يحيى محمد
يتحقق الكشف عند ورود الواردات والخواطر على القلب. والمقصود بالخاطر هو ما يرد على القلب من الخطاب أو الوارد. والوارد القلبي هو حلول المعنى في القلب، أو كل ما يرد على القلب من المعاني الغيبية من غير تعمل للعبد[1].
ومع أن الكشف يقترن بالخواطر، إلا أنه لا يصدق مع أي خاطر كان. فالعرفاء يميزون الخواطر الصحيحة الصادقة عن الكاذبة، وإن كانوا يختلفون في مقياس هذا التمييز. فلدى إبن عربي أن الكشف الصحيح هو ذلك المقترن بالخاطر الأول في القلب، فبورود الخواطر الأولى على قلب العارف يصبح عالماً وملهماً بطريق المشاهدة، حيث يتلقى ما يفيض الله عليه من سفراء الحق الذين لا يخدعون[2]. في حين يرى الخواطر التالية بعد الخاطر الأول، من الخاطر الثاني فما زاد عليه، لا يعوّل عليها[3].
وبحسب صدر المتألهين فإنه يحصي الخواطر إلى أنواع خمسة. فهناك خاطر الحق وهو الخاطر الأول، إذ يقع في القلب من غير سابق له. كما هناك خاطر القلب، وهو يقع في ما إذا سلم القلب من استيلاء الشياطين وهوى النفس، وخلص من الذنوب والخصال الذميمة، وتهذّب بمشاهدة الملكوت وحقائق المعارف، وعلامته أن لا يظهر على القلب والنفس والجوارح ما هو ضده، فيستسلم السالك له ويسترسل وينطلق من قيود الشك والريب. وقد عوّل صدر المتألهين في هذا الخاطر على ما أشار إليه الرسول (ص) في قوله: «استفتِ قلبك وإن أفتاك المفتون»، وقوله أيضاً: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك». وهناك خاطر الملك الذي تنزل معه السكينة في القلب ليزداد السالك إيماناً مع إيمانه، وهو خاطر قريب من خاطر القلب. كما هناك خاطر الشيطان الذي يدعو إلى الضلالة، فإذا دعى إلى ذنب زاد عليه بدعوة إلى ذنب آخر. وآخر هذه الخواطر هو خاطر النفس الذي يعد بمنزلة الصبي الذي لا عقل له ولا تمييز، فهو خاطر يبعث على تشهي الأشياء[4].
وبإختلاف هذه الخواطر تختلف مراتب الكشف وأنواعه، فطبقاً للإمام الغزالي أن الكشف يفيض على أهل الأرباب من العرفاء، تارة على سبيل الإلهام بأن يخطر لهم بنحو الورود من حيث لا يعلمون، وأخرى على سبيل الرؤيا الصادقة، وثالثة في اليقظة على نحو «كشف المعاني بمشاهدة الأمثلة كما يكون في المنام، وهذا أعلى الدرجات وهي من درجات النبوة العالية»[5]. وفي محل آخر اعتبر الغزالي أن ما يهجم على القلب من علم وكشف؛ منه ما لا يدري العبد كيف ومن أين حصل له هذا العلم، كما منه ما يطلع العبد معه على السبب الذي استفاد منه ذلك العلم. ويسمى القسم الأول إلهاماً ونفثاً في الروع، وهو ما يختص به الأولياء، بينما يسمى الثاني وحياً إذ يختص به الأنبياء[6].
وكما للكشف مراتب فإن له شروطاً لا يتحقق بدونها. فإذا ما كانت طريقة العقل قائمة على الاستدلال والتفكير، فإن للعرفان وسيلة أخرى تقوم على الإرادة والسلوك كشرط أساس. فطبقاً لما يراه بعض العارفين هو أن هناك أركاناً أربعة للسلوك العرفاني، هي الجوع والعزلة والسهر وقلة الكلام[7]. فوظيفة هذه الأركان هي تهذيب النفس وتنمية خيال السالك وجعله قابلاً للتحلي بمختلف صفات الاستقامة ليصبح مستعداً للفيض الإلهي. فعلى تقدير إبن خلدون أن الكشف عند الصوفية لا يكون كاملاً إلا عند الاستقامة كالمرآة، فحيث أنها مقعرة أو محدبة فإنها تعطي صورة معوجة، بخلاف ما لو كانت مسطحة[8].
ويفيدنا الغزالي بمعلومات ثرية في هذا المضمار، حيث يجعل من عملية الإرادة التي يمارسها العارف، نحو الاستقامة وذكر الله، سبيلاً إلى تقبل الفيض المحتم من غير حاجة إلى ممارسة فكر ولا اختيار سوى إنتظار ما يخطر على القلب. فهو يرى أن هناك طريقين للمعرفة التي تنساق إلى القلب، كسبي بواسطة أنهار الحواس والإعتبار بالمشاهدات الحسية حتى يمتلئ القلب علماً، وآخر يأتي من خلال سد هذه الأنهار بالخلوة والعزلة وغض البصر ثم التوجه إلى عمق القلب بتطهيره ورفع طبقات الحجب عنه، حتى تتفجر ينابيع العلم من داخله[9]. لذلك فهو ينصح المريد للسلوك العرفاني بالعمل على إخلاء نفسه في زاوية يقتصر فيها على العبادة من الفرائض والرواتب، ويجلس فارغ القلب مقبلاً بذكره على الله، وذلك بأن يكثر الذكر بقلبه ولسانه باستمرار؛ حتى يسري الذكر في أعضائه وعروقه؛ إلى أن ينتهي إلى حالة لو ترك فيه تحريك اللسان لرأى الكلمة تجري على لسانه لكثرة اعتياده، فيصير مواظباً على ذلك حتى يسكت لسانه ويبقى الذكر جارياً في قلبه ثم لا يبقى في قلبه إلا معنى اللفظ، فلا يخطر في باله حروف اللفظ وهيئات كلمة (الله)، بل يبقى المعنى المجرد حاضراً في قلبه على اللزوم والدوام. فإلى هذا الحد يتم اختيار السالك، فلا اختيار له بعد ذلك إلا في استدامة الذكر لدفع الوساوس الصارفة، ثم بعدها ينقطع اختياره تماماً، فلا يبقى له إلا إنتظار ما يظهر من الفتوح التي يتلقاها الأولياء، وهو جزء مما يظهر للأنبياء. وقد تكون هذه الفتوح الكشفية أو الشهود أمراً كالبرق الخاطف لا يثبت ثم يعود وقد يتأخر، وإن عاد فربما يثبت، وإن ثبت فقد لا يطول، كما قد يتظاهر أمثاله على التلاحق، وقد لا يقتصر على موضوع وفن واحد، فكل ذلك يعود إلى منازل الأولياء المتفاوتة في خلقهم وأخلاقهم.
فهذا هو منهج العرفان في السلوك، يبتدأ بالتطهر والتصفية والجلاء، ثم ينتهي بالإستعداد والإنتظار[10]. وبعبارة أخرى أنه يبتدئ بعلم المعاملة الذي سخّر له الغزالي كتابه (الإحياء في علوم الدين) لينتهي إلى علم المكاشفة الذي بثه في كتبه العرفانية الأخرى.
على أن هناك حجباً تحجب القلب من مشاهدة الحقيقة العرفانية، وهي كما أحصاها الغزالي خمسة: أولها حجاب نقص القلب في ذاته كما هو الحال مع قلب الصبي. وثانيها حجاب معاصي القلب وخبثه لكثرة الشهوات. وثالثها حجاب عدول القلب عن جهة الحقيقة المطلوبة حتى لو كان صافياً وعائداً إلى عبد مطيع صالح، فإذا لم يطلب الحق ولم يكن محاذياً بمرآة قلبه شطر المطلوب فسوف لا ينجلي له الحق. ورابعها حجاب الإعتقاد المسبق الذي ينشأ عليه المطيع من الصبا على سبيل التقليد والقبول بحسن الظن، إذ يحول ذلك بينه وبين حقيقة الحق. أما خامسها وأخيرها فهو حجاب الجهل بالجهة التي يقع منها العثور على المطلوب، فإن طالب العلم ليس بإمكانه أن يحصل العلم بالمجهول ما لم يتذكر العلوم التي تناسب مطلوبه[11].
فجميع هذه الحجب تحجب القلب من أن تتجلى فيه حقيقة الحق في الأشياء كلها، فهي عند الغزالي حجاب مسدل «بين مرآة القلب وبين اللوح المحفوظ الذي هو منقوش بجميع ما قضى الله به إلى يوم القيامة. وتجلي حقائق العلوم من مرآة اللوح في مرآة القلب يضاهي انطباع صورة في مرآة تقابلها. والحجاب بين المرآتين تارة يزال باليد وأخرى يزول بهبوب رياح تحركه، وكذلك قد تهب رياح الالطاف وتنكشف الحجب عن أعين القلوب... وتمام ارتفاع الحجاب بالموت.. وحين يرتفع الحجاب بلطف خفي من الله تعالى يلمع في القلوب من وراء ستر الغيب شيء من غرائب العلم، تارة كالبرق الخاطف وأخرى على التوالي إلى حد ما، ودوامه في غاية الندور»[12].
[1] إصطلاحات الصوفية، ص158. وتاريخ التصوف في الإسلام، ص905.
[2] الفتوحات المكية، ج2، ص564.
[3] رسالة لا يعوّل عليه، من رسائل إبن عربي، ج1، ص1.
[4] كسر أصنام الجاهلية، ص74ـ75.
[5] الغزالي: إحياء علوم الدين، بهامشه كتاب تعريف الاحياء لعبد القادر باعلوي، وعوارض المعارف للسهروردي، ج1، ص62.
[6] الاحياء، ج3، ص14.
[7] الشعراني: الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية، المكتبة العلمية، الطبعة الأولى، ج1، ص56.
[8] مقدمة إبن خلدون، المكتبة التجارية الكبرى في القاهرة.
[9] الاحياء، ج3، ص16، ص470.
[10] الغزالي: ميزان العمل، ص222ـ223. كذلك: كيمياء السعادة، ص136ـ137. ورسالة روضة الطالبين، ضمن فرائد اللآلي، ص141. وإحياء علوم الدين، ج3، ص15.
[11] إحياء علوم الدين، ج3، ص11. والحقيقة في نظر الغزالي، ص140ـ142. كذلك: كسر أصنام الجاهلية، ص11ـ12.
[12] إحياء علوم الدين، ج3، ص15. كذلك: الحقيقة في نظر الغزالي، ص123 ـ124.