يحيى محمد
لقد تكرر ظهور التنظير في الدائرة البيانية وسط الإتجاه الشيعي، إثر ما وصلت إليه الدائرة العقلية مداها، فجاءت كرد فعل على التطورات العقلية، مثلما حصل نفس الأمر في الإتجاه السني على يد إبن تيمية. لكن الملاحظ أنه إذا كانت نزعة إبن تيمية البيانية قد اقتصرت في الغالب على مجال العقائد وعلم الكلام دون الفقه، فإن ما حصل مع البيان المنظّر الشيعي شيء آخر مختلف، فقد جاء كرد فعل على ما حدث من تطورات للتنظير العقلي، سواء في الفقه وأصوله أم في علم الكلام والعقائد، بل أن ردّ الفعل الأكبر كان من نصيب المجال الأول دون الثاني.
لقد بدأ التنظير البياني لدى الشيعة على يد فرقة أطلق عليها (الإخبارية) والتي أسسها المحدث محمد أمين الاسترابادي (المتوفى سنة 1033هـ). وقد إتّبعه الكثير من العلماء الكبار، كالشيخ الكركي (المتوفى سنة 1076هـ)، والحر العاملي (المتوفى سنة 1104هـ)، ويوسف البحراني (المتوفى سنة 1186هـ)، ونعمة الله الجزائري (المتوفى سنة 1112هـ) وغيرهم. واقترن وجود الاسترابادي بظهور معاصره المحدث الفيض الكاشاني (المتوفى سنة 1091هـ) الذي توصل بمفرده إلى أغلب نتائج النزعة الإخبارية لدى الاسترابادي، بل وشعر بنفس مشاعر هذا الأخير ضد طغيان الطريقة العقلية، وأدانها بالإبتداع والإنحراف عن سلوك نهج السلف في عصر الأئمة المعصومين وما بعده بقليل[1]. مع ذلك فقد عمل الفيض الكاشاني لصالح العرفان والذوق الوجودي، وسعى للجمع بين المعيار والوجود. كما أن طريقته اتسمت بالتوسط بين الإتجاه الإخباري الخالص كما يتمثل بمنهج الاسترابادي وأتباعه، وبين «الإتجاه العقلي» المعروف بالطريقة الأصولية أو الإجتهادية. وسار على هذا النحو من التوسط بين الإتجاهين الشيخ يوسف البحراني، وصرح بأنه اتبع الطريقة الوسطى بين المجتهدين والإخباريين، معتقداً بأنها على نهج ما ذهب إليه العلامة محمد باقر المجلسي المعروف بصاحب (بحار الأنوار)[2].
وأهم ما في النزعة الإخبارية للاسترابادي وأتباعه، هو ممارستها للتنظير لصالح البيان ضد الدائرة العقلية، فهي لم تمارس الأحكام المعيارية الخالصة ضد الطرق التي تخرج عن دائرة المعيار البياني كما هو شأن السلف المحدثين، بل أضافت ما هو أهم من ذلك بطريقتها التنظيرية التي جعلتها قادرة على مواجهة النزعة العقلية ومنافستها في احتواء النص وتوظيفه معرفياً. فالاسترابادي وجماعته لم يتهموا النزعة العقلية بالإبتداع والسير خلاف ما يريده الخطاب الديني فحسب، بل حاولوا أيضاً تفسير المدركات المعرفية ليبرروا للبيان موقفه ويجنبوا الفهم والتأسيس الداخلي للخطاب من الخطأ والتأويل.
فقد قسّم الاسترابادي العلوم النظرية إلى قسمين: أحدهما قائم على الحس، ويضم علمي الحساب والهندسة وأكثر أبواب المنطق، وعدّه بريئاً عن شائبة إختلاف أنظار العلماء وتناقضاتهم. واعتبر الآخر خلاف الأول لتجرده عن الإحساس، ويضم الفلسفتين الإلهية والطبيعية وعلم الكلام وأصول الفقه والمسائل النظرية الفقهية وبعض القواعد المنطقية. وعلى رأيه فإن هذا القسم هو محل الأغلاط والإختلاف بين الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم من العقلاء، وقد عزا سبب ذلك إلى بُعْد مادته عن الحس وفقدان الضابط العاصم عن الخطأ. مما جعله يعتقد بأن علاج مسائله يتعلق بالبيان أو النص المتمثل بالأخبار الواردة عن أهل البيت؛ بإعتبارهم معصومين وعاصمين عن الخطأ[3].
ومع هذا فقد اضطر الاسترابادي إلى أن يستثني من ذلك كل ما يعود إلى ضرورات الدين الأساسية[4]، ليفصل عملية التأسيس الخارجي عن التأسيس الداخلي للخطاب كما يتمثل بالفهم، لئلا يقع في الدور والمصادرة على المطلوب. وهو مع ذلك لم يؤسس العملية الأولى طبقاً لإعتبارات العقل كما هو الحال عند إبن حزم وإبن تيمية. فقد اجتهد ليبعد العقل عن حقل المعرفة الصحيحة، سواء من حيث التأسيس في العملية الأولى أو الثانية. فاعتبر المصدر في ضرورات الدين - التي لها وظيفة التأسيس الخارجي للخطاب - يتمثل بالالهام لا الكسب، مثل إثبات الخالق وتوحيده، وأن له رضاً وسخطاً، بل وضرورة أن يكون له نبي يبعثه، ومعلم يجعله مرشداً للناس إلى ما يصلح نفوسهم ويجنبهم كل ما يفسدها من المضار والقبائح. إلا أنه مع ذلك لم يسلم من الدور والمصادرة على المطلوب، إذ أوكل مبرر إعتقاده بإلهامية هذه المعارف إلى ذات «البيان» مدعياً وجود التواتر عليه في الأخبار الواردة عن أئمة أهل البيت[5]، وكذا فعل الحر العاملي نفس الشيء[6]، فقلب بذلك عملية التأسيس للخطاب مما ينبغي أن يكون الداخل منها قائماً على الخارج كما يفعل أصحاب الإتجاه العقلي، إلى العكس، وهو ما يفضي إلى الدور الباطل.
وقد أسفرت هذه النتيجة ذاتها عن نقد المحدث نعمة الله الجزائري للعقل، إذ انكر أن يكون له دور في تأسيس الخطاب، سواء من الداخل أو الخارج. فهو يطعن بقيمته المعرفية حول إثبات أصول الدين، ويستشهد على ذلك بما آل إليه الفلاسفة والمتكلمون من مصير لا يفضي إلى نتيجة حاسمة، كما في إبطال التسلسل ومعرفة حقيقة الصفات وعلاقتها بالذات الإلهية وغيرها. كما أنه يطعن بقيمته المعرفية فيما يخص تأسيس الخطاب من الداخل، مثل القضايا المتعلقة بأصول الفقه، ومناهج تأويل البيان وتحويله إلى متشابه. وبالتالي فهو يرفض تقديم الدليل العقلي على دلالة النص والنقل حين المعارضة، وينكر على أصحاب الإتجاه العقلي ما اضطروا إليه من طرح الكثير من المسائل البيانية التي أثبتها النقل، كالإحباط وسهو النبي، بحجة أن ذلك يخالف ما عليه العقل[7].
وقد صنّف الجزائري تقييمه للدليل العقلي إلى أصناف ثلاثة كالتالي:
1 ـ ما كان بديهياً لا يقبل النقض، كالواحد نصف الإثنين.
2 ـ ما كان يعاضده دليل نقلي وآخر غيره معارض له، حيث رجح الأول على الثاني، معتبراً الترجيح عائداً إلى التعارض في النقل لا العقل.
3 ـ ما تعارض فيه محض العقل مع النقل، وفيه رجح الأخير على الأول[8].
وسار الشيخ يوسف البحراني على خطى المحدث الجزائري، وأيده في نقده وتقسيمه للدليل العقلي[9]، وإن كان قد استثنى من ذلك «العقل الفطري» الذي وصفه بأنه خال من شوائب الأوهام، فاعتبره حجة من حجج الله تعالى، واستشكل أن يرجّح عليه «البيان» أو الدليل النقلي، ولم يُظهر جواباً حاسماً وصريحاً حول ترجيح وتقديم أيّ من هذين الدليلين، سيما أنه عدّ جميع الأحكام الشرعية موقوفة على السماع أو البيان[10]، لذلك اعتبر العقل الفطري موافقاً للشرع، بل هو الشرع من الداخل، إستناداً إلى ما جاء من بيان متمثل ببعض الأخبار الواردة عن أئمة أهل البيت. ففي حديث عن الإمام أبي الحسن حين سئل عن الحجة على الخلق اليوم، قال: «العقل، يعرف به الصادق على الله فيصدقه، والكاذب على الله فيكذبه». وفي حديث آخر عن الإمام الصادق أنه قال: «حجة الله على العباد النبي، والحجة في ما بين العباد وبين الله العقل». كما جاء عن الإمام موسى الكاظم أنه قال: «يا هشام أن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة، وأما الباطنة فالعقول»[11].
مع هذا فالمحدث البحراني سلب الحجية والإعتبار عن هذا الصنف من العقل حال تغلّب ما وصفه بالأوهام الفاسدة والأهواء الناتجة عن بعض الأمراض الروحية، كالعصبية وحب الجاه، وإن كان لم يقدم لنا ضابطاً دقيقاً لتمييز العقل الفطري عن غيره ممن فيه شائبة الأوهام والأهواء. ففي تفصيله للعلاقة بين الدليلين العقلي والنقلي صرح قائلاً: «لا مدخل للعقل في شيء من الأحكام الفقهية من عبادات وغيرها، ولا سبيل إليها إلا السماع عن المعصوم (ع)، لقصور العقل المذكور عن الاطّلاع عليها... نعم يبقى بالنسبة إلى ما يتوقف على التوقيف، فنقول: إن كان الدليل العقلي المتعلق بذلك بديهياً ظاهر البداهة، مثل الواحد نصف الإثنين، فلا ريب في صحة العمل به. وإلاّ فإن لم يعارضه دليل عقلي ولا نقلي فكذلك، وإن عارضه دليل عقلي آخر، فإن تأيّد أحدهما بنقلي كان الترجيح للمتأيّد بالدليل النقلي، وإلا فإشكال. وأن عارضه دليل نقلي، فإن تأيّد ذلك العقلي بدليل نقلي كان الترجيح للعقلي، إلا أن هذا في الحقيقة تعارضٌ في النقليات، وإلا فالترجيح للنقلي، وفاقاً للسيد المحدث المتقدم ذكره - الجزائري - وخلافاً للأكثر. هذا بالنسبة إلى العقلي بقول مطلق. أما لو أريد به المعنى الأخص، وهو الفطري الخالي عن شوائب الأوهام الذي هو حجة من حجج الملك العلام - وإن شذّ وجوده في الأنام - ففي ترجيح النقلي عليه إشكال».
لكن الغريب هو ما فهمه الشيخ الأنصاري من هذا النص على خلاف صريح مراد المحدث البحراني، إذ علّق عليه في (فرائد الأصول)، قائلاً: «لا أدري كيف جعل الدليل النقلي في الأحكام النظرية مقدماًَ على ما هو في البداهة من قبيل (الواحد نصف الإثنين). مع أن ضروريات الدين والمذهب لم يزد في البداهة على ذلك. والعجب مما ذكره في الترجيح عند تعارض العقل والنقل كيف يتصور الترجيح في القطعيين، وأي دليل على الترجيح المذكور. وأعجب من ذلك الاستشكال في تعارض العقليين من دون ترجيح مع أنه لا إشكال في تساقطهما، وفي تقديم العقلي الفطري الخالي عن شوائب الأوهام على الدليل النقلي، مع أن العلم بوجود الصانع اما أن يحصل من هذا العقل الفطري أو مما دونه من العقليات البديهية، بل النظريات المنتهية إلى البداهة»[12].
والواقع أن نص المحدث البحراني في غاية الوضوح. فهو لم يقدّم الدليل النقلي على العقل البديهي كما فهم الأنصاري، بل العكس هو الصحيح. كما أن عجب هذا الشيخ من المحدث لم يكن في محله، ذلك لأن البحراني لم يسلّم بقطعية الدليل العقلي النظري في قبال قطعية النقل وبيانيته ليصدق الإشكال في ترجيح أحدهما على الآخر.
ولكون الإتجاه الإخباري عموماً قد سلك موقفاً متشدداً ضد النظر العقلي، فإنه واجه الكثير من التهم والنقود. فالبعض، كالمرجع الديني البروجردي، اتهم الاسترابادي بأنه تأثر بالنظرية الحسية الغربية. وربما جاء هذا الإتهام لأن الاسترابادي كان معاصراً لفرنسيس بيكون (المتوفى سنة 1626م)، وهو الممهد الأساس للمذهب الحسي بزعامة جون لوك (المتوفى سنة 1704م). لذلك اعترض البعض على هذا الإتهام. فالإمام محمد باقر الصدر اعتبر الاسترابادي سابقاً على زمان ظهور النظرية الحسية بزمن قليل[13]، بل حتى مع إفتراض كون هذه النظرية تعود أساساً إلى فرانسيس بيكون، فإن غياب الوسائل الميسرة للاتصال بين الشرق والغرب والتي منها وسائل النقل والترجمة السريعة، كل ذلك يمنع من عملية التأثر بين المعاصرين. وإن كان هذا الإمام قد نزع - في بعض مؤلفاته المبكرة - على الحركة الإخبارية القالب الحسي محاولاً رميها بنفس النتيجة التي انتهت إليها الفلسفة الحسية في الغرب، كتلك المتعلقة بقضايا التأسيس الخارجي للخطاب، كقضية وجود الله وما إليها، إذ جعل لإختلاف الظروف التي اكتنفت كلاً من الفلسفات الحسية والحركة الإخبارية سبباً لعدم سقوط هذه الأخيرة في الالحاد، سيما أن لهذه الحركة دوافع دينية دعتها إلى الطعن والتنكيل بالطريقة العقلية، خلافاً لما عليه تلك الفلسفات التي نقضت التفكير العقلي لحساب التجربة[14]. لكنه لم يثبت على هذا الموقف في ما بعد، إذ سحب اتهامه وأبدى رأياً آخر، ضمن تناوله لجانب من بحوثه العلمية المتأخرة في علم أصول الفقه، فاعتبر الإخباريين ليسوا بصدد إنكار مطلق كاشفية الدليل العقلي. كما حَسِبَ كلام الاسترابادي لا يستفاد منه حصر المعرفة في مجال الحس والتجربة، بل على رأيه أن غرضه هو حصر المعرفة بالدليل الشرعي وإلغاء الدليل النظري للعقل في مجال إستكشاف الحكم الشرعي[15].
طبيعة وحدود البيان الإخباري
بالرغم من أن الفهم أو التأسيس الداخلي للخطاب ينحصر عند البيانيين في بيان النص، إلا أن له مراتب وأنواعاً مختلفة تبعاً لإختلاف آراء البيانيين أنفسهم. فقد تمثل البيان لدى إبن حزم بالقرآن الكريم ومن ثم السنة النبوية. والشيء ذاته عند إبن تيمية، سوى أنه أضاف إليه مراتب أخرى تخص مسلك الصحابة والتابعين ككاشفين عن بيان الكتاب والسنة. في حين انحصر البيان عند الاسترابادي في حقل واحد فقط، وهو خبر الإمام المعصوم[16]، أما الكتاب والسنة النبوية فهما لديه مصدر التشابه والغموض. لهذا قال صراحة: «ان يقال كيف عملكم معاشر الإخباريين في الظواهر القرآنية مثل قوله تعالى: ((أوفوا بالعقود))، وقوله: ((أو لامستم النساء))، وقوله: ((إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم)). وفي ظواهر السنن النبوية مثل قوله (ص): (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام). وجوابه أن يقال: نحن نوجب الفحص عن أحوالهما بالرجوع إلى كلام العترة الطاهرة (ع)، فإذا ظفرنا بالمقصود وعلمنا حقيقة الحال عملنا به، والا أوجبنا التوقف والتثبت ولا يجوز التمسك بما تمسكت به العامة أنه (ص) لم يخص أحداً بتعليم كل ما جاء به وبتعليم تفسير القرآن وما جاء به من نسخ أو قيد أو تأويل أو تخصيص، بل أظهر كل ما جاء به عند أصحابه وتوفرت الدواعي على أخذه ونشره ولم تقع بعده (ص) فتنة أوجبت اخفاء بعضه ومن أنه لولا ذلك لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وللزم الإغراء بالجهل، وذلك لما علم من المذهب ضرورة من أنه (ص) أودع كل ما جاء به عند العترة الطاهرة (ع) وأمر الناس بسؤالهم والرد أي الرجوع إليهم. وأي بيان أقوى من ذلك»[17].
وقال أيضاً: «.. من المعلوم أنه لم يرد منهم (ع) إذن في التمسك في نفس أحكامه تعالى أو نفيها بالاستصحاب أو البراءة الأصلية أو بظاهر كتاب الله أو بظاهر سنة نبيه (ص) من غير أن يعرف ناسخهما ومنسوخهما وعامهما وخاصهما ومقيدهما من مطلقهما ومؤولهما من غير مؤولهما من جهتهم (ع)، فمن تمسك بتلك الأمور كان سارقاً، وهذا بعد التنزل عن الأحاديث الناطقة بأنهم منعوا عن ذلك»[18].
كما اعتبر الاسترابادي أن المجتهد في أحكام الله تعالى إنْ أخطأ فقد افترى وكذب عليه تعالى، وإنْ أصاب لم يؤجر، لأنه لم يسلك السلوك الطبيعي لمعرفة الحكم الشرعي عن منابعه الأصيلة.
وشبيه بهذا الموقف ما قرره بعض الإخباريين من أن القرآن كله متشابه بلا استثناء. وسبق أن نقلنا – خلال القسم الأول من هذا الكتاب – ما حكاه المحدث الجزائري من أن بعض مشايخه ذهب إلى أن القرآن الكريم كله متشابه، بما في ذلك قوله تعالى: ((قل هو الله أحد))، حيث لا يُعرف معنى الأحدية ولا الفرق بين الأحد والواحد وما إلى ذلك.
لكن لو قصد الاسترابادي بأن مطلق تفسير القرآن والحديث النبوي يتوقف على حديث الأئمة، كما هو ظاهر عبارته، لأفضى به ذلك إلى الدور، إذ أن إثبات حجية الأئمة يتوقف بدوره على القرآن والحديث النبوي. لذا لعله أراد أن يمنع إستنباط الأحكام النظرية من الكتاب والسنة إلا من جهة الأئمة؛ لعلمهم بالناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد والعام والخاص والظاهر والمؤول والمحكم والمتشابه... الخ، سيما أن الحر العاملي الذي اتبع خطواته خطوة بخطوة، عنون بعض أبواب كتابه (وسائل الشيعة) بعناوين تمنع جواز إستنباط الأحكام النظرية من الكتاب والحديث النبوي، وهو في بعض المناسبات سلّم بوجود جملة من الدلالات الواضحة في القرآن[19].
مع ذلك فإن الاسترابادي والحر العاملي كلاهما لم يبرءا من التناقض، فقد مارسا التفسير النظري أحياناً لتأكيد دعواهما الخاصة، من قبيل استدلالهما بالآيات على إبطال التمسك بالإستنباطات الظنية في نفس أحكامه، كما في قوله تعالى: ((ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق))، وقوله: ((إن الظن لا يغني من الحق شيئاً))، وقوله: ((ولا تقف ما ليس لك به علم))، وقوله: ((وإنْ هم إلا يظنون))، وقوله: ((وإنْ هم إلا يخرصون))، وقوله: ((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون))... حتى اعتبر الاسترابادي أن تخصيص تلك الآيات بأصول الدين كما يراه الأصوليون هو خيال ضعيف[20]. ولولا أن وجهة نظره حول العلم لا تخرج عن العلم العادي لكان إعتباره هذا يوحي بأن استدلاله على نفي الإستنباطات الظنية كان ظنياً أيضاً؛ فيسفر عن التناقض والدور. ومع ذلك فإن سلوكه هذا يجعل من إعتباراته كلها تقوم على الظن من الناحية المنطقية. إضافة إلى أن تعويله على حديث العترة لا يجد له مبرراً إذا ما عرفنا أنه كالقرآن أيضاً لا يخلو من المتشابه والمجمل والمطلق والعام فضلاً عن التقية وغيرها، مما يجعل الحجة في عدم جواز تفسير القرآن هي عينها تنطبق على الحديث أيضاً.
مهما يكن، فهذا التشدد والتضييق في إعتبار دائرة البيان موقوفة على حديث الأئمة، لم يكن صبغة جميع المنظرين للبيان الإخباري الشيعي. فهناك من سعى لتوسعة البيان والتخفيف من حدّته في الوقت ذاته. فمن الإخباريين من وسّع هذه الدائرة لتشمل القرآن والسنة النبوية، في الوقت الذي أنكر أن يكون هذا البيان مفضياً إلى القطع، خلافاً لما ذهب إليه الاسترابادي. وهذا ما لجأ إليه كل من الفيض الكاشاني والشيخ البحراني. فقد استدل الفيض الكاشاني على بيان القرآن وأجاز تفسيره بأدلة عديدة، منها الأحاديث التي تأمر بعرض الأخبار على القرآن، ولقول النبي (ص): «إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي»، ولقوله (ص) أيضاً: «فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن»، وغير ذلك من الأخبار. واعتبر هذا المحدث أن أخبار المنع من تفسير القرآن يجب حملها على المتشابهات دون المحكمات. كذلك فإنه حمل الأخبار الواردة حول معنى آيات (أهل الذكر) على المتشابهات، مثلما جاء في قوله تعالى: ((فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون))[21]. إذ دلّت هذه الأخبار على تخصيص (أهل الذكر) بالأئمة كمعنيين بعلم القرآن دون غيرهم من الناس، لكن الفيض الكاشاني اعتبرها من المتشابهات، وذكر على ذلك وجوهاً ودلالات من العقل والنقل لا يسع ذكرها. وهو مع ذلك أجاز تفسير حتى المتشابهات، وإن خصّ بذلك المجاهدين الكاملين من الطائفة - وربما أراد بهذا التخصيص العرفاء بإعتباره ينتمي إليهم صراحة - وأيّد ذلك بقوله تعالى: ((والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا))[22]، واستدل عليه بدلالات ذكرها في أحد فصول الأصل التاسع من أصوله الأصيلة.
وفي محل آخر أكد الفيض الكاشاني على وسع دائرة البيان من حيث شمولها للكتاب فضلاً عن السنة بما فيها أخبار الأئمة، بل اعتبر أن الكمال في بيان الكتاب هو في حد ذاته يمنع من الحاجة إلى الإجتهادات العقلية، فبنظره أن الله تعالى بيّن جميع أحكام الشرع من الأصول والفروع في الكتاب، واستدل على ذلك بجملة من الآيات والأخبار، كقوله تعالى: ((ما فرطنا في الكتاب من شيء))[23].. ((ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين))[24]، وهو يعترف بأن هناك آيات محكمات يجب التمسك بها، وآخر متشابهات قد أمر الله أن يرجع بها إلى أهل الذكر والراسخين في العلم، فجاء في قوله تعالى: ((فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون))، وقوله: ((وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم))[25]، وقوله: ((ولو ردوه إلى الرسول والى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم))[26]، واعتبر أهل الذكر والراسخين في العلم هم أئمة أهل البيت المعصومون بدلالة الأخبار الكثيرة. هكذا عدّ منهجه في الفهم قائم على كل من الكتاب وأهل البيت، كما ورد عن النبي «إني تارك فيكم الثقلين ما أن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي، كتاب الله وعترتي أهل بيتي». كما إستند إلى أخبار أهل البيت ليستدل على كفاية الكتاب، فذكر بعض الأخبار الدالة على ذلك كقول الإمام علي في وصف القرآن: « فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون، فلو سألتموني عنه لعلّمتكم»، وقول الإمام الصادق: «كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وفصل ما بينكم، ونحن نعلمه»، وقوله أيضاً: «ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة»، ومثله: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله، ولكن لا تبلغه عقول الرجال».
وبذلك ينتهي الفيض الكاشاني إلى بيت القصيد، وهو أنه «قد عُلم من هذا أن الثقلين كافيان في تعليم الأمة معالم دينها أجمع ولا حاجة لأحد في أن يجتهد برأيه في الأحكام، أو يعمل بالقياس والإستحسان، وأن يضع أصولاً فقهية وطرق إستنباطات ظنية لذلك، كما يفعله العامة، بل ورد المنع الوكيد والزجر البليغ عن أمثال ذلك في أخبار لا تحصى، كما يظهر للمتتبع»[27].
أما البحراني فقد سعى لتوسعة البيان من خلال الأحاديث ذاتها، فذكر أخباراً تؤكد على ضرورة الرجوع في تفسير القرآن إلى الأئمة المعصومين، كما وذكر أخباراً أخرى تؤكد العكس، بعرض الخبر على القرآن، مستنتجاً من طائفة الأحاديث الأولى كونها صريحة، بخلاف الثانية، حيث اعتقد أنها تخلو من الصراحة في معارضتها مع الأولى[28]، لكنه مع ذلك انتهى إلى أن الموقف الصحيح هو ما لجأ إليه شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي في كتابه (التبيان في تفسير القرآن)، والذي قسّم فيه معاني القرآن بطريقة بيانية أخفت نزعته العقلية التي حوّلت البيان إلى متشابه، إذ ذكر بأن هناك أقساماً أربعة لمعاني القرآن، أحدها ما أخصّ به الله تعالى نفسه بالعلم دون غيره، وثانيها ما كان ظاهره مطابقاً لمعناه، فيعرفه من كان عارفاً للغة، مثل قوله تعالى: ((ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق))[29]، وثالثها ما كان مجملاً يحتاج إلى تفصيل، فيُعرف تفصيله عن النبي (ص)، مثل قوله: ((أقيموا الصلاة))[30]، ورابعها ما كان اللفظ مشتركاً بين أكثر من غيره بلا نص عن المعصوم[31].
فهذا ما صوّبه البحراني، وأيّده بما روي في (الإحتجاج) عن حديث لأمير المؤمنين علي مع الزنديق، إذ جاء فيه أن الله تعالى قسّم كلامه إلى أقسام ثلاثة، أحدها يعرفه العالم والجاهل، وثانيها لا يعرفه إلا من صفى ذهنه ولطف حسّه وصحّ تمييزه ممن شرح صدره للإسلام، وقسم ثالث لا يعرفه إلا الله وأنبياؤه والراسخون في العلم[32].
التنظير الإخباري والبيان السلفي
قلنا بأن ظهور التنظير البياني على يد الاسترابادي جاء كرد فعل على الممارسات العقلية التي بدأت منذ القرن الرابع الهجري، واستمرت تتراكم طيلة قرون حتى مجيء القرن الحادي عشر الهجري. فعندئذ نهض الاسترابادي ليعيد للبيان هيبته، لا بنقد النزعة العقلية التي يمارسها الأصوليون ومحاولة ابطالها معرفياً ومعيارياً فحسب، بل كذلك من خلال إرجاع طريقته إلى عصر النص وظله، إبان عهد الأئمة ومن ثم أيام الغيبة كما في عصر الكليني (المتوفى سنة 329هـ) والشيخ الصدوق (المتوفى سنة 381هـ). ومن وجهة نظره فإن هذه الطريقة بدأت تتزعزع منذ أواخر القرن الرابع الهجري، حيث دبّ الإنحراف عندما بُذرت أواصر الإعتماد على العقل في العقيدة وإستنباط الأحكام ووضع علم الأصول للبحث الفقهي، تأثراً بنهج المذاهب الفقهية لدى الإتجاه السني[33].
فقد ادعى هذا المحدث أن لقدماء الإمامية مذهباً صريحاً في التسليم بالأخبار وعدم التعويل على العقل والإجتهاد، وصوّرهم بأنهم اعتمدوا على ما هو مقطوع الصحة والرواية المستفاضة عن العترة من دون التورط بأي إحتمال معارض لذلك القطع، فكل ما رووه فهو مقطوع بصحته وصدوره عن العترة. بل واعتبر أن كل ما تحتاج إليه الأمة توجد عليه دلالة قطعية من قبل الله تعالى إلى يوم القيامة[34]، إستناداً لفهمه لبعض الأخبار الخاصة بذلك. وأراد بهذا ردّ الحركة الإخبارية إلى عصر الأئمة حتى مجيء الأقدمين إبن الجنيد وإبن أبي عقيل، الذين نسج على منوالهما جماعة كالمفيد وإبن ادريس والعلامة الحلي، وهم الذين عرضهم إلى الطعن فاعتبرهم ناقضوا ضرورات المذهب بإبتداع الطريقة الإجتهادية المستندة إلى التفكير العقلي[35]. ووظّف كلمات لبعض العلماء ليشهد على قدم الطريقة التي اتخذها مسلكاً لفهم الإسلام، ومن ذلك أنه نقل ما جاء في آخر (شرح المواقف) من كلمات كالتالي:
«كانت الإمامية أولاً على مذهب أئمتهم حتى تمادى بهم الزمان فاختلفوا وتشعّب متأخروهم إلى المعتزلة والى الإخبارية»[36].
ومثل ذلك ما ذكره الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل)، إذ قال في فصل الإمامية: «كانوا في الأول على مذهب أئمتهم في الأصول، ثم لما اختلفت الروايات عن أئمتهم وتمادى الزمان، اختارت كل فرقة منهم طريقة، فصارت الإمامية، بعضها معتزلة، إما وعيدية وإما تفضيلية، وبعضها إخبارية، إما مشبهة وإما سلفية»[37].
وكذا ما ذكره العلامة الحلي بالقول: «..أما الإمامية فالإخباريون منهم لم يعولوا في أصول الدين وفروعه إلا على أخبار الآحاد المروية عن الأئمة (ع)، والأصوليون منهم كأبي جعفر الطوسي وغيره، وافقوا على خبر الواحد ولم ينكره سوى المرتضى وأتباعه»[38].
لكن الإعتقاد السائد لدى غالبية المتأخرين هو أن هذا الإختلاف لم يُمنهج عقائدياً في تلك الفترة، بل كل ما يفيده هو إختلاف الذوق وسعة الذهن، إذ امتاز الأصوليون بقدر كبير من العلمية والعمق وسعة التفريع والإستنباط، بعكس ما عليه المحدثون القدماء، كما نصّ عليه المحقق محمد تقي (المتوفى سنة 1248 هـ) في تعليقه على كتاب (معالم الدين)، فذكر يقول: «فإن قلت: أن علماء الشيعة كانوا من قديم الزمان على صنفين، إخباري وأصولي، كما أشار إليه العلامة في النهاية وغيره. قلت: أنه وإن كان المتقدمون من علمائنا على صنفين، وكان فيهم إخبارية إلا أنه لم تكن طريقتهم ما زعمه هؤلاء، بل لم يكن الإختلاف بينهم وبين الأصولية إلا في سعة الباع في التفريعات الفقهية وقوة النظر إلى القواعد الكلية والاقتدار على تفريع الفروع عليها، فقد كانت طائفة منهم أرباب النصوص ورواة الأخبار ولم تكن طريقتهم التعدي عن مضامين الروايات وموارد النصوص، بل كانوا يفتون غالباً على طبق ما يرون ويحكمون على وفق متون الأخبار، ولم يكن كثير منهم من أهل النظر والتعمق في المسائل العلمية... وهؤلاء لا يتعرضون غالباً للفروع غير المنصوصة، وهم المعروفون بالإخبارية. وطائفة منهم أرباب النظر والبحث عن المسائل وأصحاب التحقيق في استعلام الأحكام من الدلائل، ولهم الاقتدار على تأصيل الأصول والقواعد الكلية عن الأدلة القائمة عليها في الشريعة والتسلط على تفريع الفروع عليها واستخراج أحكامها منها، وهم الأصوليون منهم، كالعماني والاسكافي وشيخنا المفيد وسيدنا المرتضى والشيخ – الطوسي - وغيرهم ممن يحذو حذوهم. وأنت إذا تأملت لا تجد فرقاً بين الطريقتين إلا من جهة كون هؤلاء أرباب التحقيق في المطالب وأصحاب النظر الدقيق في إستنباط المقاصد وتفريع الفروع على القواعد، ولهذا اتسعت دائرتهم في البحث والنظر وأكثروا من بيان الفروع والمسائل وتعدّوا عن متون الأخبار... وأولئك المحدثون ليسوا غالباً بتلك القوة من الملكة، وذلك التمكن من الفن، فلذا اقتصروا على ظواهر الروايات ولم يتعدوا غالباً عن ظواهر مضامينها ولم يوسعوا الدائرة في التفريعات على القواعد، وأنهم لما كانوا في أوائل انتشار الفقه وظهور المذهب كان من شأنهم تنقيح أصول الأحكام التي عمدتها الأخبار المأثورة عن العترة الطاهرة، فلم يتمكنوا من مزيد إمعان النظر في مضامينها وتكثير الفروع المتفرعة عليها، ثم أن ذلك إنما حصل بتلاحق الأفكار في الأزمنة المتأخرة»[39].
والواقع أن إرجاع طريقة الاسترابادي إلى فترة النص وما بعدها بقليل لا يعدّ إرجاعاً إلى ذات الطريقة من التنظير والتقنين. لكن هناك امتعاضاً من صور الإجتهاد كما يظهر مما نقله النجاشي في رجاله عما كتبه بعض القدماء بهذا الشأن، والتي منها ما صنفه عبد الله بن عبد الرحمن الزبيري لكتاب أسمه (الاستفادة في الطعون على الأوائل والرد على أصحاب الإجتهاد والقياس)، وما صنفه هلال بن ابراهيم بن أبي الفتح المدني لكتاب سمّاه (الرد على من ردّ آثار الرسول واعتمد على نتائج العقول)، وكذلك ما صنفه اسماعيل بن علي بن اسحاق بن أبي سهل النوبختي لكتاب ردّ فيه على عيسى بن أبان في الإجتهاد، بل ظهر هذا الأثر عما ذكره الشيخ الصدوق وهو يعقب على قصة موسى والخضر فقال: «إن موسى - مع كمال عقله وفضله ومحله من الله تعالى - لم يدرك بإستنباطه وإستدلاله معنى أفعال الخضر حتى إشتبه عليه وجه الأمر به، فإذا لم يجز لأنبياء الله ورسله القياس والإستدلال والإستخراج كان من دونهم من الأُمم أولى بأن لا يجوز لهم ذلك.. فإذا لم يصلح موسى للإختيار - مع فضله ومحله - فكيف تصلح الأمة لإختيار الإمام، وكيف يصلحون لإستنباط الأحكام الشرعية وإستخراجها بعقولهم الناقصة وآرائهم المتفاوتة»[40].
ويحتمل أن يكون مراد القدماء من نقد الإجتهاد والرأي متفاوتاً في المعنى. فبعضهم قصد به جميع صور الإجتهاد كما يدعيه الإخباريون والذي يظهر واضحاً لدى نص الشيخ الصدوق الآنف الذكر. وبعض آخر قصره على القسم الذي يمارسه أهل السنة من مبادئ، كالقياس والإستحسان، كما يزعمه الأصوليون. ويؤيده هو أن لفظة الإجتهاد والرأي ظهرت منبوذة محرمة التوظيف حتى لدى الذين عرفوا بممارستهم الإجتهادية بحسب المعنى الحديث لهذه اللفظة، كما يظهر لدى كل من الشيخين المفيد والطوسي، والسيدين المرتضى وإبن ادريس. مع ذلك اننا لو استثنينا الشيخ الطوسي، فإن علة رفض الإجتهاد، كالذي مال إليه المرتضى وتابعه إبن ادريس - وربما المفيد على الأرجح - هي لأنه يفضي إلى الظن، وهم لا يعولون على الظن في الشريعة، مما يجعل طريقتهم قريبة من الإخبارية، بإعتبار أن هذه الفرقة بزعامة الاسترابادي تذهب إلى أن البيان يفضي إلى القطع دون حاجة للإجتهاد. لكن تظل طريقة من ذكرناهم من القدماء بعيدة عن الإخبارية لأنهم يعولون على أصل العقل في ما لا نص فيه.
وعلى العموم تتصف فترة ما قبل الشيخ المفيد، وحتى ما بعدها، بالتلقائية البيانية من وجود الامتعاض العام والاستيحاش لكل ما هو خارج عن حدود البيان من الرواية والخبر، يصل أحياناً إلى درجة الوقف في «اللفظ»، فلم تتقبل ذهنية السلف تبديل اللفظ البياني إلى لفظ آخر[41]، لضيق الأفق والاستيحاش، وللتمسك بـ «حق الله» النابع من النقل والبيان، كما يتضح مما يقوله المفيد والمرتضى اللذان يؤاخذان السلف المحدثين على ضعف الإدراك وقلة الفطنة والتقليد والتسليم والتفويض خلافاً لما عليه المتكلمون[42]. لهذا فقد تعرّض هؤلاء السلف إلى النقد اللاذع من قبل هذين العَلَمين[43]. وكل ذلك يدل على النزعة البيانية التلقائية بلا تنظير كما حصل مؤخراً على يد الاسترابادي وأتباعه.
[1] اعترف الفيض الكاشاني بأن الاسترابادي قد سبقه إلى النزعة الإخبارية، على ما ذكره في آخر رسالته الموسومة (الحق المبين، ص12)، بل وما لوّح إليه في مقدمة كتابه (الأصول الأصيلة)، حيث ذكر يقول: «إن هذه أصول أصيلة يبتنى عليها فروع جليلة... عليها كان عمل قدماء الطائفة... وأنها كانت برهة من الدهر تطوف حوالي خاطري تطوافاً وتجول في ميدان قلبي تجوالاً، واني كنت أصبر على ابرازها هوناً لأني لم أجد عليها عوناً، فلم أقدر لها إلا حفظاً وصوناً حتى استشممت من كلام جماعة من متأخري أصحابنا الإيمان بها والاذعان لها ثم الفيت بعض فضلائهم - يقصد به الاسترابادي - مصرّحاً بأكثرها في جملة خيالات مخترعة وآراء مبتدعة، عالياً صوته بالنداء، بل غالياً بكلامه في الأداء، حتى كاد يخطئ الحق بالاعتداء ويفرط عن وسط الحق إلى جانب الردى، فتجاسرت لإظهار الصواب وتمييز القشر من اللباب..».
[2] يوسف البحراني: الدرر النجفية، مؤسسة آل البيت لاحياء التراث، ص165.
[3] محمد أمين الاسترابادي: الفوائد المدنية، طبعة حجرية بتبريز، ص28 و200.
[4] المصدر السابق، ص129ـ131 و266.
[5] المصدر السابق، ص226ـ238.
[6] الحر العاملي: الفوائد الطوسية، المطبعة العلمية بقم، 1403هـ، ص353.
[7] الأنوار النعمانية، ج3، ص129ـ132. وكذا في: الحدائق الناضرة، ج1، ص126ـ128.
[8] الأنوار النعمانية، ج3، ص133.
[9] الحدائق الناضرة، ج1، ص125ـ127.
[10] نفس المصدر السابق، ج1، ص131ـ133. كذلك: مرتضى الأنصاري: فرائد الأصول، تحقيق وتقديم عبد الله النوراني، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الثالثة، 1411هـ، ج1، ص17ـ18.
[11] الحدائق الناضرة، ج1، ص130.
[12] فرائد الأصول، ص18.
[13] بحوث في علم الأصول، مصدر سابق، ج4، ص125. علماً بأن الشيخ مرتضى مطهري ذكر بأنه سمع يوماً السيد البروجردي يقول بأن ظهور الفكرة الحسية عند الإخباريين جاء على أثر موجة الفكر المادي في اوروبا، لكن فاته أن يسأله عن دليله على هذه المسألة. لهذا فهو لا يدري إن كان عنده دليل أم أن رأيه حدس وتخمين. لكنه على العموم استبعد مثل هذا الرأي (مرتضى مطهري: مبدأ الإجتهاد في الإسلام، ترجمة جعفر صادق الخليلي، مؤسسة البعثة في طهران، الطبعة الأولى، 1407هـ، ص34).
[14] المعالم الجديدة للأصول، ص44ـ45.
[15] بحوث في علم الأصول، ج4، ص125ـ127.
[16] الفوائد المدنية، ص17.
[17] نفس المصدر، ص164ـ165.
[18] الأصول الأصيلة، ص134ـ135.
[19] وسائل الشيعة، ج18، ص86 و129 و152.
[20] الفوائد المدنية، ص92. والفوائد الطوسية، ص403ـ404.
[21] النحل/43.
[22] الأصول الأصيلة، ص35ـ38.
[23] الانعام/38.
[24] الانعام/59.
[25] آل عمران/7.
[26] النساء/83.
[27] تسهيل السبيل بالحجة في انتخاب كشف المحجة، ص22ـ23.
[28] حاول البحراني أن يرد على الحجج التي قد تُوظف لإثبات البيان في القرآن من دون حاجة للامام المعصوم، وهي حجج مستمدة من الأحاديث والآيات، وقال بهذا الصدد: «فمن ذلك الأخبار الواردة بعرض الحكم المختلفة فيه الأخبار على القرآن والأخذ بما يوافقه وطرح ما يخالفه. ووجه الاستدلال أنه لو لم يفهم منه شيء إلا بتفسيرهم (ع) انتفى فائدة العرض. والجواب أنه لا منافاة، فإن تفسيرهم (ع) إنما هو حكاية مراد الله تعالى، فالأخذ بتفسيرهم أخذ بالكتاب، وأما ما لم يرد فيه تفسير عنهم (ص) فيجب التوقف فيه وقوفاً على تلك الأخبار وتقييداً لهذه الأخبار بها. ومن ذلك الآيات، كقوله سبحانه: ((ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء..))، وقوله: ((ما فرطنا في الكتاب من شيء..))، وقوله: ((لعلمه الذين يستنبطونه))، وقوله ((أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)). والجواب أن الآيتين الأوليين لا دلالة فيهما على أكثر من استكمال القرآن لجميع الأحكام وهو غير منكور، وأما كون فهم الأحكام مشتركاً بين كافة الناس، كما هو المطلوب بالاستدلال فلا. كيف وجلّ آيات الكتاب، سيما ما يتعلق بالفروع الشرعية كلها ما بين مجمل ومطلق وعام ومتشابه لا يهتدي منه - مع قطع النظر عن السنة - إلى سبيل، ولا يركن منه إلى دليل... وأما الآية الثالثة فظاهر سياق ما قبلها وهو قوله: ((ولو ردوه إلى الرسول والى اولي الأمر لعلمه الذين يستنبطونه منهم)) يدل على كون المستنبطين هم الأئمة (ع)، وبذلك توافرت الأخبار عنهم (ع)... وأما الآية الرابعة فأنا لا نمنع فهم شيء من القرآن بالكلية ليمتنع وجود مصداق الآية، فإن دلالة الآيات - على الوعد والوعيد والزجر لمن تعدى الحدود الإلهية والتهديد - ظاهر لا مرية فيه، وهو المراد من التدبر في الآية، كما ينادي عليه سياق الكلام» (الحدائق الناضرة للبحراني، ج1، ص30ـ32).
[29] الانعام/ 151.
[30] البقرة/ 43.
[31] الحدائق الناضرة، ج1، ص32. علماً بأن تقسيم الطوسي يشابه تقسيم إبن عباس الذي اعتبر أن معاني القرآن بعضها لا يعلمه إلا الله تعالى، وبعضها من ضرورات الدين يعرفه كل مسلم، كوجوب الصلاة والزكاة والحج..الخ، وهو ما يعرف عن طريق القرآن أو غيره، وبعضها من ضرورات اللغة يعرفه من هو عارف بحالها، كما أن بعضها من النظريات التي لا يعلمها إلا العلماء (الفوائد المدنية، ص173ـ174).
[32] الحدائق الناضرة، ج1، ص33.
[33] رسالة الإجتهاد والأخبار، ص42. والمعالم الجديدة للأصول، ص80.
[34] الفوائد المدنية، ص47 و49.
[35] الدرر النجفية، ص87. والأصول الأصيلة، حاشية ص116.
[36] الفوائد المدنية، ص43.
[37] الفوائد المدنية، ص43ـ44. والملل والنحل، ص70.
[38] الفوائد المدنية، ص44.
[39] المعالم الجديدة للأصول، ص81ـ82.
[40] الصدوق: علل الشرائع، مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ج1، ص63. كذلك: الجزائري: النور المبين في قصص الأنبياء والمرسلين، مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ص334 والمعالم الجديدة للأصول، ص24ـ25.
[41] أبو جعفر الطوسي: الاستبصار، دار الكتب الإسلامية بطهران، الطبعة الثالثة، 1390هـ، ج1، المقدمة، ص2.
[42] شبيه بهذا ما وصفه الغزالي لبعض رجال السلف من عدم إمعانهم بالنظر العقلي مما جعلهم يتمسكون بالرواية والخبر، كالحال مع الإمام إبن حنبل (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، ص184ـ185).
[43] بصدد نقد أصحاب الحديث يمكن الرجوع إلى بعض أقوال المفيد، كما في كتابه شرح عقائد الصدوق، باب (النفوس والأرواح). كما يمكن ملاحظة نصوص الشريف المرتضى ضمن مجموعة رسائله وهو يعرّض هؤلاء إلى ألوان من النقد اللاذع، منها ما يتعلق بموضوعنا في إعتبارهم جهلة ضعفاء الإدراك، إذ يصفهم بقوله: «فأما أصحاب الحديث فإنهم رووا ما سمعوا وحدثوا به ونقلوا عن اسلافهم، وليس عليهم أن يكونوا حجة ودليلاً في الأحكام الشرعية، أو لا يكون كذلك. فإن كان أصحاب الحديث من يحتج في حكم شرعي بحديث غير مقطوع على صحته، فقد زلّ وزوّر، وما يفعل ذلك من يعرف أصول أصحابنا في نفي القياس والعمل بأخبار الآحاد حق معرفتها، بل لا يقع مثل ذلك من عاقل وربما كان غير مكلف. إلا ترى أن هؤلاء بأعيانهم قد يحتجون في أصول الدين من التوحيد والعدل والنبوة والامامة بأخبار الآحاد، ومعلوم عند كل عاقل أنها ليست بحجة في ذلك. وربما ذهب بعضهم إلى الجبر والى التشبيه، اغتراراً بأخبار الآحاد المروية، ومن أشرنا إليه بهذه الغفلة يحتج بالخبر الذي رواه ولا حدث به ولا سمعه من ناقله فيعرفه بعدالة أو غيرها، حتى لو قيل له في بعض الأحكام: من أين أثْبتّه وذهبتَ اليه؟ كان جوابه: لأني وجدته في الكتاب الفلاني، ومنسوباً إلى رواية فلان بن فلان. ومعلوم عند كل من نفى العلم بأخبار الآحاد ومن أثبتها وعمل بها، أن هذا ليس بشيء يعتمد ولا طريق يقصد، وإنما هو غرور وزور».
وقوله أيضاً: «فإن قيل: ليس كل من لم يكن عالي الطبقة في النظر، يكون جاهلاً بالله تعالى، أو غير عارف به، لأن فيه أصحاب الجملة من يعرف الله تعالى بطرق مختصرة توجب العلم، وإن لم يكن يقوى على درء الشبهات كلها. قلنا: ما نعرف من أصحاب حديثنا ورواياتنا من هذه صفته، وكل من نشير إليه منهم إذا سألته عن سبب إعتقاده التوحيد والعدل أو النبوة أو الامامة، أحالك على الروايات وتلى عليك الأحاديث. فلو عرف هذه المعارف بجهة صحيحة لا أحال في إعتقاده إذا سأل عن جهة علمها، ومعلوم ضرورة خلاف ذلك، والمدافعة للعيان قبيحة بذوي الدين».
كذلك قوله بصدد نقده لأصحاب العدد ـ في رؤية شهر رمضان ـ من المحدثين: «والذين خالفوا من أصحابنا في هذه المسألة عدد يسير ممن ليس قوله بحجة في الأصول ولا في الفروع، وليس ممن كلف النظر في هذه المسألة، ولا ما في أجلى منها، لقصور فهمه ونقصان فطنه. وما لأصحاب الحديث الذين لم يعرفوا الحق في الأصول، ولا اعتقدوها بحجة ولا نظر، بل هم مقلدون فيها والكلام في هذه المسائل، وليسوا بأهل نظر ولا إجتهاد، ولا وصول إلى الحق بالحجة، وإنما تعويلهم على التقليد والتسليم والتفويض».
(رسائل الشريف المرتضى، ج1، ص211ـ212، وج2، ص18، وج3، ص310ـ311. وانظر أيضاً: مشكلة الحديث، الفصل الرابع من الكتاب الثاني).