-
ع
+

السلفية ونظرية الصفات

يحيى محمد

ليست هناك قضية اشتد حولها الخلاف بين علماء أهل السنة كاشتداده حول نظرية الصفات الإلهية، إذ كانت محوراً للنزاع لا فقط بين أصحاب الدائرتين العقلية والبيانية، وإنما بين أصحاب الدائرة البيانية أنفسهم أيضاً. ومع أن هناك من يدعي أن للسلف موقفاً موحداً إزاء هذه النظرية كالذي نظّر إليه إبن تيمية فيما بعد، لكن حقيقة الحال أن علماء السلف كانوا - طيلة القرون الثلاثة الأولى للهجرة - مختلفين حولها إختلافاً شديداً، حيث انقسموا إلى ثلاثة أو أربعة إتجاهات متباينة تتداخل فيما بينها أحياناً.

فقد أبقى الإتجاه الأول معنى الظواهر اللفظية للصفات على ما هو عليه من التجسيم والتشبيه مع المخلوق، وبعضهم استرسل في ذلك وجعل يعدد أعضاء الإله عضواً عضواً. ويضم هذا الإتجاه الكثير من الرجال كما يتبين من كتب الفرق والتفسير والسنة والتوحيد. وقد ذكر أبو الحسن الأشعري في مقالاته أن هناك ستة عشر مذهباً يدعو إلى التجسيم، ونقل من بينها ما قاله داود الجواربي ومقاتل بن سليمان من أن الله جسم، وأنه جثة على صورة إنسان، له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين، كما له لحم ودم وشعر وعظم، وهو مع هذا لا يشبه غيره ولا يشبهه الغير، وحكي عن الجواربي أنه كان يقول: أجوف ما فيه إلى صدره، ومصمت ما سوى ذلك[1]. كما ذكر إبن تيمية بأن مقالة المشبهة الذين يقولون يد كيدي وقدم كقدمي وبصر كبصري هي مقالة معروفة، وقد نقلها الأئمة؛ كيزيد بن هارون وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهم؛ وأنكروها وذموها ونسبوها إلى مثل داود الجواربي البصري وأمثاله[2].

أما الإتجاه الثاني فقد أخذ يمارس التأويل أحياناً مثلما فعل أصحاب الدائرة العقلية وإن اقتصر على حالات محدودة.

في حين مال الإتجاه الثالث إلى التفويض، وقد اختلف معناه لدى المتأخرين، فبعضهم رأى أن تفويضهم يتعلق بفهم المعنى بعد نفي الظاهر، وبعض آخر رأى أنه لم يكن بصدد المعنى والتفسير، بل بصدد الحقيقة الخارجية، حيث أن الله ((ليس كمثله شيء)).

ويبدو أن كلا المعنيين للتفويض ورد عن السلف، مثلما ورد عنهم التأويل أيضاً، بل قد تجد الواحد منهم يعمل بالتأويل في صفة من الصفات، وبتفويض المعنى في غيرها، أو بتفويض الحقيقة دون المعنى. لكن الشيء الثابت هو أن التأويل قد سبق التفويض زماناً، وأن الصحابة لم يؤثر عنهم التفويض بخلاف التأويل[3]، ومن ذلك ما روي عن إبن عباس وغيره من تأويله لنصوص الإتيان في ظلل من الغمام والكشف عن الساق والكرسي والدنو الوارد في حديث الاسراء وغيرها[4]. ولم يظهر التفويض إلا متأخراً خلال القرن الثاني للهجرة، حيث عوّل عليه العلماء باشكال شتى، فبعضهم كان يأمر بالقراءة والسكوت، مثلما عبّر عنه سفيان بن عيينة بقوله: كلما وصف الله من نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه[5]. وبعض آخر كان يؤمن بالصفات كما جاءت ويمنع تفسيرها، مثلما عبّر عن ذلك أبو عبيد القاسم بن سلام ووكيع واسماعيل بن أبي خالد وسفيان وسليمان وغيرهم[6]. وبعض ثالث كان يقر بها ويأمر بإمرارها كما جاءت مع منع الكيف والسؤال، كالذي روي عن عدد من السلف مثل مالك والثوري والليث بن سعد والأوزاعي وسفيان بن عيينة وغيرهم[7].

وقد تلتبس عبارات السلف بالمراد من التفويض إن كان القصد منه المعنى كله أو الحقيقة فحسب. وكلا الإحتمالين وارد. كما يلاحظ وجود تعددية في الموقف حتى لدى الرجل الواحد. فمثلاً كان الإمام مالك يثبت صفة الإستواء على العرش من غير تكييف، وفي الوقت ذاته يأول صفة النزول إلى نزول أمره أو رحمته أو ملائكته، ولا يأخذ بظاهر الأحاديث التي تضمنته، معللاً ذلك بأن الله دائم لا يزول[8]. كما أنه كان ينفي بعض الصفات في الأحاديث المنقولة رغم أنها عدت فيما بعد من الصحاح؛ مثل حديث (خلق الله آدم على صورته) وحديث الكشف عن الساق[9].

وكذا كان أحمد بن حنبل يقر بالظاهر اللفظي للصفات ويفوض حقيقتها، لكنه في الوقت ذاته كان يمارس التأويل أحياناً، مثل تأويله للمعية والمجيء والإتيان والذكر المحدث الخاص بالكلام الإلهي وغيرها. فقد نقل عنه أنه تأول عدداً من آيات المعية والقرب إلى معنى العلم، مثل قوله تعالى: ((نحن أقرب إليه من حبل الوريد)) (ق/16) وقوله: ((وهو معكم أينما كنتم)) (الحديد/4) وقوله ((ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم)) إلى قوله ((هو معهم أين ما كانوا)) (الحديد/5)، معللاً ذلك بأن الله تعالى على العرش فوق السماء السابعة العليا ويعلم ذلك كله، وهو بائن من خلقه لا يخلو من علمه مكان[10]. ومن الطريف أن الكثير من السلف يأولون آيات المعية، في حين يتقبل الجهمية ظاهرها، حيث يقولون بأن الله في كل مكان، ويستشهدون بقوله تعالى: ((وهو معكم أينما كنتم)) [11].

كما نقل إبن الجوزي عن إبن حنبل أنه اعتبر الإتيان في قوله تعالى: ((هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام)) (البقرة/210) بمعنى قدرته وأمره، مثلما موضح في قوله تعالى: ((أو يأتي أمر ربك)) (النحل/33)، وكذا فإن معنى المجيء في قوله تعالى: ((وجاء ربك)) (الفجر/ 22)، هو قدرته[12]. وفي رواية أخرى عن إبن حنبل أن المقصود بالآية هو جاء ثوابه[13]. كما روي أنه سئل عن بعض الأحاديث التي تتضمن أن سورة البقرة تجيء يوم القيامة، وكذا مجيء سورة تبارك، فأجاب أن معنى ذلك هو الثواب، واستشهد عليه بتأويله لقوله تعالى: ((وجاء ربك))، حيث اعتبر أن معناه هو إتيان قدرته، وزاد على ذلك بقوله: إنما القرآن أمثال ومواعظ. لذا استدل الحافظ البيهقي بأن أحمد بن حنبل كان لا يعتقد بالمجيء الوارد في القرآن، ولا بالنزول الوارد في السنة، بمعنى الإنتقال من مكان إلى مكان، كمجيء ذوات الأجسام ونزولها، وإنما يعده عبارة عن ظهور آيات قدرته[14]. كذلك روي أنه لم يتقبل ظاهر الحديث القائل (ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي)، بل ولم يرض أن يحدّث به أحد أيام محنته المعروفة حول خلق القرآن، وقال في تأويله للحديث: إن الخلق واقع ها هنا على السماء والأرض وهذه الأشياء؛ لا على القرآن[15]. وكذا روى البيهقي أن إبن حنبل أجاب الجهمية حين احتجوا عليه بقوله تعالى: ((ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون)) (الأنبياء/2) فقال: يحتمل أن يكون تنزيله إلينا هو المحدث، لا الذكر نفسه هو المحدث. وعنه أنه قال أيضاً: يحتمل أن يكون ذكر آخر غير القرآن، وهو ذكر رسول الله (ص) أو وعظه إياهم[16]. وبعض ما احتمله إبن حنبل لتفسير الآية هو ذاته المنقول عن هشام بن عبيد الله الرازي (المتوفى سنة 221هـ)، حيث سئل كيف يكون القرآن غير مخلوق والله يقول: ((ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث))؟ فردّ على ذلك بأنه محدث إلينا وليس عند الله بمحدث، وعلق عليه الحافظ الذهبي بقوله: لأنه من علم الله وعلم الله لا يوصف بالحدث[17].

مع هذا فإن المسلك العام للسلف يميل إلى الإبتعاد عن تحديد معنى الصفات وإمرارها كما جاءت دون بحث وتنقيب، كالذي أشار إليه الذهبي بقوله: «قد فسّر علماء السلف المهم من الألفاظ وغير المهم وما أبقوا ممكناً، وآيات الصفات وأحاديثها لم يتعرضوا لتأويلها أصلاً، وهي أهم الدين، فلو كان تأويلها سائغاً أو حتماً لبادروا إليه، فعلم قطعاً أن قراءتها وإمرارها على ما جاءت هو الحق لا تفسير لها غير ذلك؛ فنؤمن بذلك ونسكت اقتداء بالسلف معتقدين أنها صفات لله تعالى استأثر الله بعلم حقائقها وأنها لا تشبه صفات المخلوقين، كما أن ذاته المقدسة لا تماثل ذوات المخلوقين، فالكتاب والسنة نطقا بها والرسول (ص) بلّغ وما تعرض لتأويل مع كون الباري قال: ((لتبين للناس ما نزل إليهم)) (النحل/ 44)، فعلينا الإيمان والتسليم للنصوص والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم»[18]. وقال أيضاً: «قد صنف أبو عبيد كتاب غريب الحديث وما تعرض لأخبار الصفات الإلهية بتأويل أبداً، ولا فسّر منها شيئاً، وقد أخبر بأنه ما لحق أحداً يفسرها، فلو كان – والله - تفسيرها سائغاً أو حتماً لأوشك أن يكون إهتمامهم بذلك فوق إهتمامهم بأحاديث الفروع والآداب، فلما لم يتعرضوا لها بتأويل وأقروها على ما وردت عليه؛ عُلم أن ذلك هو الحق الذي لا حيدة عنه»[19]. وأشار في محل آخر إلى أنه لا يرد في هذا الباب في الصفات إلا الإقراروالإمرار وتفويض معناه إلى قائله الصادق المعصوم[20].

لكن تحضرنا بعض الملاحظات؛ نجملها بما يلي:

1ـ إن التفويض لدى السلف تارة يحمل على المعنى الكلي مع استبعاد الظاهر، وأخرى يحمل على الحقيقة فحسب، كما مر معنا.

2ـ إن المتأخرين الذين نظّروا لمذهب السلف لم يلتزموا بخصوصية الإمرار الذي كان عليه السلف، بل بحثوا ونقّبوا لإثبات ما عليه الظاهر ولو مع نفي التكييف والتشبيه، كالذي مارسه إبن تيمية وأتباعه.

3ـ إن الخلاف الذي لحظناه عند السلف إزاء الصفات قد انعكس على رؤى المتأخرين من أصحاب البيان، حيث تباينت مواقفهم حول هذه الصفات إلى إتجاهات ثلاثة: مشبهة ومأولة ومفوضة، والغالب في التفويض لدى المتأخرين هو تفويض الحقيقة لا المعنى والتفسير، وأبرز من ذهب إلى ذلك إبن تيمية وأتباعه، ومن قبله أغلب الحنابلة.

ومن تجليات هذا التباين ما ظهر من نزاع بين المأولة من جهة، وبين المشبهة والمفوضة القائلين بتفويض الحقيقة لا المعنى من جهة ثانية. فقد لجأ المأولة من البيانيين إلى أساليب عديدة للرد على المشبهة ومن على شاكلتهم من القائلين بتفويض الحقيقة لا المعنى. وكان من بين هذه الأساليب اللجوء إلى البيان اللغوي والإعتبارات العقلية في الرد على الآخذين بالظاهر اللفظي، وكذا الإستنجاد بما فعله بعض الصحابة والسلف من التأويل، وأُضيف إلى ذلك الإستعانة بالمتأخرين من البيانيين الذين مارسوا التأويل، بل والإستعانة أحياناً بأصحاب الدائرة العقلية في ممارستهم التأويلية. كما أن البعض أبدى قبول التفويض دون التفسير والتأويل مع نفي الظاهر اللفظي للصفات.

فنحن هنا أمام عدد من الإتجاهات البيانية للمتأخرين. أحدها أخذ بالظاهر اللفظي والتشبيه، كالذي يظهره الكثير من الحنابلة المجسّمين. وثانيها أخذ بهذا الظاهر مع دعوى عدم التشبيه والتكييف، ناسباً ذلك إلى السلف. وهو الإتجاه الذي يمثله تيار إبن تيمية والكثير من الحنابلة. وثالثها اعتمد على البيان الديني بوصفه بياناً تاماً وكاملاً لا يحتاج إلى سلف، وبالتالي فقد اجتهد في تأويل ألفاظ الصفات والرد على خصومه من البيانيين المكيفين وغير المكيفين، وإن اعتمد بدوره على ما كان سائغاً في الإستخدام اللغوي ومنه ما سبق إليه السلف، كالذي عليه إتجاه إبن حزم الأندلسي. ورابعها نازع من ادعى بأن مذهب السلف هو الأخذ بالظاهر اللفظي من الصفات؛ حتى مع القول بعدم التشبيه والتكييف، معتبراً أن السلف كانوا ينفون الظاهر اللفظي للصفات؛ سواء بالتأويل أو التفويض الكلي. ومن أبرز من يمثل هذا الإتجاه الحافظ الحنبلي أبو الفرج بن الجوزي كما في كتابه (دفع شبه التشبيه). وقد ظهر وسط هذا الإتجاه جماعة أخذوا على عاتقهم نقل ما يروى عن السلف ومن اتبعهم من تأويلات، كما إستعان بعضهم بما قدّمه غيرهم من أصحاب الدائرة العقلية من أساليب تأويلية، كالذي سلكه الإمام النووي والحافظ إبن حجر العسقلاني.

وحيث أننا فصلنا الحديث عن نظرية عدم التكييف، كما لدى إبن تيمية، والردود التي تبنتها قبال الطريقة العقلية في دراسة مستقلة، فلم يبق إلا ابراز النزاع الذي خاضته الطرق الأخرى ضدها، مع أن جميع هذه الطرق تدخل ضمن إطار الدائرة البيانية، إذ إنتابها الصدام فيما بينها مثلما حصل الشيء ذاته مع الدائرة العقلية.

لنبدأ إذاً بالتعرّف على طبيعة النزاع البياني ونوع الإشكالات والحلول التي أثارتها الطرق البيانية المختلفة ضد تلك التي عوّلت على الظاهر اللفظي، وسنلقي الضوء على نمطين متمايزين من أنماط التوظيف المستخدم لغرض التأويل والرد، كالتالي..


1ـ التوظيف الفلسفي للتأويل

يعود هذا التوظيف إلى إبن حزم (المتوفى سنة 456هـ). وأول ما تبدأ به نظريته هو الإعتراض على لفظ الصفات، إذ يرى أن إطلاق هذا اللفظ على الله محال؛ لأنه تعالى لم ينص قط في كلامه المنزل على هذا اللفظ ولا على لفظ الصفة، ولا حفظ عن النبي (ص) بأن لله تعالى صفة أو صفات، بل ولا جاء ذلك عن أحد من الصحابة ولا عن أحد من خيار التابعين ولا حتى من خيار تابعي التابعين[21]. واعتبر أن المسؤولية في اختراع لفظ الصفات تقع على عاتق المعتزلة وهشام بن الحكم ومن شاكلهم ممن سلكوا مسلك الكلام بعيداً عن طريقة السلف. وعدّ اللفظ المذكور بدعة منكرة لا يحل لأحد النطق به[22].

ثم أنه نقد الطوائف التي أخذت على عاتقها إثبات الصفات حسب الظواهر اللفظية. فذكر أنه ذهبت طائفة إلى أن الله تعالى جسم مثلما جاء في الصفات التي وردت في القرآن والحديث، ففي القرآن مثل اليد واليدين والأيدي والعين والوجه والجنب، وكذا مجيء الرب مع الملائكة وإتيانه في ظلل من الغمام وتجليه على الجبل، أما في الحديث فمثل القدم واليمين والرجل والأصابع والنزول. وقد اعتبر إبن حزم أن لجميع هذه النصوص وجوهاً ظاهرة بينة بخلاف ما ظنته مثل هذه الطائفة. ومع أن ما تراه أن الله جسم لا كالأجسام امتثالاً لقوله تعالى: ((ليس كمثله شيء))، إلا أنه اعتبر ذلك من السفسطة، حيث معنى الجسم في اللغة هو الطويل العريض العميق المحتمل للقسمة ذي الجهات الست، وهي الفوق والتحت والوراء والأمام واليمين والشمال، فكيف على هذا يقال أنه جسم لا كالأجسام، وهو يتصف بهذه الصفات؟ واعتبر ذلك يختلف عن القول بأن الله حي لا كالأحياء، وعليم لا كالعلماء، وقادر لا كالقادرين، وشيء لا كالأشياء، إذ وردت هذه الألفاظ في النص بخلاف لفظ الجسم، والوقوف عند النص فرض. مع هذا فإبن حزم لا يعد مثل هذه الطائفة من المشبهة، بل اعتبرها ممن ألحد في أسماء الله تعالى، إذ سموه بما لم يسمِّ به نفسه[23].

هكذا وافق إبن حزم العقليين في أن الصفات التشبيهية من الوجه واليد والعين وغيرها لا يراد بها ما هو ظاهر اللفظ المفرد، خلافاً لمن وصفهم بالمجسّمة الذين جعلوا لله وجهاً ويدين وعينين وسائر الصفات التشبيهية. واعتبر أن وجه الله إنما يراد به الله تعالى مثلما يقول أصحاب الإتجاه العقلي، وقد استدل بالنصوص القرآنية ذاتها من أن الوجه لا يراد به غير الله، وذلك بقوله تعالى: ((إنما نطعمكم لوجه الله)) (الإنسان/9)، حيث من الواضح أن القائلين بذلك لم يقصدوا غير الله تعالى. ومثله قوله تعالى: ((أين ما تولوا فثم وجه الله)) (البقرة/115)، أي فثم الله[24]. واعتبر هذا الأمر يصدق أيضاً على ما جاء من أن لله يداً وأيدياً، وكذا عيناً وأعيناً، فكل هذا يقصد به الله تعالى، ولا يقصد به ما هو ظاهر اللفظ، ومنع القول أن لله عينين حيث لم يرد بذلك نص ولا خبر[25]، كما منع تفسير الأيدي باليدين، ومثله تفسير الأعين بالعينين، وعدّ ذلك مدخلاً في قول المجسّمة، واعتبر أن لله يداً ويدين وأيدياً وعيناً وأعيناً كما جاء في النص، وكل ذلك لا يراد به غير الله كما هو واضح من السياق، وليس في النص ما يقول بأن لله يداً لا تعرف ذاتها، ولا أن لله وجهاً لا تعرف حقيقته، فالظاهر لا يدل على ذلك. ومثله ما جاء عن النبي من أن كلتا يديه يمين، فهو كقوله تعالى: ((وما ملكت أيمانكم)) (النساء/36)، أي وما ملكتم، حيث لما كانت اليمين في لغة العرب يراد بها الحظ للأفضل، فإن معنى (كلتا يديه يمين) أي كل ما يكون منه تعالى من الفضل فهو الأعلى[26].

كما أجرى إبن حزم التأويل في عدد من آيات الصفات، ومن ذلك صفة المعية والمكان، مثل قوله تعالى: ((ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)) (ق/16) وقوله: ((ونحن أقرب إليه منكم)) (الواقعة/85) وقوله: ((ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم)) (المجادلة/7)؛ معتبراً معنى هذه الآيات يفيد التدبير والإحاطة دون الصفة المكانية، بإعتبار أن ذلك يفضي إلى القول بالجسمية، إذ ما كان في مكان فإنه متناه بتناهي مكانه، وهو من صفات الجسم. وعارض إبن حزم الذين قالوا بأن الله في كل مكان، كما عارض من قال أنه في جهة ما من الأمكنة[27]، وردّ عليهم بما استشهد به من قوله تعالى: ((ألا أنه بكل شيء محيط)) (فصلت/54)، حيث أن مفهوم الآية يوجب ضرورة بأن الله ليس في مكان، إذ لو كان في المكان لكان المكان محيطاً به من جهة ما أو من جهات، وهو منتف بحق الله حسب الآية المذكورة، حيث المكان شيء، ومن المحال أن يكون فيه شيء آخر محيط بالأول (المكان) [28].

وعلى هذه الشاكلة قام إبن حزم بتأويل آية الإستواء على العرش لينفي البعد المكاني والجسمي عن الله تعالى، معتبراً أن معنى قوله تعالى: ((على العرش استوى)) (طه/5) هو أن الله فعل فعله في العرش، وهو انتهاء خلقه إليه، فليس بعد العرش شيء، مستدلاً على ذلك بما جاء عن النبي من ذكر الجنات، حيث قال (ص): فاسألوا الله الفردوس الأعلى فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوق ذلك عرش الرحمن، مما يدل أنه ليس وراء العرش خلق، وأنه نهاية جرم المخلوقات الذي ليس خلفه خلاء ولا ملاء.. كما استدل بأن معنى الإستواء في اللغة هو أن يقع على الإنتهاء مثلما جاء في قوله تعالى: ((فلما بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً وعلماً)) (يوسف/22)، أي فلما انتهى إلى القوة والخير، وكذا قوله تعالى: ((ثم استوى إلى السماء وهي دخان)) (فصلت/11)، أي أن خلقه وفعله انتهى إلى السماء بعد أن رتّب الأرض على ما هي عليه[29].

مع هذا فقد توقف إبن حزم عند معنى قوله تعالى: ((ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية)) (الحاقة/17)، مفوضاً معناه إلى علم الله، وإن احتمل بأن المقصود بذلك هو السموات السبع والكرسي، فهي ثمانية أجرام، كما قد يكون المعنى هو ثمانية ملائكة حسب ظاهر النص، معتبراً كل ذلك من الغيب الذي لم يصح فيه خبر عن النبي حتى يقال فيه شيء، سوى القول ((آمنا به كل من عند ربنا)) (آل عمران/7) [30].

كذلك قام إبن حزم بتأويل آيات السمع والبصر، وهو أن المقصود منها علمه تعالى، لا أن له سمعاً وبصراً مثلما هو الحال في الشاهد، سيما وأنه لم يرد في النص بأن له سمعاً وبصراً، بل ورد أنه سميع بصير، وحيث أنه ليس كمثله شيء فهو سميع بصير بذاته، بل أن معنى كونه سميعاً بصيراً هو أنه عليم، وأن معنى ((أسمع وأرى)) (طه/46) هو إطلاق له على كل شيء على عمومه، وهو بالتالي مفاد العلم[31]. ومثله ما روي عن السيدة عائشة أنها قالت: «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات» حيث اعتبر سمعه بمعنى علمه[32].

كما اعتبر أن العلم الإلهي ليس غير الله، وكذا قدرته وقوته، وذلك على شاكلة ما ذهبت إليه بعض الإتجاهات العقلية في ردها للصفات إلى الذات الإلهية. لكن إبن حزم استدل على هذا الأمر بالنص القرآني، وهو قوله تعالى: ((ليس كمثله شيء))، حيث دلّ النص على أن الله خلاف خلقه من كل وجه، إذ لا يكون مثل هذا الخلاف المطلق إلا عند إعتبار علمه وسائر أسمائه هي ليست غيره[33]. فكونه سميعاً بصيراً عليماً حكيماً لا يقتضي أن يكون له سمع وبصر وعلم وحكمة كما هو في الشاهد، ناهيك عن النفي الخاص بالصفات التشبيهية كاليد والوجه والعين وما اليها[34]. فلولا النص لما جاز إطلاق تلك الأسماء عليه، أو كما قال إبن حزم: «وأما نحن فلولا النص الوارد بعليم وقدير وعالم الغيب والشهادة وقادر على أن يخلق مثلهم والحي؛ لما جاز أن يسمى الله تعالى بشيءٍ من هذا أصلاً، ولا يجوز أن يقال حي بحياة البتة»[35]. وقال أيضاً: «إن كل ما لم ينص الله تعالى عليه من وصفه لنفسه ومن أسمائه فلا يحل لأحد أن يخبر عنه تعالى، وأن كل ما نص الله عز وجل عليه من أسمائه وما أخبر به تعالى عن نفسه فهو حق ندين الله تعالى بالإقرار به»[36].

وقد اضطر إبن حزم – أحياناً - إلى أن يخرج عن السياق السابق من تأويل بعض الأسماء إلى العلم، كالبصر مثلاً، ففي الحديث المصحح جاء عن النبي قوله: «ما بينهم وبين أن يروه إلا رداء الكبرياء على وجهه لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره» اعتبر إبن حزم أن معنى البصر قد يستعمل في اللغة بمعنى الحفظ، كما يقول النابغة: (رأيتك ترعاني بعين بصيرة وتبعث حراساً عليّ وناظراً)، فمعنى الحديث هو أنه لو كشف تعالى الستر الذي جعل دون سطوته لأحرقت عظمته ما انتهى إليه حفظه ورعايته من خلقه. ومنع أن يكون معنى البصر هو الظاهر بإعتباره ذا نهاية، وكل ذي نهاية محدود، وكل محدود محدث[37].

وعلى هذه الشاكلة أحضر إبن حزم جملة من النصوص التشبيهية لتأويلها، مثل لفظ (الساق) الوارد في القرآن والحديث، كما في قوله تعالى ((يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون)) (القلم/42). فقد اعتبر إبن حزم أن معنى ذلك هو الإخبار عن شدة الأمر، واستشهد عليه ببعض الأبيات الشعرية للعرب، وهو قولهم: (قد شمرت الحرب عن الأدب سامي الطرف من آل مازن إذا شمرت عن ساقها الحرب شمرا) [38]. ويعود هذا التأويل إلى إبن عباس الذي اعتبر الآية السابقة تشير إلى الشدة والأمر المهول.

كما اعتبر لفظ (القدم) الوارد في الأحاديث التي تشير إلى أن جهنم لا تمتلىء حتى يضع الله فيها قدمه، هو بمعنى الأمة التي تقدم، استناداً إلى معنى القدم في قوله تعالى: ((إن لهم قدم صدق عند ربهم)) (يونس/2)، أي سالف صدق، لذا رأى أن معنى الحديث هو الأمة التي تقدم في علمه تعالى أنه يملأ بها جهنم، وقريب من هذا المعنى ما جاء حول لفظ (رجله) في عدد من الأحاديث، لأن الرجل تعني الجماعة في اللغة، أي يضع فيها الجماعة التي قد سبق في علمه تعالى أنه يملأ جهنم بها[39]. وهذا التأويل سبق إليه بعض السلف كما ينقل عن النضر بن شميل.

وكذا اعتبر أن معنى أصابع الله كما في الحديث: (إن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الله) هو التدبير والنعم، أي أن قلب المؤمن بين تدبيرين ونعمتين من تدبير الله ونعمه؛ إما كفاية تسره وإما بلاء يأجره عليه، حيث الإصبع في اللغة هو النعمة[40].

كذلك جاء لفظ (المجيء والإتيان) في عدد من الآيات القرآنية مثل قوله تعالى: ((وجاء ربك والملك صفاً صفاً)) (الفجر/22)، وقوله: ((هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر)) (البقرة/210)، وقد اعتبره إبن حزم دالاً على فعل يفعله الله يوم القيامة فيسمى مجيئاً وإتياناً، واستشهد على ذلك بما رواه عن أحمد بن حنبل من أن معنى الآية ((وجاء ربك)) هو: جاء أمر ربك[41].

وكذا اعتبر معنى النزول في الحديث النبوي (انه ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا) بأنه صفة فعل وليس صفة ذات وإلا كان جسماً، وهو ممتنع، كما اعتبر النزول المذكور معلقاً بوقت محدود، فصح أنه فعل محدث في ذلك الوقت، في حين أن ما لم يزل ليس متعلقاً بزمان البتة[42].

وعلى هذه الشاكلة من التأويل اعتبر لفظ (الصورة) في الحديث القائل: (خلق الله آدم على صورته) قد جاء للملكية، أي الصورة التي تخيّرها الله تعالى ليكون آدم مصوراً عليها، والصور كلها لله تعالى، إذ هي ملكه وخلقه[43].

اخيراً يمكن القول أن كل ما فعله إبن حزم من تأويل إنما هو بايعاز «فلسفي» للآية القرآنية ((ليس كمثله شيء)). فقد أخذ معنى الآية على ظاهرها، وهو أن الله ليس له مثل من جميع الوجوه، وبالتالي فكل ما يتبادر معارضته لظاهر هذه الآية لا بد من تأويله، سواء كان ذلك بفعل الأساليب اللغوية والنقلية، أو بفعل الممارسات العقلية كالمنطقية والفلسفية وما إليها. وهو مع كل هذا وذاك تراه متأثراً بالمقولات الفلسفية للنظام الوجودي، فهو يقول كما يرى الفلاسفة: إن لله ماهية هي عين أنيته أو وجوده، خلافاً لغيره من الكائنات التي تمتاز بإختلاف الأنية عن الماهية[44].


2ـ التوظيف النقلي للتأويل

يعد أبو الفرج بن الجوزي ( المتوفى سنة 597هـ) أهم شخصية بيانية للرد على البيانيين الذين تقبلوا الظواهر اللفظية من الصفات الإلهية مع قيد (ليس كمثله شيء). ذلك أنه زيّف هذا الجمع المفتعل بين الأمرين كالذي عليه طريقة أغلب الحنابلة التي انتصر لها إبن تيمية - فيما بعد - وادعى أن السلف كانوا يذهبون إليها دون خلاف. فعلى العكس من ذلك نفى إبن الجوزي أن تكون طريقة السلف - بما فيها طريقة أحمد بن حنبل - كما تصورها المتأخرون من الحنابلة، وأيّد ذلك بما نقله من الآثار التي تشير إلى أنهم لم يتقبلوا الظواهر اللفظية للصفات، بل أجروا عليها شتى أنواع التأويل، وإن كان أغلبهم أمر بإمرارها دون تأويل ولا تفسير.

لقد ألّف إبن الجوزي كتابه (دفع شبه التشبيه) رداً على أصحابه من أتباع الإمام أحمد بن حنبل، فذكر في ديباجته أنه رأى من أصحابه من تكلم في الأصول بما لا يصلح، وانتدب للتصنيف ثلاثة، هم أبو عبد الله بن حامد البغدادي (المتوفى سنة 403هـ)، وصاحبه القاضي أبو يعلى الحنبلي (المتوفى سنة 458هـ)، وإبن الزاغوني (المتوفى سنة 527هـ)، ووصفهم بأنهم صنفوا كتباً شانوا بها المذهب، إذ حملوا الصفات على مقتضى الحس، فسمعوا أن الله تعالى خلق آدم على صورته، فأثبتوا له صورة ووجهاً زائداً على الذات، وعينين وفماً ولهوات وأضراساً وأضواء لوجهه هي السبحات ويدين وأصابع وكفاً وخنصراً وإبهاماً وصدراً وفخذاً وساقين ورجلين، وقالوا: ما سمعنا بذكر الرأس، كما قالوا: يجوز أن يمس ويُمس، ويدني العبد من ذاته. وقال بعضهم أنه يتنفس أيضاً، لكنهم مع ذلك يستدركون ويقولون أن هذه الصفات لا كما يعقل ويتصور، وأنها صفات ذات لا فعل. ومع أنهم حملوا النصوص على ظواهرها اللفظية لكنهم تحرجوا من التشبيه، مع أن كلامهم كما يقول إبن الجوزي صريح في التشبيه والتجسيم المفرط، وأن ذلك صار مدعاة لتهمة من كان حنبلياً.

واعتبر إبن الجوزي أنه لا غنى من إستخدام العقل في مثل هذه الموارد، فهو أصل قد عُرف به الله وحُكم عليه بالقِدم[45]. وهو ذات التبرير الذي قدمته الدائرة العقلية في ممارستها للتأويل ورفض الظواهر اللفظية عند معارضتها للعقل، كما مر معنا سابقاً. لذلك سعى للرد على الحنابلة الثلاثة وتأويل ما قدموه من الظواهر التشبيهية الواردة في كل من القرآن والسنة. وعول في هذا الأمر على الترتيب الذي قدمه أبو يعلى الحنبلي للصفات المذكورة[46]. وقد كان لذلك رد فعل من قبل بعض الحنابلة المتشددين، إذ هاجمه إسحاق بن أحمد العلثي (المتوفى سنة 634هـ) برسالة طويلة شديدة اللهجة، واتهمه بالتناقض؛ لأنه ممن ينتحل مذهب السلف، ولا يرى الخوض في الكلام، ثم يقْدم على تفسير ما لم يره، ويقول: إذا قلنا كذا أدى إلى كذا، ويقيس ما ثبت من صفات الخالق على ما لم يثبت عنده، وينقض عهده وقوله بقول فلان وفلان من المتأخرين[47].

كما قام عدد من الحفاظ والبيانيين بالرد على المشبهة والآخذين بالظواهر اللفظية من الصفات، ووظفوا لذلك مقالات السلف وغيرهم من البيانيين الذين مارسوا التأويل. وكان من بين هؤلاء الإمام النووي والحافظ إبن حجر العسقلاني وإبن دقيق العيد وغيرهم، حيث وجدوا لكل صفة تذكر، سواء في القرآن أو الحديث، تأويلاً أو أكثر ينسب إلى السلف أو من جاء بعدهم من البيانيين، من أمثال القاضي عياض وأبي سليمان حمد الخطابي وإبن عقيل وإبن بطال وغيرهم.

فقد ذكر النووي أن لأهل العلم في أحاديث وآيات الصفات قولين: أحدهما يعود إلى معظم السلف أو كلهم، ومفاده أنه لا يصح التكلم في معناها، بل يجب الإيمان بها والإعتقاد أن لها معنى يليق بجلال الله وعظمته، مع الإعتقاد الجازم بأن الله تعالى ليس كمثله شيء، وأنه منزه عن التجسم والانتقال والتحيز في جهة وعن سائر صفات المخلوق. وهو قول نسبه النووي أيضاً إلى جماعة من المتكلمين، واعتبره أسلم القولين. أما الثاني فيعود إلى معظم المتكلمين، ومفاده أنه ينبغي أن تتأول الصفات بما يليق ويناسب مواقعها، تبعاً للسان العرب وأصول العلم. وهو يوصي أن يكون المأول عارفاً باللغة وقواعد الأصول والفروع وذا رياضة في العلم[48].

كما ذكر إبن حجر العسقلاني أن الخلاف حول الصفات الموهمة للتشبيه يندرج في ثلاثة أقوال: أحدها أنها صفات ذات أثبتها السمع ولا يهتدي إليها العقل. والثاني أنها تعرف بالتأويل، فالعين كناية عن صفة البصر، واليد كناية عن صفة القدرة، والوجه كناية عن صفة الوجود.. الخ. أما القول الثالث فهو امرارها على ما جاءت وتفويض معناها إلى الله تعالى. واستشهد على القول الأخير بما ذكره شهاب الدين السهروردي من أن الله أخبر في كتابه وثبت عن رسوله الإستواء والنزول والنفس واليد والعين، فلا يتصرف فيها بتشبيه ولا تعطيل، إذ لولا إخبار الله ورسوله ما تجاسر عقل أن يحوم حول ذلك الحمى. وعلّق الطيبي عليه بأن هذا هو المذهب المعتمد وبه يقول السلف الصالح. كما استشهد بقول غيره دون أن يسميه: أنه لم ينقل عن النبي (ص) ولا عن أحد من أصحابه من طريق صحيح التصريح بوجوب تأويل شيء من ذلك، ولا المنع من ذكره، ومن المحال أن يأمر الله نبيه بتبليغ ما أنزل إليه من ربه وينزل عليه ((اليوم أكملت لكم دينكم)) (المائدة/3) ثم يترك هذا الباب فلا يميز ما يجوز نسبته إليه مما لا يجوز، مع حضه على التبليغ عنه بقوله: (ليبلغ الشاهد الغائب) حتى نقلوا أقواله وأفعاله وأحواله وصفاته وما فعل بحضرته، فدلّ على أنهم اتفقوا على الإيمان بها على الوجه الذي أراده الله منها ووجب تنزيهه عن مشابهة المخلوقات[49].

على أن موقف إبن حجر من هذه الأقوال الثلاثة هو تقبل كلا المسلكين الأخيرين الخاصين بالتفويض والتأويل ضد المسلك الأول المثبت للصفات حسب ظهورها اللفظي. وكما قال: «إن أصل ما ذكروه قياس الغائب على الشاهد، وهو أصل كل خبط، والصواب الإمساك عن أمثال هذه المباحث، والتفويض إلى الله في جميعها، والإكتفاء بالإيمان بكل ما أوجب الله في كتابه أو على لسان نبيه إثباته له، أو تنزيهه عنه على طريق الإجمال. ولو لم يمكن في ترجيح التفويض على التأويل إلا أن صاحب التأويل ليس جازماً بتأويله بخلاف صاحب التفويض»[50].

في حين ذهب بعض المتأخرين البيانيين إلى تفصيل الأمر حول تأويل الصفات وعدمه، كالذي عليه إبن دقيق العيد الذي رجح تأويلها عندما توهم التشبيه، فكما قال: «نقول في الصفات المشكلة أنها حق وصدق على المعنى الذي اراده الله، ومن تأولها نظرنا فإن كان تأويله قريباً على مقتضى لسان العرب لم ننكر عليه، وإن كان بعيداً توقفنا عنه ورجعنا إلى التصديق مع التنزيه، وما كان منها معناه ظاهراً مفهوماً من تخاطب العرب حملناه عليه، مثل قوله تعالى: ((يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله)) (الزمر/56) فإن المراد به في إستعمالهم الشائع حق الله؛ فلا يتوقف في حمله عليه، وكذا قول النبي: (إن قلب إبن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن) فإن المراد به إرادة قلب إبن آدم مصرفة بقدرة الله وما يوقعه فيه، وكذا قوله تعالى: ((فأتى الله بنيانهم من القواعد)) (النحل/26) معناه خرّب الله بنيانهم، وقوله: ((إنما نطعمكم لوجه الله)) (الإنسان/9) معناه لأجل الله»[51].



[1]  مقالات الإسلاميين وإختلاف المصلين، ج1، ضمن فقرة: واختلفوا هل يقال لله وجه أم لا؟

[2]  درء تعارض العقل والنقل، ج4، ضمن فصل حول ما ذكره أبو الحسن الآمدي.

[3]  نعم ورد عن أم سلمة أنها قالت في الإستواء للآية ((ثم استوى على العرش)) (الأعراف/54): الكيف غير معقول، والإستواء غير مجهول، والإقراربه إيمان، والجحود به كفر (جلال الدين السيوطي: الدر المنثور في التفسير بالمأثور، دار المعرفة، بيروت، عن مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ج3، ص91. وفتح الباري، ج13، ص342). لكن هذا القول ينسب - عادة - إلى علماء القرن الثاني للهجرة، لكثرة الرواية عنهم، ومن ذلك ما روي بعدد من الروايات والطرق عن مالك وربيعة (الدر المنثور، ج3، ص91. وسير أعلام النبلاء، ج8، فقرة 100ـ101 و106ـ107 ).

[4]  النووي: المنهاج شرح صحيح مسلم، شبكة المشكاة الإلكترونية، ج1، كتاب الايمان، باب معرفة طريق الرؤية (لم تذكر ارقام صفحاته). وتفسير الطبري، مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ج3، ص15ـ17. وفتح الباري، ج13، ص359 و403.

[5]  وفي رواية أخرى قوله: ما وصف الله به نفسه فتفسيره قراءته، ليس لأحد أن يفسره إلا الله تعالى ورسله (الدر المنثور، مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ج3، ص92). أو قوله: كل ما وصف الله به نفسه فى القرآن فقراءته تفسيره لا كيف ولا مثل (علي بن عمر الدارقطني: كتاب الصفات، تحقيق عبد الله الغنيمان، مكتبة الدار، المدينة المنورة، الطبعة الأولى، 1402هـ، عن شبكة المشكاة الإلكترونية، فقرة 61، ص41. وفتح الباري، ج13، ص343).

[6]  كتاب الصفات، فقرة 57ـ58، ص40. وسير أعلام النبلاء، ج10، فقرة 505، وج8، فقرة 162. والترمذي: الجامع الصحيح لسنن الترمذي، شبكة المشكاة الإلكترونية، ج4، باب ما جاء في خلود أهل الجنة وأهل النار، فقرة 2557.

[7]  سير أعلام النبلاء ج8، فقرة 162. وكتاب الصفات، فقرة 67، ص44، وفقرة 63، ص42.

[8]  سير أعلام النبلاء، ج8، فقرة 105. ومرهم العلل المعضلة، ص251.

[9]  فقد قال إبن القاسم: سألت مالكاً عمن حدّث بالحديث الذين قالوا أن الله خلق آدم على صورته، والحديث الذي جاء أن الله يكشف عن ساقه، وأنه يدخل يده في جهنم حتى يخرج من أراد، فأنكر مالك ذلك إنكاراً شديداً ونهى أن يحدث به أحد، فقيل له أن ناساً من أهل العلم يتحدثون به، فقال من هو؟ قيل إبن عجلان عن أبي الزناد، قال: لم يكن إبن عجلان يعرف هذه الأشياء، ولم يكن عالماً، وذكر أبا الزناد فقال: لم يزل عاملاً لهؤلاء حتى مات (سير أعلام النبلاء، ج8، فقرة 103ـ104).

[10]  طبقات الحنابلة، ج1، مادة (أحمد بن جعفر بن يعقوب الاصطخري).

[11]  سير أعلام النبلاء، ج8، فقرة 402. وإبن أبي شيبة: كتاب العرش، عن مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ص50.

[12]  دفع شبه التشبيه، ص141.

[13]  إبن كثير: البداية والنهاية، حققه ودقق أصوله وعلق حواشيه علي شيري، دار إحياء التراث العربي، عن مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ج10، ص361.

[14]  الكوثري: تكملة الرد على نونية إبن القيم، نشر ضمن: السيف الصقيل في الرد على إبن زفيل، ص138.

[15]  سير أعلام النبلاء، ج10، فقرة 578.

[16]  البداية والنهاية، ج10، ص361.

[17]  سير أعلام النبلاء، ج10، فقرة 447.

[18]  سير أعلام النبلاء، ج10، فقرة 506. كذلك: فتح الباري، ج13، ص343.

[19]  سير أعلام النبلاء، ج8، فقرة 162.

[20]  سير أعلام النبلاء، ج8، فقرة 105.

[21]  وقد رد إبن حزم على ما قد يقال أنه وردت لفظة الصفات في احدى الروايات، حيث روي عن عائشة في الرجل الذي كان يقرأ ((قل هو الله أحد)) في كل ركعة مع سورة أخرى، وأن رسول الله (ص) أمر أن يسأل عن ذلك فقال: هي صفة الرحمن فأنا أحبها فأخبره النبي أن الله يحبه. فقد علّق إبن حزم على هذا الحديث معتبراً أنه قد انفرد بروايته سعيد بن أبي هلال، وهو ليس بالقوي، ويعد مخلطاً لدى كل من يحيى بن معين وأحمد بن حنبل، كما أن الحديث يدل على وجود خصوصية لسورة التوحيد، وهي أنها صفة الرحمن دون غيرها من سور القرآن وكذا أسماء الله تعالى، أي أنها بهذا لا تدل على إثبات الصفات لأسماء الله تعالى مثل علمه وقدرته وحياته وكلامه وغيرها. فالصفة التي يطلقونها إنما هي في اللغة واقعة على عرض في جوهر لا على غير ذلك أصلاً (الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج2، فقرة الكلام في التوحيد ونفي التشبيه).

[22]  الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج2، فقرة الكلام في التوحيد ونفي التشبيه.

[23]  المصدر السابق، ج2، فقرة الكلام في التوحيد ونفي التشبيه.

[24]  نفس المصدر السابق، ج2، فقرة الكلام في الوجه واليد والعين والجنب والقدم.

[25]  الحقيقة أن هناك نصاً صريحاً بوجود عينين، كما في الرواية عن أبي هريرة من أن النبي (ص) قال: إن العبد إذا قام في الصلاة قام بين عيني الرحمن، فإذا التفت قال له ربه: إلى من تلتفت إلى خير لك مني (ابن القيم الجوزية: الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، شبكة المشكاة الإلكترونية، ضمن الفصل الثامن (لم تذكر ارقام صفحاته ولا فقراته).

[26]  الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج2، فقرة الكلام في الوجه واليد والعين والجنب والقدم.

[27]  المصدر السابق، ج2، فقرة القول في المكان والإستواء.

[28]  المصدر السابق، ج2، فقرة الرحمن على العرش استوى.

[29]  المصدر السابق، ج2، فقرة الرحمن على العرش استوى.

[30]  نفس المصدر السابق والفقرة.

[31]  المصدر السابق، ج2، فقرة الرحمن على العرش استوى، وفقرة الكلام في العلم.

[32]  المصدر السابق، ج2، فقرة الكلام في العلم.

[33]  المصدر السابق، ج2، فقرة الكلام في العلم.

[34]  نفس المصدر السابق والفقرة.

[35]  نفس المصدر السابق والفقرة.

[36]  نفس المصدر السابق والفقرة.

[37]  نفس المصدر السابق والفقرة.

[38]  المصدر السابق، ج2، فقرة الكلام في الوجه واليد والعين والجنب والقدم.

[39]  نفس المصدر السابق والفقرة.

[40]  نفس المصدر السابق والفقرة.

[41]  نفس المصدر السابق والفقرة.

[42]  نفس المصدر السابق والفقرة.

[43]  نفس المصدر السابق والفقرة.

[44]  المصدر السابق، ج2، فقرة الكلام في المائية.

[45]  دفع شبه التشبيه، ص97ـ102.

[46]  دفع شبه التشبيه، ص112.

[47]  إبن رجب الحنبلي: ذيل طبقات الحنابلة، شبكة المشكاة الإلكترونية، ج2، فقرة إسحاق بن أحمد العلثي (لم تذكر ارقام صفحاته).

[48]  المنهاج شرح صحيح مسلم، ج1، كتاب الايمان، باب معرفة طريق الرؤية.

[49]  فتح الباري، ج13، ص330.

[50]  فتح الباري، ج13، ص324.

[51]  فتح الباري، ج13، ص323ـ324. وفي تصريح آخر قال إبن دقيق العيد: إذا كان التأويل من المجاز البيّن الشايع فالحق سلوكه من غير توقف، أو من المجاز البعيد الشاذ فالحق تركه، وإن استوى الأمران فالإختلاف في جوازه وعدم جوازه مسألة فقهية اجتهادية والأمر فيها ليس بالخطر بالنسبة للفريقين (تكملة الرد على نونية إبن القيم، نشر ضمن: السيف الصقيل، ص151).

comments powered by Disqus