يحيى محمد
ان ما دعا البخاري الى تأليف جامعه الصحيح هو انه رأى التصانيف التي سبقته حول المساند قد جمعت بين الصحيح والضعيف من الحديث، فحرك همته لجمع الحديث الصحيح وترك غيره من الحديث الضعيف. وقيل انه ألهم بفكرة الصحيح في الحديث المتصل بعد سماعه ما تمناه استاذه إسحاق بن راهويه[1]. وجاء انه لما ألف البخاري كتابه الجامع الصحيح عرضه على أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني وغيرهم فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة الا في أربعة أحاديث، وقال العقيلي ان القول فيها قول البخاري وهي صحيحة[2]. وكان البخاري يقول: ما أدخلت في الصحيح حديثاً إلا بعد أن استخرت الله تعالى وتيقنت صحته[3]. ويقول ايضاً: كتبت عن ألف شيخ أو أكثر، ما عندي حديث لا اذكر إسناده[4]. ولاهمية كتاب البخاري فقد كثرت شروحه، ومن ذلك ما قيل من ان عدد الشروح بلغت اثنين وثمانين شرحاً[5].
ومع ان هناك جماعة من العلماء اعتبروا كتاب مالك اول صحيح دون في الحديث، واخرين اعتبروا كتاب ابن جريج هو الاول[6]، لكن ساد الاعتقاد بان كتاب البخاري هو اول صحيح في الحديث، حسب ما اصطلح عليه علماء هذا الفن، ومن ثم يأتي بالمرتبة الثانية صحيح مسلم بن الحجاج القشيري (المتوفى سنة 261هـ). واذا كان بعض المتقدمين يرى كتاب مالك اصوب كتاب في العلم، كالشافعي وغيره، فان ذلك كان قبل البخاري ومسلم. والفارق الجوهري بين صحيحي هذين الشيخين وبين كتاب مالك، هو ان هذا الاخير ومعاصريه قبلوا العمل بالمرسل والمنقطع ولم يشترطوا الاتصال، وهذا ما لم يعمل به البخاري ومسلم. لذلك قال النووي في التقريب: أول مصنف في الصحيح المجرد صحيح البخاري. وهذه العبارة تتضمن التقييد بالمجرد، وذلك ليتميز به هذا الصحيح عن جميع الكتب التي سبقته، اذ كان موطأ مالك أول مصنف في الصحيح، لكن لم يجرد فيه الصحيح، بل أدخل المرسل والمنقطع والبلاغات[7] . وقد ادخل البخاري التعاليق والمتابعات والشواهد ونحوها لكنه أوردها استئناساً واستشهاداً[8]، فكان ذكرها في الكتاب لا يخرجه عن كونه كتاباً في الصحيح المجرد[9].
وقد ظهر بعد صحيحي البخاري ومسلم عدد من كتب الصحاح، قيل ان افضلها ثلاثة، وهي تعود الى كل من ابي داود السجستاني(المتوفى سنة 275هـ) وابي عيسى الترمذي (المتوفى سنة 279هـ) وابي عبد الرحمن النسائي (المتوفى سنة 303هـ). وقيل ان الفرق بين هؤلاء الخمسة من اصحاب الصحاح، هو ان غرض البخاري كان تخريج الاحاديث الصحيحة المتصلة واستنباط الفقه والسيرة والتفسير، فتقطعت عليه متون الاحاديث وطرقها في ابواب كتابه، وتضمن كتابه ايضاً ذكر الموقوف والمعلق وفتاوى الصحابة والتابعين واراء الرجال عرضاً. وكان غرض مسلم تجريد الصحاح دون تعرض للاستنباط، فجمع طرق كل حديث في موضع واحد ليتضح اختلاف المتون وتشعب الاسانيد على اجود ترتيب دون ان تتقطع عليه الاحاديث. وكانت همة ابي داود جمع الاحاديث التي استدل بها فقهاء الامصار وبنوا عليها الاحكام، فصنف سننه وجمع فيها الصحيح والحسن واللين والصالح للعمل، وقد صرح بانه لم يضمن كتابه حديثاً اجمع الناس على تركه[10]، لكنه كان يذكر الحديث الضعيف ويصرح بضعفه، وكان يترجم على كل حديث بما قد استنبط منه عالم وذهب اليه ذاهب، وما سكت عنه فهو صالح عنده[11]. لكن ذكر النووي ان كتابه لم يستوعب الصحيح من أحاديث الأحكام ولا معظمها، وكم في صحيح البخاري ومسلم من حديث حكمي ليس في سنن أبي داود؟ كما ذكر ابن دقيق العيد انه لا يحوي السنن المحتاج إليها، وان في بعضه ما لا يحتج به في الأحكام[12]. وكان غرض الترمذي الجمع بين طريقة البخاري ومسلم من جهة، وطريقة ابي داود من جهة اخرى، وزاد عليهما بيان مذاهب الصحابة والتابعين وفقهاء الامصار، فجمع كتاباً جامعاً واختصر طرق الحديث، فذكر واحداً واومأ الى ما عداه، وبين امر كل حديث من انه صحيح او حسن او ضعيف او منكر او مستفيض او غريب ليكون الطالب على بصيرة من امره، فيعرف ما يصلح للاعتبار عما دونه، وذكر مذاهب الصحابة وفقهاء الامصار وسمى من يحتاج التسمية وكنى من يحتاج الكنية، لذلك يقال: انه كاف للمجتهد مغن للمقلد. اما النسائي فقد امتاز بانه اشد انتقاداً للرجال من البخاري ومسلم، وان أحاديثه اقل انتقاداً بعد الشيخين، لهذا ذكره البعض بعدهما، وقد امتاز بانه كان يحسن بيان العلل في الحديث[13].
ويتميز الحديث الصحيح عن غيره بحسب حال الرواة في السلسلة، ومعناه عند البخاري هو ما دار على عدل متقن واتصل سنده[14]، بحيث يروى الحديث عن عدل ضابط فمثله، وذلك بصورة متصلة غير منقطعة حتى ينتهي الحديث الى الصحابي ومنه الى النبي (ص). وفي هذا التعريف قيد، وهو ان يكون الراوي العدل يمتاز بالضبط والاتقان، وذلك كي لا يكون هناك شذوذ، وهو ‹‹ان لا يخالف احد رواته ما يرويه من هو ارجح منه حفظاً مخالفة لا يمكن معها الجمع بين الروايتين كما اشار له مسلم في مقدمة صحيحه، ولا يكون فيه علة خفية قادحة مجمع عليها، فشرط البخاري ومسلم ان لا يخرجا الا الحديث المتفق على ثقة نقلته الى الصحابي من غير اختلاف بين الثقات الاثبات بسند متصل غير مقطوع››[15].
وبعبارة اخرى، قيل ان شروط الحديث الصحيح هي ان يكون الحديث متصل السند، وتام الضبط، وعدل الرجال، وليس فيه علة ولا شذوذ[16].
وللحديث الصحيح مراتب متعددة، اخرها ما استكشفه الترمذي واطلق عليه الحديث الحسن، واراد به أن يسلم راويه من أن يكون متهماً، وأن يسلم من الشذوذ، وأن يروى نحوه من غير وجه. وقد عرفه الذهبي بانه ما ارتقى عن درجة الضعيف ولم يبلغ درجة الصحة. وإن شئت قلت: الحسن ما سلم من ضعف الرواة، فهو حينئذ داخل في قسم الصحيح كاخر رتبة له[17]. واعتبر الحاكم النيسابوري ان الصحيح من الحديث عشرة أقسام، خمسة متفق عليها، واخرى مختلف فيها. والاقسام الاولى تتفاوت فيما بينها في الصحة، ومراتبها بحسب الدرجة كالاتي:
الاول: وصفة هذا القسم هو الرواية عن النبي (ص) بان لا تقل عن راويين عدلين في جميع الطبقات من الصحابة فنازلاً .
الثاني: وهو مثل الاول، الا أن راويه عن الصحابي واحد لا اكثر.
الثالث: وهو مثل الاول، الا أن راويه عن التابعين واحد لا اكثر.
الرابع: الأحاديث الأفراد الغرائب التي رواها الثقات العدول، وليس لها طرق مخرجة في الكتب، مثل حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي (ص) قال: ‹‹إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى يجيء رمضان››[18].
الخامس: أحاديث جماعة من الائمة عن آبائهم عن أجدادهم، ولم تأت الرواية عن آبائهم عن أجدادهم الا عنهم، كصحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وبهز بن حكيم عن أبيه عن جده واياس بن معاوية عن ابيه عن جده، وأجدادهم صحابيون وأحفادهم ثقاة.
وقد اعتبر الحاكم النيسابوري ان هذه الاقسام الخمسة مخرجة في كتب الائمة فيحتج بها. كما قدر ان البخاري ومسلم قد اخذا بشرط القسم الاول وعملا به، وهو القسم الذي قدرت أحاديثه بحوالي عشرة آلاف حديث[19]. لكن نقده على ذلك عدد من الحفاظ مثل المقدسي في (شروط الائمة الستة)[20]، ومن بعده الحازمي في (شروط الائمة الخمسة) حيث اعتبر ان التقسيم السابق خاطئ في الموارد المتفق عليها من الحديث الصحيح، واشار الى ان البخاري ومسلم لم يشرطا العمل بحسب القسم الاول ولم يلتزما به، وان ما قدره الحاكم من وجود عشرة الاف حديث هي لظنه انها عبارة عما اخرجه البخاري ومسلم، وهو غير صحيح[21]، واستشهد على ذلك بما قاله ابن حبان البستي من ان الاحاديث هي كلها اخبار احاد وليس هناك خبر من رواية عدلين فعدلين وهكذا حتى يصل الحديث الى النبي، وقد اعتبر البستي ان عدم وجود ذلك يثبت ان الاخبار كلها احاد، وان من اشترط الرواية بعدلين ‹‹فقد عمد الى ترك السنن كلها لعدم وجود السنن الا من رواية الاحاد››[22].
على ان مفهوم الصحيح عند اغلب علماء الحديث لا يعني القطع بصحة صدوره في نفس الامر، بل هو ظني الصدور مهما بلغت درجة صحته. لكن ذهب القليل منهم الى ان بعض مراتب الصحيح يفيد القطع كالذي صرح به ابن الصلاح في الحديث المتفق عليه، وهو الحديث الذي رواه البخاري ومسلم مجتمعين، اذ اعتبر ان ما اتفقا عليه لزم عنه اتفاق الائمة، ومن ثم اتفاق الامة على تلقي ما اتفقا عليه بالقبول. فهذا النوع من الحديث يعد لدى ابن الصلاح مقطوعاً بصحة صدوره، واستدل على ذلك باجماع الامة، واجماعها معصوم من الخطأ. و كان مذهب هذا الحافظ في السابق هو القول بظنية كل حديث صحيح بلا استثناء، كما اشار بنفسه الى ذلك[23].
وعُرف البخاري ومسلم انهما لم يلتزما باخراج جميع ما يحكم بصحته من الاحاديث، وذلك انهما صححا أحاديث ليست في كتابيهما، على ما نقله الترمذي وغيره. وروي عن البخاري انه قال: ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح وتركت من الصحيح حتى لا يطول. وقال ايضاً: لم أخرج في هذا الكتاب الا صحيحاً وما تركت من الصحيح أكثر. بل جاء عنه انه قال: أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح[24]. وكذا روي عن مسلم انه قال: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا - يعني في كتابه الصحيح - إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه[25]، وقال ايضاً: اخرجت المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة[26]. وقد بلغت الاحاديث التي كانت متداولة في عصر البخاري ستمائة ألف حديث، اذ روي عنه قوله: صنفت كتابي الصحيح لست عشرة سنة؛ خرجته من ستمائة ألف حديث وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى[27].
وذكر ابن الصلاح ان الاحاديث في صحيح البخاري بلغت اكثر من سبعة الاف حديث (7275) مع المكرر، وبلغت من غير المكرر اربعة الاف حديث. لكن بحسب تحقيق الحافظ ابن حجر فان الاحاديث بلغت اكثر من تسعة آلاف حديث (9082) مع المكرر، وهذا العدد خارج عن الموقوفات على الصحابة والمقطوعات عن التابعين[28]، وجملة ما في الكتاب من التعاليق (1341) حديث، وأكثرها مكرر، كما ان جملة ما فيه من المتابعات والتنبيه على اختلاف الروايات (341) حديث[29]. وقيل انه يزيد عدد أحاديث البخاري في رواية الفربري على عددها في رواية ابراهيم بن معقل النسفي بمائتين[30]، ويزيد عددها عند هذا الاخير على عددها عند حماد بن شاكر النسفي بمائة[31]. وهذه الزيادات وما ينقل من الاختلاف في عدد أحاديث البخاري تستدعي التحقيق لمعرفة ما اذا كان قد اصابها شيء من الوضع والدس أم لا. فعلى الاقل ثبت ان هناك من اجتهد واصلح ما بدا له من نقص في النسخة المعتمدة من الجامع الصحيح كما سنعرف.
اما أحاديث مسلم فقد بلغت بلا تكرار نحو اربعة الاف حديث[32]، وبالتكرار فقد زادت على عدة كتاب البخاري بكثرة طرقه، وبلغت الاحاديث بالمكرر اثنا عشرة ألف حديث[33].
ويعد البخاري - كما يرى احمد بن حنبل - أحد اربعة انتهى اليهم الحفظ، وجميعهم من أهل خراسان، وهم بالاضافة الى المذكور كل من: أبي زرعة الرازي وعبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي والحسن بن شجاع البلخي[34]. لكن الحفظ لدى البخاري لا يقارن بغيره، حيث اشتهر بقوته الى درجة تفوق العادة، وحُكي عنه شواهد عدة بهذا الصدد، ابرزها ان جماعة من اصحاب الحديث في بغداد ارادوا ان يختبروه، فوظفوا عشرة منهم، ووضعوا لدى كل واحد منهم عشرة أحاديث، فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد لاسناد آخر وإسناد هذا المتن لمتن آخر، وبالتالي أصبحت الاحاديث المائة مختلطة، فعُرضت على البخاري واحداً بعد الآخر، فأظهر انه لا يعرفها بالشكل المعروض، وعند الانتهاء عمد الى تصحيحها حديثاً حديثاً، حتى انتهى الى اصلاحها بوضع سند كل حديث بما يعود الى متنه الحقيقي، فشهد له الناس بالحفظ والعلم وأذعنوا له بالفضل[35].
وقد وظف البخاري هذه الملكة للحفظ في تصنيفه للجامع الصحيح، ذلك انه بخلاف ما اعتاد عليه المصنفون اخذ يسمع الاحاديث بمساندها من شيوخه دون ان يكتبها مباشرة، بل يؤجل ذلك مدة طويلة اعتماداً على حفظه، وكانت هذه الخصوصية مدعاة للافتخار لدى مريديه[36]، لكنها في الوقت ذاته كانت مدعاة للتشكيك لدى نقاده، خصوصاً وان له بعض العبارات التي تدعو الى مثل هذا الشك، ومن ذلك قوله انه صنف كتابه ثلاث مرات، وانه لم يؤكد دقة ما كتبه عما سمعه بالتمام والكمال. اذ روي عنه قوله: رب حديث سمعته يوماً بالبصرة كتبته بالشام، ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر. لكن عندما قيل له: يا أبا عبد الله بكماله؟ سكت[37]. كما قال ايضاً: لو نشر بعض أستاري هؤلاء لم يفهموا كيف صنفت كتابي ولا عرفوه، ثم قال صنفته ثلاث مرات[38]. وجاء عن محمد بن الأزهر السجستاني انه قال: كنت في مجلس سليمان بن حرب والبخاري معنا يسمع ولا يكتب، فقيل لبعضهم: ما له لا يكتب؟ فقال: يرجع إلى بخارى ويكتب من حفظه[39].
اما طريقة تعامل البخاري مع الاحاديث والاسانيد في صحيحه، فهو انه قد تعمد ان يذكر الحديث في مواضع من كتابه ويستدل به في كل باب بإسناد آخر، ويستخرج طريقاً واحدة ويورده في موضع موصولاً، وفي اخر معلقاً، كما يورده تارة تاماً، وتارة مقتصراً على طرفه الذي يحتاج اليه في ذلك الباب.. وقلما يورد حديثاً في موضعين بإسناد واحد ولفظ واحد، وإنما يورده من طريق أخرى. وهناك صور مختلفة لتكرار ذكر الحديث في الابواب بما يتضمنه من فوائد زائدة. وكما يقول ابن حجر: ان من هذه الصور التي استخدمها البخاري أنه يخرج الحديث عن صحابي او تابعي او غيره ثم يورده عن نظير آخر، وذلك كي يخرج الحديث عن حد الغرابة. ومنها ايضاً انه يخرج الحديث احياناً على معان متغايرة فيورده في كل باب من طريق غير الطريق الأولى. ومن ذلك ايضاً ان هناك أحاديث يرويها بعض الرواة تامة ويرويها بعضهم مختصرة فيوردها كما جاءت ليزيل الشبهة عن ناقليها. ومنها أن الرواة ربما اختلفت عباراتهم فيحدّث راو بحديث فيه كلمة تحتمل معنى، ويحدّث به آخر فيعبر عن تلك الكلمة بعينها بعبارة أخرى تحتمل معنى آخر فيورده بطريقه إذا صحت على شرطه ويفرد لكل لفظة باباً مفرداً. ومنها أحاديث يتعارض فيها الوصل والارسال ويرجح عنده الوصل فيعتمده ويورد الارسال منبهاً على أنه لا تأثير له عنده في الوصل. ومنها أحاديث يتعارض فيها الوقف والرفع والحكم فيها كذلك. ومنها أحاديث يزيد فيها بعض الرواة رجلاً في الإسناد وينقصه بعضهم فيوردها على الوجهين، حيث يصح عنده أن الراوي سمعه من شيخ حدثه به عن آخر ثم لقي الآخر فحدثه به، فكان يرويه على الوجهين. ومنها أنه ربما أورد حديثاً عنعنه راويه فيورده من طريق أخرى مصرحاً فيها بالسماع على ما عرف من طريقته في اشتراط ثبوت اللقاء في المعنعن. كما انه قد يقطع الحديث في الأبواب تارة، ويقتصر منه على بعضه أخرى، حيث اذا كان المتن قصيراً او مرتبطاً بعضه ببعض وقد اشتمل على حكمين فصاعداً فإنه يعمل على اعادته مع مراعاته لشيء من الفائدة، وهي إيراده له عن شيخ سوى الشيخ الذي أخرجه عنه قبل ذلك. وربما ضاق عليه مخرج الحديث حيث لا يكون له إلا ان يخرج كل جملة منها في باب مستقل فراراً من التطويل، وربما نشط فساقه بتمامه من غير تقطيع[40].
وقيل ان البخاري مات ولم يفرغ من تبييض كتابه نهائياً، ونقل ابو الوليد الباجي في كتابه (التعديل والتجريح لمن خرج عنه البخاري في الجامع الصحيح) عن ابي اسحاق المستملي انه قال: استنسخت كتاب البخاري من اصله الذي عند الفربري فرأيت اشياء لم تتم واشياء مبيضة؛ منها تراجم لم يثبت بعدها شيئاً، ومنها أحاديث لم يترجم لها، فأضفنا بعض ذلك الى بعض. وقد ايد الباجي ذلك وقال: ومما يدل على صحته ان رواية المستملي وابي محمد السرخسي والكشميهني وابي زيد المروزي مختلفة بالتقديم والتأخير مع انهم استنسخوها من اصل واحد، وانما ذلك بحسب ما قد رأى كل واحد منهم فيما كان في طرة او رقعة مضافة انه من موضع فاضافها اليه، ويبين ذلك انك تجد ترجمتين او اكثر من ذلك متصلة ليس بينها أحاديث[41]. واجاب ابن حجر على ذلك بان البخاري ربما اكتفى أحياناً بلفظ الترجمة التي هي لفظ حديث لم يصح على شرطه وأورد معها أثراً أو آية، فكأنه يقول لم يصح في الباب شيء على شرطي، واعتبر ابن حجر ان الغفلة عن هذه المقاصد جعلت من لم يمعن النظر أن البخاري ترك الكتاب بلا تبييض، ومن تأمل ظفر. وقد جمع العلامة أحمد بن المنير من ذلك أربعمائة ترجمة وتكلم عليها، ولخصها القاضي بدر الدين بن جماعة وزاد عليها أشياء، كما تكلم على ذلك أيضاً محمد بن منصور السجلماسي في كتاب سماه (فك اغراض البخاري المبهمة في الجمع بين الحديث والترجمة)[42].
كما قيل ان البخاري خرّج من الرواة الذين روى عنهم في جامعه الصحيح بما لا يتجاوز الالفين، فهو لم يخرج على ذلك جميع الرواة الذين روى عنهم، مثلما لم يخرج جميع الصحيح من الحديث[43]، فله كتاب (التاريخ الكبير) جمع فيه اسامي من روى عنهم الحديث من زمان الصحابة الى (سنة 205هـ) فبلغ عددهم قريباً من (40 الف) رجل وامرأة، ومن هؤلاء ما يقارب الفين هم موضع خلاف بين البخاري ومسلم، وقد بلغ عدد الذين جرحهم النقاد (226) رجلاً فقط، مما يعني ان اغلبهم ثقات، فالدرجة الأولى من الرواة محتج بهم في الصحيحين، واغلب ما تبقى هم من الثقات[44]. وقيل ان البخاري ألف كتابه المذكور وهو ابن ثمان عشرة سنة، دون ان يسبق اليه احد، ومن ألف بعده في التاريخ او الأسماء او الكنى فعيال عليه[45].
وقد اشترط البخاري ومسلم ان يكون الراوي معروفاً بالعدالة، وهذا ما جعل كتابيهما - لدى اهل السنة - ذا قيمة لا تقدر، حيث اعتبر كل راو ورد ذكره فيهما عدلاً لا يقبل الطعن فيه الا بقادح واضح او مفسر السبب، وذلك لان أسباب الجرح مختلفة ومدارها لدى علماء الحديث على خمسة أشياء: البدعة أو المخالفة أو الغلط أو جهالة الحال أو دعوى الانقطاع في السند بأن يدعي في الراوي أنه كان يدلس أو يرسل. وعليه اعتبر العلماء انه اذا وجد للغير طعن في احد رواة الصحيحين؛ فان ذلك الطعن سيقابل بتعديل صاحب الصحيح، وبالتالي فالطعن غير مقبول ما لم يكن مبين السبب تفسر فيه علة القدح في عدالة هذا الراوي وفي ضبطه مطلقاً، أو في ضبطه لخبر بعينه، لأن الأسباب التي تحمل الأئمة على الجرح متفاوتة، فمنها ما يقدح ومنها ما لا يقدح. وكان الشيخ أبو الحسن المقدسي يقول في الراوي الذي يرد ذكره في الصحيح: هذا جاز القنطرة، وهو يعني أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه.
وقد ذكر العسقلاني الكثير ممن رمي بالبدعة المفسقة وروى عنه البخاري، وعد من ذلك ما اطلق عليه بدعة الإرجاء والتشيع والقدرية والجهمية والنصب والخوارج[46]، ونقل الخلاف بين علماء اهل السنة حول المتصف بالبدعة المفسقة؛ إن كانت روايته مقبولة او لا، وذلك شرط ان يكون متحرزاً من الكذب مشهوراً بالسلامة من خوارم المروءة موصوفاً بالديانة والعبادة، فقيل يقبل مطلقاً وقيل يرد مطلقاً، وهناك رأي ثالث وهو قبول الرواية عمن لم يكن داعية الى بدعته دون غيره، وهو المذهب الذي ايده العسقلاني واعتبره قد آلت اليه الطوائف من الائمة، وان اختلفوا في التفصيل، ومن ذلك اذا اشتملت رواية غير الداعية على ما يشيد بدعته، هل تقبل الرواية أم لا؟ وعموماً ان ائمة الحديث تقبلوا رواية من اتصف بالبدعة شرط صدقه وتحرزه عن الكذب واشتهاره بالدين وعدم تعلق روايته ببدعته. وعقد العسقلاني فصلاً عن سرد أسماء من طعن فيه من رجال البخاري، ومنهم من اتصف بالبدع المشار اليها، كما منهم من طعن فيه لاسباب مختلفة اعتبرت مردودة؛ كالتحامل أو التعنت او قلة الخبرة في الحديث، كذلك فان منهم من طعن فيه بسوء الضبط أو الوهم أو الغلط ونحو ذلك، لكن البخاري لم يخرج لهذا القسم الاخير الا على نحو التوابع[47].
ومن وجهة نظر الحازمي ان اصحاب الجرح والتعديل يختلفون احياناً حول وثاقة الرواة، فرب راو موثوق به عند عبد الرحمن بن مهدي، ومجروح عند يحيى بن سعيد القطان وبالعكس، وهما امامان عليهما مدار النقد في النقل ومنهما يؤخذ معظم شأن الحديث. الامر الذي يبرر ما يراه البخاري من وثاقة الرجال الذين ضعفهم البعض. ومع ذلك اعتبر الحازمي ان للبخاري ان يقول: لا يلزمني اعتراضكم، لاني قلت لم اخرج الا حديثاً متفقاً على صحته، ولم اقل لا اخرج الا حديث من اتفق على عدالته، لان ذلك يتعذر لاختلاف الناس في الاسباب المؤثرة في الضعف[48].
وقيل ان في الصحيحين جماعة مجهولي الحال لدى الحافظ ابي حاتم، لكنهم معروفون لدى غيره، مثل احمد بن عاصم البلخي واسباط ابو اليسع وبيان بن عمرو وعبيد الله بن واصل والحكم بن عبد الله المصري وعباس القنطري ومحمد بن الحكم المروزي. كما قيل ان ابن القطان اعتبر ابراهيم بن عبد الرحمن المخزومي مجهولاً، وانه قال في مالك الزبادي لم تثبت عدالته، او انه لم ينص احد على وثاقته. كما اعتبر ابو القاسم اللالكائي اسامة بن حفص المديني مجهولاً ايضاً، وفي الصحيحين عدد غير قليل لم ينص احد على وثاقتهم[49]. والبعض ممن اخرج عنه البخاري كان ممن يكثر الرواية عن المجهولين، منهم عيسى بن موسى التيمي الملقب بغنجار، حيث احتج به البخاري رغم انه يحدث عن أكثر من مائة شيخ من المجهولين[50].
وذكر الحافظ عبد القادر القرشي بان ما يقوله الناس (ان من روى له الشيخان قد جاوز القنطرة) هو من التجوه، اي طلب الجاه، حيث روى مسلم في صحيحه عن الكثير من الضعفاء رغم انهم يقولون انما روى عنهم للاعتبار والشواهد والمتابعات، وهو توجيه غير صحيح باعتبار ان مسلماً التزم في كتابه الحديث الصحيح فكيف يكون ذلك بطرق ضعيفة؟ كذلك فان البخاري ومسلم لم يسلما من التدليس، فكثيراً ما ورد في كتابيهما اداتا (ان وعن) المقتضيان للانقطاع، ومن ذلك الكثير من الروايات التي رواها مسلم في كتابه عن ابي الزبير عن جابر بالعنعنة وهو تدليس، رغم ان الحفاظ يقولون ان ما كان من هذا النوع في غير الصحيحين فمنقطع، وما كان في الصحيحين فمحمول على الاتصال، وذلك على سبيل التجوه[51].
وفعلاً ان البخاري ومسلم قد استخدما اداة العنعنة في اواسط الإسنادات التي غطت رواياتهما، وقلما اخرجا حديثاً لم تتكرر فيه هذه الاداة. ومن الواضح ان ذلك لا يدل على السماع المباشر. ويؤيده ان بعض علماء السلف كان لا يأخذ عن شيخه من التابعين ما لم يؤكد سماعه بلفظ الثنا (حدثنا)، فكما جاء عن شعبة انه قال: كنت أنظر إلى فم قتادة فإذا قال حدثنا كتبنا عنه فوقفته عليه، وإذا لم يقل حدثنا لم أكتب عنه[52].
على ان المشهور لدى الحفاظ هو ان البخاري ومسلم كانا يدلسان احياناً قليلة، ففي بعض الحالات كان البخاري يقول: قال فلان وقال لنا فلان، وهو تدليس، لكن هناك من اعتبر ذلك غير مضر، لانه يكون ضمن الموقوفات او على غير شرطه. كذلك كان مسلم يقول فيما لم يسمعه من مشايخه: قال لنا فلان، وهو تدليس ايضاً[53]. وذكر الحافظ صلاح الدين العلائي في (جامع التحصيل لاحكام المراسيل) ان في الصحيحين وغيرهما من الصحاح الكثير من التدليس، حيث اخرج لبعض المدلسين إما لإمامته او لقلة تدليسه او لانه لا يدلس الا عن ثقة، كالزهري والاعمش وابراهيم النخعي واسماعيل بن ابي خالد وسليمان التيمي وحميد الطويل والحكم بن عتبة ويحيى بن ابي كثير وابن جريج والثوري وابن عيينة وشريك وهشيم. ومن ذلك ما جاء في الصحيحين من رواية عامر الشعبي عن ابي هريرة، وقد انكر احمد بن حنبل سماعه من ابي هريرة، ورواية ابي عبيدة عن ابيه ابن مسعود وهو لم يسمع منه. وكذا جاء في صحيح البخاري من رواية موسى بن عقبة عن الزهري مع انه لم يسمع من الزهري شيئاً، ومثلها رواية ابي اسحاق الفزاري عن ابي طوالة وهو لم يسمع منه. وكذا ما جاء في صحيح مسلم من رواية ابان بن عثمان عن ابيه مع انه كما قال احمد لم يسمع من ابيه شيئاً، ورواية سليم بن عامر عن المقداد بن الاسود مع انه كما قال ابو حاتم لم يدرك المقداد[54].
وقد قيل ان المدلسين طبقات، فأولها من لم يوصف بالتدليس الا نادراً جداً؛ كيحيى بن سعيد الانصاري وهشام بن عروة وابن عقبة. وثانيها من احتمل الائمة تدليسه وخرجوا له في الصحيح، كالذي سبق عرضه. وثالثها من توقف فيهم جماعة فلم يحتجوا الا بما صرحوا فيه بالسماع وقبِلهم آخرون مطلقاً، كالطبقة التي قبلها؛ مثل الحسن وقتادة وأبي إسحاق السبيعي وأبي الزبير المكي وأبي سفيان طلحة بن نافع وعبد الملك بن عمير. ورابعها من اتفقوا على انه لا يحتج بشيء من حديثهم الا بما صرحوا فيه بالسماع لغلبة تدليسهم وكثرته عن الضعفاء والمجهولين؛ كابن إسحاق وبقية بن الوليد وحجاج بن أرطاة وجابر الجعفي والوليد بن مسلم وسويد بن سعيد[55].
ومن الملاحظات التي شوهدت عند البخاري ومسلم انهما كما يقول الكوثري لم يخرجا في الصحيحين شيئاً من حديث ابي حنيفة، رغم انهما ادركا صغار اصحاب اصحابه واخذا عنهم، ولم يخرجا من حديث الشافعي شيئاً، مع انهما لقيا بعض اصحابه، كما لم يخرج البخاري من حديث احمد الا حديثين احدهما تعليقاً والاخر نازلاً بواسطة، مع انه ادركه ولازمه، كذلك لم يخرج مسلم في صحيحه عن احمد الا قدر ثلاثين حديثاً، ولا اخرج احمد في مسنده عن مالك عن نافع بطريق الشافعي - وهو اصح الطرق او من اصحها - الا اربعة أحاديث، وما رواه احمد عن الشافعي بغير هذا الطريق لا يبلغ عشرين حديثاً مع انه جالس الشافعي وسمع موطأ مالك منه وعد من رواة مذهبه القديم. وقد علل الكوثري ذلك بالقول: ‹‹والظاهر من ديدنهم وامانتهم ان ذلك من جهة انهم كانوا يرون ان أحاديث هؤلاء في مأمن من الضياع لكثرة اصحابهم القائمين بروايتها شرقاً وغرباً.. ومن ظن ان ذلك لتحاميهم عن أحاديثهم او لبعض ما في كتب الجرح من الكلام في هؤلاء الائمة كقول الثوري في ابي حنيفة وقول ابن معين في الشافعي وقول الكرابيسي في احمد وقول الذهلي في البخاري ونحوها فقد حملهم شططاً››[56].
كذلك جاء ان البخاري لم يرو عن أئمة اهل البيت الا ما ندر، اذ ذكر انه لم يرو شيئاً عن الحسن بن علي بن ابي طالب، وكذا لم يرو عن جعفر الصادق وموسى الكاظم وعلي الرضا ومحمد الجواد والحسن العسكري الذي عاصره، ولم يرو عن الحسن بن الحسن وزيد بن علي بن الحسين ويحيى بن زيد والنفس الزكية محمد بن عبد الله واخيه ابراهيم بن عبد الله والحسين الفخي بن علي بن الحسن ويحيى بن عبد الله بن الحسن واخيه ادريس بن عبد الله ومحمد بن جعفر الصادق ومحمد بن ابراهيم واخيه القاسم الرسي ومحمد بن محمد بن زيد بن علي ومحمد بن القاسم بن علي بن عمر بن زين العابدين وغيرهم، مع انه روى عن الخوارج والموالين للسلطة الاموية ومن كانت لهم عداوة مع اهل البيت، مثل عمران بن حطان[57]. وإن كان بحسب المنهجة التي سار عليها أئمة الحديث ومنهم البخاري ان ذلك لا يضر إن كان ثقة في الحديث ولا يدعو فيه الى بدعته[58]. وكما روي ان قاضي بخارى كان قد حبس البخاري وقال له: لِمَ نقلتَ عن الخوارج؟ فقال: لانهم كانوا ثقات لا يكذبون[59]. وهناك من ادعى ان اكثر رواة البخاري كانوا من الخوارج[60]، مع ان ما ذكره ابن حجر هو انهم عشرة رجال تقريباً.
شروط الصحيحين
ان من شروط الصحيح لدى البخاري ومسلم هو ان يكون اسناد الحديث متصلاً وان يتصف الراوي بصفات الصدق والعدالة والضبط وسلامة الاعتقاد مع عدم التدليس والاختلاط، ورغم هذا الاتفاق بينهما الا انهما اختلفا حول بعض الشروط الخاصة بطبقات الرواة. فهناك اعلى الطبقات التي تمتاز بالحفظ والاتقان[61]، ثم يتنزل الامر حتى الوصول الى الطبقات الضعيفة التي لا يعول عليها. ويمكن ايضاح ذلك بما قدمه بعض الحفاظ من مثال حول اصحاب الزهري، وهم على خمس طبقات لكل منها مزية على التي تليها. فالطبقة الاولى تجمع بين طول الملازمة للزهري وبين الحفظ والإتقان، وهي تعد الغاية في الصحة والتي قصدها البخاري، ومن امثالها كل من يونس بن يزيد وعقيل بن خالد الايليين ومالك بن أنس وسفيان بن عيينة وشعيب بن أبي حمزة . وتتصف الطبقة الثانية بانها تشارك الاولى في التثبت لكنها دونها في الاتقان، وذلك لانها لم تلازم الزهري الا مدة يسيرة فلم تمارس الحديث مثل الاولى، وهذه الطبقة هي شرط مسلم، ومن امثالها كل من الأوزاعي والليث بن سعد وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر وابن أبي ذئب. وهناك طبقة ثالثة كانت ممن لزمت الزهري كالطبقة الاولى، الا انها لم تسلم من غوائل الجرح، فهم بين الرد والقبول، وهي شرط ابي داود والنسائي، ومن امثالها كل من جعفر بن برقان وسفيان بن حسين وإسحاق بن يحيى الكلبي. وكذا هناك طبقة رابعة تشترك مع الطبقة الثالثة في الجرح والتعديل، لكنها لم تصاحب الزهري كثيراً وتفردت بقلة ممارستها لحديثه، وهي شرط ابي عيسى الترمذي الذي اعتمدها في الشواهد والمتابعات، ومن امثالها كل من زمعة بن صالح ومعاوية بن يحيى الصدفي والمثنى بن الصباح. اما الطبقة الخامسة فهي نفر من الضعفاء والمجهولين، نحو عبد القدوس بن حبيب والحكم بن عبد الله الأيلي ومحمد بن سعيد المصلوب. وتعد الطبقة الاولى شرط البخاري، وقد يخرج من حديث أهل الطبقة الثانية ما يعتمده من غير استيعاب، وهي التي يعتمدها في التعليق، كما قد يخرج اليسير من حديث الطبقة الثالثة تعليقاً أيضاً. أما مسلم فيخرج أحاديث الطبقتين الأولتين على سبيل الاستيعاب، ويخرج أحاديث الطبقة الثالثة على النحو الذي يصنعه البخاري في الثانية[62]، ويتضح ذلك من العلامات التالية:
1ـ ان الذين انفرد البخاري بالإخراج لهم دون مسلم اكثر من (430) رجلاً، وقد نقد الحفاظ منهم (80) رجلاً عدوا ضعفاء . اما الذين انفرد مسلم بالإخراج لهم دون البخاري فهم (620) رجلاً، وقد نقد الحفاظ منهم (160) رجلاً وصفوهم بالضعف[63].
2ـ ان اكثر الذين نقدوا من رجال البخاري ممن انفرد بتخريج أحاديثهم هم شيوخه الذين لقيهم وجالسهم وعرف أحوالهم واطلع على أحاديثهم، وذلك بخلاف الرجال الذين نقدوا ممن انفرد مسلم بتخريج أحاديثهم، حيث اكثرهم ممن تقدم عن عصره. ولا شك أن المحدث أعرف بحديث شيوخه ممن تقدم منهم[64].
3ـ ان الإسناد المعنعن عند مسلم - كما حكاه في مقدمة صحيحه - له حكم الاتصال إذا تعاصر المعنعن ومن عنعن عنه وإن لم يثبت اجتماعهما، وذلك ما لم يكن المعنعن مدلساً. وبعبارة اخرى ان مسلماً لم يشرط ثبوت اللقاء، بل اشرط امكان لقاء من اضيفت اليه العنعنة. اما البخاري فهو انه يشرط ثبوت اللقاء ولا يعول على امكانه؛ لانه لا يدل على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة واحدة. وقد أظهر البخاري هذا المذهب في تاريخه وجرى عليه في صحيحه[65]، وذلك على شاكلة كل من علي بن المديني وابي بكر الصيرفي الشافعي[66]، وهذا التشديد من قبل البخاري جعل مسلماً يعرّض به في النقد دون ذكر اسمه، فقد ذكر في مقدمة صحيحه ضمن باب (صحة الاحتجاج بالحديث المعنعن) معتبراً ان ذلك الشرط - الذي وصفه بالطعن في الاسانيد - هو قول مخترع ومستحدث لم يسبق ان عوّل عليه اهل العلم من قبل، وهو أقل من أن يعرج عليه ويثار ذكره لما فيه مخالفة مذهب العلماء[67]. فبحسب ادعاء مسلم ان الاجماع قائم على ان المعاصرة كافية ولا يتوقف الامر على العلم باللقيا[68].
مع انه سواء اخذنا بما ذهب اليه مسلم او حتى بما اشرطه البخاري من شرط ثبوت اللقاء، ففي كلا الحالين ليس هناك ما يدل على السماع المباشر، كما لا توجد قرينة خارجية تدل عليه؛ مثل ان يدلي الراوي بأن عنعنته تفيد السماع المباشر اختصاراً للثنا كلفظة حدثنا او اخبرنا.
4ـ لقد بلغت الأحاديث التي انتقدت في الصحيحين (210) حديث، اختص البخاري منها بـأقل من ثمانين حديث منفرداً، والباقي يختص بمسلم. اما ما اختص به البخاري وشاركه مسلم في بعضها فهي (110) حديث، حيث اختص البخاري منها منفرداً بـ (78)، وشاركه مسلم بـما تبقى، وهو (32) يضاف الى ما اختص به مسلم منفرداً[69]. فيكون مجموع ما يتعلق بمسلم (132) حديث. وبالتالي فاكثر الاحاديث التي انتقدت هي في صحيح مسلم لا البخاري. ونقل ان مسلماً اقر بفضل البخاري ومكانته في الحديث، وانه اقدم عليه فقبّل ما بين عينيه وقال: دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين وطبيب الحديث في علله[70]. والعلماء يقدرون حجم ما استفاده مسلم من البخاري، حتى كان الدارقطني يقول: لولا البخاري لما راح مسلم ولا جاء[71]. وإن كان من جهة اخرى ان مسلماً لم يذكر للبخاري حديثاً ولا سماه في صحيحه[72]، بل اعتبر ابو بكر الخطيب ان مسلماً لحدة في خلقه انحرف عن البخاري فافتتح كتابه بالحط على من اشترط اللقاء لمن روى عنه بصيغة (عن) ووبخ من قال بذلك، والبخاري هو القائل بذلك مع شيخه علي بن المديني[73].
5ـ لقد وجد كتاب البخاري استحساناً لدى فرسان الحديث في زمانه عند عرضه عليهم، لكن الامر مع صحيح مسلم يختلف، ذلك ان البعض انتقده كما هو الحال مع ابي زرعة الرازي وغيره، فقد ذم ابو زرعة مسلماً وقال عند ذكر كتابه: هؤلاء قوم ارادوا التقدم قبل اوانه فعملوا شيئاً يتسوقون به، الفوا كتاباً لم يسبقوا اليه ليقيموا لانفسهم رياسة قبل وقتها. وان ابا زرعة جاء ذات يوم فنظر في الكتاب فوقعت عينه على حديث عن اسباط بن نصر، فقال: ما يعد هذا من الصحيح يدخل في كتابه اسباط بن نصر، ثم رأى في الكتاب قطن بن نسير فقال: وهذا اطم من الاول، حيث ان قطن وصل أحاديث عن ثابت جعلها عن انس، ثم انه اشار الى احمد بن عيسى بانه من المتهمين بالكذب وقد اورده مسلم في صحيحه، فقال ابو زرعة: أيحدث عن هؤلاء ويترك محمد بن عجلان ونظراؤه؟ ويطرق لاهل البدع عليها فيجدوا السبيل بأن يقولوا للحديث اذا احتج عليهم به: ليس هذا من كتاب الصحيح[74] . كما جاء ان مسلماً لما وضع كتابه الصحيح عرضه على ابي زرعة فانكر عليه هذا الاخير وتغيظ، وقال سميته الصحيح فجعلت سلماً لاهل البدع وغيرهم، فاذا روى لهم المخالف حديثاً يقولون هذا ليس في صحيح مسلم![75]!
بمثل هذه المقارنة استنتج علماء الحديث ان كتاب البخاري اصح من كتاب مسلم، وان كانت عبارات القليل منهم تفيد تفضيل كتاب مسلم، كما هو الحال مع ما ورد عن ابي علي النيسابوري وجماعة من علماء المغرب. فقد قال النيسابوري: ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم بن الحجاج. وقد رأى ابن حجر ان النيسابوري قدم صحيح مسلم على غيره لاعتبارات فنية لا علاقة لها بدرجة الصحة، بل لأن مسلماً صنف كتابه في بلده بحضور أصوله في حياة كثير من مشايخه فكان يتحرز في الألفاظ ويتحرى في السياق ولا يتصدى لما تصدى له البخاري من استنباط الاحكام الفقهية والسيرة والتفسير ليبوب عليها؛ والذي لزم منه تقطيعه للحديث في أبوابه، بل جمع مسلم طرق كل حديث في موضع واحد ليتضح اختلاف المتون، واقتصر على الأحاديث دون الموقوفات، حيث لم يعرج عليها الا نادراً وعرضاً غير مقصود، وانه اراد تقريب السنة النبوية الى الاذهان وتسهيل الاستنباط منها[76]. وعلى مثل هذه الصورة يمكن تفسير قول مسلم بن قاسم القرطبي في ترجيح كتاب مسلم على غيره باطلاق، حيث اعتبره ابن حجر انه محمول على حسن الوضع وجودة الترتيب[77]. كما ذهب ابن الصلاح الى ان صحيح مسلم يفضل صحيح البخاري في بعض الامور، وهو ان كتاب مسلم لم يمازجه غير الصحيح، اذ ليس فيه بعد خطبته الا الحديث الصحيح مسروداً غير ممزوج، وذلك بخلاف ما في كتاب البخاري من أشياء لا تتصف بالشرط الذي اشرطه على نفسه، كالمعلقات وما اليها. لكن لا يلزم ذلك - على رأيه - ترجيح كتاب مسلم على كتاب البخاري من حيث النظر الى نفس الصحيح ودرجته[78].
[1] ذكر البخاري بهذا الصدد: كنا عند إسحاق بن راهويه فقال: (لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنة رسول الله) فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع الجامع الصحيح. وفي رواية اخرى مختلفة قال البخاري: رأيت النبي (ص) وكأني واقف بين يديه وبيدي مروحة اذب بها عنه، فسألت بعض المعبرين فقال لي: أنت تذب عنه الكذب، وهذا ما حملني على إخراج الجامع الصحيح (مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل الاول).
[2] مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل الاول.
[3] مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل العاشر. كذلك: حاجي خليفة: كشف الظنون، دار إحياء التراث العربي، بيروت، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ج1، ص542
[4] تاريخ بغداد، مصدر سابق، ج2، ص11، وطبقات الحنابلة، ج2، مادة (محمد بن إسماعيل البخاري).
[5] مصطفى السباعي: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1402هـ ـ1982م، ص447.
[6] تحقيقات وانظار في القرآن والسنة، ص73
[7] قواعد التحديث، ص82، والمقصود بالبلاغات هي تلك التي يقول فيها الراوي بلغني عن زيد مثلاً، ودلالتها الارسال والانقطاع لا الاتصال.
[8] المراد بالتعليق ما حذف من مبتدأ إسناده واحد فأكثر، ولو إلى آخر الإسناد (مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل الرابع). والمراد بالمتابعة هو ان توجد موافقة راو لراو ظن انفراده بحديث عن شيخه لفظاً. اما الشاهد فهو ان يوجد متن يشبهه ولو معنى من طريق صحابي اخر (تعليق الكوثري على: شروط الائمة الخمسة لمحمد بن موسى الحازمي، وهو مطبوع خلف كتاب شروط الائمة الستة، ص43).
[9] قواعد التحديث، ص82
[10] قيل ان ابا داود لما صنف كتاب السنن وقرأه على الناس صار كتابه لأصحاب الحديث كالمصحف يتبعونه ولا يخالفونه، وأقر له أهل زمانه بالحفظ والتقدم فيه. واشتهر فيه القول: أُلين لابي داود الحديث كما أُلين لداود عليه السلام الحديد (سير اعلام النبلاء، ج13، فقرة 212، وطبقات الحنابلة، ج1، مادة ( سليمان أبو داود السجستاني). وقد قال ابن داسة سمعت أبا داود يقول: كتبت عن النبي (ص) خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها هذه السنن فيها أربعة آلاف وثمانمائة حديث (توضيح الافكار، ج1، ص61).
[11] تعليق الكوثري على: شروط الائمة الخمسة، ص55، وحجة الله البالغة، ج1، ص151
[12] البحر المحيط، فقرة 1700
[13] تعليق الكوثري على: شروط الائمة الخمسة، ص56، وحجة الله البالغة، المصدر والصفحة السابقة.
[14] المـوقظـة في علم مصطلح الحـديث، مصدر سابق، فقرة الحديث الصحيح.
[15] تحقيقات وانظار في القرآن والسنة، ص76ـ77، ومحمد بن طاهر المقدسي: شروط الائمة الستة، علق عليه محمد زاهد الكوثري، دار زاهد القدسي، القاهرة، 1357هـ، ص10.
[16] وكما يقول ابن حجر: ان خبر الآحاد بنقل عدل تام الضبط متصل غير معلل ولا شاذ هو الصحيح لذاته. والمراد بالعدل من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة. والمراد بالتقوى اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة. والضبط: ضبط صدر، وهو أن يثبت ما سمعه بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء، وضبط كتاب، وهو صيانته لديه منذ سمع فيه إلى أن يؤدى بالتام إشارة إلى المرتبة العليا في ذلك. والمتصل ما سلم إسناده من سقوط فيه بحيث يكون كل من رجاله سمع ذلك المروي من شيخه. والمعلل ما فيه علة خفية قادحة. والشاذ ما يخالف فيه الراوي من هو ارجح منه، وتتفاوت رتبه بسبب تفاوت هذه الأوصاف (نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر، المقدمة. كما لاحظ: النكت على كتاب ابن الصلاح، ج1، فقرة صفات القبول).
[17] المـوقظـة في علم مصطلح الحـديث، فقرة الحسن.
[18] الأفراد جمع فرد، وهو قسمان: فرد مطلق، وهو ما تفرد به راويه عن كل واحد من الثقات وغيرهم بأن لم يروه أحد من الرواة مطلقاً إلا هو. وفرد نسبي: وهو ما تفرد به ثقة بأن لم يروه أحد من الثقات إلا هو، أو تفرد به أهل بلد بأن لم يروه إلا أهل بلدة كذا، كأهل البصرة، أو تفرد به راويه عن راو مخصوص بأن لم يروه عن فلان إلا فلان وإن كان مروياً من وجوه عن غيره (الرسالة المستطرفة، ص114)
[19] المدخل إلى الإكليل. ويحيى بن شرف النووي: صحيح مسلم بشرح النووي، دار الفكر، 1401هـ ـ1981م، عن شبكة المشكاة الالكترونية، ج1، ص27
[20] شروط الائمة الستة، ص14.
[21] محمد بن موسى الحازمي: شروط الائمة الخمسة، مصدر سابق، ص31 وما بعدها.
[22] شروط الائمة الخمسة، ص32، ولاحظ ايضاً: البحر المحيط، فقرة 1027
[23] مقدمة ابن الصلاح، باب معرفة الصحيح من الحديث.
[24] مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل الاول. وشروط الائمة الستة، ص12، وتوضيح الافكار، ج1، ص55، وطبقات الحنابلة، ج2، مادة (محمد بن إسماعيل البخاري).
[25] مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل العاشر.
[26] شروط الائمة الستة، ص12
[27] طبقات الحنابلة، ج2، مادة (محمد بن إسماعيل البخاري). ومقدمة فتح الباري، ضمن الفصل العاشر.
[28] سبق ان ذكرنا معنى الموقوف وهو ما أسنده الراوي الى الصحابي ولم يتجاوزه. اما المقطوع او المنقطع فقد عرفنا ان له معنيين، فهو اما الرواية التي تروى عن الصحابي من دون ذكر التابعي، او ما جاء عن التابعين أو من دونهم من أقوالهم وأفعالهم موقوفاً عليهم.
[29] مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل العاشر.
[30] قيل ان الفربري كان يقول: سمع كتاب الصحيح لمحمد بن إسماعيل تسعون ألف رجل فما بقي أحد يرويه عنه غيري (طبقات الحنابلة، ج2، مادة: محمد بن إسماعيل البخاري).
[31] تعليق الكوثري على: شروط الائمة الخمسة، ص58
[32] مقدمة فتح الباري. واختصار علوم الحديث، فقرة عدد ما في الصحيحين من الحديث.
[33] توضيح الافكار، ج1، ص58
[34] بحر الدم، ص40
[35] التعديل والتجريح لمن خرج عنه البخاري في الجامع الصحيح، ج1، ص283ـ284
[36] نقل عن البخاري قوله: ألهمت حفظ الحديث وأنا من العمر عشر سنين أو أقل. وجاء ان حاشد بن إسماعيل قال: كان البخاري يختلف معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلام فلا يكتب حتى أتى على ذلك أيام، فلمناه بعد ستة عشر يوماً، فقال: قد أكثرتم عليّ فاعرضوا عليّ ما كتبتم، فأخرجناه فزاد على خمسة عشر ألف حديث، فقرأها كلها عن ظهر قلب حتى جعلنا نحكم كتبنا من حفظه (مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل العاشر).
[37] تاريخ بغداد، ج2، ص11، ومقدمة فتح الباري، ضمن الفصل العاشر
[38] ومثل ذلك قيل للبخاري: أتحفظ جميع ما أدخلت في مصنفاتك؟ فقال لا يخفى عليّ جميع ما فيها وصنفت جميع كتبي ثلاث مرات (مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل العاشر).
[39] مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل العاشر.
[40] مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل الثالث.
[41] التعديل والتجريح لمن خرج عنه البخاري في الجامع الصحيح، ج1، ص287، وتعليق الكوثري على: شروط الائمة الخمسة، ص57ـ58
[42] مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل الثاني.
[43] شروط الائمة الخمسة، ص47ـ48
[44] المدخل الى الإكليل. علماً ان عدد الرواة المعدودين في (التاريخ الكبير) بحسب مكتبة سحاب السلفية لا يتجاوز (13 الف) راو، وهو اقل من ثلث العدد المذكور.
[45] الرسالة المستطرفة، ص129
[46] اغلب الرجال الذين رموا بالابتداع وروى عنهم البخاري هم من القدرية، وهم بحسب تعداد العسقلاني ثلاثين رجلاً تقريباً، ويأتي بعدهم من رمي بالتشيع، حيث عدّ العسقلاني منهم عشرين رجلاً تقريباً، وبعدهم من رمي بالارجاء، وهم احد عشر رجلاً، ثم من رموا بالنصب والخوارج وهم عشرة رجال، ولم يذكر للجهمية الا رجلاً واحداً (مقدمة فتح الباري، ضمن فصل في تمييز أسباب الطعن في المذكورين). وفي تعليق للقاسمي ان رجال الجرح والتعديل عدوا في مصنفاتهم الكثير ممن رمي بالبدعة وسندهم في ذلك ما يقال عن الواحد منهم أنه شيعي أو خارجي أو ناصبي أو غير ذلك، مع أن القول عنهم بما ذكر قد يكون تقولاً وافتراء، فالكثير ممن رمي بالتشيع من رواة الصحيحين لا تعرفهم الشيعة أصلاً. واستشهد القاسمي على ذلك بانه راجع كتابي (رجال الكشي ورجال النجاشي) للشيعة ولم ير لهم ذكراً باستثناء راويين هما أبان بن تغلب وعبد الملك بن أعين، أما البقية وعددهم ثلاثة وعشرون فليس لهم ذكر في هذين الكتابين، مع ان السيوطي رماهم بالتشيع في كتابه (التقريب ممن خرج لهم الشيخان) نقلاً عمن سلفه (قواعد التحديث، ص194).
[47] مقدمة فتح الباري، فصل في تمييز أسباب الطعن في المذكورين.
[48] شروط الائمة الخمسة، ص59ـ60
[49] تعليق الكوثري على: شروط الائمة الخمسة، ص46
[50] معرفة علوم الحديث، باب معرفة المدلسين
[51] تعليق الكوثري على: شروط الائمة الخمسة، ص61، وابن ابي الوفا: الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية، شبكة المشكاة الالكترونية، ص592
[52] التعديل والتجريح لمن خرج عنه البخاري في الجامع الصحيح، ج1، ص268
[53] طبقات المدلسين، مصدر سابق، فقرة 28
[54] تعليق الكوثري على: شروط الائمة الخمسة، ص41، كذلك: التبيين لأسماء المدلسين، ص65
[55] التبيين لأسماء المدلسين، ص65ـ66، وقد حكم العلائي على الذين يكثرون التدليس عن الضعفاء بالضعف، وقال بانه وقع في هذا النوع من التدليس جماعة من الائمة الكبار، وإن بشكل يسير، كالاعمش والثوري. وقال الخطيب البغدادي: كان الاعمش والثوري وبقية بن الوليد يفعلون مثل هذا التدليس. ونقل الذهبي عن أبي الحسن بن القطان في بقية انه يدلس عن الضعفاء ويستبيح ذلك، واعتبر البعض انه إن صح عنه فانه مفسد لعدالته. وقال الذهبي في (الميزان): قلت نعم والله صح هذا عنه انه يفعله، وصح عن الوليد بن مسلم بل وعن جماعة كبار فعله، وهذا بلية منهم ولكنهم فعلوا ذلك باجتهاد (نفس المصدر، ص12ـ13).
[56] شروط الائمة الخمسة، ص49ـ50
[57] عبد الحسين شرف الدين: النص والاجتهاد، مؤسسة الاعلمي، بيروت، الطبعة الرابعة، 1386هـ ـ1966م، ص339ـ340
[58] يقول العسقلاني عن عمران بانه كان داعية إلى مذهبه في الخوارج، وقد وثقه العجلي، وقال قتادة: كان لا يتهم في الحديث، وقال أبو داود: ليس في أهل الأهواء أصح حديثاً من الخوارج، ثم ذكر عمران هذا وغيره، وقال يعقوب بن شيبة: ان عمران أدرك جماعة من الصحابة وصار في آخر أمره إلى أن رأى رأي الخوارج. وعلق على ذلك ابن حجر بان البخاري لم يخرج له سوى حديث واحد من رواية يحيى بن أبي كثير عنه، حيث قال: سألت عائشة عن الحرير... الخ. وكما يقول ابن حجر: ان هذا الحديث إنما أخرجه البخاري في المتابعات، فللحديث عنده طرق اخرى، وقد رواه مسلم بطرق غيرها (مقدمة فتح الباري، فقرة عمران بن حطان السدوسي). ومعروف ان لعمران بن حطان ابيات من الشعر يشيد فيها بابن ملجم لقتله الامام علي بن ابي طالب، حيث يقول:
يا ضربة من تقي ما أراد بها الا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
اني لأذكره يوماً فاحسبه أوفى البرية عند الله ميزاناً.
[59] عن: حسن الصدر: نهاية الدراية، تحقيق ماجد الغرباوي، مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ص499
[60] نقل حسن الصدر عن ابن يسع في كتاب (معرفة أصول الحديث) قوله: قد صح عند العلماء أن البخاري روى عن ألف ومائتين من الخوارج. كما نسب الى أحمد بن حنبل قوله: لم سميت كتابك بالصحيح وأكثر رواته عن الخوارج؟ (نهاية الدراية، ص.499.
[61] تعد صفة الحافظ من اعلى المراتب، فقد يمتاز الثقة بالضبط والاتقان لكنه لا يكون حافظاً ما لم يضف الى ذلك المعرفة والإكثار. والحفاظ طبقات، وهي بحسب تحديد الذهبي كالاتي: في ذروتها أبو هريرة، وفي التابعين كابن المسيب، وفي صغارهم كالزهري، وفي أتباعهم كسفيان وشعبة ومالك، ثم ابن المبارك ويحيى بن سعيد ووكيع وابن مهدي، ثم أصحاب هؤلاء كابن المديني وابن معين وأحمد وإسحاق، ثم البخاري وأبي زرعة وأبي حاتم وأبي داود ومسلم، ثم النسائي وموسى بن هارون وصالح جزرة وابن خزيمة، ثم ابن الشرقي (المـوقظـة في علم مصطلح الحـديث، فقرة الثقة).
[62] شروط الائمة الخمسة، ص43ـ47، ومقدمة فتح الباري، ضمن الفصل الثاني.}. ويمكن القول أن البخاري يخرج من أحاديث الطبقة الثانية انتقاء، اما مسلم فيخرجها أصولاً. وأما الطبقتان الرابعة والخامسة فلا يعرج عليهما الشيخان. وبهذا يظهر أن كتاب البخاري أتقن رجالاً وأشد اتصالاً { مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل الثاني.
[63] مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل الثاني. وتوضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار، ج1، ص40
[64] مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل الثاني. وتوضيح الأفكار، ج1، ص41
[65] مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل الثاني.
[66] صحيح مسلم بشرح النووي، ج1، ص32
[67] مقدمة صحيح مسلم، ضمن الباب المذكور
[68] اعلام النبلاء، ج12، ص573
[69] مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل الثاني. وتوضيح الأفكار، ج1، ص41.
[70] طبقات الحنابلة، ج2، مادة: محمد بن إسماعيل البخاري، ودليل أرباب الفلاح.
[71] توضيح الأفكار، ج1، ص41
[72] ظن ابن الصلاح ان مسلماً اخذ عن البخاري واستفاد منه وشاركه في كثير من شيوخه (مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل الثاني) وهو خلاف ما نص عليه الخطيب البغدادي. ومعلوم ان البخاري هو ايضاً لم يرو عن مسلم شيئاً
[73] اعلام النبلاء، ج12، ص573
[74] شروط الائمة الخمسة، ص60، وجاء عن مسلم انه قال: عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار أن له علة تركته (مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل الثامن).
[75] الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية، ص592، وتعليق الكوثري على: شروط الائمة الخمسة، ص62.
[76] مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل الثاني. وحجة الله البالغة، ج1، ص151
[77] مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل الثاني.
[78] مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل الثاني.