-
ع
+

المثقف وطريقة النظر في الفقه

 يحيى محمد

معلوم ان مصطلح «النظر» شائع الإستعمال عند المتكلمين، وهو يكسب أهمية خاصة لدى أهل الإعتزال، حتى أن القاضي عبد الجبار الهمداني خصص له كتاباً مستقلاً ضمن موسوعته الكلامية (المغني في أبواب التوحيد والعدل)، وعرّفه بأنه عبارة عن التفكير في الأدلة على إختلافها[1]. كما أن هذا اللفظ إستخدمه بعض الأصوليين والفقهاء، وهم يعنون به التفكير في الأدلة الفقهية لمن له حصيلة من العلم سواء كان مجتهداً أو غير مجتهد[2].

أما بحسب ما نراه من وجود مرتبة وسطى بين الإجتهاد والتقليد؛ فقد آثرنا أن نطلق عليها الإصطلاح ذاته، فالنظر هو تفكير المكلف في الأدلة. وهو بهذا المعنى لا يختلف عما أراد به المتكلمون والفقهاء، وإن كان يشترط فيه جنبة أخرى مضافة، وهي الترجيح بين الأدلة والأخذ بأقواها.

هكذا تتحدد هذه الطريقة بنظر المكلف في أدلة المجتهدين ومن ثم ترجيح بعضها على البعض الآخر، أو الإقتناع به وعدمه حسبما يمليه عليه الوجدان والإطمئنان. وبذلك تختلف عن كل من طرق الإجتهاد والتقليد والإتباع.

فمعنى الإجتهاد أساساً هو النظر في النص وإستنباط الحكم الشرعي منه مباشرة وغير مباشرة، كما في القياس لأنه يعتمد على النص كأصل، وهو بذلك غير موجّه للنظر في أدلة المجتهدين إلا بالعرض ليفاد منها التنبيه على عملية الإستنباط التي تشكل العمود الفقري وحجر الزاوية من عملية الإجتهاد، خلافاً لطريقة النظر باعتبارها معنية بالترجيح والإقتناع بأدلة المجتهدين، وليس من مهمتها القيام بعملية الإستنباط، رغم ما يحصل بينهما من تداخل أحياناً، فيكون المجتهد ناظراً عندما يكتفي بممارسة ترجيح بعض الأدلة المطروحة على البعض الآخر، بحيث لولا هذه الأدلة ما كان بإمكانه أن يتوصل إلى المطلوب، وهو ما يعني عجزه عن أن يستنبط الحكم الشرعي من مصادره وأُصوله المباشرة. كذلك يمكن للناظر أن يكون مجتهداً أحياناً، كما لو أن ترجيحه لبعض الأدلة لم يكن مجرد ترجيح، بل كان بإمكانه الاستدلال على المطلوب حتى مع عدم علمه بما هو مطروح من الأدلة الإجتهادية.

أما معنى التقليد فهو إتباع ما يفضي إليه قول المجتهد دون فحص دليله. وهو بهذا يختلف عن النظر الذي يشترط فيه فحص الدليل والنظر فيه. كذلك فإن معنى الإتباع هو الأخذ بالنص أو السيرة عند الوضوح من غير إجتهاد، وهو بهذا يختلف عن النظر، فهذا الأخير قائم على وجود الإجتهاد الذي ينشأ عند غياب النص الواضح والصريح. لذلك فالإتباع مقدم على الإجتهاد، فعند إمكان الإتباع يحرم الإجتهاد، وعند عدمه يجب هذا الأخير.

الإتجاه السني والنظر

لاحظنا في طبقات الفقهاء للإتجاه السني أن هناك أطرافاً لا تعد من المقلدين ولا من المجتهدين، لا سيما اولئك الذين أطلق عليهم (المرجحون). فقد نُقل عن المتأخرين بأن طريقتهم تختلف عن المتقدمين في أخذ الأحكام، إذ كان المتقدمون أول ما ينظرون في الكتاب والسنة ليجدوا ضالتهم في تحديد الحكم الشرعي، في حين أول ما يبدأ به المتأخرون هو النظر في أقوال المجتهدين؛ فإن وجدوا بينهم إختلافاً عولوا على أقرب الأقوال وأرجحها[3].

لكن من الواضح أن المقصود بالمرجحين – هنا – هم الفقهاء لا عامة الناس، حتى أن الكثير منهم قد عوّل على التقليد رغم قدرته على التمييز والترجيح كما سنرى.

وقد ظهر اختلاف لدى المتأخرين حول وظيفة العالم غير المجتهد. فبعضهم رأى ان من الواجب عليه التقليد، في حين رأى بعض آخر انه لا يجب عليه ذلك، حيث له صلاحية أخذ الحكم من الدليل وان لم يكن مجتهداً[4]، أي انه يمارس طريقة النظر في الأدلة المطروحة.

بل سبق لأصحاب المذاهب الأربعة أن دعوا إلى ما يناسب تلك الطريقة ونهوا عن التقليد. إذ جاء عن أبي حنيفة قوله: «علمنا هذا رأي لنا وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن منه فهو الصواب، ولا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين  قلناه»[5]. وكان مالك يقول: «إنما أنا بشر أُخطئ وأُصيب، فانظروا في رأيي فإن وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافقهما فاتركوه»[6]، وقوله: ليس كل ما قال رجل قولاً وإن كان له فضل يُتبع عليه، لقوله عز وجل: ((وبشر عبادِ الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه))[7]. وكان الشافعي يقول: «لا تقلدوني في كل ما أقول، وانظروا في ذلك فإنه دين»[8]. وقد عرف عن داود انه منع المكلف من التقليد مطلقاً، ورأى ان على الجميع الإجتهاد، فمن لم يستطع منهم يسأل غيره؛ على ان لا يقبل قوله من غير تقديم الدليل عليه من الكتاب أو السنة أو الاجماع، والا فعليه ان يسأل غيره من العلماء[9]، وربما إلى هذا المعنى ذهب ابن حنبل الذي منع التقليد على الناس.

ويظهر أن هذه النصوص التي نقلناها، أو على الأقل بعضها، تدل على أن المخاطب عند أئمة المذاهب هو عموم المكلفين من دون تمييز بين العالم المختص وغيره. فكأن غرض هذه النصوص هو تربية الناس على النظر في أدلة المجتهدين بلا تقليد.

النظر وعواقب سد باب الإجتهاد

ذكر ولي الله دهلوي في كتابه (ازالة الخفاء) بأنه «حتى انقراض الدولة الاموية لم يكن أحد يدعو نفسه حنفياً أو شافعياً، وانما كانوا يستنبطون المسائل بالأدلة الشرعية على طريقة أئمتهم وأساتذتهم. ولما كان زمان الدولة العباسية اتخذ كل واحد من المسلمين نسبة معينة له. وبلغ من شدة تقليدهم انهم لم يكونوا يحكمون في أمر بحجج القرآن والسنة ما لم يجدوا فيه نصاً من نصوص أكابر مذهبهم، وبذلك رسخت فيهم واستحكمت بينهم الاختلافات التي نشأت عن الاختلاف في تأويل القرآن والسنة بين علماء السلف. ثم لما انقضت الدولة العربية وقام مقامها الحكم التركي وانتشر الناس في شتى الممالك، اتخذ كلهم ما كان يذكره من تعاليم مذهبه الفقهي أصلاً ومرجعاً، فأصبح ما كان قبل ذلك في حكم المذهب المستنبط سنة مستقرة. وبقي مدار عملهم الآن على ان يخرّجوا من المخرج ويفرّعوا من المفرع!»[10].

على ذلك إن أهم ما ترتب على عملية سد باب الإجتهاد وحصر العمل بالمذاهب الأربعة هو إلزام الناس، ومنهم العلماء، بعدم ممارسة النظر والترجيح خارج نطاق تلك المذاهب المعترف بها. بل طال الأمر بمنع الناس من النظر والترجيح خارج حدود المذهب المتبع. وهو ما سنسلط عليه الضوء كما يلي..

 1ـ الالزام في اطار المذاهب الأربعة

فمن حيث الالزام في اطار المذاهب الأربعة منع دعاة التقليد الناس من الركون إلى النصوص وعمل الصحابة وغيرهم من التابعين والفقهاء ممن هم خارج دائرة هذه المذاهب، حتى قال بعضهم: «لا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما أدّاه ذلك إلى الكفر، فان الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من اصول الكفر»[11].

وقد تمسك نهاة النظر ودعاة الحصر والتقليد في المذاهب الأربعة ببعض المبررات نجملها بالشبهتين التاليتين:

 أ ـ فأول ما يرد من شبهة هو ان الأئمة الأربعة، كما قال إمام الحرمين الجويني، قد سبروا ونظروا وبوبوا، في حين ان الصحابة لم «يعتنوا بتهذيب المسائل والإجتهاد وايضاح طرق النظر بخلاف من بعدهم». وكذا ذكر الشيخ تقي الدين بن الصلاح من ان التقليد يتعين لهذه الأئمة الأربعة دون غيرهم «لأن مذاهبهم انتشرت وانبسطت حتى ظهر فيها تقييد مطلقها وتخصيص عامها وشروط فروعها، فاذا إطلقوا حكماً في موضع وجد مكملاً في موضع آخر، وأما غيرهم فتنقل عنه الفتاوى مجردة، فلعل لها مكملاً أو مقيداً أو مخصصاً لو انضبط كلام قائله لظهر فيصير في تقليده على غير ثقة بخلاف هؤلاء الأربعة»[12].

ويمكن الجواب على هذه الشبهة من وجهين، أحدهما ان المذاهب المنضبطة والمدونة ليست محصورة في الأربعة المذكورة. أما الثاني فهو ان الشبهة إذا كانت تصدق على العامي القاصر من حيث انه لا يصح له الالتزام بفتوى معينة لا يعلم سياقها وملابساتها الخاصة؛ فان الأمر مع الناظر شيء مختلف، إذ قد لا يقنع بالدليل المقدم من قبل تلك المذاهب، وقد يرى أن ما ورد عن الصحابة أو عن النص هو أقرب إلى الاطمئنان في الحكم الشرعي. فكيف الحال إذا ما كان من الفقهاء المتمرسين وان لم يبلغ درجة ما كان عليه الأئمة الأربعة؟!

 ب ـ ان ممارسة النظر وترجيح الفتوى على ما قدّمه الأئمة الأربعة، سواء تمت من خلال النظر في النص أو فتاوى الصحابة أو غيرهم، قد تفضي إلى الوقوع في الفتن، وكما صوّرها البعض بأنها تفتح «لسان الطعن والتشنيع في الأئمة الكبار، خصوصاً في أعظم الأئمة أبي حنيفة وغيره، ويقول يكفي كتاب الله وسنة رسوله (ص)، ولا يفهم ان تقليد هذا المذهب عين تقليد النصوص، قال تعالى: ((فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون))..»[13].

ثم تساءل بأنه إذا كان هناك حديث يخالف ما ذهب اليه أبو حنيفة هل يجوز ان يقال إنه لم يبلغه؟  وأجاب على ذلك بما قاله جماعة: لا، لأنه وجده غير صحيح أو مؤولاً. واشتهر على هذا القول: كل آية أو خبر يخالف قول أصحابنا يُحمل على النسخ أو التأويل أو الترجيح[14].

وقد ردّ البعض على ما تراه الطريقة الوهابية القائلة بانه في بعض المسائل إذا صح هناك نص جلي من كتاب أو سنة غير منسوخ ولا مخصوص ولا معارض بأقوى منه فانه يعول عليه ولا يعول على مخالفه كان من كان. فاعتبر البعض هذه الطريقة مدعاة للطعن في الأئمة الكبار وتجهيلهم، وهي تفتح باب اللا مذهبية لدى العوام وتجرؤهم على الأئمة الأعلام[15].

وهنا نحن أمام اعتبارات تجعل الأئمة الأربعة في رتبة تعلو على رتبة الإجتهاد وتضعهم في موضع العصمة والنص، أو أرفع من ذلك درجة. أما ما قيل حول شبهة الطعن فيكفي الرد على ذلك بأن تخطئتهم لا يعني الطعن فيهم، فهم في جميع الأحوال محمولون على محمل العدالة والايمان والتدين.

 2ـ الالزام في اطار المذهب الواحد

أما فيما يتعلق بالالزام الثاني الخاص بالنهي عن النظر خارج حدود المذهب الواحد من المذاهب الأربعة؛ فان له، هو الآخر، بعض المبررات نجملها بالشبهتين كالتالي:

 أ ـ لما كان من الواجب على الناس الانضمام تحت راية كل من المذاهب الأربعة باعتبارها مدونة ومنضبطة، وحيث انه لا يجوز للمسلم اتباع المذهب المختار ما لم يعتقد انه على حق، لذا فقد كان عليه الوفاء بموجب اعتقاده هذا[16].

وهو ما يعني عدم جواز النظر، مع ان إتباع المسلم لأحد المذاهب لا يقتضي ان يكون صحيحاً ـ عنده ـ بالضرورة من كل وجه. فقد يلتزم المسلم بالمذهب باعتباره أصح من غيره على الأغلب، لا انه صحيح في جميع الموارد. كما قد لا يلتزم الناظر بأي من المذاهب الأربعة، وانما يكفيه من ذلك ممارسة النظر بترجيح الأدلة المقدمة بعضها على البعض الآخر دون الوقوف عند حد مذهب معين.

 ب ـ إن على المكلّف ان يجتهد في اختيار مذهب محدد على التعيين من بين المذاهب الأربعة؛ دون ممارسة التحول والتخيّر بينها، وذلك كي لا يفضي الحال إلى التمسك برخص المذاهب ومن ثم انحلال التكليف. فلو جاز للمكلف اتباع أي مذهب شاء لأدى به الأمر إلى التقاط ما يسعه من رخص المذاهب بحسب الهوى، فيتخير على الدوام ما هو حلال إن عارضه واجب أو حرام، ويعلم ما في الأمر من الانحلال واسقاط التكليف في كل مسألة مختلف حولها[17]. فعلى رأي البعض ان من تتبع رخص المذاهب وزلات المجتهدين فقد رق دينه، وقال الاوزاعي أو غيره: ان من أخذ بقول المكيين في المتعة، والكوفيين في النبيذ، والمدنيين في الغناء، والشاميين في عصمة الخلفاء، فقد جمع الشر كله[18]. لذلك انشد بعضهم:

فاشرب ولُط وازنِ وقامر واحتجج        في كل مسألة بقول إمام

ويقصد بذلك شرب النبيذ، وعدم الحد في اللواط كما هو رأي أبي حنيفة، والوطء في الدبر على ما يُنسب إلى مالك، ولعب الشطرنج بحسب رأي الشافعي[19].

لكن قد يقال بأن ما ذكر من انحلال التكليف باتباع الرخص هو من جانب لا ضير فيه، إذ كان ابن عباس ممن يوصف بهذا الحال، ولم يستهجن الفقهاء منه ذلك. أما من جانب آخر فإن سقوط التكليف أو انحلاله عند إتباع رخص المذاهب يمكن ان يصح في القضايا الفرعية المختلف حولها، لأنها في الأصل ليست من القضايا المقطوع بها شرعاً، وشرط ان لا يتعارض ذلك مع مقاصد الشريعة. فطالما كانت القضايا بهذا الشكل؛ فلا ضير في اتباع الرخص، انما المحذور متعلق بما لو علم المكلّف بشرعية القضية الفقهية على وجه القطع. أما ما صُوّر في البيت الشعري الآنف الذكر فمبالغ فيه، وإلا كان طعناً في الأئمة ذاتهم قبل الطعن في المقلدين لهم على نحو التخيير.

والغريب ما تقرر من نهي عام عن التخيير والانتقاء لكل من لم يبلغ درجة الإجتهاد، حتى من «الفقهاء وأرباب سائر العلوم»[20]. الأمر الذي يمنع النظر حتى لدى المتمرسين ممن لهم قابلية الترجيح في الأدلة والآراء. وإن كان الشاطبي يستثني في التخيير من غير المجتهدين كل من تقيّد بالترجيح حسب الدليل، إذ يصبح متبعاً للدليل لا الهوى.

 

الاتجاهات المطالبة بالنظر

وقف عدد من الفقهاء بوجه نزعة الجمود والتقليد التي تمسك بها الفقهاء المقلدون رغم أن لهم القدرة على النظر والترجيح. ومن بين هؤلاء العلماء ظهر الشيخ عز الدين بن عبد السلام الذي شنّ هجوماً على المقلدين بقوله: «ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعاً ومع هذا يقلده فيه، ويترك من الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبه جموداً على تقليد إمامه، بل يتحلل لدفع ظواهر الكتاب والسنة، ويتأولهما بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالاً عن مقلده، وقد رأيناهم يجتمعون في المجالس، فإذا ذكر لأحدهم خلاف ما وطّن نفسه عليه؛ تعجب غاية التعجب من غير استرواح إلى دليل، بل لما ألفه من تقليد إمامه، حتى ظن أن الحق منحصرٌ في مذهب إمامه أولى من تعجبه من مذهب غيره، فالبحث مع هؤلاء ضائع مفض إلى التقاطع والتدابر من غير فائدة يجديها، وما رأيت أحداً رجع عن مذهب إمامه إذا ظهر له الحق في غيره، بل يصير عليه مع علمه بضعفه وبعده، فالأولى ترك البحث مع هؤلاء الذين إذا عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه قال لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه ولم أهتد إليه، ولم يعلم المسكين أن هذا مقابلٌ بمثله ويفضل لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح والبرهان اللائح، فسبحان الله ما أكثر من أعمى التقليد بصره حتى حمله على مثل ما ذكر، وفقنا الله لاتباع الحق أين ما كان وعلى لسان من ظهر، وأين هذا من مناظرة السلف ومشاورتهم في الأحكام ومسارعتهم إلى اتباع الحق إذا ظهر على لسان الخصم، وقد نقل عن الشافعي رحمه الله أنه قال: ما ناظرت أحداً إلا قلت اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه، فإن كان الحق معي اتبعني وإن كان الحق معه اتبعته»[21].

وقال أيضاً: «لم يزل الناس يسألون من إتفق من العلماء من غير تقييد لمذهب ولا إنكار على أحد من السائلين إلى أن ظهرت هذه المذاهب ومتعصبوها من المقلّدين، فإن أحدهم يتبع إمامه مع بُعد مذهبه عن الأدلة مقلّداً له فيما قال كأنه نبي أُرسل، وهذا نأيٌ عن الحق وبُعد عن الصواب لا يرضى به أحد من أُولي الألباب»[22].

كما صرح الإمام أبو شامة: «ينبغي لمن إشتغل بالفقه أن لا يقتصر على مذهب إمام، ويعتقد في كل مسألة صحة ما كان أقرب إلى دلالة الكتاب والسنة المحكمة، وذلك سهل عليه إذا كان أتقن معظم العلوم المتقدمة، وليجتنب التعصب والنظر في طرائق الخلاف المتأخرة، فإنها مضيعة للزمن ولصفوه مكدرة»[23].

وكان البعض ممن يدعو إلى التقليد يرى أن الإمام المقلَّد بالنسبة لمن يقلده هو كالنبي بالنسبة إلى أمته؛ لا تحل مخالفته. وردّ عليه آخر بأن ذلك دعوى من غير دليل، إذ للعامي مخالفة إمامه إلى إمام آخر عندما تكون حجة هذا الأخير في المسألة أقوى، إذ الغاية هي إتباع الدليل لا غير[24].

ورغم ان الشاطبي كان يجيز التقليد على العامي لكنه رأى وجود صنف آخر ليس من المقلدين ولا من المجتهدين. فالمجتهد يعمل بحسب علمه وإجتهاده، والمقلد الصرف يحتاج إلى قائد يقوده إلى تحصيل العلم كي يصح تقليده، أما الصنف الثالث فهو لم يبلغ مبلغ المجتهدين، لكنه يفهم الدليل وموقعه ويصلح فهمه للترجيح بالمرجحات المعتبرة في تحقيق المناط ونحوه.

مع ذلك أبدى الشاطبي تردداً في قيمة ترجيح هذا الصنف ونظره، فهو يقول: لا يخلو إما أن يُعتبر ترجيحه ونظره أم لا؟ فإن إعتبرناه؛ صار مثل المجتهد في ذلك الوجه، من حيث أنه تابع للعلم متوجه شطره، أما لو لم نعتبره فلا بد من رجوعه إلى درجة العامي، وحيث أن العامي يتبع المجتهد من جهة توجهه إلى صوب العلم الحاكم؛ فكذا الحال مع من ينزل منزلته. ورغم ذلك فإنه عاد ورأى أن من الواجب على هذا الصنف الوسيط أن لا يتبع المجتهد إلا من جهة ما هو عالم بالعلم المحتاج إليه، ومن حيث هو طريق إلى إستفادة ذلك العلم، فلو علم أو غلب على الظن أنه مخطئ فيما يُلقي فالواجب عليه أن يتوقف ولا يصر على الإتباع إلا بعد التبيين، حيث ليس كل ما يلقيه العالم يكون حقاً على الإطلاق؛ لإمكان الزلل والخطأ وغلبة الظن في بعض الأُمور. بل أكثر من ذلك فانه قد صرح فقال: «إذا كان هذا المتبع ناظراً في العلم ومتبصراً فيما يُلقى إليه كأهل العلم في زماننا؛ فإن توصله إلى الحق سهل، لأن المنقولات في الكتب إما تحت حفظه وإما معدّة لأن يحققها بالمطالعة أو المذاكرة»[25].

وسبق لابن رشد الحفيد أن شخّص وجود فئة من الناس وصفها بأنها تشبه العوام من جهة، والمجتهدين من جهة ثانية، وهم المسمون بالفقهاء، ورأى أنه ينبغي النظر فيهم إن كانوا يلحقون بالمجتهدين أم المقلدين، واستظهر بأنهم مقلدون وأن مرتبتهم هي مرتبة العوام، مع الاقرار بأن الفرق بينهم وبين العوام هو أنهم يحفظون آراء المجتهدين فيخبرون عنها العوام، لكنهم يفتقرون إلى شروط الإجتهاد. ورغم أنه جعل مرتبتهم لا تتجاوز النقل عن المجتهدين، لكنه حسِبهم يتعدون ذلك فيقيسون أشياء لم ينقل فيها عن مقلديهم حكم، ويجعلون أصلاً ما ليس بأصل، ويصيّرون أقاويل المجتهدين أصولاً لإجتهادهم، لذلك فقد عدّ ما يقومون به ضلالاً وبدعة[26].

وبلا شك أن هذه الفئة لا تحمل خاصية (النظر)، فهي تمارس دور الإجتهاد، ولو بطريقة خاطئة كما وصفها ابن رشد، لذلك فهي تختلف عن تلك التي شخّصها الشاطبي فيما بعد.

كما ذكر السالمي في (مشارق أنوار العقول) بأنه إذا اجتهد المجتهد في حادثة فرأى الأعدلية لأحد الأقوال الموجودة وجب عليه الأخذ بذلك القول الأعدل وحرم عليه الأخذ بالقول المرجوح في نظره، معتبرأ ذلك على خلاف جماعة ذكر منهم أحمد بن حنبل وسفيان وابن راهويه، حيث جوزوا تقليد العالم مطلقاً، وكذا أهل العراق حيث جوزوا تقليد المجتهد لغيره[27].

وذهب على هذه الشاكلة العديد من المحدثين والمعاصرين. فكما قال القرضاوي مثلاً: «ولهذا حررت نفسي من ربقة التمذهب والتقليد، فانه أمر مستحدث لم يعرفه سلف الأمة، وقد نهى الأئمة أنفسهم عن تقليدهم، ومن قلد فقيهاً في كل مسألة - وإن ظهر ضعف دليلها أو خطؤه - فكأنما اتخذه شارعاً، وفي التقليد إبطال للعقل ومنفعته، كما قال ابن الجوزي: (لأنه خُلق للتدبر والتأمل، وقبيح بمن أُعطي شمعة يستضيء بها ان يطفئها ويمشي في الظلمة). وقال غيره: لا يقلد إلا عصبي أو غبي»[28].

كما قال الشيخ علي الطنطاوي: «الحق انه على المسلم ان يتفقه أولاً في مذهب معين، فيعرف أحكام دينه، ثم ينظر في دليلها، ويحاول ان يتعلم ما يعين على معرفة طرق الاستدلال وقوة الدليل، ثم ينظر، فان رأي دليلاً ثابتاً أقوى من دليل مذهبه أخذ به، وقد بين ابن عابدين في أول الحاشية ان الحنفي المقلد الذي يجد حديثاً صحيحاً على خلاف مذهبه، عليه ان يأخذ به، لا سيما في العبادات، وليس يخرج في ذلك عن كونه حنفياً؛ والله قد أوجب على المسلم اتباع الكتاب والسنة، ولم يلزمه بمذهب من المذاهب الأربعة ولا غيرها، وما التقليد إلا رخصة للعاجز عن الأخذ من الكتاب والسنة»[29].

***

إذا كان العرض السابق بصدد دعوة العلماء المتمرسين من الفقهاء غير المجتهدين إلى ممارسة النظر والكف عن التقليد، ففي القبال هناك اتجاهات تطالب الناس بممارسة النظر في أقوال المجتهدين وأدلتهم صراحة. ومن ذلك جمع من معتزلة بغداد، إذ قالوا إنه لا يجوز للعامي تقليد أو أخذ قول أحد من العلماء ما لم يبيّن له حجته[30]. كما نقل أبو الحسن الأشعري رأي (بعض أهل القياس) بما يدعو إلى هذا المسلك، حيث قال: «ليس للمستفتي أن يقلّد، وعليه أن ينظر ويسأل عن الدليل والعلة؛ حتى يستدل بالدليل ويتضح له الحق»[31].

وذكر الخطيب البغدادي (المتوفى سنة 462هـ) بإنه إن قال قائل: كيف تقول في المستفتي من العامة إذا أفتاه الرجلان واختلفا فهل له التقليد ؟ قيل له : ان ذلك على وجهين : أحدهما إن كان العامي يتسع عقله ويكمل فهمه إذا عقل أن يعقل وإذا فهم أن يفهم فعليه أن يسأل المختلفين عن مذاهبهم وحججهم فيأخذ بأرجحها عنده، فإن كان عقله قاصر وفهمه ناقص فسيسعه التقليد لأفضلهما عنده. وقيل: يأخذ بقول من شاء من المفتين، وهو القول الصحيح، لأنه ليس من أهل الإجتهاد وإنما عليه أن يرجع إلى قول عالم ثقة وقد فعل ذلك فوجب أن يكفيه[32].

 وقد لقيت الطريقة المعتمدة على النظر والترجيح تأييداً من قبل الإتجاهات التي تنهى عن التقليد، كما هو رأي إبن حزم وإبن تيمية وإبن القيم الجوزية والشوكاني وغيرهم. لكن هؤلاء لم يدققوا في مفهوم ما دعوا الناس إليه كما يبدو. فبعضهم ناشد الناس بالإكتفاء فيما تطمئن إليه قلوبهم وعدم التعويل على ما لا تطمئن إليه، بإعتبارهم ليسوا من أهل الإختصاص. وبعض آخر طالبهم بقدر ما من الإجتهاد، وثالث دعاهم إلى الإتباع في قبال ما يفتيه الفقيه إن كان يجده مخالفاً للنص أو الكتاب والسنة.

فقد اعتبر ابن تيمية أن من كان متبعاً لإمامٍ فخالفه في بعض المسائل، لقوة الدليل، فقد أحسن ولم يُنكر عليه، معتبراً ذلك مما أوجبه العلماء، وقد نصّ عليه أحمد بن حنبل[33]. والظاهر ان العدول الذي تحدث عنه ابن تيمية انما يتعلق بفئة الفقهاء المختصين وليس عامة الناس.

أما حول عامة الناس فقد ذكر ابن تيمية بأن من العلماء من يقول ان على المستفتي ان يقلد الأعلم الأورع ممن يمكنه استفتاؤه. ومنهم من يقول: بل يخير بين المفتين، وإذا كان له نوع تمييز فقد قيل: يتبع أيّ القولين أرجح عنده بحسب تمييزه، فإن هذا أولى من التخيير المطلق[34].

كما صرح بأن من أخذ من المسائل الإجتهادية بقول بعض العلماء؛ لم يُنكر عليه ولم يُهجر، وكذا الحال فيمن عمل بأحد القولين. وإذا ظهر للانسان رجحان في أحد القولين أخذ به، والا قلّد بعض العلماء ممن يُعتمد عليهم في بيان الراجح من القولين. وإذا أفتاه من يجوز له استفتاؤه؛ جاز له ان يعمل بفتواه حتى لو كان ذلك القول لا يوافق الإمام الذي ينسب اليه، وليس عليه ان يلتزم قول إمام بعينه في جميع المسائل[35].

من جهته أقر الشوكاني (المتوفى سنة 1255هـ) بأن هناك صنفاً من الناس يتوسط بين المجتهد والمقلّد؛ له القدرة على الفهم والتمييز. لذلك ردّ على الفقهاء الذين أجازوا التقليد، وقال بصدد ذلك: «وأما ما ذكروه من إستبعاد أن يفهم  المقصرون نصوص الشرع وجعلوا ذلك مسوغاً للتقليد فليس الأمر كما ذكروه، فها هنا واسطة بين الإجتهاد والتقليد وهي سؤال الجاهل للعالم عن الشرع فيما يعرض له لا عن رأيه البحت وإجتهاده المحض، وعلى هذا كان عمل المقصرين من الصحابة والتابعين وتابعيهم»[36].

وحديثاً ذُكر بأن هناك صنفاً من الناس يتوسط بين المقلّد والمجتهد، أُطلق عليه (المتبع)، حيث يستعين بعالم مجتهد بعد أن يفقه دليله ويسأله عن حجته ويقنع بها، أو يرجح من أقوال العلماء ما يراه أقرب إلى نفسه، وهذا هو موقف السلفيين في مسألة أخذ الأحكام الشرعية[37]. وسبق لإبن القيم الجوزية أن إعتبر العامي المتبع هو ذلك الذي يعرض فتوى الفقيه على نفسه فإن إطمأن بها أخذها، وإلا فإنه يسأل غيره من الفقهاء حتى يجد في نفسه الإطمئنان طبقاً للحديث النبوي القائل: «إستفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك»[38]، وإن لم يجد الإطمئنان فإنه غير مكلّف بأخذ الفتوى من هؤلاء بإعتبار أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها[39].

أخيراً.. في دراسة مستقلة ميزنا بين الطرق الأربع لتحصيل الحكم الشرعي (الإتباع والإجتهاد والنظر والتقليد)، وعرفنا أن الإتباع لا يحصل إلا بتلقي ما هو واضح في النص أو الشرع، فيطلق على صاحبه (متبع)، بخلاف الحال مع الإجتهاد. أما النظر ففيه مسحة إجتهادية لأنه يعني التعويل على ترجيح رأي في قبال رأي آخر. وغالباً ما لا يمكن للعامي انتهاج قاعدة الإتباع، وذلك لعدم وضوح أغلب الأحكام الشرعية؛ تبعاً لغياب قرائن العلم بالإبتعاد عن عصر النص. كما لا يمكنه الإجتهاد؛ باعتباره ليس من أهل الخبرة والإختصاص؛ لذا فليس بمقدوره إلا العمل بطريقة النظر بإتباع إسلوب الإقتناع وترجيح بعض الآراء على البعض الآخر، هذا إن كان من أهل التمييز، أما لو كان عامياً بسيطاً يفتقر إلى القابلية على التمييز والترجيح، ففي هذه الحالة ليس أمامه إلا التقليد.

الإتجاه الشيعي والنظر

أما في الإتجاه الشيعي فالملاحظ أن المجتهدين أنفسهم يمارسون أحياناً طريقة الترجيح بين الآراء الفقهية، فيزاولون بذلك اسلوب النظر من دون تمييز له عن نهج الإجتهاد. فالفقيه يعرض الآراء المتعلقة في المسألة؛ فإما أن يُبدي قناعته الكلية ببعض هذه الآراء، أو يرجح بعضها على البعض الآخر من حيث الظن والاعتبار، أو يكون له رأي جديد فيها. وتقتضي ممارسة الترجيح لدى الفقيه لحاظ الأدلة التي يطرحها الفقهاء الآخرون، وبالتالي فهو يزاول طريقة النظر بما يتضمن مفهوم الإجتهاد. ومن ذلك ما يوصي به المحقق الحلي بقوله: «اكثِرْ من التطلع على الأقوال لتظفر بمزايا الاحتمال، واستنفض البحث عن مستند المسائل لتكون على بصيرة فيما تتخيره»[40].

ومن الناحية المبدئية لا يجعل الإتجاه الشيعي لطريقة النظر أو الترجيح مرتبة خاصة. فهو يقسم أعمال المكلفين إلى ثلاثة أقسام، هي الإجتهاد والتقليد والإحتياط. فكما ذكر السيد الخوئي أن العقل مستقل بلزوم تحصيل العلم بالفراغ عن الذمة، من حيث إدراكه لدفع الضرر المحتمل بمعنى العقاب، وأن دفع الضرر أو تحصيل العلم بالفراغ عن الذمة لا يتحقق إلا عبر أحد تلك الأقسام الثلاثة[41].

لكن إذا كان الإجتهاد والتقليد والإحتياط بعضها يقع في عرض البعض الآخر من حيث العمل والوظيفة، إذ لا بد للمكلف أن يأتي بواحد منها؛ فإن الأمر من حيث المرتبة ليس كذلك، إذ إن مشروعية التقليد لا تكون إلا بالإجتهاد، فالمقلد لا يصح له أن يقلّد ما لم يجتهد بذلك، وإلا تسلسل الأمر أو دار. كذلك الحال مع الإحتياط، فهو لا يصح ما لم يقم على الإجتهاد. لهذا يُذكر أنه لا يجوز للمقلد الإحتياط قبل الفحص عن مذهب مجتهده، وإن كان يجوز له ذلك بعده. وعليه إشتهر لدى علماء الإمامية «أن عبادة تارك طريقي الإجتهاد والتقليد غير صحيحة وإن علم إجمالاً بمطابقتها للواقع، بل يجب أخذ أحكام العبادات عن إجتهاد أو تقليد»[42].

هكذا يصبح المحور الأساس الذي يدور عليه التكليف في النظر الشيعي هو الإجتهاد. فهو الأصل الوحيد الذي يتصدى «لتحصيل القطع بالحجة على العمل، لأن به يقطع بعدم العقاب على مخالفة الواقع»[43]. ومع ذلك لا يلغي الإتجاه الشيعي بعض الأقسام العملية للمكلف والتي لا ترجع إلى الصور الثلاث المذكورة. فهو لا ينكر أثر وجود العلم الوجداني عند العامي وغيره، وهو العلم بمطابقة عمل المكلف لواقع الحكم الإلهي، كما يحصل في الضروريات والقطعيات والمسائل الواضحة. فهي وإن كانت قليلة جداً[44]، لكنها في جميع الأحوال تتجاوز حدود التقسيم المبدئي لعمل المكلفين، ومن ذلك تجاوزها لممارسة الإجتهاد والتقليد.

مهما يكن، فمن المتفق عليه في النظر الشيعي انه لا ينبغي للعامي أن يكون مقلداً في جميع الأحوال، كما في موارد علمه الوجداني الخاص، وفي الضرورة والإجماع والدليل القاطع، وفيما لو وجد أمامه نصاً صريحاً خلاف رأي المجتهد، فضلاً عما يتعلق بتشخيص الموضوعات وفهم المعاني العرفية، حيث لا يقلد المجتهد إلا فيما يحكيه عن الشارع الإسلامي[45].

بل برأي عدد من العلماء، ومنهم الخوئي، إن العامي لو كان متمكناً من الإستنباط في مسألة ما من المسائل، كمسألة الأعلم، وأدى نظره إلى عدم جواز تقليد غير الأعلم؛ فإنه على هذا يجوز له مخالفة من يقلده ولم يجز له الرجوع إلى غير الأعلم[46]، وذلك للزوم اتباع العامي لعلمه ونظره فيما يعرفه من الحكم، ولا يجوز له الرجوع إلى الغير[47].  ومثل ذلك ما ذكره الآخوند الخراساني من أن المقلد لو إلتفت إلى الخلاف الحاصل بين العلماء حول وجوب تقليد الأعلم فإستقل عقله ورأى أنه لا فرق في التقليد بين أن يكون للأعلم أو غيره؛ ففي هذه الحالة لا يجب عليه تقليد الأعلم، وعليه إتباع ما آل إليه علمه[48]. وقد أقر بذلك الفيروز آبادي صاحب (عناية الأصول) وإن كان بنظره أن العامي لو إستقل بعقله فسوف لا يترجح عنده إلا الأخذ بقول الأعلم، نظراً إلى كونه سيتبع الأقوى ظناً[49]. وهو تعسف، إذ لا دليل على ما يمكن أن يؤول  إليه نظر المقلد أو العامي. لذلك رأى الشيخ الأصفهاني أن التعويل على مقالة الأخذ بقوة الظن التي يترتب عليها تعيين الأعلم للتقليد باعتباره أقوى ظناً من غيره.. هذه المقالة ممنوعة على إطلاقها، حيث أن «المقلد قد يقف على مدارك الفريقين فيترجح في نظره فتوى المفضول»[50].

ومبدئياً إن ما عرضناه منطقي، إذ لا يصح تقليد العامي في الأساس ما لم يبنَ على إجتهاده ونظره من دون تقليد، وإلا تسلسل الأمر أو دار. لذلك يقال إن مسألة جواز التقليد ليست تقليدية، إذ لا بد أن تستند إلى إجتهاد المكلف أو قطعه وإطمئنانه[51].

ففي دراسة مستقلة بينّا أن هناك دليلين في حق العامي ينبغي الإستناد إليهما ليصح تقليده، وهما دليل الإرتكاز العقلائي ودليل الإنسداد. وفحوى الدليل الأول هو أن العامي يعي صحة الرجوع إلى أهل الإختصاص من الفقهاء مثلما يرجع العقلاء في الحرف والصنايع إلى أهل الخبرة والإطلاع، مع احراز العلم بعدم ممانعة الشريعة لذلك. أما فحوى دليل الإنسداد فهو أن كل مكلف يعلم بثبوت أحكام إلزامية في حقه، كما يعلم أنه غير مفوض في أفعاله بحيث له أن يفعل ما يشاء، وبالتالي فإن عقله يستقل بلزوم الخروج عن عهدة التكاليف الواقعية المنجزة بعلمه، وليس أمامه إلا الإجتهاد أو الإحتياط أو التقليد، لكن العامي ليس بوسعه الإجتهاد، كذلك فإن الإحتياط غير ميسور له لعدم تمكنه من تشخيص موارده، لذلك يتعين عليه التقليد للحصر الآنف الذكر[52].

 ويلاحظ أن دليل الإرتكاز لا يخلو من إشكال يتعلق بالقياس، وكان الأجدر أن يقال دليل العقل من حيث ضرورة رجوع العامي إلى المختص فيما لا علم له به. لكن بغض النظر عن ذلك فإن هذا الدليل يمكن أن يوظف لصالح إثبات صحة التعويل على طريقة النظر لكل من بإستطاعته إستخدام هذه الطريقة كما سنعرف.

***

يظل أن نعرف بأن هناك جماعة من قدماء الإمامية أنكروا التقليد، وقد عوّل بعضهم على أن يكون جميع المكلفين منقادين إلى تحصيل العلم بالأحكام الشرعية وليس الظن، كما هو رأي إبن زهرة كالذي مرّ علينا سابقاً. ونُقل عن البعض الآخر أنهم يوجبون الإستدلال على العلم ومساءلة الفقهاء، وهي طريقة وإن لم تنقّح، لكنها تصب في ذات المجرى الذي ندعو اليه. فقد جاء عن «بعض قدماء الأصحاب وفقهاء حلب منهم القول بوجوب الإستدلال على العوام، وإنهم إكتفوا فيه بمعرفة الإجماع الحاصل من مناقشة العلماء عند الحاجة إلى الوقائع أو النصوص الظاهرة، أو أن الأصل في المنافع الإباحة وفي المضار الحرمة، مع فقد نص قاطع في متنه ودلالته، والنصوص محصورة». وقد ضعّف صاحب (المعارج) هذا الرأي وتابعه في النقد صاحب (المعالم)؛ فذكر أنه «قد حكى غير واحد من الأصحاب إتفاق العلماء على الإذن للعوام في الإستفتاء من غير تناكر، وإحتجوا في ذلك: بأنه لو وجب على العامي النظر في أدلة المسائل الفقهية لكان ذلك إما قبل وقوع الحادثة أو عندها، والقسمان باطلان. أما قبلها فبالإجماع، ولأنه يؤدي إلى إستيعاب وقته بالنظر في ذلك فيؤدي إلى الضرر بأمر المعاش المضطر إليه، وأما عند نزول الواقعة فلأن ذلك متعذر لإستحالة إتصاف كل عامي عند نزول الحادثة بصفة المجتهدين، وبالجملة فهذا الحكم لا مجال للتوقف فيه»[53].

مع أنه بحسب طريقة النظر تسقط مثل تلك المناقشة، حيث ليس المطلوب من العامي أن يتصف بصفة المجتهدين ولا أن يصرف عمره في طلب علم الفقه ويكون من أهل الخبرة والإختصاص، بل يكفيه أن يتعلم معالم الدين بصورة مجملة وتكون له بعض الخبرة في تفهم الآراء الفقهية، وبذلك يمكن أن تصبح لديه القدرة في ترجيح بعضها على البعض الآخر تبعاً للاطمئنان الوجداني.

المثقف والنظر

إن لعامل الزمن تأثيراً كبيراً على أساليب الكشف عن الأحكام الشرعية. ففي عصر الخطاب الديني لم تكن ثمة حاجة للإجتهاد ولا التقليد، بل كان التعامل يجري وفق نهج (الإتباع)، وذلك لتوفر قرائن العلم والوضوح بما لم يدع ذريعة للعمل بالرأي إلا عند الحاجة والإضطرار. أما بعد عصر الخطاب، فقد أخذت قرائن العلم والوضوح تضعف شيئاً فشيئاً بمرور الزمن، مما أدى بالفقهاء إلى العمل بقواعد الإجتهاد رغم أنها تفضي إلى الظن والتخمين في الكشف عن الأحكام الشرعية. الأمر الذي احتاج إلى مزيد من الجهد العلمي؛ كالذي مارسه الفقهاء طيلة التاريخ الإسلامي. وقد إتبعهم الناس كمقلدين بعد أن كانوا في عصر الخطاب تابعين.

من هنا ظهر التقسيم الخاص بالمكلفين، فهم إما مجتهدون أو مقلدون. وهو أمر ينسجم مع ما كان عليه المجتمع قديماً، ففي الغالب انه ينقسم معرفياً إلى طبقتين: إحداهما عالمة متخصصة، وهي الفئة الضئيلة من المجتمع، وأُخرى عامية لا تحمل ثقافة كافية، وتتمثل في الفئة الغالبة من المجتمع.

لكن ظهرت حديثاً طبقة وسطى تتمثل بالمثقفين التي أخذت تنمو وتتسع باضطراد، ومنهم ما يُعرف بالمثقفين الدينيين (الإسلاميين). وهي ليست من فئة الفقهاء المختصين، ولا من فئة عامة الناس المحرومين من الوعي الثقافي الإسلامي. ومنذ ظهورها بدأت تضع أثقالها في الحياة العامة، وما زالت تؤدي دورها الفاعل، ونأمل أن تتسع مساحتها باضطراد لتكون أعظم الطبقات تأثيراً. وهي وإن كانت ليست بمستوى التخصص والإجتهاد؛ إلا أنها ليست بمستوى العامية الصرفة والتقليد، وذلك لما تتحلى به من إستعداد وقابلية عقلية على التمييز بين ما يقبل وما لا يقبل من الآراء والفتاوى، وبالتالي فهي جديرة بممارسة الطريقة التي أوسمناها بالنظر.

عموماً بصدد تحديد مفهوم دقيق وخاص للمثقف، وهو مفهوم أخذت مداليله تختلف وتتسع باختلاف وجهات النظر حوله، وزاد في الطين بلة ان بعضها رُكّب ضمن اعتبارات آيديولوجية جعلت منه صورة محددة بلون معين من الايديولوجيا دون غيره، وهو أمر يقوم على ابتسار الواقع وتشويهه. انما نفترض ان كينونته العامة متقومة بالمتابعة المعرفية والقدرة على الفهم بفضل اطلاعه وتحقيقه في القضايا المطروحة، إلى الدرجة التي يتبلور لديه موقف على الصعيد المعرفي، لا سيما بالنسبة للقضايا التي تكتسب اهمية خاصة، لكن على شرط ان لا تكون صفة الثقافة متداخلة مع النزعة التخصصية، ومن ثم ان لا يكون المثقف مثقفاً في القضايا التي قد تنتسب اليه بنحو التخصص. الأمر الذي لا يمنع من الجمع بين التخصص في موضوع والثقافة في غيره.

أدلة النظر

سبق لنا في دراسة مستقلة أن تعرضنا إلى الاختلاف الواسع في مواقف الفقهاء ازاء تكليف العامي وعمله. فبعضهم طالبه بالإجتهاد، وآخر بالتقليد، وثالث بالرجوع إلى خصوص الأعلم وكذا الحي، ورابع أباح له التخيير بين الفتاوى، وخامس أجاز له الترجيح بين الآراء عند التمييز بينها. وكذا ان البعض طالبه بالأخذ بأشد الفتاوى وأغلظها؛ كإن يأخذ بالحظر دون الاباحة، لاعتبارات تعود إلى الاحتياط وكون الحق ثقيلاً والباطل خفيفاً. وفي القبال هناك من سمح للعامي ان يأخذ بأخف الفتاوى لقوله تعالى: ((يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر))، وقوله: ((ما جعل عليكم في الدين من حرج))، ولأن النبي (ص) قال: «بعثت بالحنيفية السمحة السهلة»، وقال: «ان الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه». كذلك هناك من طالب العامي بمزيد من التحري في أقوال الفقهاء ليجد التعاضد بينها، على شاكلة تعدد الأدلة والرواة لزيادة غلبة الظن[54].

وسبق أن ثبت لنا جواز ان يأخذ العامي بفتوى المجتهد وإن لم يكن حياً ولا أكثر علماً بين المجتهدين، وبالتالي فمن الأولى أن يعول على الدليل الأرجح في الفتوى؛ إذا ما كانت له القدرة على النظر وفحص الأدلة المطروحة، ذلك لأن الأصل هو جواز الأخذ بفتوى المجتهد المفضول، فكيف إذا ما كانت هذه الفتوى – بنظر العامي - تستند إلى أرجح الأدلة؟!

مع ذلك يلاحظ أن هذا الدليل وإن كان يجيز العمل بالنظر والأخذ بالدليل الراجح؛ لكنه لا يدل على الوجوب. يضاف إلى توقف هذا الدليل على ثبوت عدم وجوب كل من الأعلمية والحياة في التقليد. وعليه كان لا بد من طرح أدلة أخرى تثبت وجوب النظر حتى مع فرض التسليم بذينك الشرطين.. فهذه حالة وتلك حالة أخرى. وعلى العموم يمكن تقسيم الأدلة على طريقة النظر كالآتي:

 1 ـ الدليل الشرعي

بداية لا يمكننا الادعاء بأن الكتاب والسنة يحملان تشريعاً محدداً حول التعامل مع الآراء الإجتهادية للفقهاء. فالإجتهاد الفقهي قائم على إستنباط الأحكام من النص بما يفضي إلى الظن عادة. وهو بهذا المعنى لم يثبت في الكتاب أو السنة ولا التلويح إليه، وبالتالي فليس هناك تشريع يخص النظر. لكن ثمة بعض الدلالات الشرعية العامة التي يمكن أن تساعد على إثبات المطلوب؛ أهمها قوله تعالى في محكم كتابه: ((وبشر عبادِ الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أُولو الألباب))[55]. فهذه الآية وإن كانت ليست بصدد الإخبار عن التعامل مع الآراء الإجتهادية، لكن العموم والإطلاق فيها يمكن أن ينطبقا على ما نحن فيه من التعامل مع الآراء. فالناظر يتعامل مع الآراء الفقهية كأقوال مختلفة، والواجب عليه أن يعوّل على ما يراه أنه أحسنها وأقربها للحق، ليصبح بذلك أحد تطبيقات الآية الشريفة.

وهناك اشارات عديدة للعلماء حول الآية تؤكد جانب الدعوة إلى الأخذ بأرجح الآراء وأولاها بالقبول مع نبذ التقليد. ومن ذلك ما جاء في (مجمع البيان) للطبرسي من ان الآية تشير إلى ما هو أولى بالقبول وأرشده إلى الحق والعمل به[56].

ونقل الطبري عن السدي في تفسير الآية بأنها معنية بالاشارة إلى من «وفقهم الله للرشاد واصابة الصواب، لا الذين يعرضون عن سماع الحق ويعبدون ما لا يضر ولا ينفع... واولوا الالباب يعني اولوا العقول والحجى..»[57]. وكذا ما مرّ علينا من قول مالك: ليس كل ما قال رجل قولاً وإن كان له فضل يُتبع عليه، لقوله عز وجل: ((الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)). واعتبر ابن حزم أن الآية تشير إلى مدح مَن لم يقلد[58].

وذكر الزمخشري بأن مما تنطبق عليه الآية التحقيق بين المذاهب «واختبار أثبتها على السبك واقواها عند السبر وأبينها دليلاً أو أمارة، وأن لا تكون في مذهبك كما قال القائل: ولا تكن مثل عير قيد فانقادا. يريد المقلد..»[59].

كما اعتبر الآلوسي ان لهذه الآية دلالة على حط قدر التقليد المحض، لذا قيل في الشعر:

شمّر وكن في أُمور الدين مجتهداً    ولا تكن مثل عير قيد فانقادا[60].

كذلك صرح الطباطبائي حول معنى الآية بقوله: «فتوصيفهم بإتباع أحسن القول معناه أنهم مطبوعون على طلب الحق وإرادة الرشد وإصابة الواقع. فكلما دار الأمر بين الحق والباطل والرشد والغي؛ إتبعوا الحق والرشد وتركوا الباطل والغي، وكلما دار الأمر بين الحق والأحق والرشد وما هو أكثر رشداً؛ أخذوا بالأحق والأرشد. فالحق والرشد هو مطلوبهم، ولذلك يستمعون القول ولا يردّون قولاً بمجرد ما قرع سمعهم إتباعاً لهوى أنفسهم من غير أن يتدبروا فيه ويفقهوه». كما قال في تفسير ((وأُولئك هم أولو الألباب)): «أي ذوو العقول، ويستفاد منه أن العقل هو الذي به الإهتداء إلى الحق وآيته صفة إتباع الحق»[61].

ويؤيد المعنى السابق ما ورد في الحديث عن الإمام علي، حيث قال: «إضرب الآراء بعضها ببعض تعرف الحق». وإن بدى على هذا الحديث الدلالة الإجتهادية، إذ ليس المطلوب مجرد ترجيح رأي على رأي آخر كما هو الحال في طريقة النظر، وإنما طلب الحق ولو كان بمخالفة جميع الآراء المنظور إليها، وهو عين الممارسة الإجتهادية التي هي أعمق وأدق من طريقة النظر.

كما جاء في قول الإمام علي: «الناس ثلاث، عالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل صائح..». فقد يقال إن فارق المتعلم عن الهمج الرعاع يتحدد بإنقياده إلى ما يراه حقاً بقدر ما تعلّمه، وهذا يقتضي أن يكون ذا قدرة على تمييز ما يعرض عليه من أقوال وآراء بما فيها آراء العلماء، وهو بهذا يختلف عن الهمج الرعاع الذين لا يميزون بين الغث والسمين، ولا بين الخطأ والصحيح.

لكن على ما يبدو ان الحديث لا يفاد منه التوجيه الخاص بطريقة النظر والتمييز بين الآراء الإجتهادية المفضية إلى الظن، إذ يكفي أن يكون المتعلم متبعاً للحق وعارفاً للحقيقة على وجه القطع كما هو ظاهر الحديث، وهو ما يجعله مختلفاً عن الهمج الرعاع.

يظل أن العمدة في هذا الدليل هي الآية المباركة الآنفة الذكر. ودلالتها إما أن تحبب إتباع أحسن الأقوال، أو أنها توجب ذلك، وظاهر الآية ليس بعيداً عن الإحتمال الأخير.

 2 ـ دليل العقل أو الأقربية

وفحوى هذا الدليل هو أن الناظر إنما يعول على دليل دون آخر بعد الفحص، وذلك لعلمه الوجداني بأن الدليل الذي رجحه هو أقرب إلى واقع الحكم الإلهي من غيره، وهذا الظن يقوم مقام العلم عند تعذر الوصول إلى العلم. ويمثل هذا الترجيح قاعدة كثيراً ما أشار اليها العلماء الأصوليون[62]، وأن ما يتضمنه من ظن هو غير منفصل عن القطع الوجداني، فهو قائم عليه، لأن العمل بالترجيح مقطوع به لكونه أقرب إلى واقع الحكم الشرعي. لهذا صرح المحقق القمي - طبقاً لدليل الانسداد - بأن العبرة بقوة الظن، والمعيار هو الرجحان، إذ لو لم يجب العمل بالظن للزم ترجيح المرجوح على الراجح، وهو بديهي البطلان[63].

بل التعويل على الأعلمية قائم - في حد ذاته - على الرجحان في قبال غير الأعلم. كما رجّح أغلب الفقهاء الأعلمية على الأورعية عند التعارض بين من هو أعلم ومن هو أورع، واستدلوا على ذلك بكون قول الأعلم أرجح ظناً من غيره، فيؤخذ بقوله كما يؤخذ بالراجح من الأدلة. أي ان ملاك الحكم هو الرجحان والأقربية لا الأعلمية من حيث ذاتها. لذا لا ينبغي الإلتفات إلى الأعلم باعتبار أعلميته، وإلا لكان حكم الأعلم حجة في حق المجتهد الأقل منه علماً، وهو معلوم البطلان. فالأعلمية شيء والأخذ بالأقربية شيء آخر. ومن المعلوم - منطقياً - أن الأخذ بالأقربية أرجح من الأخذ بالأعلمية، لذلك فإن المجتهد المفضول يعول على ما يراه أقرب إلى واقع الحكم الإلهي ولا يعول مطلقاً على ما يقوله الأعلم، لعلمه بأن الأقربية مقدمة على الأعلمية. فلو تحققت الأقربية بنظر المجتهد لما زاحمتها الأعلمية، باعتبار ان هذه الأخيرة انما يُعوَّل عليها لكونها مقاسة على تقديم الراجح من الأدلة على المرجوح، فكيف إذا ما كان الراجح حاضراً؟!

وهذا الأمر نفسه ينطبق على ما يراه الناظر بالقياس لما يقوله الأعلم، ولا يصح التفكيك بحجة الفارق بين المجتهد والناظر، حيث أن الأول مختص والآخر ليس مثله. فالناظر وإن كان ليس بمختص كالمجتهد؛ لكن له القدرة على التمييز بين ما هو أقرب إلى الصواب وما هو أبعد عنه. ولما كان مميزاً فمن المنطقي أن يتبع ما يراه راجحاً وإن خالف قول الأعلم، وليس في هذا الحكم العقلي من تخصيص ولا تعارضه حجة ناهضة.

على أن ظنون الناظر وترجيحاته موضوعية تستند إلى أساس معتبر من الناحية العقلائية، وهي تختلف عن ظنون المقلد وأوهامه التي لا شأن لها بالأقربية مادامت لا تبتني على النظر في الأدلة ولا مستمدة من الفطرة والظنون النوعية العامة. لهذا لا يمانع الأصوليون من عمل المقلد بالظن على إطلاقه، فهم يفرقون بين ظنه في تعيين الطريق وظنه في الحكم الشرعي، فيجيزون الأول دون الثاني؛ لأن ظنون المقلد في نفس الحكم أُمور غير منضبطة، ولذلك تعد كثيرة المخالفة، بخلاف الظنون في تعيين الطريق؛ مثل تعيينه للمجتهد. وعليه لو أن بإمكان المقلد أن يضبط الأُمور في تعيين واقع الحكم لكان المتعين عليه هو العمل بالظن في نفس هذا الواقع. فالشرط في صحة العمل بالظن كما هو رأي الأنصاري هو أن لا يكون هناك علم إجمالي بكثرة مخالفة واقع الحكم الإلهي، وأن لا يكون هناك مانع شرعي بالخصوص[64].

ويمكن الإشكال على هذا الجواب بالقول: أنّى لنا أن نعرف بأن المقلد الذي يعمل بحسب ظنونه سيقع في المخالفة الكثيرة مع واقع الأحكام الشرعية؟ خاصة إذا كانت ظنونه توافق في النتيجة فتاوى عدد غير منضبط من الفقهاء، إذ في هذه الحالة لا يتجرأ أحد أن يقول بأن آراء هؤلاء يكثر فيها المخالفة لذلك الواقع.

لكن رغم ذلك، فإن من الصحيح أن تكون الظنون غير المنضبطة بضابط موضوعي مرفوضة، إذ تصبح في هذه الحالة قائمة على الوهم والهوى، فلا يعلم - صاحبها - من الناحية الموضوعية أيها أقرب إلى واقع الحكم الشرعي. وهو أمر يختلف تماماً مع الممارسة التي يبديها صاحب النظر؛ من حيث أن ظنونه منضبطة ضمن ضوابط الفحص والتمييز العقلائي، فلا تقع أسر ذلك الإشكال الوارد في حق المقلد.

مهما يكن فمن الواضح أنه لا يفاد من حكم الأقربية الوجوب، فليس بالضرورة أن يكون كل ما هو أقرب إلى واقع الحكم الإلهي - عند الرائي - واجباً. لكن من المؤكد أن الأقربية - عند الرائي - مطلوبة في حد ذاتها ولو من حيث الأولوية.

 3 ـ الدليل المنطقي

تستند طريقة النظر في الأساس إلى قاعدة منطقية، وهي أنه لا يصح العدول عن إتباع الدليل الراجح بإتباع الدليل المرجوح. وكما يقول صاحب المعالم: «إن العقل قاض بأن الظن إذا كان له جهات متعددة متفاوتة بالقوة والضعف؛ فالعدول عن القوي منها إلى الضعيف قبيح»[65]. لذا فمن بين إستدلالات الفقهاء على وجوب تقليد الأعلم هو تشبيه أقوال المفتين بالأدلة؛ إذ كما يجب العمل بالدليل الراجح يجب تقليد الأفضل[66]. فحجية الدليل قائمة - في الأساس - على الترجيح، ومنه قيس عليه العمل بتقليد الأعلم، فكيف إذا ما كان العامي باستطاعته التمييز والترجيح مباشرة؛ فكيف يسوغ له في هذه الحالة العمل على خلاف ترجيحه ونقض أصل القاعدة التي يستند إليها الفقهاء؟! وكيف يأخذ بفتوى وهي لم تقع في نفسه موقع الصحة والحق؟!

لذا فبحسب تلك القاعدة نحكم بعدم جواز رجوع المكلف إلى من يراه مخطئاً في حكمه، أو أن حكمه لا يفيد الإطمئنان بشيء، وهي صورة يمكن أن نجد الموافقة على جزئياتها في كلمات الفقهاء، إذ طبقت أحياناً على المجتهد عند رجوعه إلى مجتهد آخر؛ كعدم جواز رجوع المجتهد الذي يجهل الحكم الشرعي ويعتقد بإنسداد باب العلم والظن المعتبر؛ إلى مجتهد آخر يعتقد بالإنفتاح. فعلى حد قول الشيخ الأنصاري: إن «الجاهل الذي يبذل الجهد وشاهد مستند العالم وغلّطه في إستناده إليه وإعتقاده عنه؛ فلا دليل على حجية فتواه بالنسبة إليه. وليست فتواه من الطرق المقررة لهذا الجاهل؛ فإن من يُخطّئ القائل بحجية خبر الواحد - مثلاً - في فهم دلالة آية النبأ عليها؛ كيف يجوز له متابعته؟ وأيّ مزية له عليه؟ حتى يجب رجوع هذا إليه ولا يجب العكس»[67].

ومثل ذلك ما ذكره الخوئي في حق المجتهد المتجزئ، إذ لا يسوّغ تقليده للمجتهد المطلق. فكما قال: كيف يمكن دعوى جواز رجوع المجتهد المتجزئ إلى من يرى خطأه وإشتباهه، فحسب الأدلة اللفظية تكون أدلة جواز التقليد مختصة بمن لم يتمكن من تحصيل الحجة على الحكم الشرعي[68]. ومن الواضح أن هذا ينطبق على صاحب النظر.

بل إن عدداً من العلماء يسلمون بإمكانية إستقلال عقل العامي وإتباع نظره ومن ثم مخالفة غيره من أهل الإجتهاد بمن فيهم الأعلم، كما هو الحال مع الآخوند الخراساني الذي رأى أن العامي يمكن أن يتفق له أن يكون خبيراً في بعض الموارد عالماً بالأدلة وبصيراً في المدرك غير مقلد، وهو لهذا لا يحكم عليه بالتقليد فيما أدى إليه نظره، ومن ذلك أن له أن يرجع إلى المفضول في التقليد ومخالفة الأعلم إن إستقل بعقله ورأى جواز ذلك[69].

كذلك فإن الشيخ الأصفهاني إعتبر أن المقلد قد يتفق له أن يقف على مدارك الخلاف بين العلماء فيترجح في نظره فتوى البعض دون البعض الآخر، فيكون بذلك غير مقلد[70]. كما أقرّ بأن العامي لو علم بطلان ما أفتى به المفتي فإنه لا يقلده في ذلك وعليه مراجعة غيره[71].

كما أن بعض المعاصرين صرح بعدم جواز تقليد العامي لكل ما لا يرى إطمئناناً في حكم المجتهد، كما هو الحال مع الشيخ منتظري، وهو لا يعد ذلك من التقليد، وكما يقول: «في الحقيقة العمل إنما يكون بالوثوق الذي هو علم عادي تسكن به النفس، لا بالتقليد والتعبد. وأما إذا لم يحصل الوثوق في مورد خاص لجهة من الجهات؛ فالعمل به تعبداً مشكل». ويقول أيضاً: «وأما ما قد يُرى من بعض العوام من التعبد المحض بفتوى المجتهد مطلقاً من دون إلتفات إلى أنه يطابق الواقع أم لا، بل وإن إلتفتوا إلى ذلك وشكّوا في مطابقته له؛ فلعله من جهة ما لُقنوا كثيراً بأن تكليف العامي ليس إلا العمل بفتوى المجتهد، وأن ما أفتى به المفتي فهو حكم الله في حقه مطلقاً. والظاهر أن هذه الجملة تكون من بقايا إلقاءات المصوبة، وإن ترددت على ألسنتنا أيضاً»[72].

كما اعتبر الشيرازي أن حكم العقل بعدم جواز إتباع المرجع فيما لو علم المقلد خطأه هو من الواضحات. وذلك لأنه لا يقلده إلا لأنه يراد منه إدراك الواقع، فلو علم المقلد عدم ادراكه الواقع وقطع بذلك لما جاز أن يقلده، بل حتى لو لم يكن علمه على سبيل القطع وإنما على سبيل الظن النوعي فحسِب أن مرجعه مخطئ ومخالف للحكم الواقعي، كإن يفتي وهو في حالة إضطراب شديد مثلاً؛ ففي هذه الحالة يحرم على المقلد أن يأخذ بفتواه[73].

وبهذا الدليل تتنقح السيرة العقلائية في قبول ورفض المذاهب الفكرية والعقائدية من قبل النظّار، إذ لا يعقل أن يكونوا مختصين في جميع ما يتعرضون إليه بالبحث والدراسة والنقد. فلو فرضنا انه لا يحق للناظر تأييد أو رفض ما يطّلع عليه من أدلة فقهية بحجة عدم إختصاصه؛ لانبسط هذا الحكم على سائر القضايا، فيصبح من اللازم على الناس أن لا يؤيدوا أو ينقضوا أيّ مذهب أو فكرة يطلعون عليها بحجة عدم الاختصاص، ومنها الأفكار المادية والإلحادية، كما أن منها القضايا العقائدية التي يصعب على العامي أن يحقق فيها بمثل ما يفعل المختص. بل يترتب على ذلك أن من الواجب على الفقهاء أنفسهم أن لا يتعرضوا إلى أي فكرة أو مذهب من مذاهب الفكر والعقيدة ما لم يختصوا فيها، وبالتالي لا يحق لهم نقض الأفكار الغربية والمفاهيم الوافدة نظراً لعدم إختصاصهم في المجالات الفكرية. مع أن الجاري ليس كذلك، مما يدل على صحة مزاولة طريقة النظر. إذ لا يوجد اعتراض على هذا السلوك، حتى من قبل أهل الإختصاص، إذا ما كان القارئ غير مقتنع بما يطرحونه من أفكار ونظريات. وهو في حد ذاته ينقّح صحة ما يمكن أن يلجأ إليه عامة الناس في النظر في قضايا العقيدة المختلف حولها دون حاجة للإجتهاد أو التقليد، وهي قضية سبق أن طرحها العلماء من غير تنقيح في الغالب.

بهذا يتبين ان طريقة النظر هي من المباني العقلية الواضحة، بحيث لا يحتاج الناظر إلى البحث في أدلتها، فهي شبيهة باللجوء إلى مطلق الخبير العالم عند الجهل بالمسألة، حيث تعتبر أيضاً من المرتكزات العقلائية التي لا تحتاج إلى دليل تخصصي.

4 ـ دليل البناء العقلائي

ويكشف هذا الدليل عن أن الناس عندما يكون لهم نوع من التمييز والخبرة المجملة ويراجعون المختصين في جميع الحرف والمهن؛ فانهم لا يولون أهمية لقول الأكثر علماً إذا ما ظنوا أنه على خطأ وغيره على صواب.

وقد طُبق هذا الدليل على عدم جواز تقليد صاحب ملكة الإجتهاد لغيره من المجتهدين، كقول الخوئي: «كيف يسوغ دعوى أن العقلاء يلزمون صاحب الملكة بالرجوع إلى من يحتمل إنكشاف خطأه إذا راجع الأدلة. بل قد يكون قاطعاً بأنه لو راجع الأدلة لخطأه في كثير من إستدلالاته ومثله لا يكون مشمولاً للسيرة العقلائية»[74].

وهذا مجرد صاحب ملكة وليس بمجتهد على نحو الفعلية. أما والأمر مع صاحب النظر فالحال أشد ثبوتاً طبقاً للدليل الآنف الذكر، فهو يمارس التمييز والفحص، وهو نوع من الإجتهاد الفعلي رغم ضعفه بالقياس مع المجتهد الحقيقي. لذا فمن الأولى أن يقال في حقه: كيف يسوغ دعوى إلزام العقلاء لصاحب النظر بالرجوع إلى من يراه مخطئاً بعد الفحص؟ فهو لا يحتمل الخطأ كما لدى صاحب الملكة الذي لم يمارس عملية الفحص فعلاً، بل هو أقوى من ذلك اعتباراً، لكونه قائماً بالفحص ومتوصلاً إلى رؤية محددة، خلافاً لصاحب الملكة.

وإذا ما غضضنا الطرف عما في الدليل العقلائي من المسحة القياسية؛ فربما يفاد منه الوجوب في الحالة التي يعمل فيها الناظر بحسب إطمئنانه بإتباع من يرى قوله صحيحاً وطرح رأي الغير ولو كان أعلم المختصين.

مراتب النظر

بداية نعترف أن من الصعوبة بمكان وضع فواصل حدّية تفصل بين مراتب النظر، أو بين بعض من هذه المراتب وبين الإجتهاد أو حتى التقليد، وذلك لتداخل الحدود الوسطى المتقاربة. فعلى حد قول الغزالي وهو في معرض التمييز بين العامي والمجتهد: إن «بين درجة المبتدئ في العلم وبين رتبة الكمال منازل واقعة بين طرفين وللنظر فيها مجال»[75]. مع ذلك فمن الناحية  المنهجية يمكن تقسيم طريقة النظر إلى مرتبتين كما يلي:

أ ـ المرتبة التفصيلية

في هذه المرتبة يكون صاحب النظر على مستوى دقيق وواضح في إستبعاده لبعض الأفكار وقبول الأخرى، وذلك اعتماداً على قناعته بالأدلة المفصلة أو عدم إقتناعه بها. وربما تختلط هذه المرتبة بعملية الإجتهاد. فقد يُعد مثل هذا الضرب من السلوك المعرفي إجتهاداً، وإن كان حسب المفهوم إن الناظر لا يقوم بالمهمة التي تقع على عاتق المجتهد، وهي استنباط الحكم من المصادر الشرعية، أو يفترض أن المجتهد قادر على معرفة الأحكام الشرعية ولو لم يعتمد على النظر في أدلة المجتهدين الآخرين، فلو انه استند إلى هذا النظر  دون ان تكون له القدرة الذاتية المستقلة؛ فسيكون بذلك من النظّار لا المجتهدين. وربما يكون أغلب ما يعتقد انهم مجتهدون هم في واقع الأمر نظّار، أو قلما تبدو عليهم حالة الإجتهاد التي تتضمن الإبداع خلاف حالة النظر.

وهنا نلفت النظر إلى أن طلبة العلم الذين يدخلون في مرحلة ما يسمى بالبحث الخارج لدى الحوزات الشيعية ـ أو ما يشاكلها ـ، والذين يمكنهم التمييز في التفاصيل التي تردهم من أقوال المجتهدين، إنما ينزلون هذه المنزلة من النظر التفصيلي. مع أن الفقهاء يطبقون عليهم حكم التقليد طالما لم يحصلوا على مرتبة الإجتهاد بعد؛ رغم أنهم من أهل الخبرة في تمييز التفاوت بين درجات العلماء ومراتبهم العلمية، لهذا عدّهم الفقهاء ممن تقام بهم الحجة على العوام في تشخيص الأعلم وسط العلماء. وهنا المفارقة والتناقض، إذ كونهم من أهل الخبرة والقدرة على التمييز بين المراتب العلمية للفقهاء هو في حد ذاته يُبطل تصنيفهم ضمن فئة المقلدين. فقدرتهم على التمييز بين المراتب لا تتحقق ما لم يكونوا متمكنين من فهم أدلة العلماء وأذواقهم، وهو في حد ذاته يجعلهم متمكنين من الترجيح بين الأدلة، وبالتالي لا يجوز عليهم التقليد. وآية ذلك إنهم كثيراً ما يتعرضون لمناقشة الأدلة التي يعرضها عليهم الأُستاذ.. فكيف يُسمح لمثل هؤلاء أن يكونوا بمرتبةٍ لا تختلف عن مرتبة العامة من الناس؟!

وتجدر الإشارة إلى ان الميدان الذي يتحرك فيه هؤلاء الطلبة في ممارسة النظر هو أوسع مدى من الميدان الذي يتحرك فيه غيرهم من المثقفين الدينيين. فبوسع الطلبة التعرف على جميع المسائل التي يتناولها الفقيه بالإجتهاد، وهي مسائل تهم الطلبة مثلما تهم المجتهدين باعتبارهم جميعاً من ذوي الدراسات الدينية، وبالتالي فان الطلبة عارفون بمدارك الفقهاء ومبانيهم، وهو ما يخولهم ان يزاولوا الترجيح بين الآراء التي يتعرفون عليها بالتفصيل. في حين ليس للمثقفين اهتمام بالكثير من المسائل التي يتداولها الفقهاء بالدرس والإجتهاد، كالمسائل التعبدية وما اليها، وقد يجهلون أحياناً المباني التي يعتمد عليها الفقهاء في إجتهاداتهم. مع هذا فالمثقفون معنيون بالنظر ولو ضمن الميدان الضيق الذي يتحركون فيه؛ مقارنة بالميدان الواسع الذي يتحرك فيه طلبة البحث الخارج في العلوم الدينية. وهو أمر لا يمنع المثقفين من التحرك في ميدان آخر أوسع وأعمق مما يتحرك فيه طلبة العلوم الدينية، وهو الميدان الخاص بالاشكاليات المعاصرة التي فرضت نفسها على العقل المثقف، وجعلته يتعامل معها بنحو من الإجتهاد غير ذلك الذي عهدناه لدى الفقيه، كالذي فصلنا الحديث عنه في دراسة مستقلة[76].

ب ـ المرتبة الإجمالية

يعتمد صاحب النظر في هذه المرتبة على ما يرد إليه من إجمال في الأدلة فيطمئن لبعضها دون البعض الآخر؛ مستعيناً بذلك على ما له من قدرة عقلية فطرية يميز فيها ما يراه أنه أقرب إلى الصواب، كما هو حال أغلب المثقفين. فلو أن مثقفاً أو ناظراً سأل جماعة من المجتهدين عن مسألة ما ونوع الدليل الذي إعتمدوه على نحو الإجمال مع التوضيح؛ فإن من حقّه أن يختار ما يراه صحيحاً بحسب ما يمليه عليه وجدانه من غير إعتبارٍ للأعلمية والحياة التي يشترطها الفقهاء في التقليد.

فلا يخلو الناظر من مرتكزات معرفية قد يستمدها من دراسته للعلوم الدينية كما هو الحال مع طلبة هذه العلوم، أو من الدراسات الانسانية والخبرة الحياتية كالجاري مع المثقفين، كما قد يستمدها من المقاصد الكلية للتشريع. وكل ذلك يساعده على فهم الأدلة والترجيح فيما بينها. إذ قد يأخذ بالدليل الأقرب إلى تلك المرتكزات وإن لم يكن مدركاً لمرتكزاته على نحو التمييز والتخصيص، ومن ثم قد لا يكون مدركاً لعلة ترجيحه على نحو التفصيل حسب الصنعة الاستدلالية[77]. لكن في جميع الأحوال إنه يرجح ما يراه أقرب إلى واقع الحكم الشرعي، فما توصل إليه بالنظر يشكل أرجح الاحتمالات الممكنة المتنافسة في تعيين الحكم الحقيقي للشرع.

وتجدر الإشارة إلى أن الكثير من علماء الإتجاهين السني والشيعي قد اعتبروا صورة الإجمال في معرفة الدليل مقبولة حول العقائد وعلم الكلام حتى بالنسبة للعامي فضلاً عن المجتهد. فقد أوجبوا على كل عامي أن يعلم أدلة العقائد ولو إجمالاً لعدم إختصاصه وتبحره، كما هو رأي الشريف المرتضى والشيخ الطوسي وغيرهما من العلماء والأتباع[78]. فإذا كان هذا سليماً رغم أهمية العقائد وكونها تحتاج إلى الأدلة القاطعة؛ فكيف لا يصح الأمر مع الأحكام وهي من الفروع التي لا ترقى إلى مستوى تلك العقائد؟!

بل حتى في الفروع يجيز العلماء الإعتماد على الدليل الإجمالي الذي يسمح بمشروعية الإستفتاء، ومن ذلك قول الشريف المرتضى: «إعلم أن العامي لا يجوز أن يسوغ له العمل بفتيا العلماء إلا بعد أن يكون ممن قامت عليه الحجة بصحة الإستفتاء والعلم بجوازه. ولن يكون كذلك إلا وهو ممن يصح أن يعلم الأحوال التي نشأ عليها صحة الإستفتاء إما على جملة أو تفصيل، لأنه إن لم يكن بذلك عالماً كان مقدماً من العمل بالفتيا على ما لا يأمن كونه قبيحاً، وإنما يأمن أن يكون كذلك بأن يعلم الحجة في جواز الإستفتاء وصحته»[79].

هكذا فمثلما يقال في العقائد: «إن تحرير الأدلة بالعبارات المصطلح عليها ودفع الشبه الواردة فيها ليس بلازم، بل اللازم معرفة الدليل الإجمالي بحيث يوجب الطمأنينة، وهذا ما يحصل بأيسر نظر»[80]؛ فكذا يصح أن يقال نفس الشيء مع أدلة الفقه. بل أن الأولوية تكون مع هذا الأخير لا مع غيره؛ لا لكونه أقل أهمية من العقائد فحسب، بل كذلك بإعتبار أن الذي ينظر في العقائد بالنظر الإجمالي غالباً ما يلجأ إلى ذات الأدلة التي تطرحها بيئته «المذهبية»؛ دون أن يلتفت بجدّية إلى أدلة الخصوم. ولا نغالي لو قلنا إن هذا هو ديدن أغلب العلماء فكيف الحال بعامة الناس، وذلك بإعتبار أن الشروط التي وضعوها للنظر في العقائد تفرض على الناظر أن يمارس مثل هذا الدور التمثيلي. فهو يدرك - ولو لا شعوراً - أنه لو كان إعتقاده مخالفاً لإعتقاد بيئته التي أوجبت عليه النظر لأصبح مُصنَّفاً ضمن لائحة الكفر أو الضلال. وهذا ما لا يواجهه الناظر في الفقه إذا ما أيّد رأياً ورجحه على غيره من الآراء - ما لم يخرج عن المذهب -، لذلك كان الشافعي يقول: «رأيت أهل الكلام يكفر بعضهم بعضاً ورأيت أهل الحديث يخطّئ بعضهم بعضاً، والتخطئة أهون من الكفر».

من هنا يتبين أنه لا يشترط في علم الفقه، ونفس الحال في علم العقائد، أن يكون الناظر قادراً على تقديم الأدلة. فضلاً عن أنه ليس كل من لم يتمكن من تقديم الأدلة لا يكون عالماً؛ كما نصّ على ذلك الشيخ الطوسي، إذ إعتبر تقديم الأدلة صناعة لا يتوقف حصول المعرفة عليها[81].

 لكن من الواجب على الناظر أن يكون على بينة وإطلاع فيما يخص معالم الدين الأساسية وأُصول الفقه دون حاجة للدخول في التفاصيل التي يزاولها الفقهاء. إذ يمكن ممارسة الكثير من المبادئ المقررة تلقائياً رغم عدم الدقة في معرفتها تفصيلاً، شبيه بالممارسة الصحيحة للقضايا المقررة في المنطق؛ حتى مع عدم الإطلاع على المنطق، وكذا حال فهم المقاصد اللغوية وترجيح بعضها على البعض الآخر حتى مع عدم الإطلاع - في الغالب - على علم النحو وسائر علوم اللغة. فكل ذلك مما يمكن مزاولته تلقائياً رغم جهل المبادئ التي تتوقف عليها. لهذا لا يحتاج الناظر التوقف كثيراً في مباحث الظهور اللغوي والقرائن والعموم والخصوص ومراتب الأدلة وغيرها من المباحث الأصولية. ومعلوم أن بعض العلماء لا يشترط أن تكون دراسة علم أُصول الفقه مقدمة للإجتهاد، حيث يكفي لحيازة الإجتهاد أن يكون طالب العلم مقتصراً في الأصول على الإحاطة بالمسلمات والمشهورات بين العقلاء والعلماء وما هو المعتبر لدى الأذهان المستقيمة، وكل ذلك عنده متوفر في كتب الفقه الإستدلالية، أما التدقيقات العقلية والإحتمالات البعيدة التي تعج بها كتب الأصول فهي عنده من الحشو والفضل التي لا عبرة بها[82]. وشبيه بذلك ما اتجه اليه الشيخ حسن العاملي وابن اخته السيد محمد بن علي الموسوي[83].

مع هذا ينبغي على الناظر أن يمارس النظر والترجيح لكل ما لم يكن واضحاً؛ طبقاً لما يعتقد أنه أقرب إلى الشريعة ومقاصدها. والأولى أن لا يتقيد بالإجتهاد المذهبي كالذي سار عليه بعض المجتهدين ممن رجح العمل ضمن الإطار الواسع للإسلام دون التقيد بحدود ذلك الإجتهاد، كما هو حال الشيخ محمد جواد مغنية. فكما قال مثلاً: «إن مخالفة المذهب ليست مخالفة لواقع الإسلام وحقيقته، بل لصاحب المذهب، وبالأصح للصورة الذهنية التي تصورها عن الإسلام». ويقول ايضاً: «آن لنا أن نعيش أحراراً في أفكارنا.. وندع التقليد لمذهب خاص وقول معين، ونختار من إجتهادات جميع المذاهب ما يتفق مع تطور الحياة ويسر الشريعة. وإذا لم يكن التخيّر من المذاهب إجتهاداً مطلقاً فإنه على كل حال ضرب من الإجتهاد»[84].

وللتخلص من نزعة التقليد، من الاهمية بمكان أن يتربى المسلم ويتدرب على ممارسة التفقه والنظر في آراء الفقهاء ومداركهم الاستدلالية؛ شيئاً فشيئاً بالتدريج، كالذي أشار اليه ابن الجوزي، حيث نصح طالب العلم بقوله: «ينبغي له أن يطلب الغاية في العلم. ومن أقبح النقص التقليد، فإن قويت همته، رقته إلى أن يختار لنفسه مذهباً ولا يتمذهب لأحد فإن المقلد أعمى يقوده مقلده »[85].

أهمية النظر على الصعيد الجماعي والأمة

 1 ــ النظر وتقنين الأحكام

لطريقة النظر أهميتها الخاصة على الصعيدين القانوني والسياسي. فقد تقتضي الضرورة تشكيل لجان خاصة لصياغة القرارات الدستورية والقانونية وذلك طبقاً للنظر في أدلة إجتهاد الفقهاء والعمل على ترجيح بعضها على البعض الآخر. وهو عمل ربما دعت اليه الضرورات الحديثة لأجل التطبيق ولو ضمن حدود ضيقة جداً. أما قبل ذلك فالشاهد التاريخي يفتقر لأي محاولة جادة مارست النظر في الأحكام المتضادة للفقهاء وترجيح بعضها على البعض الاخر، ومن ثم تحويلها إلى صياغات قانونية موحدة وملزمة لأفراد المجتمع. لكن مع هذا الغياب فان الفكرة والدعوة إلى ذلك الأمر لم تنعدم كلياً. ونعترف بان الأمر يتعلق بشاهد يتيم لم يكتب له النجاح، إلا ان عراقته وكونه يكشف عن حاجة مزمنة وموغلة في القدم ما زالت لم تُسدد بعد إلى يومنا هذا؛ هو ما يجعل منه ذا أهمية خاصة.

ففي بدء الخلافة العباسية بعثَ الكاتب عبد الله بن المقفع (المتوفى خلال العقد الخامس من القرن الثاني للهجرة) رسالة إلى الخليفة أبي جعفر المنصور تحدث فيها عما رآه من تزايد في اختلاف الآراء وتضارب الأحكام القضائية من قبل الفقهاء، فاقترح عليه توحيد الأحكام وإلزام الناس عليها، وذلك بعد النظر في موارد الاختلاف وترجيح بعضها على البعض الاخر. إذ خاطب المنصور في (رسالة الصحابة) قائلاً: «ومما ينظر أمير المؤمنين فيه من أمر هذين المصرين - البصرة والكوفة - وغيرهما من الأمصار والنواحي، اختلاف هذه الاحكام المتناقضة التي قد بلغ اختلافها أمراً عظيماً في الدماء والفروج والأموال، فيستحل الدم والفرج بالحيرة وهما يحرمان بالكوفة، ويكون مثل ذلك الاختلاف في جوف الكوفة فيستحل في ناحية منها ما يحرّم في ناحية أخرى. غير انه على كثرة ألوانه نافذ المسلمين في دمائهم وحرمهم يقضي به قضاة جائز أمرهم وحكمهم. مع انه ليس مما ينظر في ذلك من أهل العراق وأهل الحجاز فريق إلا قد لجّ بهم العجب بما في أيديهم والاستخفاف ممن سواهم، فأقحمهم ذلك في الأمور التي يغضب لها من سمعها من ذوي الألباب. أما من يدعي لزوم السنة منهم فيجعل ما ليس سنة سنة، حتى يبلغ ذلك به إلى ان يسفك الدم بغير بينة ولا حجة على الأمر الذي يزعم انه سنة، وإذا سئل عن ذلك لم يستطع ان يقول هريق فيه دم على عهد رسول الله (ص) أو أئمة الهدى من بعده..». ثم قال: «فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية والسير المختلفة فترفع إليه في كتاب، ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من سنة أو قياس، ثم نظر في ذلك أمير المؤمنين وأمضى في كل قضية رأيه الذي يلهمه الله، ويعزم له عليه عزماً وينهى عن القضاء بخلافه، وكتب بذلك جامعاً لرجونا ان يجعل الله هذه الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ حكماً واحداً صواباً، ورجونا ان يكون اجتماع السير قربة لإجماع الأمر برأي أمير المؤمنين وعلى لسانه ثم يكون ذلك من إمام آخر، آخر الدهر إن شاء الله». ثم أكد بأن اختلاف الاحكام قد يكون ناتجاً عن المأثور عن السلف مما لم يجمع عليه، حيث يراه قوم على وجه، ويراه آخرون على وجه آخر. لذلك فقد أوصى بضرورة النظر إلى أحق الفريقين بالتصديق وأشبه الأمرين بالعدل[86].

 2 ـ المزاوجة بين الشورى والنظر

لكن إذا ما كانت خطوة ابن المقفع موضوعة لنظام فردي؛ فلا مانع من أن يتم تجسيدها بصورة جماعية، يكون العمل فيها متزاوجاً بين مسلكي الشورى والنظر. أي ان النظر في أدلة المجتهدين يكون جماعياً بحسب الشورى. ونحن نجد في الفترة الحديثة أصداء لهذه الطريقة لدى دعاة الانفتاح على المذاهب والمجامع الفقهية وإن كانت ضمن أُطر ضيقة. كذلك هو الحال فيما مورس من مهام قانونية في بعض المجالات مما فرضتها التطورات الحديثة وضغط الواقع.

وعلى العموم انه مثلما يمكن للفقهاء القيام بهذا الدور من المزاوجة - بين النظر والشورى - فإن من الممكن لغيرهم من المثقفين الدينيين ممارسة ذلك أيضاً.

وقد يقال إن النتائج المتمخضة عن ممارسة الفقيه هي أقرب إلى مراد الشرع ومقاصده تبعاً لما يتمتع به من عمق وتخصص..

لكن كردّ على ذلك ينبغي لحاظ النقاط التالية:

أولاً: ليس من وظيفة النظر استخدام آليات الإجتهاد، ونحن هنا قد فرضنا الفقيه ناظراً وليس مجتهداً. فهو في هذه الحالة انما يعتاش على مائدة غيره من الفقهاء المجتهدين، وبالتالي فلا فرق بينه وبين الناظر الذي يمارس نفس هذا الدور. أي ان نتاج كل منهما انما هو نتاج الفقيه المجتهد المتخصص.

ثانياً: إن صفة التخصص ليست كافية لجعل النتائج أقرب إلى مراد الشرع ومقاصده. إذ ذلك يعتمد على طبيعة المنهج المتبع. فلو اتصف المنهج بالصرامة والتصلب وانه يعاني من مشكلة مزمنة؛ فإن النتائج المترتبة عليه لا بد وان تبتعد عن مسار الأقربية والتوافق مع مراد الشرع. وهنا يلاحظ ان منهج الفقيه لا يخلو من هذه العقدة، رغم ممارساته التاريخية الطويلة والعمق الذي يتحلى به. فهو يحمل منهجاً متصلباً يمنعه في كثير من الأحيان أن يكون ملائماً لحل مشاكل الواقع، بل والقرب من مراد الشرع ومقاصده.

ثالثاً: إن للمثقف دائرتين معرفيتين، إحداهما تتداخل مع دائرة الفقيه الواسعة، فتدور في حياضها وضمن مدارها، وهي دائرة النظر كما حددنا أُفقها. لكن في القبال ان له دائرة أخرى قد تتعارض مع دائرة الفقيه دون ان تتداخل معها، وذلك طبقاً للمرتكزات المعرفية التي تتحكم في نتائج كل منهما. الأمر الذي يعفي المثقف من صلابة منهج الفقيه، وهو ما يساعده على افراز نتائج مقبولة قد تكون أقرب إلى مراد الشرع ضمن اعتبارات محددة، وقد عرضنا هذه القضية بالتفصيل ضمن دراسة مستقلة[87].


[1]           الهمداني، القاضي عبد الجبار: المغني في أبواب التوحيد والعدل، ج12 (كتاب النظر والمعارف)، ص4.

[2]           انظر مثلاً: الإعتصام للشاطبي، ج3، ص252ـ254.

[3]           أعلام الموقعين، ج2، ص246.

[4]           مواهب الجليل، ص30.

[5] أعلام الموقعين، ج2، ص201 و211. والإحكام لإبن حزم، ج2، ص125. وأبو حنيفة، ص61.

[6]           الإحكام لإبن حزم، ج6، ص56 و123 و149ـ150. والموافقات، ج4، ص289.

[7]           جامع بيان العلم وفضله، باب فساد التقليد ونفيه والفرق بين التقليد والاتباع. والموافقات، ج4، ص289. والقول السديد، ص21.

[8]           أعلام الموقعين، ج2، ص200. وحجة الله البالغة، ج1، ص155.

[9]           تاريخ المذاهب الإسلامية، ص548.

[10]          المودودي: تاريخ تجديد الدين واحيائه، ترجمه إلى العربية محمد كاظم سباق، الدار السعودية للنشر، 1405هـ ـ1985م، ص96ـ97.

[11]          هداية الموفقين، ص65.

[12]          مواهب الجليل، ص30.

[13]          الحبل المتين، ص6.

[14]          ابن عابدين: العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية، دار المعرفة، بيروت، ص333.

[15]          هداية الموفقين، ص67ـ68.

[16]          صفة الفتوى، ص71.

[17]          صفة الفتوى، ص72.

[18]          سير اعلام النبلاء، ج8، فقرة 90.

[19]          رسالة المصلحة للطوفي، نفس المعطيات السابقة، ص135.

[20]          صفة الفتوى، ص72.

[21]          العز بن عبد السلام: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، شبكة المشكاة الالكترونية، ضمن قاعدة فيمن تجب طاعته ومن تجوز طاعته (لم تذكر ارقام صفحاته).

[22]          حجة الله البالغة، ج1، ص155.

[23]          حجة الله البالغة، ج1، ص155.

[24]          سير اعلام النبلاء، ج8، فقرة 90.

[25]          الإعتصام، ج3، ص252ـ254.

[26]          الضروري في أصول الفقه، فقرة 252، ص145.

[27]          مشارق انوار العقول، ص76.

[28]          فقه الزكاة، ج1، ص21.

[29]          عن: مشكلات في طريق الحياة الإسلامية، ص144ـ145.

[30]          الإحكام للآمدي، ج4، ص451.

[31]          مقالات الإسلاميين وإختلاف المصلين، ص480.

[32]          الفقيه والمتفقه، ج2، ص431.

[33]          المختارات الجلية من المسائل الفقهية، ص174ـ175.

[34]          مجموع فتاوى ابن تيمية، ج33، كتاب الطلاق، ص168.

[35]          النجدي، احمد: الفواكه العديدة في المسائل المفيدة، منشورات المكتب الإسلامي، الطبعة الاولى، 1380هـ ـ1960م، ص143.

[36]          إرشاد الفحول، ص268.

[37]          عباسي، عيد: الدعوة السلفية وموقفها من الحركات الأخرى، ضمن ندوة إتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر، نشر مكتب التربية العربي لدول الخليج، 1407هـ ـ1987م، ص214ـ215.

[38]          ورد شبيه بهذا الحديث عن النبي (ص)، وهو أنه قال: «إستفت قلبك وإستفت نفسك، البِرّ ما إطمأنت إليه النفس وإطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك» (الإعتصام، ج2، ص342ـ343). كما ورد ما يماثل هذا الحديث في المصادر الشيعية عن الإمام الرضا عن أبيه موسى بن جعفر عن النبي قوله: «.. البِرّ ما إطمأنت إليه النفس، والبِرّ ما إطمأن به الصدر، والإثم ما تردد في الصدر وجال في القلب وإن أفتاك الناس وأفتوك» (الوسائل، ج18، أبواب صفات القاضي، باب11، حديث 34، ص121).

[39]          أعلام الموقعين، ج4، ص254. انظر ايضاً: صفة الفتوى، ص56.

[40]          المحقق الحلي: المعتبر، المقدمة. كذلك: مقدمة محمد تقي القمي للمختصر النافع للحلي، ص ي.

[41]          الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص21.

[42]          فرائد الأصول، ج2، ص506.

[43]          الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص19.

[44]          نفس المصدر، ص199.

[45]          عوائد الأيام، ص192. والفصول الغروية، ص416.

[46]          الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص368  .

[47]          نفس المصدر السابق، ص249 .

[48]          كفاية الأصول، ص542.

[49]          عناية الأصول، ج6، ص242 .

[50]          الفصول الغروية، ص423ـ424.       

[51]          الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص18و19و83.

[52]          الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص83ـ84.

[53]          معارج الأصول، ص197. ومعالم الدين، ص385ـ386.

[54]          صفة الفتوى، ص80ـ81. وانظر ايضاً: تهذيب الفروق،ج2، ص127.

[55]          الزمر/ 18.

[56]          الطبرسي، الفضل بن الحسن: مجمع البيان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي، بيروت، الطبعة الاولى، 1415هـ ـ 1995م، ج8، ص391.

[57]          الطبري: جامع البيان في تفسير القرآن، دار المعرفة، بيروت، 1407هـ ـ1987م، ج23، ص132.

[58]          ولي الله دهلوي: الانصاف في بيان أسباب الاختلاف، طبعة دار النفائس، الطبعة الثانية، 1404هـ، شبكة المشكاة الالكترونية، ص97.

[59]          الزمخشري: الكشاف، دار المعرفة، بيروت، ج3، ص393.

[60]          الآلوسي: روح المعاني، دار الفكر، بيروت، 1408هـ ـ1987م، ج23، ص253.

[61]          الميزان، ج17، ص250 و201.

[62]          فرائد الأصول، ج1، ص185.

[63]          قوانين الأصول، ص443.

[64]          فرائد الأصول، ج1، ص217ـ218.

[65]          معالم الدين، ص346. وفرائد الصول، ج1، ص235 .

[66]          انظر حول ذلك المصادر التالية: المستصفى، ج2، ص391. الإحكام للآمدي، ج4، ص457ـ458. فواتح الرحموت، ج2، ص405. الموافقات، ج4، ص292. الإعتصام، ج3، ص255. جواهر الكلام، ج40، ص43.

[67]          فرائد الأصول، ج1، ص208.

[68]          الإجتهاد والتقليد، ص227ـ228.

[69]          الكفاية، ص542. وعناية الأصول، ج6، ص242 و243.

[70]          الفصول الغروية، ص423ـ424.

[71]          المصدر السابق، ص416.

[72]          دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية، ج2، ص104 و106.

[73]          شورى الفقهاء، ج1، ص343 و347.

[74]          الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص31 .

[75]          المستصفى، ج2، ص384.

[76]          يحيى محمد: القطيعة بين المثقف والفقيه، دار أبكالو، طبعة ثالثة، 2019م.

[77]          انظر بهذا الصدد مدخل كتاب القطيعة بين المثقف والفقيه، وهو بعنوان: التكافؤ المعرفي بين المختص وغيره.

[78]          رسائل المرتضى، ج2، ص321. وعدة الأصول، ج1، ص355  وما بعدها. وفرائد الأصول، ج1، ص148.

[79]          الرسائل، ج2، ص320  الرسائل، ج2، ص320.

[80]          معالم الدين، ص387 .

[81]          فرائد الأصول، ج1، ص148.

[82]          انظر: تهذيب الأصول، ج2، ص111.

[83]          أذكر أنه نقل لي أحد الأصدقاء من المشايخ بأن السيد الخوئي كان يقول في أواخر حياته ما معناه: لقد قضيت من عمري ستاً وستين سنة في علم الأصول هدراً.

[84]          الفقه على المذاهب الخمسة، المقدمة، ص8 و9.

[85]          ابن الجوزي: صيد الخاطر، شبكة المشكاة الالكترونية، فصل : لا تني عن طلب الكمال (لم تذكر ارقام صفحاته). ومشكلات في طريق الحياة الإسلامية، ص144.

[86]          ابن المقفع: رسالة في الصحابة، ضمن آثار ابن المقفع، مقدمة واشراف عمر أبو النصر، دار مكتبة الحياة، بيروت، الطبعة الاولى، 1996م، ص353ـ354. كذلك: الأنباري، عبد الرزاق: منصب قاضي القضاة في الدولة العباسية، نشر الدار العربية للموسوعات، بيروت، الطبعة الاولى، 1987م، ص61 و62. وأمين، أحمد: ضحى الإسلام، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة العاشرة، ج1، ص208ـ210.

[87]          انظر: القطيعة بين المثقف والفقيه.

comments powered by Disqus