يحيى محمد
ظهر التنظير في حقل الفضاء الشيعي لأول مرة خلال القرن الرابع الهجري، كتنظير عقلي في كل من العقيدة والفقه، وذلك بعد غيبة الإمام الثاني عشر، محمد بن الحسن العسكري الملقب بالمهدي المنتظر[1]. فقبل ذلك كان هذا الإتجاه يعيش مرحلة النص والبيان دون حاجة لممارسة التنظير والتقنين. أما بعد الغيبة فقد ظهرت هذه الحاجة، سيما وأن هناك منافسة من قبل الإتجاه السني السابق له بفترة لا تقل عن قرنين من الزمان.
فهناك ثلاثة رواد قاموا بتأسيس النظر المعرفي وتكريسه ضمن حقل الفضاء الشيعي، سواء على صعيد العقيدة وعلم الكلام أم الفقه، وهم محمد بن محمد بن النعمان العكبري الملقب بالشيخ المفيد (المتوفى سنة 413هـ)، وأبو القاسم علي بن الحسين الملقب بالشريف المرتضى وعلم الهدى (المتوفى سنة 436هـ)، وأبو جعفر محمد بن الحسن الملقب بشيخ الطائفة الطوسي (المتوفى سنة 460هـ). فقد كان الشيخ المفيد استاذاً للعلمين الأخيرين، وبعد وفاته أصبح السيد المرتضى استاذ الأخير. ويمكن إعتبار المفيد بمثابة «العقل المجمل» بالقياس إلى المرتضى في علم الكلام، وإلى الطوسي في علم الفقه. إذ نعتبر المرتضى بمثابة «العقل المفصل» في مجال العلوم العقلية، سيما علم الكلام والعقائد، لكثرة ما كتب وحقق في هذا المورد حتى أصبح مصدراً أساساً للإقتباس لكل من جاء بعده من علماء الإمامية، فمنه يأخذون وعليه يستندون، رغم ما بينه وبين الشيخ المفيد من خلافات عدّها البعض بما تقارب خمساً وتسعين مسألة في الأصول، كالتي ذكرها الشيخ سعيد بن هبة الله الراوندي في كراس صنفه حول الخلاف بينهما، فبعد أن أتمّ تعداد المسائل الخلافية بينهما صرح قائلاً: «لو استوفيت ما اختلفا فيه لطال الكتاب»[2].
ومهما كانت طبيعة الخلافات بين المفيد والمرتضى، يظل الأخير عنصر تفصيل للكثير من المسائل العقلية التي تناولها الشيخ المفيد بشيء من الإجمال، بالرغم من الكثرة الوافرة لمؤلفاته. فقد سبق أن عدّها الشيخ النجاشي (المتوفى سنة 450هـ) في فهرسه فبلغت أكثر من مائة وسبعين كتاباً ورسالة ومسألة، كما أوصلها البعض إلى أقل بقليل من مائتين[3]، أغلبها مفقودة. وكذا هو الحال بالنسبة إلى مؤلفات الشريف المرتضى، لكن الأخير كان أكثر شمولاً وسعة وتأثيراً على العلماء داخل حقل الفضاء الشيعي إن لم نقل أنه تجاوز أحياناً هذه الحدود إلى حقل الفضاء السني، وربما يبدو أثر ذلك في كتاب الفخر الرازي (عصمة الأنبياء) إذ جاء على شاكلة ما سبق إليه الشريف المرتضى في كتابه (تنزيه الأنبياء). ويكفي أنه عالج مسألة الامامة التي هي أهم المسائل وأخطرها في الفكر الشيعي بما لم يسبقه أو يلحقه أحد عمقاً وشمولاً، وذلك في كتابه الضخم (الشافي في الامامة)، إذ خصصه للرد على شيخ المعتزلة القاضي عبد الجبار الهمداني الذي تناول هذه المسألة في آخر كتابه الضخم (المغني في أبواب التوحيد والعدل) والتي شغلت جزءاً كبيراً هو الجزء الأخير من حيز كتابه البالغ تعداده عشرين جزءاً. كما وعالج بعمق وشمول مسائل أصول الفقه في العديد من الكتب والرسائل، كان أهمها كتابه (الذريعة في علم أصول الشريعة)، إذ ظل مصدراً لتدارس الطلبة حتى مجيء المحقق نجم الدين الحلي (المتوفى سنة 676هـ) الذي صنف كتاب (المعارج) فحلّ محل ذلك الكتاب لسهولة المأخذ والعبارة فيه[4].
أما الشيخ الطوسي فهو الآخر يصدق عليه وصف «العقل المفصل» مقارنة بما امتاز به الشيخ المفيد من «عقل مجمل»، كما هو الحال في مجال الفقه. فهو ليس مجرد مؤسس للحوزة العلمية في النجف الأشرف، بل الأهم من ذلك أنه أول مجتهد مطلق في الفقه، إذ كان الإجتهاد الفقهي قبله يمارس بشكل مجزء ومحدود، أما على يده فقد قُدّر له أن يفتح باب النظر والإجتهاد المطلق على مصراعيه، بل ويؤصل الأصول ويفرع المسائل عنها[5]، كما يظهر ذلك من كتابه (المبسوط) الذي اعتبره البعض «محاولة ناجحة وعظيمة في مقاييس التطور العلمي لنقل البحث الفقهي من نطاقه الضيق المحدود في أصول المسائل إلى نطاق واسع يمارس الفقيه فيه التفريع والتفصيل والمقارنة بين الأحكام وتطبيق القواعد العامة ويتتبع أحكام مختلف الحوادث والفروض على ضوء المعطيات المباشرة للنصوص»[6].
أ ـ التنظير العقلي في الحقل الشيعي
إذا كان التنظير العقلي في حقل الفضاء السني قد اصطدم مع النص وبدرجة رئيسة مع مشكلة الصفات الإلهية، كما وردت في القرآن والحديث، وهو ما أثار الصراع مع الدائرة البيانية ككل، فإن التنظير العقلي في حقل الفضاء الشيعي لم تكن تهمه تلك المشكلة، وذلك لأن نصوص الأخبار التي وردت عن أئمة أهل البيت قد غطت على النصوص الواردة في القرآن، بإعتبارها تتفق مع مطالب التنزيه العقلي الذي يميل إليه الإتجاه الشيعي في الغالب، كما يلاحظ في الروايات الكثيرة الواردة في كتاب (التوحيد) للشيخ الصدوق، وهو يعد من أهم وأبرز أساتذة الشيخ المفيد، مما يعني أن العقل والنص متفقان إجمالاً حول تلك المسألة، خلافاً لما حصل بالنسبة للتنظير داخل الإتجاه السني.
لكن مع هذا فهناك مشكلة أخرى رئيسة اصطدم فيها التنظير العقلي الشيعي مع «بيان النص»، فأسفر ذلك عن جعل علاقة العقل بالنص هي كعلاقة المحكم بالمتشابه، وهي المشكلة المسماة بـ (العصمة)، الأمر الذي يكشف عن خطورة هذه المسألة وأهميتها. فمن الأولويات المعيارية للعقل الشيعي تأسيسه لعصمة الأنبياء والأئمة بنحو مطلق وشامل. وقد جاء هذا التأسيس على حساب «بيان النص»، إذ تحول البيان إلى متشابه مورس في حقه التأويل، وأحياناً تعرض النص إلى الطرح والرفض إن كان خبراً ورواية.
لقد اقترن إهتمام الشيعة بالمشكل العقلي للعصمة مع نشأة التنظير لديهم. فقد عرّفها الشيخ المفيد بأنها «لطف يفعله الله تعالى بالمكلف بحيث يمنع منه وقوع المعصية وترك الطاعة مع قدرته عليهما»[7]. ودلل عليها ببعض الإعتبارات العقلية، منها أن النبي «لو عهد منه السهو والنسيان لارتفع الوثوق منه عند اخباراته، ولو عهد منه خطيئة لتنفرت العقول من متابعته فتبطل فائدة البعثة»[8]. وأضاف البعض إلى ذلك بأن وقوع المعصية من النبي يفضي بوجوب نهيه فيسقط شأنه من قلوب الناس[9]. وحول عصمة الإمام ذُكر أنه لو جاز عليه الخطأ لإفتقر إلى غيره كي يسدده، ثم الحال يجري مع هذا أيضاً، فإن لم يكن معصوماً هو الآخر فسيفضي الأمر بالتسلسل أو يثبت وجود إمام معصوم عن الخطأ. كما وهناك أدلة عقلية أخرى إلا أنها ضعيفة ليست بأقوى مما ذكر .
والإهتمام الذي منحه الشيخ المفيد لتكريس العصمة المطلقة جعلته يطعن بإعتقاد استاذه المحدث السلفي الشيخ الصدوق الذي قام بجمع ورواية أخبار كثيرة تفيد بأن النبي (ص) قد تعرض إلى حالات من السهو والنسيان وهو يمارس بعض أعماله العبادية من الصلاة، لذلك ردّ عليه الشيخ المفيد ببعض الرسائل كي يثبت هذه العصمة الشاملة للنبي وسائر الأنبياء جميعاً. وتحول هذا النزاع بين المفيد واستاذه الصدوق إلى نزاع بين الإتجاه العقلي والإتجاه البياني داخل حقل الفضاء الشيعي، إذ غلب على الإتجاه الأول رفض تلك الأخبار والروايات التي تقلل من شأن النبوة، وفي المقابل غلب على الإتجاه الآخر تثبيتها. وتجسّد هذا النزاع في مقولتين متعارضتين، إذ كان الشيخ محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، وهو شيخ الصدوق، يقول: «أول درجة الغلو نفي السهو عن النبي»[10]. فردّ عليه البعض، مثل السيد محمد باقر الداماد، بالقول: «أول إنكار النبوة إسناد السهو إلى النبي»[11].
فهذا الصراع بين الإتجاهين يعكس صراع العقل عند العقليين مع البيان لدى المحدثين وعلماء السلف. لذا قال بعض المتأخرين من أصحاب الإتجاه العقلي وهو بصدد هذه المسألة من سهو النبي: «وأما من جهة أصول الدين: فلا يمكن العمل بالأخبار حتى لو صحت سنداً واتضحت دلالة، إذ ليس المعتبر إلا حكم العقل، والعقل يمنع من صدور أمثال ذلك عن المعصوم المقتدى، وأن صدور أمثال ذلك لا يوافق مقام النبوة ومنزلة الامامة، بل هو حط من تلك الكرامة، ونقص من ذلك المنصب الإلهي»[12].
وقد أظهر الشيخ المفيد تردداً في موقفه من العصمة المطلقة، فهو في كتابه (النكت الإعتقادية) اعتبر النبي «معصوم من أول عمره إلى آخره عن السهو والنسيان والذنوب الصغيرة والكبيرة عمداً وسهواً»[13]، لكنه في كتاب (أوائل المقالات) صرح بجواز وقوع الصغائر من الأنبياء قبل النبوة فقط - وكذا بالنسبة للأئمة أيضاً - إلا أنه اشترط أن لا يستخف فاعله وأن لا يكون على عمد، وزعم أن هذا هو مذهب جمهور الإمامية، كما وجوّز خطأ الإمام في الأمور الخاصة بالحكم على القضايا الخارجية ومنها أمور القضاء، فاعتبر أن من الجائز أن يحكم الإمام بالظاهر وإن كان على خلاف الحقيقة كما في علم الله تعالى[14]. لكن رغم ذلك فالذي ساد وسط الإمامية إنما هو الرأي الأول لا الأخير.
ونعتقد بأن هناك سببين رئيسيين جعلا العصمة الشاملة تثبت لدى الفكر الشيعي، وكلاهما يعتمد على العقل، أحدهما يرتبط بفكرة الامامة، والآخر بمسألة (الإحباط). فلهذين السببين ثبت الرأي الأول للشيخ المفيد دون غيره، رغم أن الخلاف حول عصمة الأئمة كان شائعاً لدى قدماء الشيعة ممن عاصر الأئمة. وهو أمر يستدعي البحث كالتالي:
1ـ العقل والعصمة ومسألة الإحباط
بالرغم من وجود العديد من الآيات والروايات الدالة على كون الأعمال من المعاصي والطاعات بعضها يعمل على إحباط البعض الآخر في الآخرة، وهو ما يسمى بـ (الإحباط)، إلا أن التنظير العقلي لدى الشيعة أنكر هذه المسألة، وهو ما خلق فجوة معرفية ومعيارية بين الإتجاهين العقلي والبياني في هذا الوسط. وسبق للشيخ المفيد أن ذكر: «إنه لا تحابط بين المعاصي والطاعات ولا الثواب والعقاب، وهو مذهب جماعة من الإمامية والمرجئة، وبنو نوبخت - وهم من قدماء الإمامية - يذهبون إلى التحابط في ما ذكرناه ويوافقون في ذلك أهل الإعتزال»[15].
كما ردّ الشيخ الطوسي على الروايات التي وردت عن الإمام الصادق حول التحابط بين الطاعات والمعاصي مما يتلاءم مع ما ذهب إليه أهل الإعتزال، كما جاء في تعقيب الإمام الصادق لقوله تعالى: ((وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً))[16]: «أما والله لقد كانوا يصلون، أما والله لقد كانوا يصومون، ولكن إذا عرض عليهم الحرام أخذوه». كذلك قول الصادق في خبر آخر: «اذا كان يوم القيامة يقدم قوم على الله فلا يجدون لهم حسنات، فيقولون: إلهنا وسيدنا ما فعلتْ حسناتنا؟ فيقول تعالى: أكلتها الغيبة، أن الغيبة تأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب». فقد رفض الطوسي دلالة هذه الأخبار تعويلاً على مسلكه العقلي، وقال: «هذه أخبار آحاد لا ترد لها أدلة العقول الدالة على بطلان التحابط. ولو صحت لتأولناها كما نتأول ظاهر القرآن لتلائم أدلة العقل، فيكون قوله تعالى ((فجعلناه هباءً منثوراً)) معناه حكمهم بذلك لأنهم أوقعوها على خلاف الوجه المأمور به فلم يستحقوا عليها ثواباً، لا أنه حصل الثواب ثم زال، ويكون قوله (لقد كانوا يصومون ويصلون) محمولاً على أنهم كانوا يفعلون ذلك على خلاف الوجه المأمور كما يفعله رهبان النصارى وعبّاد اليهود، فلا ينفعهم مع فعلهم ما حرم الله عليهم من تكذيب النبي (ص)، لأنه إذا كان ذلك كفراً دلّ على أن ما فعلوه لم يكن واقعاً على وجه القربة. والخبر الآخر قوله: (أكلت الغيبة حسناتكم).. المعنى فيه أنه إذا فعل إنسان طاعة وذكر أن غيره ليس يفعل ذلك، صار بذلك مغتاباً له وموقعاً لفعله على وجه الرياء، فلذلك لم يستحق عليها الثواب، لا أن الثواب كان حاصلاً فأزالته الغيبة»[17].
فهذا التشديد في إنكار مسألة الإحباط هو ما كرس نظرية العصمة المطلقة لدى التنظير العقلي الشيعي، وهو موضع الخلاف بين رجال الإمامية وأهل الإعتزال، كما أشار إلى ذلك الشريف المرتضى، إذ ذكر بأن الخلاف بين الفريقين «في تجويزهم الصغائر على الأنبياء (ص) يكاد يسقط عند التحقيق، لأنهم إنما يجوزون من الذنوب ما لا يستقر له استحقاق عقاب وإنما يكون حظه تنقيص الثواب على إختلافهم أيضاً في ذلك، لأن أبا علي الجبائي يقول أن الصغير يسقط عقابه بغير موازنة، فكأنهم معترفون بأنه لا يقع منهم ما يستحقون به الذم والعقاب، وهذه موافقة للشيعة في المعنى لأن الشيعة إنما تنفي عن الأنبياء عليهم السلام جميع المعاصي من حيث كان كل شيء منها يستحق به فاعله الذم والعقاب لأن الإحباط باطل عندهم، وإذا بطل الإحباط فلا معصية إلا ويستحق فاعلها الذم والعقاب، فإذا كان استحقاق الذم والعقاب منفياً عن الأنبياء (ع) وجب أن ينفى عنهم ساير الذنوب ويصير الخلاف بين الشيعة والمعتزلة متعلقاً بالإحباط، فإذا بطل الإحباط فلا بد من الإتفاق على أن شيئاً من المعاصي لا يقع من الأنبياء (ع) من حيث يلزمهم استحقاق الذم والعقاب»[18].
هكذا فإن شطراً من الصدام بين العقل والنص يرجع سببه إلى مسألة الإحباط لدى التنظير العقلي الشيعي، لا لأن نصوصها تتعارض مع العقل الكلامي فحسب، بل لأنها تفضي أيضاً إلى توسعة مجال العصمة وفقاً للعقل المذكور وخلافاً لما يبديه النص من «بيان»، وذلك إذا ما استثنينا مسألة السهو والنسيان، إذ لا علاقة لها بالإحباط. أما الإتجاه البياني المتأخر لدى الشيعة فقد نازع نظيره العقلي حول مسائل الإحباط والسهو والنسيان؛ تعويلاً على أخبار الأئمة وأحاديثهم. في حين لم تكن المسائل الأخرى المتعلقة بالعصمة مورد نزاع في الغالب؛ لأن مصدرها الأساس هو القرآن الكريم، بينما يعوّل أغلب أصحاب هذا الإتجاه على الأخبار، ويجعلون مرد تفسير الآيات إلى هذه الأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت.
2ـ العقل والعصمة وفكرة الإمامة
ذكرنا بأن هناك سبباً آخر عمل على دعم وتثبيت العصمة الشاملة لدى الفكر الشيعي، ويتمثل بالإمامة. إذ إهتم علماء الشيعة، سواء كانوا عقليين أم بيانيين، بنظرية العصمة لإرتباطها بهذه الفكرة. فقد نظّر لها العقليون من الناحية العقلية، وانعكس ذلك على فهمهم للآيات القرآنية الخاصة بسلوك الأنبياء. في حين سلّم بها الكثير من البيانيين باستثناء ما دلت عليه نصوص الأئمة، وهم في جميع الأحوال إستندوا إلى الأخبار الكثيرة التي تشير تارة إلى عصمتهم، وأخرى إلى التخفيف من ذلك، ولم يعوّل كل من الإتجاهين بما تظهره الآيات القرآنية من معاني مخالفة لما آلوا إليه، رغم كثرة هذه الآيات التي تصل إلى العشرات، وجميعها يفيد معنى مشتركاً واحداً. وسبب ذلك يعود إلى أن العصمة هي من أقوى المبررات التي تدعم تلك الفكرة. وعلى ما قاله الشريف المرتضى من أن العصمة هي من أكبر الأصول في الإمامية، لذلك أوجب الإكثار من الاشتغال بتصحيحها لكونها تسدد الكثير من غرض إثبات مسألة الامامة[19].
والواقع أنه لولا العصمة ما إستطاع علماء الشيعة أن ينظّروا لمسألة الإمامة تنظيرهم العقلي المتعارف عليه، ولإقتصر التنظير لديهم بما ورد من بيان أغلبه متنازع عليه. وكما قال الشيخ الطوسي من أن «صفات الإمام عندنا معلومة بالعقل فلا يدخل النقل فيها، فأما أعيان الأئمة فإنا نعلمهم تارة بالنص والتواتر وتارة بالمعجز»[20]. وهو في محل آخر ذكر بأن صفات الإمام على ضربين؛ عقلية وشرعية: «فالأول كونه معصوماً أفضل الخلق عالماً بالسياسة، والثاني كونه أعلم الناس بالأحكام الشرعية وأشجع الخلق»[21].
وهناك من جسّد الدعوة التي طمح لها الشريف المرتضى، فسعى لتصحيح الإمامة بأكبر عدد ممكن من «البراهين» المتعلقة بالعصمة. فهذا ما تحقق لدى العالم المخضرم الكبير جمال الدين بن المطهر المعروف بالعلامة الحلي في كتابه (الالفين). وهو كتاب معروف وممدوح في الأوساط الشيعية، حتى نُقل بأنه بعد وفاة الحلي رآه أحد أولاده بالمنام وسأله عن حاله في عالم البرزخ، فما كان من الأب إلا أن ردّ عليه بالقول الشهير: (لولا كتاب الالفين وزيارة الحسين لقصمت الفتاوى ظهر أبيك نصفين). وتعود تسمية الكتاب بالألفين إلى محاولة صاحبه أن يضع ألفي دليل عقلي ونقلي على الإمامة. ومع أن ما بلغه هذا الكتاب هو ألف ونيف وثلاثون دليلاً دون أن يبلغ الحد الذي أشار إليه، إلا أن أغلب هذه الأدلة تتعلق بعصمة الامام، فهي تقارب ألف دليل من المجموع الكلي. ورغم وجود هذا العدد الكبير من الأدلة ورغم ما صرح به من أنها براهين قاطعة[22]، إلا أن هذه الأدلة المدعاة كانت في عمومها «أدلة» بسيطة متهافتة لا ترقى إلى أي درجة من درجات الظن، بل أحياناً أنها أوقعت صاحبها في التناقض، كما عالجنا ذلك في دراسة مستقلة.
***
هكذا لو تجاوزنا مقالة الحلي في الدليل العقلي حول العصمة الشاملة، ونظرنا إلى ما ذكره غيره من العلماء، فسوف لا نجد أدلة أقوى مما نقلناه عن الشيخ المفيد. لكن هذه الأدلة ساقطة طبقاً لموازين المنطق والواقع. فهي بإختصار كالتالي:
1ـ لو عهد من النبي أو الإمام السهو والنسيان لارتفع الوثوق به عند تبليغه وإخباره.
2 ـ ولو عهد منه خطيئة لتنفرت العقول من متابعته فتبطل فائدة البعثة.
3 ـ وقوع المعصية منه يوجب نهيه فيسقط شأنه من قلوب الناس.
4 ـ لو جاز عليه الخطأ لافتقر إلى غيره كي يسدده، ثم الحال يجري مع هذا أيضاً، فيفضي الأمر إلى التسلسل أو يثبت إمام معصوم عن الخطأ.
ومن السهل الجواب على هذه الأدلة جملة وتفصيلاً. فيجاب عليها جملة بأننا نرى الناس يتبعون علماءهم ويقلدونهم ويقدسونهم مع علمهم بأنهم كسائر البشر ليسوا معصومين، فهم ممن ينتابهم السهو والنسيان والوقوع في الخطأ وبعض المعاصي الصغيرة غير المنفرة، ومع ذلك لم يسقط شأنهم من قلوب الناس. أما تفصيلاً فيجاب على الدليل الأول بأن النبي مسدد ومعصوم في جميع ما يخبر به ويبلّغه عن الوحي. إذ لا مانع من أن يتعامل معه الناس بالثقة والاطمئنان، كتعامل بعضهم مع البعض الآخر عند الإحساس بالصدق والأمانة. كما يجاب على الدليل الثاني بإنكار التعميم القائل بأن كل خطيئة منفرة لنفوس الناس وعقولهم، وبالتالي فليس بالضرورة أن تكون الخطايا مخلة بمفاد رسالة النبي وهدفها. فالعصمة المطلوبة هي خارج إطار ما ينفّر الناس ويبعدهم، لا من كل ذنب مهما كان صغيراً. كذلك يجاب على الدليل الثالث بأن الأمر لا يحتاج إلى نهي النبي عند الذنوب الصغيرة، طالما يتصف بسرعة الإلتفات والرجوع إلى الاستقامة الدقيقة والخلق العظيم. فهو أولى الناس بأن يصدق عليه قول الله تعالى: ((إن الذين اتقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون))[23]. أخيراً يجاب على الدليل الرابع بأن الحاجة ثابتة لكل إنسان، لكن سعيه وحركته يفضيان إلى تقليص هذه الحاجة باستفادته من تجارب الواقع ومما سنّه الله تعالى من أحكام وقوانين، فلا إشكال في الأمر.
[1] للإمام المهدي غيبتان، صغرى وكبرى، حيث بدأت الأولى منذ ولادته سنة 255هـ، واستمرت ثلاث وسبعين سنة حيث الغيبة الكبرى التي بدأت سنة 328 هـ، وما زالت حتى يومنا هذا.
[2] الفيض محسن الكاشاني: تسهيل السبيل بالحجة في انتخاب كشف المحجة لثمرة المهجة، تحقيق مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، مؤسسة البحوث والتحقيقات الثقافية في طهران، الطبعة الأولى، 1407هـ، ص18.
[3] أبو جعفر الطوسي: تهذيب الأحكام، تقديم حسن الخرسان، دار الكتب الإسلامية في طهران، الطبعة الثالثة، 1390هـ، ج1، ص14.
[4] حسن الصدر: تأسيس الشيعة، انتشارات اعلمي، لم تذكر سنة الطبع ولا مكانه، ص313.
[5] أبو جعفر الطوسي: النهاية في مجرد الفقه والفتاوى، تقديم آغا بزرك طهراني، انتشارات قدس محمدي، قم، ص و ـ ز. كذلك: تأسيس الشيعة، ص304. والمعالم الجديدة للأصول، مصدر سابق، ص56 وما بعدها.
[6] المعالم الجديدة للأصول، ص60.
[7] النكت الإعتقادية، طبعة طهران، ص29. كذلك: مقداد بن عبد الله السيوري: ارشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين، منشورات مكتبة المرعشي النجفي، قم، 1405هـ، ص301ـ302.
[8] النكت الإعتقادية، ص30. وارشاد الطالبين، ص300. أيضاً: الرسائل العشر للشيخ الطوسي، ص302.
[9] ارشاد الطالبين، ص302.
[10] الصدوق: من لا يحضره الفقيه، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات في بيروت، الطبعة الأولى، 1406هـ ـ1986م، ج1، ص250. والأنوار النعمانية، ج4، ص131 و33ـ40.
[11] المير محمد باقر الداماد: الرواشح السماوية في شرح الأحاديث الإمامية، منشورات مكتبة المرعشي النجفي، قم، 1405هـ، عن مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ص86. علماً بأنه ليس بالضرورة من ينفي السهو والنسيان عن النبي ينفيه نفياً مطلقاً حتى في الأمور الخاصة التي تخرج عن حدود التكاليف والأوامر الشرعية. فالشريف المرتضى يحدد ذلك بقوله: إن النبي «لا يجوز عليه النسيان في ما يؤديه عن الله تعالى أو في شرعه أو في أمر يقتضي التنفير عنه، فأما في ما هو خارج عما ذكرناه فلا مانع من النسيان» (تنزيه الأنبياء، ص84).
[12] محمد حسين المظفر: علم الامام، المطبعة الحيدرية في النجف، الطبعة الأولى، 1384هـ ـ1965م، ص49ـ50. بل على العكس، أن الإعتماد على الخطاب الديني في نفيه للعصمة المطلقة يفضي إلى توليد ثمرتين: إحداهما أن هذا النفي يشكل قرينة على صدق النبوة. إذ ليس من المعقول أن يقوم مدعي النبوة بإضفاء بعض صفات الذم والخطأ على نفسه ما لم يكن صادقاً، سيما أنه يستهدف بدعوته إتّباع الناس له. بل لم نعهد مثل هذا الحال لدى الرؤساء والزعماء باستثناء أتباع الأنبياء. لذا ليس من الصحيح القول بأن إثبات الذنب والخطأ يعد أمارة على نفي النبوة وتكذيبها، بل العكس هو الصحيح، بدلالة كثرة ما أبداه القرآن الكريم من الإشارة إلى ذلك، ولا يعقل أن يكون هذا التأكيد لعشرات الآيات في الوقت الذي يوحي إلى نفي النبوة وتكذيبها.
أما الثمرة الثانية فهي تشير إلى صحة الإجتهاد في جميع الممارسات السلوكية غير المرتبطة بالوحي المباشر. فما يقع للأنبياء من أخطاء دال على إجتهادهم، ومن الأولى أن يتسع هذا الحال لغيرهم، مما يعني جواز إعمال الجدل بين العقل والواقع دون التقيد بحرفية الممارسة النبوية، وإن كان الاسترشاد بها يعد أمراً مطلوباً لا غنى منه، ناهيك عن وجوب أن تكون هذه الممارسة غير خارجة عما جاء به الخطاب الديني من مبادىء كلية ومقاصد عامة وظيفتها تنظيم الحياة العامة وإصلاحها، كالذي فصلنا الحديث عنه في (جدلية الخطاب والواقع) و(فهم الدين والواقع).
[13] النكت الإعتقادية، ص29.
[14] المفيد: أوائل المقالات، مكتبة الداوري بقم، ص68ـ69 و74.
[15] أوائل المقالات، ص96.
[16] الفرقان/23.
[17] الرسائل العشر، ص625ـ326. كذلك: الإقتصاد للطوسي، ص162.
[18] تنزيه الأنبياء، ص3ـ4.
[19] رسائل المرتضى، ج3، ص145.
[20] أبو جعفر الطوسي: تمهيد الأصول في علم الكلام، انتشارات دانشكاه طهران، ص353.
[21] المصدر السابق، ص359.
[22] انظر: يوسف بن المطهر الحلي: الألفين، مؤسسة الاعلمي للمطبوعات ببيروت، الطبعة الثالثة، 1982م ـ1402هـ، المقدمة والخاتمة، ص11 و445.
[23] الاعراف\201.