-
ع
+

المرجعية والتخصصية المؤسسية

يحيى محمد

 

لم يشهد تاريخ الامامية ازمة حقيقية كما شهدتها السنوات الاخيرة الماضية. فبفعل التطورات التي ادت إلى انشاء دولة تسعى لأن تحكم بالشريعة الإسلامية، كما وبفعل ضغوط الحاجة، فان الازمة كانت مزدوجة تمس كلاً من نظام المرجعية ونظام الحكم معاً.

 

فعلى الصعيد الاول رغم أن للمرجعية تاريخاً عريقاً وحافلاً بالمحافظة والثبات في علاقة الانسان العامي بالفقهاء كأفراد، الا  ان ذلك لم يصنها عن التعرض لعدة هزّات خطابية من النقد الاصلاحي خلال القرن العشرين، كان اهمها المقترح الذي سعى لتبديلها من هيكلية قائمة على شخص المرجع وحده في تلبية الحاجات الدينية للمجتمع الاسلامي، إلى مؤسسة يشترك فيها المرجع الاعلى ووزراؤه الفقهاء لتلبية تلك الحاجات العملية.

 

وهناك نزاع مماثل قد دار حول نظام الحكم، اذ استقطب طرفين أحدهما يتمثل بالهيكلية الفردية المطبّقة تحت عنوان ولاية الفقيه المطلقة، أما الاخرى فهي صيغة تقترح ايجاد ولاية لشورى الفقهاء بدل الفقيه الواحد.

 

ومع وجود الفارق بين المسألتين (المرجعية ونظام الحكم)، الا ان العلاقة بينهما وثيقة للغاية، لا فقط على الصعيد العلمي، اذ ان الاستدلال على الاعلمية في المرجعية وعلى ولاية الفقيه في الحكم مستمدة في بعض الجهات مما يتعلق برؤية الاعلم في القضاء وحسم المنازعات والحكومة، كما في مقبولة عمر بن حنظلة ورواية داود بن الحصين وبعض اقوال الامام علي (ع) في عهده لمالك الاشتر.. بل حتى فيما يخص علاقتهما على صعيد الواقع، فأي تفريق بينهما يفضي إلى التفكيك بين الديانة والسياسة، فقد ينشأ بينهما تعارض يتحول إلى ازمة اجتماعية، اذ يصبح المقلدون مشدودين لحبلين متقاطعين احدهما يدعوهم لاتباع سياسة الحاكم الذي ينقادون تحت لوائه، والآخر يفرض عليهم اتباع المرجع الذي يقلدونه، كما هو ملاحظ في ظل الدولة الإسلامية في ايران.

 

ان اخذ اعتبار العلاقة الوثيقة بين المرجعية والحكم يجعل الانسجام بين اطراف الصور المقدمة لكل منهما قائماً. فنظام المرجعية الفردي يتسق تماماً مع ولاية الحكم المطلقة للفقيه، كذلك فإن الطرح المؤسسي للمرجعية يتسق بدوره مع نظام شورى الحكم للفقهاء.

 

وطبقاً لهذا الانسجام بين المرجعية والحكم؛ يتصف المشكل الذي يعتريهما بأنه مزدوج، فما يصيب الاول يصيب الثاني، وكذا العكس. لكن حيث ان المرجعية تمثل الجانب التشريعي للحياة الاسلامية، وان نظام الحكم هو الجانب التنفيذي لها، وحيث ان المشكل في الجانب التشريعي مقدم على المشكل في الجانب التنفيذي لتقدم الاول على الثاني، لذا فمشكلتنا الاساسية تتعلق بنظام المرجعية ذاته.

 

مبدئياً لا يعنينا - في هذا المقال - بحث المشكل الذي يواجهه نظام المرجعية الفردي على الصعيد العملي. اذ نعتقد بأن هذا النظام آخذ بالضيق مع تطورات الحياة يوماً بعد آخر، وبالتالي فما يعنينا هو بحث المشكل الذي سيواجهه النظام المؤسسي حين تتاح له فرصة التنفيذ والتطبيق، اذ سيجد نفسه عاجزاً عن الوقوف مدة طويلة أمام تحديات الحياة وتطورات الواقع. فهو يقدم ورقة لاصلاح الجانب العملي للمرجعية دون أن يرفقها بورقة اخرى للاصلاح العلمي، سيما وان عصرنا الحاضر قد فرض نظام التخصص لمختلف العلوم التي يعجز الفرد عن استيعابها سعة ودقة.

 

وبعبارة اخرى، رغم تقديرنا لضرورة نظام المرجعية المؤسسية، بل واعتقادنا بأن المستقبل سيفتح لها آفاق النور، إلا أن ضغوط الواقع وتطورات الحياة تجعل من هذا النظام يقف عاجزاً عن سد الحاجات والمتطلبات العلمية المناسبة. فليس من المعقول على الفقيه أو مجموعة الفقهاء ان يغطوا كافة نواحي الفقه سعة ودقة ليلامسوا الحياة العصرية كما هي وبعيداً عن ملامسة حياة اخرى لأمة سبقتنا بعدة قرون. نعم، ليس من المعقول أن يجيب هذا النظام على التساؤلات التي تفرضها العلوم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنفسية وغيرها، ما لم يكن هناك نوع من التخصص العلمي يعمل طبق ميزان العلاقة الجدلية بين الواقع والفتوى.

 

ولا ينفع ما قد يقال بأن من الممكن الاستفادة من اصحاب الخبرات دون حاجة للتخصص الدقيق. اذ بالاضافة الى ما قد يخلقه هذا الوضع من ثغرة يتسلل من خلالها ذوو المنافع الخاصة لتوجيه المرجعية بغير الاتجاه الذي نذرت نفسها لأجله، بتصوير الواقع على خلاف ما هو عليه، فكذلك ان المرجع ـ فرداً أو جماعة ـ سوف يعجز عن أن يتفهم الواقع كما هو ما لم يتعايش مع الواقع بإلفة ودراية. وبالتالي فكما أن الضرورة وضغوط الحاجة الزمنية تقتضيان النظام المؤسسي، فكذا أنهما تقتضيان التخصص وفهم الواقع عن كثب.

 

قد يتصور البعض بأن المسألة لا تحتاج لشيء غير توزيع المهام الفقهية وعلاقتها بالموضوعات الخارجية المستحدثة، مما يعني أن المسألة لا تختلف عن جوهر الممارسة الاجتهادية بصورتها التقليدية سوى توزيع المهام والتخصص.

 

لكن الصحيح هو أن هذه العملية تُحدث تغييراً جوهرياً على طريقة البحث الفقهي، لكونها تضيف للبحث عناصر هامة تتعلق بحقائق الواقع واعتباراته المختلفة؛ والتي يحتاجها الفقيه ليحدد موقفه من الحكم الشرعي، ليس على مستوى تحديد موضوع الحكم بدقة فحسب، بل الاهم من ذلك مراعاة ما يفرضه الواقع من حقائق تفوق جميع الاعتبارات الاخرى، فما زال الواقع غريباً عن البحث الفقهي رغم الإثراء الذي يمكن أن يحدثه على الممارسة الاجتهادية ونتائجها.

 

ومن أبسط نتائج ما يحدثه الواقع من إثراء؛ ما يتعلق بتحديد سن اليأس عند المرأة، اذ الاعتقاد الفقهي يفرّق جوهرياً في جانب من جوانب التركيب الطبيعي للخلقة بين المرأة القرشية والعامية، إذ يجعل من مدة اليأس لدى الأولى أطول من الأخرى بمقدار لا يزيد عن عشر سنين[1]. كما ألحق المفيد بالقرشيات النبطية، وتبعه في ذلك جماعة من الفقهاء، لكن على حد قول الشهيد الثاني أنه ليس هناك خبر مسند لهذا الإلحاق[2].

 

ومع أن هذا الإعتقاد يعد غريباً باعتباره يضع فارقاً فريداً لنوع الجنس البشري تبعاً للنسب الديني أو العرقي؛ الا ان تاريخ الفقه يشهد غياباً تاماً لأي تحرٍّ قام به العلماء لفحص الواقع والتأكد من القضية إلى يومنا هذا. وربما يكون الفقيه المعاصر الخوانساري (المتوفى سنة 1405) الوحيد الذي شكك بهذا التمييز من حيث الواقع، إذ اعتبر امزجة القرشيات مقاربة لأمزجة غيرهن، سيما في الأزمان المتأخرة[3]. لكن في جميع الأحوال أن من السهل القيام بمسح اجتماعي وإختبار عينة مختلطة من العاميات والقرشيات؛ ليتبين إن كان هناك فارق ملحوظ فيثبّت في كتب الفقه، أم لم يكن فيزال منها بتسقيط الروايات التي يرتكز عليها الإعتقاد المذكور.

 

إذاً فمن الواجب دراسة الواقع وفحصه بدقة، ليس لغرض التحقق من مصداقية الأخبار والروايات فحسب، بل لغرض فهم الأحكام ذاتها؛ لتلازم هذا الفهم مع تلك الدراسة، وكما يقول الشهيد مرتضى مطهري: ‹‹إن التعاليم والاحكام الإسلامية سواء التي يتعلق منها بالحقوق الاجتماعية والحدود والروابط بين الناس، ام التي تتعلق بامور اخرى، مبنية على مجموعة من الحقائق. لو اننا تعرفنا على تلك الحقائق طبق اصولها وموازينها العلمية الخاصة ـ والكثير منها لحسن الحظ اصبح معروفاً في العالم ـ لكان فهمنا لمفاهيم التعاليم الإسلامية التي اتتنا على لسان الوحي ولمعانيها افضل واعمق.. اننا لو تعرفنا على تلك الحقائق التي اصبحت بالتدريج وبمرور القرون علوماً مدونة ودرسناها عن قرب، لكنا اقدر على فهم المقاصد والمفاهيم التي نزلت على لسان الوحي.. في الإسلام تعاليم ترتبط بالاقتصاد والاجتماع والحكم والسياسة. ولقد ظهر الآن انها جميعا تعاليم وقواعد قاطعة ومسلم بها. فكيف يمكن ان يدعي شخص بانه يستطيع بغير ان يطّلع على هذه الاصول والقواعد ان يدرك مقاصد الإسلام في هذه الامور حق الادراك، وان يقدمها للعالم على انها من ارفع التعاليم الاجتماعية››.

 

ان من الممكن توضيح فهم بعض اواصر العلاقة الخاصة بين الواقع والشرع، وذلك من خلال التطبيق على مورد محدد من موارد الفقه، كمورد النهي عن المنكر. فقد ورد حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عدد من الأحاديث ابرزها الحديث المأثور: ‹‹من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك اضعف الايمان››. وتبعاً للفهم التقليدي المتداول للفقهاء توجد ثلاث مراتب للنهي: بالقلب والقول والقوة. وهناك اختلاف في التسلسل الذي ينبغي اتخاذه لتحقيق الغرض، أقربها للوجدان ذلك الذي يحملها على التدرج من الأيسر فالأعسر. لكن الشيء الذي يهمنا - هنا - هو ما يتعلق بمرتبة القوة للنهي عن المنكر، استناداً إلى لفظ (اليد) التي لها دلالة عرفية ظاهرة على القوة.

 

والسؤال الذي يحق طرحه بهذا الصدد: لو أننا مارسنا هذه القوة في الحالات التي لا يجدي فيها النهي اللساني والقلبي نفعاً، فهل يا ترى سنصل إلى المطلوب الأمثل؟

 

لا شك ان للقوة اثراً ايجابياً في بعض الأحيان، لكن في أحيان أخرى - لا تقل مساحة عن الأولى - ليس لها ذلك المفعول، بل قد يكون لها مردود سلبي، خاصة بالنسبة للشعوب التي ألفت الحرية، مع ان من الممكن استخدام وسائل أخرى للنهي غير القوة، لا سيما حينما يكون المنكر متفشياً وسط تيار اجتماعي عام، ففي هذه الحالة ليس من السهل على القوة ان تفعل شيئاً، إنما لا بد من دراسة نفس الواقع الاجتماعي وما يتطلبه من صور للنهي، فقد يصلح ان يكون النهي من خلال انشاء نواد اسلامية أو مكتبات أو دور ثقافية أو اتحادات رياضية أو تسديد حاجات مادية أو اقامة اعلام وفنون هادفة وما إلى ذلك من الصور التي تستهدف محاربة المنكر، بما في ذلك طرق التغيير التي تمس رواسب الافكار المنحرفة في العقل الباطن، أي تلك التي لا يتحسس بها الفرد أنها عملية غسل وتهذيب بإتجاه المعروف.

 

ويلاحظ أننا هنا بين تفسيرين للمسألة، أحدهما تفسير النص من خلال الواقع فحسب، والآخر تفسيره من خلال المقاصد وعلاقتها بالواقع.

 

فمن حيث التفسير الأول تنضوي جميع الطرق التي ذكرناها كوسائل للنهي عن المنكر، بما فيها عامل القوة، تحت عنوان عام نطلق عليه (النشاط الإنساني). فليس من التأويل بشيء لو فسرنا (اليد) بهذا العنوان، إذ ينسجم مع سياق الحديث مثلما ينسجم مفهوم القوة، الا أن العنوان الأول قد دلنا عليه الواقع بصورة لا تقبل الشك، فلا يدع محلاً للنزاع. كما أن التدرج الوارد في الحديث الآنف الذكر من النشاط الإنساني إلى القول فالقلب؛ هو تدرج يحمل انسياقاً طبيعياً لا تكلّف فيه. في حين لو أخذنا بالعنوان الآخر (القوة)، لكان الإنسياق متكلفاً فيما لو تدرجنا من الأيسر إلى الأعسر.

 

أما التفسير الثاني، فهو قائم على افتراض أن الظهور في لفظ (اليد) واضح بمعنى القوة، لكن مع ذلك فإن الحصر الوارد في النص يمكن أن يوجّه طبقاً للمقاصد وما دلّ عليه الواقع الاجتماعي، وهو أن سبب اقتصار النص على الأساليب الثلاثة المذكورة كان لغلبة تأثيرها وإلفة ممارستها في المجتمع الإسلامي القديم، مقارنة بغيرها من الأساليب، كالذي يصدق مع آية ((ومن رباط الخيل))، إذ المقصود بها ما هو سائد في المجتمع آنذاك، بشهادة تغير الواقع الحضاري مع أخذ اعتبار مقاصد الشريعة، طالما ان الحكم له معنى معقول وليس من التعبديات.

 

إن ما نروم إليه من بعض الامثلة التي قُدمّت في العرض، هو إلفات النظر إلى امرين متلازمين، احدهما علمي والآخر عملي. فمن الناحية العلمية لا بد من البحث في شكل التقنين الذي يربط الواقع بالعلوم الإسلامية، كالفقه والتفسير والكلام وغيرها، الامر الذي يحتاج إلى دراسة علم الطريقة لفهم الإسلام وعلاقة ذلك بالواقع، مما لا يسعنا الحديث عنها في مقال كهذا. أما الناحية العملية، فيلاحظ ان تقنين علاقة الواقع بالأحكام يقتضي نظام التخصص في البحث الفقهي. وبالتالي فإنه لا يمكن لنظام المرجعية المؤسسية أن يستغني عن هذين المطلبين المتلازمين.

 

لذا نقترح على الصعيد العملي فكرة انشاء نظام للمرجعية التخصصية يهتم بشورى الإجتهاد، سواء في الأحكام أو الموضوعات، وذلك بأن يضم لجاناً مختلفة تستوعب جميع فروع الفقه، بحيث تضم كل لجنة منها مجموعة من الفقهاء يتم إنتخابهم بين مدة وأُخرى، وهم يمارسون عملهم تبعاً لمبدأ الشورى، ليكون هناك ضمان على الصعيدين العلمي والعملي.

 

فطبيعة الشورى تضع المزيد من التثبّت والحصانة العلمية قبل إبداء الحكم النهائي، وهي أيضاً تصون العملية الإجتهادية من نوازع الذات والأهواء التي قد تستولي على نفس الفقيه الفرد وهو يمارس دوره في ملاحقة تزاحمات المصالح العامة في المجتمع. كما أنها مع النظام التخصصي سوف تتيح لأول مرة أن يكون التقليد تقليداً للمؤسسة ذاتها أو لجميع الفقهاء، اذ الكل يشتركون في صياغة الفقه، والكل يشاركون في عملية التقنين مشاركة فعالة مثمرة بعيداً عن النوازع الذاتية والمنافسة والإنشقاق التي يخلقها نظام المرجعية الفردي. فينتهي الأمر الى صياغة رسالة عملية موحدة في الفقه قابلة للمراجعة والتجديد بين فترة وأُخرى، وهي تُحدد طبق ضوابط زمنية مناسبة.

 

ومن الطبيعي أن تكون جميع اللجان تحت إشراف لجنة مرجعية عليا منتخبة ومؤهلة بالقدرة العلمية وخبرة الواقع الإجتماعي والسياسي؛ وظيفتها مراقبة أوضاع اللجان والعمل على حل مشاكلها الخاصة وإضفاء طابع المشروعية والمصداقية على أعمالها، فضلاً عن الأعمال الأُخرى التي تخص نظام الحكم تبعاً لمبدأ الشورى.

 

وبهذه الطريقة المقترحة يمكن تذويب مشكلة وجوب تقليد الأعلم التي يقول بها مشهور الفقهاء. فحتى لو صدقت هذه الفرضية فإنها تواجه مشكلتين؛ تتحدد إحداهما بضابط الأعلمية، فهل هي الأعلمية من جهة الدقة أو الوساعة أو زيادة إبداء المهارة في إستخراج الفروع عن الكليات أو كثرة الإطلاع على معرفة آراء الفقهاء وإجماعاتهم وتعارضاتهم أو غيرها..؟ أما الأُخرى فتتعلق بتشخيص من هو أعلم وسط الفقهاء المجتهدين. فالمقاييس الموضوعة لمعرفة الأعلم من خلال الشياع وأهل الخبرة وغير ذلك؛ كلها معرضة للإختلاف الشديد، الأمر الذي يدعو إلى التعددية في التقليد، والصراع بين الأتباع أحياناً، كما يشهد عليه الواقع، مما يذكرنا بالصراعات الحادة التي مرّت على أتباع المذاهب الأربعة لنفس المشكل من التعددية.

 

لكن يمكن التخلص من المشكلتين معاً. فإذا كان الكثير من الفقهاء يعتبرون قول الأعلم حجة دون غيره إستناداً إلى كونه أقرب من جهة  التوصل إلى حقيقة الحكم الشرعي، سيما أن التعليل لديهم مستند الى أمر إرتكازي طريقي لا تعبدي، فعند الدوران والشك بين التعبدية والطريقية رجحوا هذه الأخيرة على الأُولى، ناهيك عما إعتمدوا عليه من السيرة العقلائية في إثبات قبح الرجوع إلى غير الأعلم عند العلم بالخلاف.. فإذا كان مدار الفقهاء هكذا، يصبح من الواضح أن القول بالتخصص هو أقوى مجالاً وأقرب إمكانية للكشف عن حقيقة الحكم الشرعي، وأن السيرة العقلائية لا ترجح قول الفرد على قول الجماعة، الا اذا كانت هذه الجماعة فاقدة للقدرة على الإستدلال.

 

كذلك أنه إذا كان الشمول والدقة وغيرها هي من الموارد الهامة والمعتبرة في الأعلمية، وهي في الغالب مشتتة بين الفقهاء، فقد تجد بعض العلماء أكثر شمولاً وسعة في تناول الفقه، وتجد آخر أكثر دقة وفهماً وإن كان ينقصه الشمول والسعة.. فإذا كان هذا ما يجري في الغالب بين الفقهاء؛ فإن نظام التخصص مع الشورى سيسدد كلا الجانبين، فهو شامل يحتضن كل ما يمكن أن يدخل في موارد الفقه، كما أنه دقيق باعتبار التخصص. وهو فوق كل ذلك اذ يعمل بمبدأ الشورى؛ فإن له مزية أقوى من جهة الأقربية للكشف عن حقيقة الحكم الشرعي.

 

وبذلك تكون المرجعية التخصصية غير عاملة بنظرية الأعلمية من الناحية الفردية، لكنها من حيث المجموع تعمل بها. كما أنها تحل مشكلة التقابل بين وجود العالم والأعلم وفرز أحدهما عن الآخر بالتشخيص والتعيين، إذ يصبح كلاهما موظفين لذات الدور من عملية تقنين العلاقة بين الواقع بالفقه تبعاً لمبدأ الشورى الإسلامي.

 

على ان فكرة التخصصية في الفقه الامامي قد طُرحت منذ زمن على يد المرحوم الشيخ عبد الكريم اليزدي. وقد نقلها الشيخ مرتضى مطهري واستصوبها وابدى اهميتها. فكما قال: «ما من ضرورة تدعو ان يقلد الناس شخصاً واحداً في جميع المسائل، بل الافضل ان يُقسّم الفقه الى اقسام تخصصية. اي ان مجموعة من العلماء بعد ان يتفقهوا في دورة فقهية عامة، يعينون لانفسهم جانباً معيناً يختصون فيه، ويقلدهم الناس في ذلك القسم التخصصي وحده. كإن يتخصص بعض بالعبادات، وبعض آخر يتخصص بالمعاملات، وآخرون في السياسات، وبعض بالأحكام الفقهية، كما هي الحال في الطب في الوقت الحاضر حيث تشعبت الاختصاصات، فهذا اخصائي في القلب، وذلك في العين، وآخر في الاذن والأنف والحنجرة، وغير ذلك. فلو حصل هذا لأمكن تحقيق اعمق، كل في مجال اختصاصه. واظن ان هذا القول قد جاء في كتاب (الكلام يجر الكلام) تأليف السيد احمد الزنجاني سلمه الله. هذا اقتراح جيد جداً، واضيف ان الحاجة الى تقسيم العمل في الفقه، وضرورة ايجاد فروع تخصصية في الفقه، قد ظهرت منذ اكثر من مائة سنة حتى الان. وعلى الفقهاء، في هذه الظروف الحياتية السائدة، إما ان يقفوا بوجه تكامل الفقه وتطويره، وإما ان يسلموا بضرورة تنفيذ هذا الاقتراح»([4]).

 

لكنه اضاف اليها مقترحاً آخر يتعلق بشورى الاجتهاد، فيكون الحاصل عبارة عن مجلس فقهي يضم تخصصات متشعبة؛ كل شعبة منها تعمل طبقاً لتبادل الرأي والشورى. فقد قال بهذا الصدد: «ثمة اقتراح آخر اقدمه هنا، واعتقد ان من الخير ان يقال، وهو انه بعد ان ظهرت الفروع التخصصية في جميع علوم الدنيا، فكانت سبباً في تقدم العلوم تقدماً محيراً للعقول، ظهر امر آخر الى حيز الوجود كان ايضاً عاملاً مهماً من عوامل التقدم والتطور، ألا وهو التعاون الفكري بين العلماء من الطراز الاول والمنظرين في كل فرع. في عالم اليوم لم يعد لفكر الفرد وللتفكير الفردي قيمة تذكر، والعمل الفردي لا يوصل الى نتيجة. ان علماء كل فرع من فروع العلم مشغولون دائماً بتبادل النظر بعضهم مع بعض، يضعون حاصل فكرهم وعصارة عقولهم تحت تصرف العلماء الاخرين. بل ان علماء قارة ما يتبادلون معلوماتهم مع علماء قارة اخرى ويتعاونون معهم. فيكون من اثر هذا التعاون وتبادل المعلومات والتعرف على وجهات نظر الاخرين انه اذا كانت هناك نظرية نافعة وصحيحة، أمكن نشرها بسرعة اكثر لتأخذ مكانها، واذا كانت النظرية باطلة، أمكن نشر بطلانها سريعاً واطراحها بعيداً، دون ان يضطر طلاب العلم الى التمسك بها حتى يتبين لهم بطلانها بعد سنين. انه لمما يؤسف له اننا لا نرى بيننا أي تقسيم للعلم والتخصص، ولا أي تعاون وتبادل نظر. ومن البديهي اننا بهذا الموضع لا يمكن ان نتوقع تقدماً وحلاً للمشاكل... فلو أُنشئ مجمع علمي للفقهاء، وتحقق مبدأ تبادل النظر؛ فان ذلك فضلاً عن انه يؤدي الى تكامل الفقه وتطوره، فانه يزيل كثيراً من الاختلاف في الفتاوى. ليس هناك طريق آخر، لأننا اذا كنا ندعي ان فقهنا من العلوم الحقة في العالم، فلا بد لنا من اتباع الاساليب التي تتبع في سائر العلوم الاخرى، واذا لم نفعل ذلك فمعنى ذلك ان الفقه خارج عن صف العلوم»([5]).

 

وهو أمر يتطابق مع ما عرضناه من اقتراح.

 



[1] انظر حول ذلك المصادر التالية: المحقق الحلي: المعتبر، مصدر سابق، ج1، ص199. والعلامة الحلي: منتهى المطلب، ج1، ص96. وتذكرة الفقهاء، ج1، ص26. ونهاية الأحكام، تحقيق مهدي رجائي، مؤسسة اسماعيليان، قم، الطبعة الثانية، 1410هـ، المعجم الفقهي الالكتروني، ج1، ص117. وابن فهد الحلي: المهذب البارع، ج3، ص491. والاردبيلي: مجمع الفائدة، ج1، ص144. وكشف اللثام، ج1، ص87. والحدائق الناضرة، ج3، ص172ـ173. ورياض المسائل، ج11، ص124ـ125. والخوئي: كتاب الطهارة، ج6، ص89ـ90.

 

[2] زين الدين العاملي: روض الجنان، مؤسسة آل البيت، طبعة حجرية، 1404هـ، المعجم الفقهي الالكتروني، ص62. ومسالك الافهام، ج1، ص58.

 

[3] وقد ناقش ايضاً حول الرواية المرسلة المعتمد عليها في التمييز، وهي مرسلة ابن ابي عمير الذي روى عن الصادق قوله: ‹‹اذا بلغت المرأة خمسين سنة لم ترَ حمرة الا ان يكون امرأة من قريش››. إذ اعتبر ان في النص قول الإمام (لم ترَ حمرة) وهو غير التعبير بعدم الحيض. كما اعتبر الإعتماد على هذه الرواية وتقييد غيرها من الروايات في الموضوع؛ لا يلغي التعارض بين الطرفين، إذ جاء في الروايات الأخرى كما في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن الصادق قوله: ‹‹حد التي قد يئست من المحيض خمسون سنة››، وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق موثقة أو حسنة، قال فيها: ان المرأة ‹‹اذا بلغت ستين سنة فقد يئست من المحيض›› (جامع المدارك، ج1، ص80ـ81).

 

[4] مطهري، مرتضى: الاجتهاد في الاسلام، دار التعارف ـ دار الرسول الأكرم، ص32ـ33.

[5] المصدر، ص35ـ37.

comments powered by Disqus