يحيى محمد
سنبحث إشكالية الإرادة الإنسانية على ضوء كل من الرؤية الفلسفية والرؤية العرفانية، وذلك من خلال الفقرتين التاليتين:
أ ـ الحرية وفق الرؤية الفلسفية
بحسب الرؤية الفلسفية يعتبر المبدأ الحق محض علة واجبة من جميع الجهات، وان إرادته ليست زائدة على علمه، كذلك الحال مع قدرته. وهذا ما يجعلنا نعتبر الإرادة والقدرة هما في نهاية المطاف مجرد مجاز لا حقيقة لهما بالمعنى المتداول. لكن حيث ان حال العالم الإلهي ينعكس على ما تحته من العالم السفلي، ومنه العالم الإنساني، لذا كان الإنسان ليس بأفضل حال من العلل المفارقة التي أوجدته، ومنها علة العلل.
فالإنسان، وفقاً لمنطق السنخية، تابع في مساره ومصيره للعلة الأولى دون ان يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، حيث تتلاشى قدرته وإرادته وتصبح محض مجاز، وان مساره محكوم بفعل ما ينشأ من الحقائق العلوية للمفارقات، سواء نظرنا إلى المسألة بحسب مستلزمات العلية وضرورة تبعية المعلول لعلته، وكذا خضوع العوالم السفلية إلى حكم العوالم العلوية، وفق التصور الفلسفي.. أو نظرنا إليها بحسب ما عليه الأعيان الثابتة والأسماء الإلهية التي يتقرر بحسبها كل شيء، وفقاً للتصور العرفاني.. فسواء بهذا أم بذاك فإن المنظومة الوجودية عاجزة عن ان تجد مجالاً للإرادة والقدرة الحقيقية للإنسان وغيره من الكائنات.
ومع ان هناك محاولات فلسفية يائسة للبحث عن مبرر يحفظ مقالة حرية الإنسان، لدواعي نقلية، إلا انه توجد مقابل ذلك اشارات فلسفية صريحة تعترف بالطابع الجبري، دعماً للقول بعدم وجود فاعل في العالم سوى الحق تعالى.
فإبن سينا مثلاً، هو من المنكرين لحرية الإنسان، فكما قال في (النجاة): ‹‹ان الإرادات كلها كائنة بعد ما لم تكن، فلها أسباب تتوافى فتوجبها.. الإرادات تحدث بحدوث علل هي الموجبات، والدواعي تستند إلى أرضيات وسماويات، وتكون موجبة ضرورة لتلك الإرادة››[1].
وبدوره اعترف المحقق نصير الدين الطوسي بعجزه عن تفسير قول الإمام الصادق: ‹‹لا جبر ولا تفوبض بل أمر بين أمرين››. وعندما بحثَ في القرآن الكريم ليجد حلاً للمسألة، رأى في آياته ظواهر متعارضة، الأمر الذي دعاه إلى ترجيح مبدأ الوقف تبعاً لقوله تعالى ﴿وما يعلم تأويله إلا الله﴾[2].
مع هذا فإنه في رسالة (أفعال العباد بين الجبر والتفويض) عاد ليفسر المسألة بما لا يخرج عن المفاهيم الفلسفية، ولا يبتعد عن الشكلية الأشعرية، وذلك بجعل القدرة والإرادة غير حقيقيتين. فرأى انه إذا نظرنا إلى أسباب القدرة والإرادة فإن أصلها يكون من الله، وعند تحققهما فإن الفعل الإنساني يصبح واجباً، وعلى العكس، فإنه عند عدمهما يكون الفعل ممتنعاً، أما لو نظرنا إلى الفعل الإنساني فإنه يكون من العبد بحسب قدرته وارادته، ولهذا قيل (لاجبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين)، وبالتالي فالاختيار حق، والاسناد إلى الله حق، ولا يتم الفعل بأحدهما دون الآخر[3].
ونفس الإشكال السابق نجده لدى صدر المتألهين، حيث رأى ان حركات الإنسان وسكناته، هي وإن كانت بمشيئته أو اختياره؛ إلا ان هذه المشيئة تكون بقضاء الله وقدره، أي بأسباب خارجية تجعل المشيئة والاختيار على ما هما عليه من الفعل الوجودي دون مخالفة، وان الإنسان - على هذا - مضطر في جميع الأحوال. لكن كيف يكون العبد مضطراً ومختاراً في الوقت ذاته؟
لقد أجاب صدر المتألهين على ذلك، بأن العبد مجبور في عين اختياره، ومختار في عين اضطراره، وشبّه الحال بعلاقة النفس بالحواس، ففعل كل حاسة هو في الوقت ذاته فعل للنفس ذاتها. فالنفس بعينها تكون عيناً باصرة، وأُذناً سامعة، ويداً لامسة، وأنفاً شاماً، ولساناً ذائقاً. وكذا الأمر مع علاقة الفعل الإلهي بفعل العبد، فلا يكون من الجارحة فعل إلا بإرادة النفس، وهذه الإرادة لا تنشأ من ذاتها بل من إرادة الله تعالى، حيث انه يخلق في النفس إرادة ومشيئة، فمثلما ينشأ من النفس في العين الباصرة شعاع تدرك به الألوان والأضواء، وكذا في الأُذن السماعة قوة تدرك بها الأصوات؛ فكذا يخلق الله في النفس إرادة وعلماً تدرك الأمور وتتصرف فيها، وبذلك يُفسر قوله تعالى: ﴿وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى﴾[4]، حيث سلب الرمي عن الرامي من حيث أثبته لله، وكذا قوله تعالى: ﴿قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم﴾[5]، إذ نسب القتل إليهم والتعذيب إلى الله بأيديهم، وما التعذيب إلا عين القتل، الأمر الذي يدل على ان كل فعل في الوجود انما هو فعل الواجب الحق[6]. إذ لا يتقدم متقدم، ولا يتأخر متأخر، إلا بالحق واللزوم. وعلى رأيه انه لو لم يكن الأمر كذلك لكانت المعاصي والجرائم الصادرة من الأشقياء، إن كان الله يكرهها ولا يريدها، جارية على وفق مراد ابليس، مع انه عدو الله. ثم ان القبائح أكثر من الحسنات، والمعاصي أكثر من الطاعات، فيكون الجاري على وفق إرادة العدو أكثر من الجاري على وفق إرادة الله، وهو ما لا يليق برئيس قرية؛ فكيف يليق بالملك الجبار.
وعليه انتهى صدر الحكماء إلى أن الإرادة الأزلية قد تعلقت بنظام العالم على هذا الوجه العام، وان ما يحصل من المعاصي والشرور انما هو بقضاء الله وقدره وفق الأسباب الموجبة لذلك، وان العقوبة التي تترتب على هذه المعاصي والشرور هي من اللوازم والتبعات المتصلة دون ان تعود إلى معاقب مستقل ومنفصل خارجي[7].
لكن من المفارقات المفضوحة، ان هذا الفيلسوف اعترف - في بعض المناسبات - بالجبر ليبرر من خلاله نفي العذاب المؤبد، فصرح يقول: ‹‹ولك ان تقول: قد قام الدليل العقلي على ان الباري سبحانه لا ينفعه الطاعات ولا يضره المخالفات، وان كل شيء جار بقضائه وقدرته، وان الخلق مجبورون في اختيارهم فكيف يسرمد العذاب عليهم››[8].
وبلا شك ان مضمون هذا النص لا يتسق مع رأيه السابق الذي عزا فيه العقوبات إلى لوازم الأعمال، ولا شأن لها بالمعاقب الخارجي. يضاف إلى ان المدقق في النص المذكور يجد فيه ملامح الاعتبارات المعيارية التي لا تتناسب مع نظيرتها الوجودية.
ب ـ الحرية وفق الرؤية العرفانية
أما على صعيد الرؤية العرفانية، فقد ذهب بعض العرفاء المعاصرين إلى ان الموجودات لما كانت مجرد تعلقات وروابط بالمبدأ الحق؛ فإن صفاتها وأفعالها وآثارها هي أيضاً كذلك. فمع ان فعل العبد راجع إلى ذاته، لكنه في الوقت نفسه يمثل فعل المبدأ الحق. إذ إن العالم عبارة عن ربط وتعلق محض ظهور قدرة الحق وارادته وعلمه وفعله. وقد اعتُبر هذا الفهم هو المقصود من مقالة (المنزلة بين الجبر والتفويض) أو (الأمر بين الأمرين)، واليه الإشارة بالآية القرآنية: ﴿وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى﴾[9]، وكذا الآية: ﴿وما تشاؤون إلا ان يشاء الله﴾[10]، فالنص الأول دال على ان الرمي كان بحول الله وقوته، كذلك دلّ النص الأخير على ان مشيئة العباد انما هي عين مشيئة الحق[11].
وعلى وجه العموم، من الممكن انتزاع آلية الجبر أو الحتمية من الفهم الوجودي للعلم الإلهي، إذ إن نظام الكون تابع لإرادة الحق وعلمه. فتعلّق علم الحق هو مبدأ لمعلوماته، فهي تابعة لعلمه، بخلاف العلوم الانفعالية. وذلك لأن العلم والإرادة والقدرة كلها تمثل شيئًا واحدًا بسيط الحقيقة، هو الوجود الصرف، ومحض الفعل والكمال. وهذا يعني أن الأمور تتنزل على صورة ما هو معلوم ومراد في ذلك العالم العلوي. وبالتالي، كيف يجوز لنا الحديث عن إرادة الإنسان وحرية اختياره، وهو محكوم تحت سلطة العلم الإلهي، وهو العلم الذي صفته لا تنحصر في التصور والشهود فحسب، بل تشمل الفعل المطلق أيضًا؟
وقد أجاب بعض العرفاء على هذا الإشكال بأن أول ما صدر عن الحق تعالى هو العقل المجرّد، أو الروحانية البسيطة، المعبّر عنها بنور نبينا محمد (ص)، إذ تمثل ظهور مشيئته وإرادته. كما أن الطبيعة هي يد الله المبسوطة التي خلق بها آدم، استنادًا إلى ما جاء في الحديث القدسي: ‹‹خمّرت طينة آدم بيديّ أربعين صباحًا››. فرغم أن الموجودات تمثل ظهورًا للحق تعالى، إلا أن لها آثارًا تتسق مع ما للحق من آثار. فالإنسان، مع كونه فاعلًا مختارًا، هو ظلّ الفاعل المختار، كما يدل عليه النص القرآني: ﴿وما تشاؤون إلا أن يشاء الله﴾. وبالتالي، فإن تعلق الإرادة الإلهية بالنظام الأتم، وكذلك علمه بالعناية، لا ينافي اختيار الإنسان وفاعليته[12].
ومع ما لهذا الجواب من أصالة تتسق مع منطق السنخية، إلا أنه لا يفي بالإقناع؛ ذلك أنه إذا كانت إرادة الحق عين علمه، كما هو متبنّى في المنظومة الوجودية، فإن هذا الحال يجعلها مفرغة من الإرادة الحقيقية، حيث تغيب حرية الاختيار. وإذا كان هذا الأمر يصدق على إرادة الحق، فمن الأولى أن يصدق على الإرادات الأخرى بالمشاكلة والظلية.
اعتبارات إنكار الإرادة الإنسانية
للرؤية العرفانية عدد من الاعتبارات المتداخلة التي تدعو إلى انكار إرادة الإنسان وحرية اختياره.
فمنها ما يماثل ما لجأ إليه الفلاسفة في تفسيرهم للعلم الإلهي وعلاقته بالمشيئة والإرادة، ومنها ما يعود إلى مفهوم وحدة الوجود الشخصية. كما يتعلّق بعضها بدور الأسماء الإلهية، وأخيرًا هناك الاعتبار العائد إلى نظرية الأعيان الثابتة، وهو من أهم هذه الاعتبارات.
ويمكن تبيان هذه الاعتبارات بحسب الفقرات التالية:
الاعتبار الأول:
بحسب هذا الاعتبار، نفى العرفاء أن تكون للمبدأ الحق مشيئة ممكنة، بحيث إن شاء فعل وإن شاء ترك، وذلك لأن مشيئته أحدية التعلق، وهي نسبة تابعة للعلم، والعلم هو بدوره نسبة تابعة للمعلوم، والمعلوم هو أنا وأنت وما نحن عليه من أحوال.
فالاختيار في المبدأ الحق تعارضه وحدانية المشيئة، إذ ليس للحق في نفس الأمر إلا أمر واحد، يتحدد بحسب ما عليه القابل، وهو ما تتقوم به الهداية أو الضلال[13]. فعلى رأي إبن عربي، ان وصف الحق بالاختيار لا ينسجم مع وحدانية مشيئته، إذ نسبته إلى الحق، إذا وصف بالاختيار، إنما تصدق بحسب ما عليه الممكن، لا بحسب ما عليه الحق ذاته[14].
وهذا هو عين ما أكد عليه الفلاسفة، حيث ان مفهوم المشيئة لدى المبدأ الحق ليس زائداً على مفهوم العلم والايجاد، كما ان قدرته هي عين علمه[15].
الاعتبار الثاني:
وبحسب ها الاعتبار، إنه لما كانت المخلوقات المتباينة الذوات قد جمعتها حقيقة وحدانية الذات الإلهية بالوجود الجمعي، وحيث ان هذه الذات انبسطت على هياكل هذه الموجودات التي هي عين الذات، لذا فإن الأفعال الصادرة عن الكل؛ انما هي صادرة عنها من هذا الوجه المنسوب إلى الحق. فكما ان وجود زيد شأن من شؤون الحق، فكذلك فعله وصفاته من صفات الحق، مما يصدق عليه النص القرآني: ﴿وما تشاؤون إلا ان يشاء الله﴾ حيث أثبت المشيئة للعبد ثم نفاها عنه. فالفعل للعبد، بل للحق تعالى[16].
ولا شك أن هذه العينية والمطابقة لا تترك لحرية العبد دورًا من الاستقلال النسبي أو الانفصال، مما يجعلها غير قابلة لتبرير مسألة التكليف وما تقتضيه من مسؤولية.
الاعتبار الثالث:
في هذا الاعتبار، تُعد الأشياء الخارجية مقهورة تحت ظل سلطة الأسماء الإلهية التي تحركها بما تشاء[17]. والعلاقة بينهما هي ذات العلاقة بين الماهية والوجود، فالأشياء محكومة بسلطة الأسماء بوصفها وجودات وأربابًا، وبسلطة الأعيان بوصفها حقائق وماهيات.
أو قل ان لكل إسم إلهي صورة في العلم هي العين الثابتة، وكذا ان له صورة خارجية هي مظهر تلك العين، وان الإسم هو رب هذا المظهر وعلة ثبوت تلك العين. مما يعني ان الأشياء تظل تابعة لأربابها الخاصة بما تستلزمه من أعيانها الثابتة
وبعبارة أخرى، إن لكل اسم إلهي صورة في العلم تمثل العين الثابتة، وله أيضًا صورة خارجية هي مظهر لتلك العين، وإن الاسم هو ربّ ذلك المظهر وعلة ثبوت تلك العين. وهذا يعني أن الأشياء تظل تابعة لأربابها من الأسماء، بما تقتضيه من أعيانها الثابتة، لا تزيد على ذلك ولا تنقص، أزلاً وأبداً.
الاعتبار الرابع:
أما هذا الاعتبار، فيربط كل ما يقع من اختلاف بين الناس، سواء في التكوين أو السلوك، باختلاف سابق في عالم القضاء العلوي، المتمثل في الأعيان الثابتة، وهي الموصوفة بأنها ليست مجعولة ولم تشم رائحة الوجود. فاختلافها انما بحسب حالها وقضائها الأزلي، أو انها من حيث ذاتها تمثل محض القابلية للفعل الإلهي دون ان يكون لها وجود في الخارج، لكنها تتقبل سريان الفيض عليها، فينعكس ذلك في وجود الأشياء التي تمثلها بما هي عليه من تضاد واختلاف.
لهذا قام العارف الآملي بتفسير آية الاختلاف: ﴿ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ولذلك خلقهم﴾[18]؛ انطلاقاً من ان المبدأ الحق قد خلق الناس للاختلاف بسبب ما كانوا عليه مختلفين في الحضرة العلمية من الأعيان الثابتة أزلاً. وهو ما يعني أن ما يُشاهد من نقص وتفاوت في الخلق؛ لا يُعدّ اعتراضاً على المبدأ الحق، إذ ليس للحق إلا افاضة الوجود على تلك الماهيات، حيث لسان حالها طلب الخروج من ظلمة العدم؛ فجاد عليها بفيضه وفقاً لقابلياتها، وذلك لاستحالة العطاء أكثر من القابلية.
وقد استشهد الآملي بما قاله إبن عربي: ما يحكم علينا إلا بنا، بل نحن نحكم علينا بنا ولكن فيه، فلذلك قال تعالى: ﴿فلله الحجة البالغة﴾، وهو رد على المحجوبين إذ قالوا: لِمَ فعلت كذا وكذا بما لا يوافق أغراضهم؟ لكن الحق كشف لهم عن ساق، فرأوا ان الحق ما فعل لهم ما ادعوه انه فعله، بل ان ذلك منهم ‹‹فانه ما علمهم إلا ما هم عليه، وبذلك دحضت حجتهم وبقيت الحجة لله البالغة.. فلا تحمدن إلا نفسك ولا تذمن إلا نفسك.. أما الحق فلم يبق له إلا ان تحمده على افاضة الوجود عليك، فإن ذلك لا لك، فأنت غذاؤه بالاحكام، وهو غذاؤك بالوجود[19]، فتعين عليه ما تعين عليك، وهو حكمك بالأمر منه اليك، ومنك إليه غير انك تسمى: مكلفاً، وما كلفك إلا بما قلت له: كلفني بحالك، وبما أنت عليه، ولا يسمى مكلَّفاً إذ لا كلفة عليه››[20].
وبالتالي تصبح حقائقنا الأصلية هي الحاكمة علينا، بل وحاكمة على الحاكم الحق، وكما قال إبن عربي: ‹‹فالمحكوم عليه بما هو فيه حاكم على الحاكم ان يحكم عليه بذلك››[21]. واستشهد على ذلك بعدد من الآيات القرآنية، مثل قوله تعالى: ﴿وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾[22]، وقوله: ﴿ما يبدل القول لدي وما انا بظلام للعبيد﴾[23]، وقوله: ﴿ولو شئنا لاتينا كل نفس هداها﴾[24]، وقوله: ﴿أفمن حق عليه كلمة العذاب﴾[25]. إذ تدل هذه الآيات على ان الخلائق ليست محكومة بفعل حاكمية المبدأ الحق، وانما بفعل حاكمية الأعيان الثابتة وجبريتها[26]، وذلك ‹‹ان الممكن قابل للهداية والضلالة من حيث حقيقته فهو موضع الانقسام وعليه يرد التقسيم، وفي نفس الأمر ليس لله فيه إلا أمر واحد وهو معلوم عند الله من جهة حال الممكن››[27].
وعلى هذه الشاكلة جاء في تفسير القيصري لقوله تعالى: ﴿فلا تلوموني ولوموا أنفسكم﴾[28]، هو ان الحجة في هذه الآية قامت عليهم، باعتبار ان أعيانهم قد اقتضت ما هم عليه من ضلالة وعقاب[29]، وبالتالي فالحاكم علينا هو أعياننا، وليس للحق إلا افاضة الوجود على مقتضى الأعيان، فلا يوجد في الوجود إلا ما اعطته الأعيان الثابتة بحسب مقتضى ذاتها من الاستعداد والقابلية لا أكثر ولا أقل من ذلك[30].
هكذا يصبح الحمد والذم متعلقاً بذات الممكنات لا المبدأ الحق، فلا يُحمد الحق إلا على ما أفاضه من وجود، أما تعيين الحقيقة وتقديرها فلا يعود إليه، بل إلى تلك العين الثابتة في القضاء الأزلي، والتي يتعين بها مصير أفعالنا. فكل ما يصدر عنا من خير وشر، وما يستتبع ذلك من الثواب والعقاب؛ إنما يعود إلى حقائقنا الأزلية الثابتة في العلم الإلهي، أو ما تُعرف بالأعيان الثابتة.
وعليه فالتكليف نابع من هذه الأعيان، فهي تعبّر عن استعدادها للفعل المحتوم، رغم انه لا يقال عن ذلك تكليف إلا مجازاً، إذ الأعيان هي الحاكمة علينا، بل وعلى وجود الرسالة والدعوة والتشريع، فالمكلِّف (النبي) والمكلَّف كلاهما يعملان بحسب ما عليه أعيانهما من الأمر المحتوم، واما الحق فليس له صلة بذلك إذا ما استثنينا الفيض والايجاد.
وكما يرى أحد العرفاء المعاصرين ان عين العاصي المكلف تقتضي العصيان وتقتضي إجراء الحد عليه، وكذا ان عين النبي تقتضي بدورها الدعوة وتبليغ الحجة بالتكليف، بمقتضى عينه الثابتة أيضاً[31]. فعملية التكليف كلها تعود إلى الأعيان الثابتة، وليس للحق شأن في ذلك سوى اخراجها من حيز القابلية والعدم إلى الوجود، وهي عملية أشبه باظهار الصورة السينمائية عن ظلمة لفيف الفلم. فالمكلِّف ليس هو الله، بل لا يوجد مكلِّف ولا مكلَّف، انما هو الأمر المحتوم الذي يتمثل في أعياننا الثابتة. لذلك وصفها السيد الآملي بأنها هي الخالقة لنا ولكل شيء.
فهذا هو سر القدر، وهو ان الأشياء هي التي تحكم نفسها، وعلى قول إبن عربي ان ‹‹من وقف على سر القدر، وهو ان الإنسان مجبور في اختياره، لم يعترض على الله في كل ما يقضيه ويجريه على عباده وفيهم ومنهم››. وذكر في كتابه (المشاهد القدسية) ان الحق قال له: أنت الأصل وأنا الفرع››[32].
ولإبن عربي تعبير آخر نفى فيه كل ما يوصف من جبر واختيار واضطرار، حيث ان ‹‹المختار هو الذي يفعل أمراً ما إن شاء، ويتركه إن شاء، وسبق العلم بالفعل أو بالترك تخيل وقوع ما لم يسبق به العلم، فالاختيار محال والمضطر هو المجبور على الأمر، ولا جبر فلا اضطرار ولا اختيار››[33].
***
هكذا ننتهي إلى ان وجود عدد من المبررات الوجودية لا تسمح بأن يكون للعبد القدرة وحرية الاختيار، ويمكن اجمالها كالتالي:
1ـ سلطة العلية الصارمة التي تتحكم في الوجود انطلاقاً من مبدأ الوجود الأول إلى آخر مرتبة وجودية. ومنها تحكم عالم المفارقات العلوية بالعالم السفلي دون ان يكون لهذا الأخير أي دور مستقل تبعاً للمنطق الصارم من العلية.
2ـ التصور الوجودي للعلم الإلهي وعلاقته بكل من الإرادة والقدرة والمشيئة الإلهية.
3ـ التصور الوجودي للأعيان الثابتة ودورها في تحديد المسار الشخصي لكل الخلائق.
4ـ دور الأسماء الإلهية التي تتحكم في الوجودات، كأرباب وعلل ثابتة، والتي لا تدع فرصة لإرادة مربوباتها واختياراتها.
5ـ التصور العرفاني لوحدة الوجود الشخصية، وما يفضي إليه من التطابق بين الحق والخلق، حيث فيه لا يكون للإنسان واختياراته أي دور مستقل.
6ـ تبعية الإنسان لما عليه المبدأ الحق، وحيث ان هذا الأخير لا يخضع لمنطق حرية الاختيار، فإنه من باب أولى ان لا يخضع الإنسان لهذا المنطق تبعاً لاعتبارات السنخية.
هذه هي مبررات نفي حرية اختيار الإنسان. والتي يلزم عنها نفي التكليف، فيصبح ما نعدّه تكليفاً لا يتجاوز السلوك الحتمي؛ فلا يستحق المدح والذم، أو الثواب والعقاب.
مع ذلك فقد اعترف إبن رشد في تفسيره للقضاء والقدر بهامش من القدرة والإرادة، لكنه لم يفعل ذلك بحسب الاعتبارت الوجودية، بل تجاوزها وأخذ يتمعن في النظر إلى الواقع الموضوعي، فأفضى به الحال إلى خرقه للمنظومة الفلسفية التي تؤكد على ضرورة حاكمية العالم العلوي لعالمنا الأرضي. إذ سعى للتوفيق بين إثبات إرادة الإنسان من جهة، وتأثير العوامل الجبرية الخارجية والداخلية للواقع الموضوعي من جهة ثانية، فمنها ما هو محفز على الفعل الإنساني، ومنها ما هو مثبط له، وبذا تتكون الأفعال الإنسانية تبعاً للتقيد بكل من الإرادة وتلك العوامل أو الأسباب[34].
فهذا هو فهم إبن رشد للقضاء والقدر، حيث يلاحظ انه لم يتورط في علاج المسألة وفقاً لمفاهيم المنظومة الوجودية التي تقتضي حاكمية العالم العلوي للعالم السفلي.
[1] لاحظ النجاة، فصل (في المبدأ والمعاد بقول مجمل).
[2] آل عمران/ 7. انظر: تلخيص المحصل، ص333.
[3] الطوسي: رسالة أفعال العباد بين الجبر والتفويض. أيضاً: تلخيص المحصل، ص477.
[4] الانفال/ 17.
[5] التوبة/ 14.
[6] صدر المتألهين: رسالة جبر وتفويض، ص9 و12-13.
[7] تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج5، ص197-199.
[8] الأسفار، ج9، ص353.
[9] الانفال/ 17.
[10] الإنسان/ 30.
[11] روح الله الموسوي الخميني: طلب وارادة، ص73.
[12] طلب وارادة، ص126.
[13] شرح الفصوص، ص353-355. ومطلع خصوص الكلم، ج1، ص371. علماً ان ما ذكرناه يعود في الأصل إلى إبن عربي، وقد نسبه الشيخ الاحسائي إلى الفيض الكاشاني (لاحظ: شرح الزيارة الجامعة الكبيرة، ج1، ص85).
[14] الفتوحات، مصدر سابق، ج1، ص217-218.
[15] صدر المتألهين: رسالة أجوبة المسائل، ضمن رسائل فلسفي، ص131.
[16] تحفه، ص299-300.
[17] إبن عربي: لطائف الأسرار، حققه وقدم له أحمد زكي عطيه وطه عبد الباقي سرور، دار الفكر، الطبعة الأولى، 1380هـ - 1961م، ص90-91.
[18] هود/ 118ـ119.
[19] المقصود من عبارة ‹‹فانت غذاؤه بالاحكام، وهو غذاؤك بالوجود›› هو كما شرحها القيصري: اذا كان الحكم لك في الوجود فأنت غذاء الحق، لظهور الأحكام الوجودية اللازمة لمرتبتك فيك، والحق غذاؤك بافاضة الوجود عليك، واختفائه فيك اختفاء الغذاء في المغتذي، واطلاق الغذاء هنا على سبيل المجاز، فإن الأعيان سبب ظهورات الأحكام الوجودية وبقائها، والحق سبب بقاء وجود الأعيان، كما ان الغذاء سبب بقاء المغتذي وقوامه وظهور كمالاته، ولكون الغذاء يختفي بالمغتذي جعل الحق غذاء الأعيان، فإنه اختفى فيها واظهرها، وجعل الأعيان غذاء الحق، لظهور الحق عند اختفاء الأعيان وفنائها فيه (مطلع خصوص الكلم، ج1، ص374).
[20] أسرار الشريعة، ص18-20. كذلك شرح الفصوص، ص23. والفصوص والتعليقات عليه، ج1، ص82-83. ومطلع خصوص الكلم، ج1، ص374-375.
[21] نقد النقود، مصدر سابق، ص683.
[22] النحل/ 118.
[23] ق/ 29.
[24] السجدة/ 13.
[25] الزمر/ 19.
[26] الفصوص والتعليقات عليه، ج1، ص40.
[27] الفتوحات المكية، ج1، ص218.
[28] ابراهيم/ 22.
[29] مطلع خصوص الكلم، ج1، ص209.
[30] المصدر السابق، ج1، ص369.
[31] روح الله الموسوي الخميني: تعليقات على شرح فصوص الحكم، مؤسسة باسدار اسلام، ايران، الطبعة الأولى، 1406ه 01هـ، ص177.
[32] محمود محمود الغراب: الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي، دار الفكر، دمشق، ص213.
[33] كتاب المسائل، من رسائل إبن عربي، ج1، ص28.
[34] إبن رشد: الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، تحقيق وتقديم محمود قاسم، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الثانية، ص226-227.