يحيى محمد
جاء عن موارد الزكاة من المحاصيل ما رُوي عن الشعبي أنه قال: كتب رسول الله (ص) إلى أهل اليمن: (إنما الصدقة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب). وقد اعتاد الفقهاء في فتاويهم التوقف عند هذه الأصناف الأربعة من الثمار لتحديد الزكاة، واعتبروا طبقاً للنص أنه لا زكاة في غيرها من الزروع والثمار. مع أنه لا يعقل أن يكون الحكم على تلك الموارد تعبدياً وأن غيرها من المحاصيل ليس عليها زكاة. لكن رأى بعض الفقهاء مثل أبي حنيفة (أن هذه الأصناف كانت تمثل المحصولات الرئيسية في جزيرة العرب، وأن ما عداها من ثمر لم يكن مالاً له خطر). أي أنه استند إلى الواقع في فهمه للنص فاعتبر الزكاة فيما هو رائج من المحاصيل، وبالتالي حكم على الزكاة في الثمار الأخرى، بل كل ما تنبته الأرض من المأكولات من القوت والفاكهة والخضر؛ استناداً إلى قوله تعالى: ((وهو الذي انشأ جنات معروشات وغير معروشات... كلوا من ثمره اذا اثمر وآتوا حقه يوم حصاده)) الانعام/141. وعليه أوجب الزكاة في كل من (التفاح والموز وسائر الفواكه، والفول والعدس والارز وسائر الحبوب، والبرتقال واليوسفي وسائر الموالح، والبن والشاي.. الخ)[1]، وهو ما أيده ابو بكر بن العربي[2]. كما ذهب رشيد رضا حديثاً إلى ان الحكمة في الحصر بتلك الزروع هي كونها القوت الغالب في ذلك الوقت[3].
والحال نفسه ينطبق على ما ذُكر من زكاة بحق الانعام وغيرها من الاشياء. وقد التفت بعض المعاصرين من الإمامية إلى ما تتضمنه الزكاة من معنى مقصدي، كما اشار إلى ذلك الإمام الخميني في بعض خطاباته؛ نافياً ان تندرج ضمن التعبديات. كذلك احتمل البعض أن موارد الزكاة في أصناف تسعة لم تصدر بعنوان التشريع العام[4]، وإنما بعنوان الحاكمية والولاية تبعاً لما إقتضته الظروف آنذاك من رواج تلك الأصناف، كما وضع في الحسبان إحتمال ان يكون الحصر تشريعاً، الا أنه جاء مخصوصاً للظرف السائد بإعتبار أن تلك الأصناف كانت من أشهر البضائع وأهمها[5].
والحال ان التصور الحديث لهذه المسألة نشأ بسبب تحولات الواقع. بمعنى أن الواقع هو ما دلّ عليه لا النص، رغم أن البعض، نتيجة لهذه التحولات، حاول ان يرد الإعتبار لبعض النصوص ولو على نحو التقريب، مثل استشهاده بما صنعه الإمام علي من جعل الزكاة على الخيل[6]، كذلك بما رواه الشيخ الطوسي في (التهذيب) عن أبي بصير أنه سأل الإمام الصادق فقال: هل في الأرز شيء من الزكاة؟ قال الإمام: نعم. ثم قال (ع): ان المدينة لم تكن يومئذ أرض أرز فيقال فيه، ولكنه قد جعل فيه، وكيف لا يكون فيه وعامة خراج العراق منه[7]. وهناك عدد من الروايات تفيد هذا المعنى[8]، لكن في قبالها يوجد عدد آخر من الروايات تؤكد ضرورة حصر الزكاة بما نصّ عليه النبي (ص)[9]. وكجمع بين النصوص ذهب الحر العاملي بأن الأحاديث التي تفيد عدم الحصر دالة على الإستحباب ونفي الوجوب، وما ظاهره الوجوب في روايات الحبوب يحتمل الحمل على التقية[10].
***
كذلك وطبقاً للمقاصد فإنه لا يمكن الوقوف عند حرفية النص حول ما ورد بشأن الزكاة في النقدين من الذهب والفضة، كالذي عليه فقه الإمامية. فالنقد في العصر الحديث تحول إلى عملات ورقية، والوقوف عند حرفية النص يمنع جريان الزكاة عليها. الأمر الذي يفضي إلى خلاف ما قصده الشارع من وضع الزكاة على المال المتداول، حيث لا يعقل أنه جعلها بخصوص الذهب والفضة بما هما كذلك، والا لكانت الزكاة لا تنحصر بالنقدين منهما، بل لشملت سائر مواردهما مما لا يعد من النقد[11]. وبذلك نفهم ان الملاك يتحدد بالمالية المتداولة أو النقد. وبغير هذا الاعتبار سنقع في تعبدية ليست مفهومة ولا معقولة، في حين أنها تجري في قضية يُفترض ان يكون لها معنى محصل بشهادة الواقع.
على ذلك صحّ ما لجأ اليه الشيخ محمد جواد مغنية في نقده للفقهاء المعاصرين من الإمامية الذين وقفوا عند حدود القالب الحرفي من النص دون اعتبار للدلالات الأخرى كما يبدو ذلك من المقاصد والواقع، فذكر يقول: (قال فقهاء هذا العصر كلهم أو جلهم: ان الأموال اذا كانت من نوع الورق، كما هي اليوم، فلا زكاة فيها وقوفاً عند حرفية النص الذي نطق بالنقدين الذهب والفضة، ونحن على خلاف معهم، ونقول بالتعميم لكل ما يصدق عليه اسم المال و(العملة)، وان النقدين في كلام أهل البيت (ع) أخذ وسيلة لا غاية، حيث كانا العملة الوحيدة في ذلك العهد، وليس هذا من باب القياس المحرم، لأن القياس مأخوذ في مفهومه وحقيقته ان تكون العلة المستنبطة مظنونة لا معلومة، لأن الظن لا يغني عن الحق شيئاً، ونحن هنا نعلم علم اليقين ان علة الزكاة في النقدين موجودة بالذات في الورق، لا مظنونة، فتكون كالعلة المنصوصة أو أقوى، لا من باب القياس المظنون المجمع على تحريم العمل به)[12].
[1] دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، ص74.
[2] أحكام القرآن، ج2، ص758-759.
[3] المنار، ج8، ص138.
[4] الأصناف التسعة التي حصر فيها وجوب الزكاة هي: الذهب والفضة، والابل والبقر والغنم، والحنطة والشعير والتمر والزبيب. فمما جاء في ذلك من الروايات ما قاله الإمام الصادق: أُنزلت آية الزكاة ((خذ من أموالهم صدقة تطهّرهم وتزكّيهم بها)) في شهر رمضان، فأمر رسول الله (ص) مناديه فنادى في الناس: إن الله تبارك وتعالى قد فرض عليكم الزكاة كما فرض عليكم الصلاة، ففرض الله عليكم من الذهب والفضة والابل والبقر والغنم والحنطة والشعير والتمر والزبيب، ونادى فيهم بذلك في شهر رمضان، وعفا لهم عما سوى ذلك.. (وسائل الشيعة، ج9، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة في تسعة أشياء، حديث1، ص53).
[5] كاظم الحائري: الاوراق المالية الاعتبارية (1)، رسالة الثقلين، عدد8، 1414هـ ـ1994م، ص38-39. وانظر الحوار مع الحائري في: قضايا اسلامية، عدد4، ص32.
[6] انظر وسائل الشيعة، ج9، كتاب الزكاة، باب استحباب الزكاة في الخيل الاناث السائمة، حديث1، ص77.
[7] لاحظ محمد مهدي الاصفي: نظرية الإمام الخميني في دور الزمان والمكان في الإجتهاد، قضايا اسلامية، عدد4، ص299 وما بعدها. كما انظر: وسائل الشيعة، ج9، كتاب الزكاة، باب استحباب الزكاة فيما سوى الغلات الأربع من الحبوب، حديث11، ص64.
[8] فمن ذلك ما روي ان ابا الحسن (ع) كتب إلى عبد الله بن محمد: الزكاة على كل ما كيل بالصاع. وكتب عبد الله عن الإمام الصادق أنه سأله عن الحبوب؟ فقال: وما هي؟ قال: السمسم والارز والدخن، وكل هذا غلة كالحنطة والشعير، فقال الإمام الصادق: في الحبوب كلها زكاة. كما روي عن الإمام الصادق أنه قال: كل ما دخل القفيز فهو يجري مجرى الحنطة والشعير والتمر والزبيب، فقال سائل: أخبرني جعلت فداك هل على الارز وما اشبهه من الحبوب الحمص والعدس زكاة؟ فوقع الإمام: صدّقوا الزكاة في كل شيء كِيل (وسائل الشيعة، ج9، ص61). كما روي عن الإمام الصادق أنه سئل عن السمسم والارز وغير ذلك من الحبوب هل تزكى؟ فقال: نعم هي كالحنطة والتمر (مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، ج7، كتاب الزكاة، باب استحباب الزكاة فيما سوى الغلات الاربع، حديث1، ص39). وعن الإمام الصادق ايضاً أنه قال: كل شيء يدخل فيه القفزان - المكاييل - والميزان ففيه الزكاة (المصدر، ص39).
[9] فمن ذلك ما روي عن الإمام الصادق أنه سُئل عن الزكاة؟ فقال: وضع رسول الله (ص) الزكاة على تسعة وعفا عما سوى ذلك: الحنطة والشعير والتمر والزبيب، والذهب والفضة، والبقر والغنم والابل، فقال السائل: فالذرة؟ فغضب (ع) ثم قال: كان والله على عهد رسول الله (ص) السماسم والذرة والدخن وجميع ذلك، فقال السائل: إنهم يقولون أنه لم يكن ذلك على عهد رسول الله (ص) وانما وضع على تسعة لما لم يكن بحضرته غير ذلك؟ فغضب الإمام وقال: كذبوا، فهل يكون العفو الا عن شيء قد كان، لا والله ما اعرف شيئاً عليه الزكاة غير هذا، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر (وسائل الشيعة، ج9، باب وجوب الزكاة في تسعة أشياء، حديث3، ص54). وعن علي بن مهزيار قال: قرأت في كتاب عبد الله بن محمد إلى ابي الحسن (ع): جعلت فداك، روي عن ابي عبد الله (ع) أنه قال وضع رسول الله (ص) الزكاة على تسعة اشياء... وعفا رسول الله (ص) عما سوى ذلك، فقال له القائل: عندنا شيء كثير يكون باضعاف ذلك، فقال: وما هو؟ فقال له: الارز، فقال ابو عبد الله (ع): اقول لك: ان رسول الله (ص) وضع الزكاة على تسعة أشياء وعفا عما سوى ذلك، وتقول: عندنا ارز وعندنا ذرة، وقد كانت الذرة على عهد رسول الله (ص)؟! فوقع (ع): كذلك هو، والزكاة كل ما كيل بالصاع (المصدر، حديث6، ص55-56). وعن محمد بن الطيار قال: سألت ابا عبد الله (ع) عما تجب فيه الزكاة؟ فقال: في تسعة اشياء... وعفا رسول الله (ص) عما سوى ذلك، فقلت: اصلحك الله، فإن عندنا حباً كثيراً، قال: وما هو؟ قلت: الارز، قال: نعم، ما اكثره، فقلت: أفيه الزكاة؟ فزبرني وقال: اقول لك ان رسول الله (ص) عفا عما سوى ذلك وتقول لي ان عندنا حباً كثيراً، أفيه الزكاة؟! (المصدر، حديث12، ومثله حديث13، ص58-59. وانظر على شاكلة ما سبق من الروايات ما جاء في: مستدرك الوسائل، ج7، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة في تسعة أشياء، ص38).
[10] وسائل الشيعة، ج9، ص64.
[11] انظر حول ذلك: وسائل الشيعة، ج9، ص154.
[12] فقه الإمام جعفر الصادق، ص76-77.