يحيى محمد
يعد الحديث النبوي المصدر الثاني من مصادر التشريع بعد القرآن الكريم، يليه الاجماع ثم سائر المصادر الاخرى المتعلقة بالاجتهاد فيما لا نص فيه، كالقياس وما اليه. ومن حيث التشريع يعتبر الحديث عند العلماء اهم هذه المصادر قاطبة، باعتباره يتميز بخاصتين لا ينافسه في جمعهما مصدر اخر، فله مرجعية الهية مثلما للقرآن الكريم، كما انه من المصادر المفصلة شبيه بالقياس وما اليه من مصادر الاجتهاد فيما لا نص فيه. وبذلك انه يختلف عن القرآن الكريم باعتبار ان هذا الاخير من المصادر المجملة لا المفصلة، وعليه يستعان به في تبيان ما هو مجمل من القرآن، حتى جاء عن مكحول انه قال: القرآن أحوج الى السنة من السنة الى القرآن، كما قال يحيى بن أبي كثير: السنة قاضية على الكتاب، ليس الكتاب قاضياً على السنة[1]، وهو المروي ايضاً عن ابن شهاب الزهري[2]. كذلك يختلف الحديث عن الاجماع لقلة مصاديق هذا الاخير، ولنفس السبب يختلف عن العقل المعد احد مصادر الاجتهاد والتشريع لدى الامامية الاثنى عشرية. كما انه يختلف عن القياس وغيره من ادوات الاجتهاد فيما لا نص فيه، باعتبارها غير معصومة ولا تمت الى المرجعية الالهية بصلة، لذلك عدت من مصادر المعرفة الموضوعة للاضطرار. وليس الحال كذلك مع الحديث، فهو المصدر الوحيد الذي يحظى بجمع الخاصتين المشار اليهما، مما يعزز الاعتماد عليه مقارنة بغيره من المصادر المذكورة.
وفعلاً ان العلماء يعولون على الحديث اكثر من غيره، ادراكاً لتلك الاهمية، لكن هناك اسئلة عديدة ترد بهذا الصدد، منها ما يلي:
هل للحديث مصداقية من الحجية كما يصورها لنا العلماء والحفّاظ؟ فهل يحظى بحجية كحجية القرآن؟ وهل طلب من المسلمين الاخذ به واتباعه كما يزعم هؤلاء؟ وهل وصل الينا كاملاً من غير تبديل وتغيير وزيادة ونقصان؟ وهل سلك المتأخرون مسلك السلف الاول في التعامل معه؟ الى غير ذلك من الاسئلة التي تحتاج الى اجابات شافية كالتي بحثناها مفصلة في كتابنا (مشكلة الحديث).
لكن مجمل ما توصلنا اليه هو انه لا يوجد حديث قطعي، فابلغ الاحاديث صحة هو حديث الكذب على النبي، لكنه روي بالفاظ ومعاني كثيرة مختلفة، وليست هناك صيغة محددة تبلغ القطع بما فيها الصيغة المستفاضة (من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).
وقد ذكر الشيخ زين الدين العراقي - خلال القرن التاسع الهجري - ان هذا الحديث جاء عن خمس وسبعين صحابياً، لكن ما يصح فيها هو عشرون صحابياً اتفق البخاري ومسلم على اربعة منهم، وانفرد الاول بثلاثة والثاني بواحد. واعتبر انه لم يتحقق التواتر في هذا الحديث، وذلك لتعذر وجود التواتر في الطرفين والوسط، وبعض طرقه الصحيحة إنما هي إفراد من بعض رواتها. والذين زادوا في عدد هذا الحديث حتى جاوز المائة؛ أرادوا بذلك مطلق الكذب على النبي دون الاقتصار على المتن الشائع[3] .
على ان احتمالات التحوير في المعنى والزيادة والنقصان ترد على الدوام، وذلك تبعاً للنقل المتعدد من جيل الى جيل مصحوباً بتغيير الالفاظ والعبارات كالذي تعرضنا له في دراسة مستقلة، وكلما زاد السند في الطول كلما ضعفت القيمة الاحتمالية لاصابة نقل الحديث بدقة، ناهيك عن احتمالات الوضع والدس. وقد اعترف عدد من العلماء بعدم وجود حديث يرقى الى مستوى التواتر او القطع، ومن ذلك ما ذكره ابن عاشور: ‹‹واما الاحاديث المتواترة فقد قال علماؤنا: ليس في السنة متواتر لتعذر وجود العدد الذين يستحيل تواطؤهم على الكذب في جميع عصور الرواة بيننا وبين رسول الله (ص) وانما اكثر الاحاديث رواة لا يعدو ان يكون من المستفيض كما تقرر في اصول الفقه››[4]. كما قيل انه لا يوجد خبر من رواية عدلين في جميع سلسلة السند وان جميع الاخبار هي اخبار احاد كالذي صرح بذلك ابن حبان البستي، على ما اطلعنا عليه من قبل[5].
مع ذلك حتى لو سلمنا بوجود أحاديث مقطوعة الصدور عن النبي، فذلك لا يلغي مشاكل المعنى بفعل ملابسات الاحداث والاحوال، اذ قد تكون الاحاديث شخصية طارئة لا علاقة لها بالامور الدينية العامة، او تكون ذات فحوى اداري يخص مجتمع الجزيرة انذاك بكل ما يحمله من سياقات خاصة، او ان علاقتها بغيرها من النصوص هي غير ما نتصوره ونقدره. وهنا نواجه عدداً من المشاكل والاحتمالات المتراكبة، فهناك تردد في سلامة نقل الخبر كما هو، وهناك تردد اخر في مضمونه ومعناه، وكذا في علاقته بغيره من النصوص؛ إن كانت علاقة نسخ او تخصيص وتقييد او غيرها من المشاكل المعقدة، وكلها تتجمع حول اضعاف قيمة الخبر، ويصبح احتمال صحة التعويل عليه مقدراً بضرب مجموعة كبيرة من الاحتمالات والترددات الواردة حوله، مع انه كلما زاد عدد اطراف الضرب في المحتملات كلما زاد ضعف النتيجة اكثر فاكثر[6].
مع هذا يجب التمييز بين الحديث القولي المجرد وبين السنة العملية التي زاولها النبي واعتبرها من الدين، مثل الصلاة اليومية وغيرها، والتي تم التواصل فيها من جيل الى جيل. فمثل هذه السنة هي التي يعول عليها بالاخذ والالزام، وهي تعد قطعية من حيث الاجمال لا التفصيل. وكما يعرّف ابن تيمية السنة بانها العادة او الطريق التي تتكرر لتتسع لانواع الناس مما يعدونه عبادة او غير عبادة[7]. ولا شك ان هذا المعنى يختلف عن المعنى الموسع الذي جاء به المتأخرون من اصحاب الحديث والفقه. حيث عدوا السنة هي كل ما روي عن النبي من حديث او قول وفعل وتقرير. وكثيراً ما يستدلون على حجية ذلك من خلال اثبات حجية البعض، وهو ان الكثير من الاحكام والعبادات التي نص عليها القرآن بالاجمال لا تعرف من حيث التفصيل الا من حيث الحديث والسنة، ومن ذلك الصلاة وغيرها من العبادات. كذلك فقد نص القرآن في وجوب التمسك والاخذ بما اتاه النبي كما في سورة الحشر، مع ان سياق النص جاء بخصوص الفيء، وهو قوله تعالى: ((ما أفاء الله على رسوله من اهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله ان الله شديد العقاب)) (الحشر/7) والمعنى واضح وهو ان ما آتاكم الرسول من الفيء فخذوه وما نهاكم عن الاخذ منه فانتهوا. لكن حتى لو عزلنا الآية عن سياقها الذي يتضمن النواحي المادية وحمّلناها البعد المعنوي، فمع ذلك تنطبق مصداقيتها على الحاضرين في عصر النبي، كما ينطبق امرها في النواحي المعلومة من السنة العملية ومما نص عليه القرآن، أما غير ذلك فهو أمر غير ميقن، فقد تكون الآية قاصدة المكلفين الحاضرين في عصر النبي دون غيرهم، بل حتى لو حملناها على المعنى المطلق مما يشمل الغائبين في العصور الاخرى، فانه لا يفي بالغرض لوضوح انه لابد من التيقن من حجية ما يصلنا عبر الرواية، وهنا سوف نقع بذات الاشكالات التي عرضناها من قبل، ويكفينا من ذلك موقف كبار الصحابة الذين لم يستجيبوا للرواية غير تلك التي تدل عليها القرائن القريبة رغم صلة عصرهم بعصر النبي ومعرفتهم المباشرة للناقلين من اخوانهم الرواة، ورغم قلة الرواية وعدم ظهور الفتن وتفشي الكذب. اذ في هذه الحالة يمكن ان يقول النافي لحجية الحديث في العصور التالية ومنها عصرنا الحالي: اني اتبع ما عليه سلوك الصحابة ولا اقبل حديثاً لم تقم عليه الحجة الكافية بالقدر الذي كانت تكفي في العصر الاول كالذي مارسه هؤلاء العظام!
وهناك من الروايات ما تشير الى ان الصحابة كانوا يدركون ان سنن الاحكام يفترض ان يكون لها اصل في القرآن، كالذي تدل عليه رواية الرجم في صحيح مسلم، حيث روى عن عمر بن الخطاب انه قال وهو جالس على منبر رسول الله (ص): إن الله قد بعث محمداً (ص) بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل عليه آية الرجم قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله (ص) ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف[8]. وقد جاءت هذه الرواية على خلاف ما روي عن عبيد الله بن أبي رافع يحدث عن أبيه أن النبي قال: لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الامر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله تبعناه[9].
واذا كنا نختلف في ذلك مع الذين وسعوا من مفهوم السنة، فاننا نختلف ايضاً مع الذين نفوا حجية السنة باطلاق. ففي العصر الحديث ان اول من اعلن انكار حجيتها هو الدكتور محمد توفيق صدقي، حيث نشر مقالين في عددين لمجلة المنار (7 و12) بعنوان (الاسلام هو القرآن وحده) وكان ابرز ما قدمه من شبهة هو انه ‹‹لو كان غير القرآن ضرورياً في الدين لامر النبي بتقييده كتابة ولتكفل الله تعالى بحفظه››[10]. فالنبي قد نهى عن كتابة شيء غير القرآن، وان السنة لم تكتب في عهده، ولم يعمل الصحابة من بعده على جمعها في كتاب، مثلما لم يحصرها احد منهم حفظاً في صدره، ولم ينقلوها الى الناس بالتواتر اللفظي، وما كانوا يجيدون حفظها في صدورهم كحفظ القرآن، فرويت بالمعنى واختلفت الفاظها، ولم يتكفل الله بحفظها فوقع فيها جميع انواع التحريف، وكان بعض الصحابة قد نهى عن التحديث، فلو كانت السنة عامة لجميع البشر لبذلوا الوسع في ضبطها ولتسابقوا في نشرها بين الناس[11]. فهذه هي الشبه التي قدمها توفيق صدقي في نفي حجية السنة النبوية، لكنه عاد فأقر بخطأه فيما بعد، وذلك بتأثير من السيد محمد رشيد رضا، حيث سلم بحجية السنة العملية دون القولية وإن لم يشهد عليها القرآن، شرط ان يكون قد اجمع عليها المسلمون كافة مثل ركعات الصلاة[12]. وقديماً ذكر الشافعي في كتاب (جماع العلم) وكتاب (الام) جماعة انكروا السنة ضمن فصلين؛ احدهما عنوانه: (باب حكاية قول الطائفة التي ردت الأخبار كلها) اما الاخر فعنوانه: (باب حكاية قول من رد خبر الخاصة) فمنهم من لم يتقبل السنة ما لم يكن قد ورد في معناها قرآن، ومنهم من تقبلها في حالة الاتفاق عليها دون الاختلاف، وكان من ضمن ما احتج به بعضهم، هو انه لا يوجد من الراوين احد لم يبرأ من ان يخطئه احد فيما يرويه ويحفظه[13].
والنتيجة التي نصل اليها اخيراً هي التمسك بالسنة العملية التي لها اصل في القرآن وتكون من الدين ولا يعارضها ما هو اقوى منها، او تلك التي يعلم انها كانت مورد اجماع فعل كبار الصحابة، مع اخذ اعتبار الاجتهاد في الخيار بالجزئيات المختلف حولها، اما الحديث القولي المجرد فيمكن اعتباره مصدراً ثانوياً للتأييد والاستئناس عندما يكون داعماً لامر اخر من غير معارض يقوى عليه، ككثرة القرائن والقرآن والعقل والواقع والمقاصد العامة وغير ذلك.
[1] الخطيب أبو بكر البغدادي: الكفاية في علم الرواية، مراجعة: أبو عبدالله السورقي وإبراهيم حمدي المدني، المكتبة العلمية، المدينة المنورة، باب تخصيص السنن لعموم محكم القرآن، عن مكتبة سحاب السلفية (لم تذكر ارقام صفحاته): .www.sahab.org
[2] الخطيب البغدادي: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، فقرة 172، عن شبكة المشكاة الالكترونية: www.almeshkat.net، لكن سئل أحمد بن حنبل عما قيل بان السنة قاضية على الكتاب، فقال: ما اجسر على هذا ان أقوله، ولكن السنة تفسر الكتاب وتعرف الكتاب وتبينه (الكفاية في علم الرواية، الباب السابق، وابو يعلى الحنبلي: طبقات الحنابلة، عن شبكة المشكاة الاسلامية الالكترونية، ج1، مادة: الفضل بن زياد القطان البغدادي، لم تذكر ارقام صفحاته).
[3] الكشف الحثيث عمن رمي بوضع الحديث، مصدر سابق، ص28
[4] تحقيقات وانظار في القرآن والسنة، ص50ـ51
[5] علماً ان البعض اشترط في قبول خبر الواحد ان يرويه ثلاثة عن ثلاثة إلى منتهاه، واشترط بعضهم أربعة عن أربعة، وبعضهم خمسة عن خمسة، وبعضهم سبعة عن سبعة (فتح الباري، ج13، ص197).
[6] انظر كتابنا: القطيعة بين المثقف والفقيه، دار افريقيا الشرق، المغرب، الطبعة الثانية، 2013م. وانظر ايضاً: محمد باقر الصدر: اقتصادنا، دار التعارف، بيروت، الطبعة الحادية عشر، 1399هـ ـ1979م، ص417ـ418
[7] ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم، عن شبكة المشكاة (لم تذكر ارقام صفحاته). جاء ان ابا داود السجستاني كان يقول: كتبت عن رسول الله (ص) خمسمائة ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب (السنن)؛ جمعت فيه أربعة الاف وثمانمائة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، ويكفي الانسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث: احدها قول النبي (ص): انما الاعمال بالنيات، والثاني قوله: من حسن اسلام المرء تركه ما لا يعنيه، والثالث قوله: لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يرضى لاخيه ما يرضى لنفسه، والرابع قوله: الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه (سير اعلام النبلاء، ج13، فقرة 210، وطبقات الحنابلة، ج1، مادة (سليمان أبو داود السجستاني).
[8] صحيح مسلم، باب رجم الثيب في الزنى، حديث 1691.
[9] الشافعي: الرسالة، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ص226
[10] محمد توفيق صدقي: الاسلام هو القرآن وحده، مجلة المنار، اصدرها محمد رشيد رضا، دار الوفاء، مصر، 1906م، المجلد التاسع، العدد السابع، ص515
[11] المنار، المجلد التاسع، العدد الثاني عشر، ص913
[12] المنار، المجلد العاشر، ص140
[13] الشافعي: جماع العلم، عن شبكة المشكاة الالكترونية (لم تذكر ارقام صفحاته). كذلك: الام، عن شبكة المشكاة الالكترونية، ج7 (لم تذكر ارقام صفحاته).