي والمستقبل في لحظة واحدة، والمكان مجلسٌ ينطوي فيه كل ما تسعه السماوات والأرض. وان نعيمهم من الجنة لا يمكن ان يكون من المحسوسات الطبيعية، انما هو من المحسوسات الصرفة المجردة عن عالم الطبيعة والهيولى، مثلما يراه الإنسان في نومه من ن صور محسوسة لا تنتمي إلى العالم المادي، والنوم جزء من أجزاء النبوة، ونشأته مثال النشأة الآخرة.
أما رأي هذا العارف حول أهل النار، ففيه تردد واضح. فهو تارة لا يفرق في شكل المعاد بين أهل النفوس السعيدة والشقية، فكلاهما عبارة عن صورة بلا مادة، وفعل بلا قوة[42]، وانه يلزم عنهما - معاً - الأبدان الظلية والقوالب الشبحية المثالية، مثلما يلزم الظل عن الضوء[43]. لكنه يرى - تارة أخرى - ان أبدان النفوس الشقية هي من جنس عالم الطبيعة والمادة، فيحدث لها التجدد والتبدل والاستحالة، وتتقلب من صورة إلى أخرى، لأن طبائعها من القوى الجسمانية المادية، وان دار الجحيم هي من جنس هذه الدار، وحيث ان أفاعيل القوى المادية وانفعالاتها متناهية؛ فلا بد فيها من انقطاع وتبدل. وبالتالي لا بد من تبدل الأبدان واستحالة المواد، وذلك تبعاً للحركة الدورية الصادرة عن الأجسام السماوية المحيطة بالأجسام الأرضية المتصفة بالفساد[44].
وتنطوي هذه الرؤية على تناقض صارخ، إذ كيف يمكن الجمع بين أبدانٍ متغيرةٍ ومتجددةٍ، وبين نفوسٍ تمثل صوراً بلا مادة، وفعلاً بلا قوة؟! فالتأثير المتبادل بينهما يفترض كونهما من سنخٍ واحد، فإما أن يكونا معاً في طور التغير والتجدد، أو أن يكونا كلاهما تامين بالفعل، سواء أكان هذا التمام في صورة السعادة أم الشقاء، وإلا فما وجه العلاقة بينهما؟!
وكدلالة أخرى على تناقض ما قدمه صدر المتألهين، هو ان التسليم بوجود الأجسام الطبيعية لأهل الشقاء في الدار الآخرة، يعني القبول بوجود عدد غير متناهٍ من هذه الأجسام المادية، وهو أمر قد أحاله هذا العارف ليثبت به الوجود الصوري للأجسام كما عرفنا.
مهما يكن، فهذه النظرية ذات التفريق النوعي للأبدان بين أهل الشقاء وأهل السعادة؛ هي مما لا تساعد عليه النصوص القرآنية. كما ان القول بوجود الجسم الصوري غير الطبيعي هو أيضاً مما لا تساعد عليه تلك النصوص.
ان عدم التوافق بين ظاهر النصوص من جهة، وبين الرؤية الوجودية لصدر المتألهين من جهة ثانية، تثير لدى القارئ تلك الإشكالية التي طرحها هذا العارف حول الجهل بطبيعة المعاد، والتي حكم فيها على كل من جهل المعاد وتصوره على غير حقيقته الفعلية بأنه واقع في العذاب لا محالة.
فهل يصح ان يقال ان نظرية صدر المتألهين لا تختلف عن سائر النظريات الأخرى التي لم تصور المعاد على صورته الحقيقية، أو على الأقل إنها قد ابتعدت عن ظاهر النصوص القرآنية، وبالتالي فإنها محكومة بنفس ذلك الحكم؟
أو يقال على العكس، وهو ان كل من آمن بالمعاد بالشكل الذي يخالف فيه نظرية هذا العارف فإنه ممن يصيبه العذاب، كالذي صرح به في (المبدأ والمعاد)، معتبراً هذا الأمر من الكفر والخذلان والعصيان[45].
علماً بأنه في كتابه (الأسفار) صرح بأن أغلب المسلمين لم يعرفوا حقيقة المعاد وإن أقروا به لساناً، وبذلك جرى عليهم حكم المسلمين[46]. وبالتالي هل يمكن القول إن أغلب المسلمين هم ممن يصدق عليهم ذلك الحكم من الكفر والخذلان؟!
مع هذا فهو في (كسر أصنام الجاهلية) إعتبر كسائر الفلاسفة، ان الخطأ والجهل في الأصول الأساسية للاعتقاد، كوجود الله وصفاته وأفعاله وكتبه ورسله واليوم الآخر، يفضيان إلى الهلاك وسوء العاقبة، وان الرسوخ عليها يورث العذاب المؤبد، مستثنياً من ذلك البلّه وكل من آمن بتلك العقائد ايماناً مجملاً ساذجاً وراسخاً جازماً ممن لم يخض في البحث والنظر، وكذلك كل من اقتدى بالصلحاء وقلدهم في نظرهم الصحيح، وما عدا أولئك فليس بآمن من خطر سوء العاقبة ولو كان من أهل الصلاح والزهد، إذ لا يُنجي بنظره إلا الاعتقاد الحق الراسخ[47].
الإدراك ومنشأ السعادة والشقاوة
بحسب الرؤية الفلسفية، إن لوجود الإنسان غاية تتمثل في اللذة المعرفية. فتحصيل المعرفة، هو السعادة التي وجد لأجلها الإنسان، وان الإدراك العقلي كلما ازداد علماً ومعرفة فإنه يزداد سعادة، حتى يصل الحال إلى السعادة القصوى عند بلوغه العقل الفعال.
فأرسطو كغيره من الفلاسفة يرى الإدراك هو سبب اللذة والسعادة[48]، وكلما تنامى الإدراك تنامت اللذة، حتى يكون تمام الإدراك كفيلاً بتحقيق كمال اللذة. مما يعني ان السعادة القصوى تتحقق في حال كمال العقل، وهو لا يتحقق إلا عبر الاتصال بالـعقل الـمفارق[49]، حيث الـتجرد عن المادة والطبيعة والإلتحاق بعالم الإلوهية الذي فيه النشوة والخلود، وهو ما يمثل غاية الفيلسوف.
وسواء لدى الفلاسفة أم العرفاء، فإن المعرفة تشكل غاية الإنسان وسعادته، وان أبلغ حالات السعادة هي معرفة الحق، مع الأخذ بعين الاعتبار ان الفلاسفة يحددون هذه المعرفة بالعلوم العقلية[50]، أما العرفاء فيحددونها بعلوم المكاشفة. وبالتالي فإن أرفع علوم المكاشفة هي معرفة الحق وصفاته وأفعاله، باعتبارها غاية قصوى تُطلب لذاتها وتُنال بها السعادة العظمى[51].
أو كما أشار إبن طفيل في حكايته (حي بن يقظان) إلى ان كمال الإنسان ولذته هو مشاهدة المبدأ الحق على الدوام مشاهدة فعلية من غير انقطاع حتى لا يتخللها ألم[52].
إذاً، بحسب هذه الرؤية تكون السعادة مطلوبة لذاتها والإنسان يكدح لطلبها ولا ينالها إلا بالحكمة أو العرفان، حتى يتجلى لعقله أو قلبه كل الكون، ويتشبه بالإله الحق، أو حتى يتحقق له الإتحاد بما فوقه من العقول المفارقة والمبدأ الحق. فهذا هو ما يعول عليه الفلاسفة والعرفاء بشكل أو بآخر.
فقد إعتبر الفارابي ان أقصى مراتب الكمال والسعادة التي يمكن ان يبلغها الإنسان هو ان يصير في مرتبة العقل الفعال (جبريل)، وذلك عند مفارقة الجسم والمادة تماماً[53].
وفي محل آخر قرر بأن سعادة الإنسان وكماله لا يحصلان عند بلوغ مرتبة ذلك العقل، بل دونه درجة، وذلك بتأمل حقائقه الأزلية. أما شقاء الأنفس الجاهلة فيحصل بسبب حرمانها عن كسب تلك الحقائق والاتصال بالعقل المفارق[54].
إضافة إلى ان هذا الفيلسوف إعتبر ان من عوامل زيادة الابتهاج والسعادة؛ هو ان النفوس الناطقة بعد الموت تتصل ببعضها للتشابه فيما بينها، فيعقل بعضها بعضاً على جهة اتصال المعقول بالمعقول، وكلما زاد عدد النفوس المجردة زاد تعقلها، ومن ثم زادت لذاتها وابتهاجها تبعاً لذلك. أي ان النفوس السابقة تزداد ابتهاجاً كلما لحقتها النفوس المقبلة التي تتجرد عن أبدانها، وتظل العملية آخذة على التوالي بالابتهاج إلى ما لا نهاية له بحكم الإتحاد بين النفوس المجردة. وتمثل هذه السعادة غاية ما يقصدها العقل الفعال[55].
كذلك رأى إبن سينا - هو الآخر - ان عقل الإنسان في الدنيا آخذ بالتدرج والتحول إلى مراحله العليا حتى تصبح المادة معيقة عن بلوغه أعلى درجات الكمال والسعادة، فتحصل المفارقة عن البدن كلياً عند الموت[56]. وهذا هو معنى القول بعودة النفس إلى أصلها الإلهي، أي تحقيق أعظم قدر ممكن من التجرد والإدراك بسبب مفارقة البدن، حيث تحصل اللذة والسعادة القصوى الأبد الدهر.
هكذا يتضح ان الفلاسفة يجعلون من أمر المعاد أمراً دالاً على ما له علاقة بكمال النفس من الناحية المعرفية والعقلية. وانطلاقاً من هذا الموقف فسّروا المسألة الدينية الخاصة بالثواب والعقاب، وكذا الايمان والكفر والجنة والنار، استناداً إلى وجود العلم والحرمان منه. فالجهل العلمي في الفلسفة يمثل سبباً أصيلاً لمختلف الكفر والعذاب والشقاء، حيث تدرك النفس ما يفوتها من كمال العلم فتعذّب بتلك الحسرة[57]. وعلى العكس، ان النفس حين تحصل على العلوم العقلية اليقينة فإن ذاتها تصير عقلاً قدسياً ونوراً إلهياً من حزب الملائكة المقربين[58]. وأكثر من هذا، إن الفلاسفة اعتبروا العلم باعثاً على السعادة والايمان؛ حتى مع عدم مزاولة العمل الصالح في الحياة[59].
غير أن هذه الاعتبارات تأتي على خلاف ما يراه أتباع النظام المعياري، إذ يرون أن سعادة الإنسان ونجاته تتوقف على طاعته لأوامر المكلِّف، وأن الطاعة والعبادة كما يريدها المكلّف هي القنطرة التي تفضي إلى نيل السعادة، بخلاف العصيان والجحود اللذين يؤديان إلى الهلاك. ووفقاً لهذا الفهم، يستخدم هؤلاء مفردات معيارية في الحكم على مخالفيهم، من قبيل: التضليل، والتكفير، والتفسيق.
أما أتباع النظام الوجودي، فإنهم ينظرون إلى المسألة من زاوية مغايرة، إذ يوظفون مفردات معرفية في توصيف مخالفيهم، مثل: التجهيل، وضيق الأفق العقلي أو الذوقي، وذلك بناءً على الغاية التي رسموها للإنسان، والتي تتمثل في بلوغ كمال العقل وسمو الذوق الشهودي.
وفي جميع الأحوال ان النفس بحسب الرؤية الفلسفية تنزع إلى معشوقها من حيث الطبع لتكتمل به، وهو كمال القوة العقلية التي ترتسم فيها صور نظام الوجود وحقائقه وما يترتب على ذلك من السعادة القصوى.
فإذا كانت هذه النفس لاهية عن هذا المعشوق بسبب لهوها بالمادة والبدن؛ فستصاب بالألم والعذاب عند المفارقة بموت البدن وتحررها منه. فمثَلها حينئذ كمثَل الخدر الذي يمنعنا من الشعور بالألم عند وجود ما يستدعي ذلك، لكنه يظهر عند زوال هذا الخدر، فيحصل العذاب. فالشقاوة - إذاً - هي لأولئك الذين لهم القوة العقلية واكتسبوا الشوق إلى كمالها من غير ان يحصلوا على شيء من فعل هذه القوة[60].
وعلى العكس من ذلك بالنسبة إلى النفس التي تبلغ حد الكمال من القوة العقلية، حيث إذا فارقت البدن فإنها تستكمل الكمال الذي تبلغه، إذ في ملابستها للمادة تكون مثل ذلك المصاب بالخدر؛ لا تشعر باللذة التامة والسعادة القصوى، وهي تشعر بذلك عند مفارقة البدن، كمن زال عنه الخدر[61].
مهما يكن فقد أسس الفلاسفة نظرياتهم في تفسير قضايا المعاد استناداً إلى المدارك المعرفية. فالجنة والنار وغيرهما هي تعابير يراد بها قوى الإدراك المعرفي للإنسان وما يترتب عليها من سعادة أو حرمان.
فمثلاً فسّر إبن سينا الصراط والجنة والنار وأبوابهما وما إليها؛ تبعاً لقوى الإدراك الحسية والخيالية والعقلية. فالجنة عنده هي العالم العقلي، والنار أو الجحيم هي عالم الخيال والوهم، والقبور هي عالم الحس. ويتم تحصيل الجنة أو السعادة القصوى من خلال المرور بالصراط الدقيق من الحس فالخيال والوهم ثم إلى العقل[62]. أي ان الجنة لا تتحقق إلا عبر المرور بعالم العطب والجحيم.
وقد كانت هذه الطريقة من التفسير موضع تأييد عدد من الفلاسفة، كالذي ذهب إليه صدر المتألهين، حيث رجح ما عليه الشيخ الرئيس في تفسيره لأبواب الجنة والنار[63].
وثمة من ذهب إلى ان عالم الكون والفساد هو نفسه جهنم، وذلك في قبال الجنة المتمثلة بعالم الأرواح المجردة، وان النفس التي تقصر عن الكمال تبقى في جهنم محرومة عن العالم العلوي، ولا تفارق عالم ما تحت القمر. فالآلام والأوجاع لا تلوح إلا النفوس المتعلقة بالأجساد، أما تلك التي تتجرد منها وتلتحق في عالم الأفلاك فإنها تكون بريئة من هذه الآلام. فالنفس إذا كان عشقها الكون مع الجسد الحيواني، وان معشوقها اللذات المحسوسة وشهواتها الجسمانية، فسوف لا تبرح هذا العالم الأرضي ولا تشتاق الصعود إلى الملكوت الأعلى، وبالتالي لا تدخل الجنة وتتحول إلى النفوس الملكية في عالم الأفلاك السماوية[64].
فهذا هو رأي اخوان الصفا الذين إعتبروا النفس الآثمة الشريرة تظل معذبة نفسياً، ونادمة عمياء في جهالاتها، وسائحة في قعر الأجسام المدلهمة دون فلك القمر، كل ذلك يجري لها بعد ان تفارق الجسد دون ان تصل إلى عالم الآخرة[65]، بل تبقى هائمة هاوية في عالم الكون والفساد بما يُطلق عليه ‹‹التناسخ››، حتى يتم تطهيرها ومن ثم مفارقتها لهذا العالم الحسي. وهم بذلك ينوهون بوجود العذاب النفسي دون الاعتقاد بالنار الحسية كما هو مصور لدى النصوص الدينية[66].
وأرى ان هذا الرأي لاخوان الصفا هو أقرب التصورات اتساقاً مع المنظومة الفلسفية، وذلك لاعتبارين: أحدهما ان حصر العذاب والشقاء في عالم الأجسام السفلية يتسق مع طبيعة هذا العالم مقارنة بالعالم العلوي السماوي، وحيث لا يوجد غيرهما؛ لذا فمن المنطقي ان يعد الأول نار جهنم، ويعد الثاني جنة الخلد. أما الاعتبار الآخر فهو ان الالتحاق بالعالم العلوي عبر مفارقة النفس للبدن لا بد ان يجعلها سعيدة كاملة باعتبارها قد أصبحت ضمن عالم النفوس والمفارقات السماوية، فمن أين يأتيها الشقاء؟! لذا كاد البعض ينكر العذاب باعتبار ان مفارقة النفس للبدن تعني كمال النفس، وما يبقى منها من كدورات يمكن ان يُمحى بالعذاب المحدود، كإن يكون هذا العذاب لأيام معدودات، ثم بعدها ترجع النفس إلى صورتها الحقيقية من الكمال، فتعود إلى حظائر القدس وحسن المآب[67].
إذاً، فالقول بمفارقة النفس للبدن يستلزم تحقيق غايتها من التجرد والالتحاق بأصولها العقلية المفارقة التي تضفي عليها السعادة والكمال. لكن الفلاسفة المسلمين لم يلتزموا بهذه النتيجة التي تترتب على منظومتهم الفلسفية، إذا ما استثنينا اخوان الصفا، ربما لاعتبارات دينية لا غير.
ولا شك ان الأمر لا يختلف كثيراً عما ذهب إليه العرفاء، حيث الغاية التي أكدوا عليها هي المعرفة والشهود، وانهم واجهوا في بعض الاعتبارات نفس الإشكالية المتعلقة بمسألة العذاب والشقاوة، تبعاً للنصوص الدينية، وإن كانت لديهم اعتبارات أخرى يمكن التعويل عليها في تبرير هذه المسألة.
[1] اسرار الايات، ص138.
[2] تهافت التهافت، ص578-579.
[3] لدى الفلاسفة المسلمين كثيراً ما حسبوا ان قوى العقل عبارة عن أربع، هي العقل الهيولاني والعقل بالفعل والعقل بالملكة والعقل المستفاد، وهناك تقارب بين العقلين المتوسطين، فقد قيل عن العقل بالملكة انه عبارة عن العلم بالمعقولات الأولى أو الضرورات، وان له استعداداً لاكتساب سائر المعلومات الأخرى. بينما الحال في العقل بالفعل هو ان تحصل فيه النظريات وتختزن، بحيث يمكن للنفس ان تستحضرها متى شاءت ‹‹من غير تجشم كسب جديد›› كالذي جاء في تعريفات الجرجاني (جميل صليبا: المعجم الفلسفي، ج2، ص85). وكذا جاء في تعريف السهروردي ان صفة العقل بالملكة هو ان يحصل للنفس المعقولات الأولى أو الضرورات، كما ان لها تحصيل سائر المعقولات بالفكر أو الحدس، في حين إن العقل بالفعل هو ان يكون للنفس ملكة على استحضار المعلومات الحاصلة متى شاءت من غير كسب جديد (جيرار جهامي: موسوعة مصطلحات الفلسفة عند العرب، مكتبة لبنان ناشرون، الطبعة الأولى، 1998م، ص496). فالفارق بين هذين العقلين، هو ان العقل بالملكة عبارة عن عقل كسبي، بينما العقل بالفعل عبارة عن عقل استحضاري.
[4] تهافت التهافت، ص578-579.
[5] تفسير ما بعد الطبيعة، ج3، ص1489-1490.
[6] إبن سينا: كتاب النفس من الشفاء، طبعة جامعة اكسفورد، لندن، 1959م، ص209. كما انظر مقدمة كتابه المباحثات، في: أرسطو عند العرب، ج1، ص120.
[7] نصير الدين الطوسي: رسالة قواعد العقائد، وهي منشورة خلف تلخيص المحصل، انتشارات مؤسسة مطالعات اسلامي، 1980م، ص465.
[8] إبن سينا: رسالة أضحوية في أمر المعاد، تحقيق سليمان دنيا، دار الفكر العربي بمصر، الطبعة الأولى، 1368هـ - 1949م، ص50-51 و55-57. كذلك: المبدأ والمعاد لصدر المتألهين، ص423-424.
[9] رسالة في دفع الغم من الموت، ص50.
[10] المبدأ والمعاد، ص114.
[11] اذ ذكر في (النجاة، ص712) بأنه يجب على النبي ان يقرر عند البشر أمر المعاد على وجه يتصورون كيفيته وتسكن إليه نفوسهم، ويضرب للسعادة والشقاوة أمثالاً مما يفهمونه ويتصورونه. وأما الحق في ذلك فلا يلوح لهم منه إلا أمراً مجملاً.
[12] انظر النجاة، ص682. والهيات الشفاء، ص423.
[13] إبن سينا: كتاب النفس من الشفاء، ص220 .
[14] مفاتيح الغيب، ص590.
[15] الطريحي: إبن سينا، بحث وتحقيق، مطبعة الزهراء في النجف، 1949م، ص175-176. والأسفار، ج9، ص115.
[16] المباحثات، في: أرسطو عند العرب، ج1، ص197-198.
[17] آراء أهل المدينة الفاضلة، ص118.
[18] السياسة المدنية، تحقيق وتقديم وتعليق فوزي متري نجار، المطبعة الكاثوليكية، 1961م، ص83.
[19] رسالة الدعاوي القلبية، ضمن رسائل الفارابي، ص10.
[20] انظر مقدمة حي بن يقظان.
[21] تهافت التهافت، ص84-93.
[22] المصدر السابق، ص586.
[23] المصدر نفسه، ص586.
[24] انظر مثلاً ما يقوله إبن سينا في: رسالة أضحوية في أمر المعاد، تحقيق سليمان دنيا، دار الفكر العربي بمصر، الطبعة الأولى، 1368هـ - 1949م، ص50-51.
[25] يقول صدر المتألهين: «إن الذي صرف النصوص الواردة في أخبار الآخرة عن ظاهرها ومؤداها وحوّل الآيات الدالة على أحوال القبر والبعث عن منطوقها وفحواها، وزعم أنها عقلية أو وهمية محضة، وليس لها وجود عيني؛ جهل أو تجاهل انه لو كان الأمر كما توهم وأوهم، لزم أن يكون تشريع الشرايع للاضلال والغواية لا للارشاد والهداية، ولم يعلم ان أولئك الهداة الصادقين المعصومين عن الغلط والخطأ قرروا، إن الذي قرر في نفسه العقايد الفاسدة ورسخ في ذاته العلوم الباطلة، كانت نفسه ظالمة جاهلة معذبة أبداً، إذ هي لا يزول عنها أبداً ولا يزول الملكات التي هي آثار الأفعال والأعمال قطعاً... فلو لم يكن مفهوماتها الظاهرة ومعانيها الأولية حقة، لكانت ضلالات وجهالات، ومن اعتقدها كان معذباً لما قرروه، فيلزم ان يكون ما اكتسبه الصلحاء والاتقياء لنيل الدرجات يوجب حرمانهم عن الجنات واللذات وأن لا يكونوا في الجنة أبداً ولم يكن لهم لذّات قطعاً» (المبدأ والمعاد، ص413-414).
[26] الأسفار، ج8، ص364.
[27] هناك من يرى وجود اثنتي عشرة قيامة، صورية ومعنوية، بحكم التطبيق بين عالمي الآفاق والأنفس، كالذي يذهب إليه حيدر الآملي في رسالته: المعاد في رجوع العباد (تصدير عام لكتاب الآملي: جامع الأسرار، ص4).
[28] مفاتيح الغيب، ص600-601.
[29] مفاتيح الغيب، ص612-613.
[30] الاعراف/ 29.
[31] مفاتيح الغيب، ص663.
[32] بهذا الصدد يقول صدر المتألهين: ‹‹وليس بواجب في كل فرد من الإنسان ان يحشر مع بدن من الأبدان، بل الكاملون في العلوم انما يحشرون إلى الله، مفارقين عن الأجسام بالكلية، منخرطين في سلك الملائكة المقربين›› (تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج8، ص86).
[33] تفسير صدر المتألهين، ج8، ص130.
[34] المصدر السابق، ج7، ص393.
[35] المصدر نفسه، ج8، ص55-56.
[36] مفاتيح الغيب، ص600.
[37] يقول صدر المتألهين بهذا الصدد: ان أمور الآخرة ‹‹موجودات خارجية وثابتات عينية.. وليست انها بحيث يمكن ان ترى بهذه الابصار الفانية البالية كما ذهب إليه الظاهريون، ولا انها أمور خيالية وموجودات مثالية لا وجود لها في العين، كما يراه الإشراقيون وتبعهم آخرون. ولا انها مجرد أمور عقلية أو مفهومات ذهنية، وليس بأشكال وهيآت مقدارية وصور جسمانية كما يراه جمهور المتفلسفين من اتباع المشائين. بل انها صور عينية جوهرية موجودة في الخارج لا في هذا العالم الهيولاني، بل في عالم الآخرة، وعالم الآخرة جنس لعوالم كثيرة كل منها أعظم من مجموع هذا العالم بما لا نسبة بينهما، ولكل نفس من الأخيار عالم عظيم الفسحة ومملكة أعظم مما في السماوات والأرض بعدة أضعاف›› (المبدأ والمعاد، ص427).
[38] ومن ذلك ما تلوّح إليه النصوص القرآنية التالية: ﴿انى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه..﴾ البقرة/ 259.. ﴿واذ قال ابراهيم رب ارني كيف تحيي الموتى، قال اولم تؤمن، قال بلى ولكن ليطمئن قلبي، قال فخذ أربعة من الطير فصرهن اليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزئاً ثم ادعهن يأتينك سعياً، واعلم ان الله عزيز حكيم﴾ البقرة/ 260.. ﴿والله انبتكم من الأرض نباتاً ثم يعيدكم فيها ويخرجكم اخراجاً﴾ نوح/ 17.. ﴿واذا القبور بعثرت علمت نفس ما قدمت واخرت﴾ الانفطار/ 4.. ﴿ايحسب الإنسان ان لن نجمع عظامه، بلى قادرين على ان نسوي بنانه﴾ القيامة/ 3-4.. ﴿وقالوا ءاذا كنا عظاماً ورفاتاً ءانّا لمبعوثون خلقاً جديداً، أو لم يروا ان الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على ان يخلق مثلهم﴾ الاسراء/ 98-99.. ﴿قل يحييها الذي انشأها أول مرة﴾ يس/ 79.
[39] صدر المتألهين: المبدأ والمعاد، ص375-376 و395-407. والأسفار، ج9، ص18-19 و32.
[40] الأسفار، ج9، ص379.
[41] ربما يستلهم صدر المتألهين - هنا - ويوظف ما سبق إليه افلوطين من تفسير الحركة في العالم العلوي.
[42] الأسفار، ج9، ص18.
[43] تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج6، ص407.
[44] مفاتيح الغيب، ص682. والأسفار، ج9، ص381-382ـ.
[45] صدر المتألهين: المبدأ والمعاد، ص3953. وتفسير صدر المتألهين، ج8، ص86.
[46] الأسفار، ج9، ص180.
[47] صدر المتألهين: كسر أصنام الجاهلية، حققه وقدم له محمد تقي دانش بژوه، مطبعة جامعة طهران، 1340هـ.ش. ـ 1962م، ص7 و60-61.
[48] تفسير ما بعد الطبيعة، ج3، ص1616
[49] المصدر السابق، ج3، ص1612.
[50] السهروردي: رسالة هياكل النور، مصدر سابق، ص93.
[51] تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج6، ص97.
[52] إبن طفيل: حي بن يقظان، طبعة دار الافاق الجديدة، ص183.
[53] كتاب السياسة المدنية، طبعة انتشارات الزهراء، ص32.
[54] آراء أهل المدينة الفاضلة، ص85.
[55] المصدر السابق، ص113 و114. كذلك: السياسة المدنية، ص82.
[56] إبن سينا: كتاب النفس من الشفاء، ص220.
[57] تلخيص المحصل، ص390. وأسرار الآيات، ص2-10. ومفاتيح الغيب، ص115. ومقدمة إبن خلدون، ص515.
[58] أسرار الآيات، ص28. وقد قال صدر المتألهين بهذا الصدد: ‹‹الذي يدل على ان العلم جنة والجهل نار، ان كمال اللذة في إدراك المحبوب، وكمال الألم في البعد عن المحبوب، فلذة الذوق عبارة عن إدراك الطعوم الموافقة للبدن... وأما النفس الناطقة الإنسانية فلذتها وكمالها في المعقولات الدائمة.. ولهذا قالت الحكماء: كمال النفس في ان يصير عالماً عقلياً مضاهياً للعالم الموجود، فإن العالم عالم بصورته لا بمادته›› (مفاتيح الغيب، ص110).
[59] لاحظ أسرار الآيات، ص4.
[60] النجاة، ص689-690. والهيات الشفاء، ص427-428.
[61] معارج القدس، ص151. ورسالة هياكل النور، مصدر سابق، ص93.
[62] إبن سينا: رسالة إثبات النبوات، حققها وقدم لها ميشال مرمورة، دار النهار، بيروت، 1968م، ص58-61. وتسع رسائل لابن سينا، ص89-90.
[63] أسرار الآيات، ص218.
[64] رسائل اخوان الصفاء وخلان الوفاء، أعداد وتحقيق عارف تامر، منشورات عويدات، بيروت، الطبعة الأولى، 1415هـ - 1995م، ج3، ص53-54.
[65] المصدر السابق، ج3، ص65-66.
[66] المصدر نفسه، ج3، ص66-67.
[67] تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج4، ص338.