-
ع
+

التكافؤ المعرفي بين المختص وغيره

يحيى محمد 

يتأسس بحثنا هذا على الفرض الذي يعتبر الحجة المعرفية لا ترتهن بالمختص وحده. فقد يكون غير المختص منافساً في حجته للأول وأنهما معاً يتكافآن – مبدئياً - فيما يقدمانه من تصديقات معرفية منضبطة، بحيث ليس كل ما يصدر عن المختص يُقبل من غير اهمال، ولا كل ما يصدر عن غير المختص يهمل من غير قبول. والسؤال هو كيف يمكن أن نثبت هذا المدعى؟ وما هي الضوابط والإعتبارات التي نقدمها بهذا الصدد؟ وهل ينطبق ما نريد إثباته على العلوم الطبيعية، أم ينحصر الأمر على الدراسات الإنسانية فحسب؟ ثم ما هو الغطاء الشرعي لفحوى تطبيقه على الدراسات الدينية؟

ومن الطبيعي إنه إذا تمكنّا من الإجابة على هذه الاسئلة؛ سيتاح لنا استلهام المقارنة وتطبيقها على الفقيه والمثقف الديني بإعتبارهما فاعلين مهمين في الدراسات الإسلامية. فرغم أن الأول مختص والآخر خلافه على الغالب؛ إلا أن ما يحملانه من تصورات، وما يستندان إليه من مصادر وآليات وأصول معرفية مختلفة، كل ذلك يضعهما على محك التنافس وعتبة الإختبار.

وينبغي - إبتداءاً - أن ندلل على وجود إشتراك مبدئي في حقانية المعرفة التي تصدر عن الإنسان بإعتباره صاحب عقل ووجدان، سواء كان مختصاً أو غير مختص، طالما نثبت أن العلم لا يتوقف على تقديم الأدلة الصناعية، وأن العلم الوجداني يكون مرجحاً - أحياناً - على العلم الناتج عبر تلك الأدلة، تبعاً لما سنذكره من الإعتبارات التالية: 

1ـ التساوي في الكشفالوجداني

ذلك أن هناك وجداناً كاشفاً للعلم يتساوى فيه كل من المختص وغيره حتى مع عجز الأخير على تقديم الأدلة الصناعية. ففي حالات معينة يصح للفرد أن يعتمد على وجدانه وإطمئنانه في الرفض والقبول وإن لم يعلم وجه الدليل العلمي للقضية بالدقة والضبط. فمثلاً أن الكثير من الناس يؤمنون بوجود الله ووحدانيته إعتماداً على الوجدان وليس بفعل الدليل العلمي، لعدم معرفتهم صورة هذا الدليل على نحو الضبط والتحديد. إنما تحليل آلية الإعتقاد هذه يمكن أن تُستكشف بفعل ما يقوم به العقل الباطن من الربط بين تراكمات الإحساس بالقرائن الدالة على ذلك الإعتقاد. وهو الوجه الذي نبّه عليه القرآن الكريم بالتذكير في تأمل الآيات الكونية وبداعة نظامها، فهو أقرب إلى فهم الوجدان، دون الحاجة إلى صنعة الدليل وصياغته المنطقية[1].

مع هذا يصح إلفات النظر إلى الدليل العلمي بطريقة صب القالب المنطقي على الرؤية الوجدانية. ففي مثالنا السابق يفسر التصديق بوجود الله طبقاً للقيم الإحتمالية المتجمعة تبعاً للقرائن الإستقرائية. بمعنى أنه لا مانع من أن يُضفى على الرؤية الوجدانية صبغة الدليل العلمي، شبيه بما نبّه عليه إبن خلدون الذي يرى أن ما يقام من تجربة حدسية يجب أن يصاغ ضمن القوالب المنطقية التي تليق بالعلم المعنية به، فهو يوصي بالرجوع إلى قوالب الأدلة وصورها لإفراغ المطلوب الحدسي فيها وايفائه حقه من ‹‹القانون الصناعي›› ثم كسوته بصور الألفاظ وإبرازه إلى عالم الخطابة والمشافهة؛ كي يكون وثيق العرى صحيح البنيان[2]. وهذا يعني أن ثمة قضايا يتساوى فيها التصديق بين المختص وغيره؛ سواء في ملكة التصديق ذاتها، أو في قوته وقيمته. فالوجدان العقلي واحد ومشترك بينهما بالتماثل. ويعزز هذا الأمر ما قدمته بعض الدراسات الإنثروبولوجية من نتائج كشفت عن وجود ذهنية واحدة لدى البشر خلافاً للزعم الذي يرى وجود ذهنيتين مختلفتين، بدائية وحديثة.

فمثلاً إن عالم الإجتماع الفرنسي دوركايم أكد في كتابه (أصول الحياة الدينية) على أن المعارف الروحانية والدينية التي تشكل بنية التفكير لدى ذهنية المجتمعات البدائية هي ذاتها كانت السبب في تبلور الفكر المنطقي لدى المجتمعات الحديثة. أي أن الفكر المنطقي لدى الذهنية الحديثة لم يقاطع الفكر الروحاني والديني لدى الذهنية البدائية، بل إن هذه الأخيرة هي أساس الأولى ومصدر نشوئها. وبالتالي فإن مصدر العلوم والفلسفة إنما هو التصورات الدينية والروحانية، وأن الذهنية الحديثة لم تستطع قط أن تمحو الآثار والمنطلقات المعرفية التي انبتتها الذهنية البدائية، مثلما هو الحال مع مفاهيم كل من الزمان والمكان والسببية وغيرها من الأفكار التي ألفتها الفلسفة والعلوم، فهي بالتالي وريثة الدين، وأنه لا توجد إلا عقلية واحدة شمولية، وأن الإختلاف بين الذهنيتين السالفتي الذكر إنما هو إختلاف في الدرجة لا النوع[3].

وما يفاد من ذلك هو أن نظام المعرفة لدى البشر يجري وفق قواعد وقوانين عامة مشتركة، وهي وإن لم تكن موضع إلتفات لدى أغلب الناس بمن فيهم أصحاب الإختصاصات المعرفية المختلفة، وكذلك رغم كونها محدودة العدد؛ إلا أنها ذات آليات فاعلة في الوعي الباطن أو اللاشعور، حيث يوظفها كل منّا في نتاجه المعرفي غير المحدود، ولولاها ما كان للبشر أن يمتلك القدرة والحرية على النتاج المفتوح، بل لكانت المعرفة لديه لا تخرج عن كونها انعكاسات مباشرة ومحددة للبيئة. في حين إن وجود هذا النظام الشامل، يجعل القدرة على التفكير وتوليد المعرفة غير متناهية، حيث تتم آليات الإستدلال والاستنتاج وإن كنّا غير واعين بها. والمهم هو أنها تنطلق من مبادئ وآليات صحيحة يشترك في توظيفها المختص وغيره، سواء كان ذلك بوعي أو بغير وعي. فمثلاً يطبق الناس – جميعاً - آليات القياس المنطقي والإستقرائي بفهم ودراية دون عناء، رغم أنهم لا يعون قواعد هذه الآليات وضوابطها المنطقية. فأغلب معارف الإنسان قائمة على هذا النحو.

كذلك فبفضل هذا النظام الفطري الذاتي، يستطيع الإنسان أن يميز بين صحيح المعرفة وخطئها، ومن ذلك أنه من السهل عليه أن يدرك صدق القياس القائل: إذا كان كل إنسان فان، وأن محمداً إنسان، فمحمد فان. بل ويدرك أن النتيجة في القياس السابق لو غيرت بنحو ما، مع بقاء المقدمة كما هي، فإن القياس يصبح خاطئاً، مثلما أنه يدرك خطأ القياس الذي يقول: بعض الحيوانات تغرّد، والحمار حيوان، لذا فالحمار يغرّد. وكل ذلك يعود إلى ما للإنسان من قدرة التمييز وفق ما يمتلكه من قواعد وآليات ذاتية قادرة على اداء الدور غير المتناهي في كل من التوليد والتمييز المعرفي؛ رغم أنه لا يعي - في الغالب - كيفية الأداء المعرفي الذي يزاوله، شبيه بما يحصل من نظام (الكفاية اللغوية) في اللسانيات كما يسميه نعوم تشومسكي.

 

2ـ التساوي في العلم الذي يعجز عنه البرهان

إن من العلم ما يخلو من الدليل مطلقاً، وفيه يتساوى العالم المختص مع غيره. فنحن نجد قضايا لا تخضع إلى إعتبارات الدليل رغم أنها موضع إيمان يتساوى فيها المختص مع غيره عادة. ولست أقصد بذلك البديهيات وضرورات العقل والإدراكات المباشرة للعلم الحضوري، وإنما بعض القضايا الخارجية التي يعجز البرهان عن أن ينالها. فهي محض إعتقاد وجداني يتفق عليها الناس وإن اختلفوا في مراتبهم الثقافية والعلمية. ومن ذلك قضية الواقع الموضوعي العام، حيث ليس من الممكن الإستدلال على صدقه واستبعاد أن يكون مجرد إحساس نفسي كالذي يحدث في المنام. وعلى حد تعبير بعض المفكرين: ‹‹لو أنني فقط استطيع أن أَخرج من رأسي لرأيت ما إذا كان هناك شيء››[4]. فمن المحال على الدليل العلمي استبعاد ما يفترضه أحدنا بأن هذه الحياة مجرد حلم طويل ليس في قباله ما نطلق عليه الواقع الموضوعي. فمثل هذه القضية ليست من القضايا العقلية الضرورية أو البديهية، خلافاً لما ذهب إليه الفيلسوف الطباطبائي صاحب (الميزان في تفسير القرآن) وتابعه فيه المفكر محمد باقر الصدر في (فلسفتنا)[5]، كما أنها ليست إستقرائية مثلما آل إليه إعتقاد الأخير في (الأسس المنطقية للإستقراء)[6]، إنما هي قضية وجدانية صرفة لا تخضع إلى منطق الضرورة ولا إلى منطق الدليل. فمن الناحية العملية نجد انفسنا ملجئين بالغريزة إلى توكيد الواقع الموضوعي دون التأثر بأي شك قد يفرضه المنطق علينا[7]. وهنا تتجلى أعظم آيات الرحمة الإلهية، حيث لولا هذه الغريزة الملجئة لكان منطق الشك قد ألقى بظلاله علينا وجعلنا في شقاء دائم غير منقطع. ورحم الله أبا حامد الغزالي حينما قال: ‹‹مَن ظنّ أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيّق رحمة الله الواسعة››[8]. كما أن للفيلسوف الرياضي باسكال مقولة شهيرة قريبة مما ذكرها الغزالي، وهي قوله: للقلب أسبابه التي لا يعرف عنها العقل شيئاً.

وعلى نفس الشاكلة نواجه بعض القضايا الميتافيزيقية التي نراها واضحة وضوحاً شافياً وإن لم يتحقق لدينا البرهان عليها. ومن ذلك قضية نفي التسلسل غير المتناهي للعلل الفاعلة. فرغم محاولات الفلاسفة من وضع العديد من الأدلة الصناعية لهذا الغرض، ومن المتأخرين من أوصل هذه الأدلة إلى عشر كما فعل صدر المتألهين وإن ناقش بعضها ونقدها[9]، فرغم ذلك إن من الإنصاف الاعتراف أنه لا يوجد فيها ما يرضي الوجدان ويقطع دابر الشبهة. ومع أنه لسنا – هنا - بصدد مناقشتها، ولعلنا سنقوم بذلك في دراسة خاصة، لكنا نقول:

إن قضيتي الأصل النهائي والتسلسل غير المتناهي كلاهما يستمدان نفس القدر منطقياً من فكرة الأزلية. وبالتالي فليس لدينا دليل صناعي نتمكن من خلاله إبطال التسلسل أو إثباته. فتصور الأزلية في حد ذاته يتيح الإمكان لكلا القضيتين المتعارضتين. فالأزلية هي وعاء وجودي لا نهائي، فكما يمكن أن يشغله الواحد الأصل، فكذا يمكن أن يشغله الكثير المتسلسل بلا فرق، وفقاً للحد المنطقي. لذا لم يمنع الفلاسفة القدماء فكرة التسلسل في العلل أو الأسباب العرضية التي لها صفة الإعداد الشرطي طبقاً لذات المبدأ من الأزلية، بل إن مفاد مذهبهم هو القول بهذا، وسبق أن أشار إبن رشد إلى ذلك النوع من التسلسل عندما حاول التفرقة بين العلل العرضية والعلل الذاتية، فإعتبر ‹‹أن الفلاسفة يجوزون وجود حادث عن حادث إلى غير نهاية بالعرض إذا كان ذلك متكرراً في مادة منحصرة متناهية، مثل أن يكون فساد الفاسد منهما شرطاً في وجود الثاني فقط ..››[10]. فالفلاسفة أجازوا التسلسل في العلل العرضية، لكنهم منعوه في العلل الذاتية، رغم أن المآل واحد، وأن الوعاء هو هو، لا فرق بين أن يشغله واحد أو كثير، عرضياً كان أو ذاتياً.

مع هذا فمن حيث الوجدان نجد أن فكرة تسلسل العلل الذاتية مستبعدة في قبال فكرة الأصل الواحد. بل وإن هذا الوجدان يتقبل فكرة تسلسل العلل العرضية، في حين ليس الأمر كذلك مع العلل الذاتية رغم عدم وجود البرهان القاطع ضدها. إذ يميل الوجدان إلى فكرة الأصل الأول بغض النظر عن التسلسل اللانهائي الذي يصدر عنه عرضياً، طالما أن الوجود محكوم بالأزلية حتماً. فلدينا – في هذا المجال - ثلاثة تصورات متنازعة: أحدها يقول بفكرة الأصل الأول مع بداية للحوادث، والثاني يقول بنفس هذه الفكرة لكن مع نفي البداية للحوادث. أما الثالث فلا يعترف بوجود الأصل وينظر إلى جميع الحوادث والعلل بأنها تسلسلية لا تنتهي إلى أصل محدد. ويلاحظ أن التصورين الأولين يقبلهما الوجدان لأنهما ينطويان على نفس المآل من وجود أصل أول لا سابق له خلافاً للتصور الأخير. لذا تجد أن الناس يتفقون على الأصل الأول؛ سواء كان طبيعة أو إلهاً، في حين يصعب العثور على من يقول بوجود سلسلة لا تنتهي من العلل الذاتية. بل حتى من الناحية العلمية أن العلماء يتوقفون عند حد لبداية الحوادث الكونية، ويستهجنون البحث في توالي الحوادث إلى ما لا بداية له.

وفي المحصلة إنك إما أن تجد من يقول بوجود أصل مع ما يتبعه من علل عرضية متسلسلة لا نهائية كما يقول فلاسفتنا القدماء، أو من يقول بوجود أصل ينتج عنه حوادث لها بداية كما هو قول الكلاميين من أهل الأديان السماوية، أو من يقول بوجود حوادث تنتهي عند حد معين كما هو رأي الماديين، لكن ربما لا تجد من يقول بأن علل الحوادث ليس لها أصل ولا بداية. وكأن الوجدان البشري – بهذا - لا يستوعب مثل الفرض الأخير، رغم عدم وجود ما يبرهن على نفيه.

أما تفسير ذلك فيعود إلى أن الإنسان يميل إلى الفروض التي تتصف بالبساطة ويفضلها على الفروض الأكثر تعقيداً طالما تساوى الغرض بين الفرضين. ومبدأ البساطة هو من أهم المبادئ التي يقبلها العلم المعاصر، وقد يكون غير معني بالتفتيش عن حقائق الأمور الواقعية، أو ما يطلق عليه التحقق، بل يؤخذ به لإعتبارات وجدانية وجمالية ونفعية، وهي أن القضية البسيطة مرجحة على نظيرتها المعقدة حينما تتكافأ في النتائج[11]. وقد يُطلق على ذلك مبدأ (نصل أوكام) نسبة للفرانسيسكي أوكام (المتوفى حوالي عام 1350م)، وهو المبدأ الذي يقرر قاعدة وجوب ‹‹عدم زيادة عدد الكيانات بغير حاجة››، أو لماذا تستخدم الأكثر بينما الأقل يكفي؟ لا تتصور عللاً متكثرة بينما علة واحدة تكفي، حاول ان يكون عدد فروضك هو الحد الأدنى، قللْ من عدد البديهيات إلى الحد الممكن[12]. الأمر الذي يصدق على ما نحن بصدده. إذ لا فرق بين الأصل الأول والتسلسل غير المتناهي من حيث إن كلاً منهما يشغل الوجود الأزلي، لكن التعويل على فكرة الأصل الأول يعني أن في هذا الأصل من آنات الزمان الوجودي ما يمكن إعتبارها بمثابة العلل غير المتناهية. وحيث أن الفرضين يحققان نفس النتيجة بلا إختلاف؛ لذا فلا حاجة لإفتراض التسلسل طالما تضمنته فكرة الزمان الوجودي للأصل الأول، لإعتبارات البساطة في الأخيرة قياساً بنظيرتها السابقة.

وقريب من ذلك إلى حد ما، يمكن أن يقال بشأن قضايا فلسفية ما زالت تعد من المسائل الشائكة، مثل قضية الفضاء (الكوني) أو الخلاء. فربما يميل الوجدان إلى إعتباره غير متناهي الأبعاد، مع وجود المادة المتناهية. حيث من الصعب على العقل أن يتصور محدودية الفضاء للإشكال الذي يرد عما بعده، إذ كيف يمكن تصور ما هو خارج عنه؟! في حين يسهل على العقل أن يتقبل فكرة عدم تناهي الأبعاد. لذا فالنظرية العلمية الحالية في تمدد الكون وأنه شبيه بالمنطاد الآخذ بالتوسع والإنتفاخ؛ ليست معقولة ما لم يجرِ ذلك ضمن فضاء غير متناه يسمح بعملية التوسع والتمدد.

هكذا تؤكد لنا الأمثلة التي عرضناها بأن التصديق لا يتوقف دائماً على الأدلة الصناعية، وأن من الممكن أن يشترك في حقانية مثل هذا التصديق كل من المختص وغيره.

 

3ـ ترجيح العلم الوجداني وغيره على الدليل الصناعي

إن من الجائز ترجيح العلم الوجداني التلقائي وتقديمه على العلم الممنطق الصناعي. وهو حكم نال قبولاً لدى عدد من المفكرين المسلمين. فقديماً ذهب إبن خلدون إلى أن بعض العلوم يمتلك من الموارد ما يترجح فيها الرؤية الوجدانية العادية على تلك التي تنطبع بطابع الدليل الصناعي، وبالتحديد أنه رجّح رؤية غير المختص على رؤية الفقيه المختص في معرفة شؤون الواقع وكيفية التعامل معه، كما في القضايا السياسية. فقد أدرك أن العلماء معتادون على الغوص في المعاني وانتزاعها من المحسوسات ومن ثم تجريدها في الذهن بشكل أمور كلية عامة ومطلقة ثم تطبيقها على الوقائع الخارجية، أو أنهم يقيسون الأمور بما اعتادوه من القياس الفقهي المجرد في الذهن، لكن ما يجردونه لا يطابق الواقع، وهو ما جعلهم يقعون في كثرة الغلط حين ينظرون في السياسة بإعتبارها تحتاج إلى مراعاة هذا الواقع، والنظر في كل حالة جزئية بما يلائمها من الأحكام. وهو بهذا ينتصر لغير المختص الذي وصفه بـ ‹‹العامي سليم الطبع المتوسط الكيس››، إذ رأى أنه لقصور فكره عن الغوص في المعاني العميقة والتجريد، وعدم اعتياده لذلك فإنه يقتصر في كل مادة على حكمها، وفي كل صنف من الأحوال والأشخاص على ما اختص به دون أن يعدي حكمه بالقياس والتعميم، بل لا يفارق في أكثر نظره المواد المحسوسة ولا يجاوزها في ذهنه، كالسابح لا يفارق البر عند الموج كما يقول الشاعر:

فلا توغلن إذا ما سبحت فإن السلامة في الساحل[13].

وحديثاً ذهب محمد عبده إلى أن اليقين الصادق لا يتوقف على البرهان ولا على التخصص، فإعتبر أن الأدلة العقلية كما وضعها المتكلمون وسبقهم إلى كثير منها الفلاسفة الأقدمون ‹‹قلما تخلص مقدماتها من خلل، أو تصح طرقها من علل، بل قد يبلغ أمي علم اليقين بنظرة صادقة في ذلك الكون الذي بين يديه، أو في نفسه إذا تجلت بغرائبها عليه، وقد رأينا من أولئك الأميين ما لا يلحقه في يقينه آلاف من أولئك المتفننين الذين أفنوا أوقاتهم في تنقيح المقدمات وبناء البراهين، وهم أسوأ حالاً من أدنى المقلدين››[14].

وأحياناً يلجأ أصحاب التخصص إلى التعويل على العوامل الوجدانية وسائر التأثيرات الثقافية والبيئية تلقائياً، وربما من غير وعي، حتى لو كان هذا على حساب الصنعة الإستدلالية. ومن ذلك ما تفرضه عليهم التأثيرات العرفية والمرتكزات العقلائية التي قد تؤدي دورها على حساب تلك الصنعة. وقد بات معلوماً ما لهذه العوامل من دور فاعل في الفكر العلمي، فأصبحنا نسمع عن عناصر الحدس والخيال والثقافة البيئية والأغراض الميتافيزيقية والنواحي الشخصية وغيرها من العوامل التي تدخل ضمن وشائج الذهنية العلمية التي يستحيل التخلص منها. فمثلاً يُعتقد بأن نظرية ميكانيكا الكم - الكوانتم - للفيزياء الذرية كانت إلى حد بعيد وليدة الهزيمة العسكرية الألمانية في الحرب العالمية الأولى. ومما ذكره المؤرخ بول فورمان بهذا الصدد: ‹‹إني مقتنع بأن حركة الاستغناء عن السببية في الفيزياء، التي انبثقت فجأة وازدهرت بشكل مرفه في ألمانيا (بعد عام 1918)، كانت في المقام الأول جهداً بذله علماء فيزياء ألمان لتكييف محتوى علمهم مع قيم محيطهم الثقافي››[15].

ومن الناحية المبدئية أخذ الفكر العلمي يميل إلى الإعتراف بوجود التعقل والإستدلال من غير صرامة المنطق الصوري، بل وإعتبار أن من الممكن وجود هذا التعقل بكيفية صحيحة بلا منطق، كما هو صريح ما يقوله (جونسن ـ لايرد). وكذا ما صرح به (هلتون) من أنه ‹‹لا توجد طريقة مقعّدة، ولا نسق منطقي للإكتشاف، ولا تطور متصل بسيط. بل إن سيرورة الإكتشاف متنوعة بقدر ما تتنوع أمزجة العلماء››[16]. ومثل ذلك ما أكده العالم الفيزيائي (أرنست ماخ) من أن العملية الذهنية التي ينجز بها المرء مفاهيم جديدة ليست بسيطة، وإنما هي بالغة التعقيد. وهي عنده في المقام الأول ليست منطقية بالرغم من أنه يمكن إدخالها كروابط وسطى ومساعدة. فالمجهود الرئيسي الذي يؤدي إلى إكتشاف معرفة جديدة إنما يرجع إلى التجريد والخيال[17]. وهو أمر يؤكد مقالة كارل بوبر من أنه لا يوجد منطق للإكتشاف، بل هناك منطق للإختبار والتحقيق فحسب. فأغلب الفيزيائيين وفلاسفة الفيزياء وجدوا أن العملية الكاملة للإكتشاف العلمي هي عملية شديدة الغموض وعميقة الإبهام[18]. وعلى رأي فيلسوف العلم المعاصر (فيليب فرانك) أنه إذا درسنا بدقة كيف نعثر على مبادئ جديدة في العلم، يتضح لنا أن مبدءاً مثل قانون القصور الذاتي، أو مبدأ النسبية، لا يمكن اختراعهما بأي طريقة نظامية (إستدلالية أو إستقرائية)، ولكن يتم ذلك فقط بإستخدام القدرة الذاتية الاختراعية، وهي ما تسمى أيضاً الخيال وأحياناً الحدس، كالذي أكد عليه أينشتاين في إحدى محاضراته[19]. وكان الأخير قد قال مرة: ‹‹إن الخيال أهم من المعرفة››[20]. وعليه تمّ الإعتراف بما يطلق عليه التجارب الخيالية غير الحقيقية كالتي زاولها أينشتاين في أغلب تصوراته الإبتكارية.

وفي هذا الإطار عُرف أن هناك صنفين من العلماء يمارسون الحدس الاستكشافي بشيء من الإختلاف: فهناك الصنف المحترز الذي يعمل بالاحتياط ولا يقبل تفسير الظاهرة موضع البحث إلا بعد وفرة عدد مقبول من القرائن. كذلك هناك الصنف المغامر الذي يتسرع إلى وضع الفروض التفسيرية ولو بحد ضئيل من الشواهد المؤيدة مع غياب المكذب. بل لقد وُصفت الطريقة العلمية في منهجها الحدسي بأنها عادة ما تمارس مغالطة منطقية؛ كتلك التي مُثلت بالقياس التالي:

إن الكلب حيوان لبون.

إن هذا الذي أمامي حيوان لبون.

إذاً إن هذا الحيوان هو كلب.

فقد اُعتبر هذا التصوير المتضمن للمغالطة المنطقية، يمثل بدقة ما تتصف به النظريات العلمية[21]. فالمغالطات المنطقية التي تتجنبها الفلسفة تعتبر مفيدة للعلم تماماً. وكتمثيل على ذلك يعتمد العلم على التعميم القائل (كل غراب هو أسود) فيما تتنكره الفلسفة. وأحياناً يتخذ العلم مقياسين مختلفين للقياس المعرفي فيختار ما هو المناسب منهما، كما يتجلى ذلك في نظرية الأوتار الفائقة، فهي تعوّل على مقياسين متكافئين لقياس المسافة رغم تعاكسهما، فلا يوجد فرق من الناحية الفيزيائية بين نصف قطر دائرة R، وأخرى نصف قطرها1/R ، رغم أن المسافتين مختلفتان كلياً، وذلك ضمن شروط محددة، وبحسب هذين المقياسين فإن الكون يمكن أن يكون أكبر من طول بلانك (6110 مرة)، كما يمكن أن يكون أصغر من طول بلانك (10-61 مرة)، وكلاهما صحيح رغم التناقض، لكنه تناقض يحل بطريقة المعيار المزدوج أو التناظر، حيث يكون أقل طول ممكن لنصف القطر R هو طول بلانك، أي (10-33 سم)، لهذا لو تقلص الكون فسوف لا يتقلص أقل من هذا الطول[22]. وأيضاً فإنه لدى نظرية الكوانتم فإن قياس العلاقة الرياضية بين موضع الجسيم (م) وحركته (ح) يختلف كلياً عما نألفه من مقاييس، فحاصل ضرب (م × ح) لا يساوي لدى الكوانتم حاصل ضرب (ح × م)، وبالتالي فإن: (م × ح) - (ح × م) لا يساوي صفراً.

كما عُرف بأن الإبداع العلمي يصادف أشخاصاً ذوي مواهب رغم أنه قد ينقصهم التخصص، أو على الأقل تنقصهم الدراسات النظامية الأكاديمية. ومن ذلك أن الفيزيائي الإنجليزي المعروف ميتشل فاراداي (1791-1867) كان يعتمد على بصيرته الخاصة أكثر مما تعلمه من معارف نظرية، فهو قد تعلّم بنفسه شيئاً من العلم دون أن يتلقى تعليماً نظامياً، وكانت تنقصه الخبرة الرياضية، لكنه كان يجهد في ابتكار عدد من التجارب، فأصبح على أثر ذلك أبرز فيزيائي تجريبي خلال القرن التاسع عشر، فهو الذي مكّن ماكسويل فيما بعد من أن يستنتج معادلاته الرياضية لتوحيد الحقلين الكهربائي والمغناطيسي في كيان واحد[23]، والتي اعتمد عليها أينشتاين فيما بعد.

وأكثر من هذا ما كان عليه ديفيد رييال (المولود عام 1935)، إذ كان مهتماً بظاهرة الإضطراب في تدفق السوائل رغم أنه لم يملك خبرة في هذا المجال، ومع ذلك فقد اكتشف مع عالم الرياضيات الدنماركي (فلوريس تاكنز) عام 1971 ما يطلق عليه (الجاذب الغريب) الذي يحتل مكانة مرموقة في علم الشواش (chaos). ومما قاله بهذا الصدد: ‹‹إن غير المختصين يكتشفون طرقاً جديدة دوماً.. لا توجد نظرية طبيعية عميقة عن الإضطراب.. الأسئلة التي يمكن طرحها عن تلك الظاهرة لها طابع عمومي، ولذا فإنها في متناول غير الاختصاصيين››[24]. ومعلوم أن الإضطراب هو من الظواهر المعقدة جداً، حتى قيل: ان الإضطراب هو مقبرة النظريات[25].

كذلك حاول الرياضي الفرنسي ـ الامريكي (ماندلبروت) أن يمرر أفكاره وسط المختصين، فقد كان كتابه (هندسة الفراكتال للطبيعة) والذي نشرت نسخته الأولى في فرنسا عام 1975، يحتوي على مسائل تتوزع على حقول كثيرة، يجمعها هندسة واحدة هي هندسة التكرار المتغير في الطبيعة والذي نحَتَ له ماندلبروت مصطلح (الفراكتال) عام 1975. فكل تفصيل صغير يحتوي على الكون كله، رغم أن له كونه الخاص المختلف، مما يعطي مزيجاً من التنوع والكلي في آن واحد[26]. وقد ساد اجماع على قوة حدس ماندلبروت على التنبه إلى الإتجاه الذي تتقدم فيه علوم لم يدرسها جيداً، بدءاً من علم الزلازل ووصولاً إلى علم وظائف الأعضاء. لذا ضاق حتى معجبوه ذرعاً بذلك المزيج من التنوع والحدس الذَين يعطيانه الحق في الزعم بأنه سبق الجميع إلى إكتشاف أفكارهم. ولكونه غير مختص فقد لقي فيما بعد بعض الأسئلة الحرجة لا سيما من علماء الرياضيات الذين لم يعتبروه واحداً منهم، فمن بين هذه الأسئلة: ‹‹من أنتَ لتقول هذا الشيء بالنسبة للعلوم التي نعمل نحن في مجالها؟››. كذلك يأتي الرفض عبر السؤال عن العلاقة بين ما يطرحه ماندلبروت وبين العلوم التي ينتقدها. كما يسأل البعض عن علاقة الرياضيات التي يدعو إليها ماندلبروت بالرياضيات المقرّة أكاديمياً، ولماذا لم يتوصل علماء آخرون إليها؟. ولقد أدى ميل هذا الرجل للإهتمام بتاريخ علم الرياضيات إلى عثوره على الكثير من الأفكار القيمة القديمة وشبه المنسية، مما أثار عليه اعتراضاً من نوع: ‹‹لماذا لم يتنبه المتخصصون في تلك الفروع من الرياضيات بتلك النظريات؛ ما دامت أمام عيونهم معظم الوقت؟››[27]. ومع أن ماندلبروت نفسه قد زعم بأنه لم يتعلم في تعليمه المدرسي الألف باء ولم يُلقّن أصول الحساب، لكن رغم كل ذلك فإن هذا الرجل أصبح بنظر توماس كوين صاحب كتاب (بنية الثورات العلمية) واحداً من ستة عشر رجلاً قاموا بصنع تاريخ العلم عبر ثوراتهم العلمية المشهودة[28].

ومثال آخر يأتينا هذه المرة من رجل بغّال استطاع ان يبلور بالتعاون مع العالم المشهور (إدوين هابل) نظرية هزت العالم في القرن العشرين وما زلت تعد من أعظم المسلمات الفيزيائية حتى يومنا هذا، وهي نظرية الانفجار العظيم[29]. تبدأ القصة بأنه في السنوات الأولى من القرن العشرين كان هناك أضخم تلسكوب في العالم يُبنى على جبل ويلسون في لوس انجلس، وكان يجب نقل الاجزاء الكبيرة لهذا التلسكوب إلى قمة الجبل، وقد أُسندت المهمة إلى فرق البِغال. وهنا برز البغّال الشاب (ميلتون هوماسون) وهو يقود رتل البِغال في نقل المعدات المطلوبة، إلى جانب كونه بواباً وماسح أرض المرصد. ورغم أنه لم يتجاوز الصف الثامن في دراسته الرسمية لكنه كان ذكياً وفضولياً مما جعله يستقصي كل شيء عن المعدات التي ينقلها إلى الجبل. وفي إحدى الأُمسيات مرِضَ راصد التلسكوب الليلي وطلب إلى هوماسون ان يحل مكانه، فأظهر الأخير مهارة واعتناءاً بالأدوات سرعان ما جعلاه عامل تلسكوب دائم ومساعد راصد. وبعد الحرب العالمية الأولى جاء العالم المعروف (هابل) إلى مرصد جبل ويلسون فتعرف على هوماسون وجرت بينهما صداقة حميمة وعملا سوية رغم الفارق العلمي بين الرجلين، وسرعان ما تبين بأن هوماسون كان أقدر في الحصول على أطياف عالية النوعية للمجرات البعيدة من أي فلكي محترف في العالم كله، وأصبح عضواً أساسياً في الهيئة العاملة في المرصد، وتعلم الكثير من الأسس العلمية لعمله. والنتيجة هي أن هذين الرجلين قد دهشا حينما وجدا ان أطياف المجرات البعيدة تتغير نحو الأحمر، وأغرب من ذلك أن المجرات كلما كانت أبعد ازداد التغير في خطوطها الطيفية نحو الأحمر. وأصبح واضحاً بالتدريج ان هابل وهوماسون قد اكتشفا ما يعرف بنظرية الإنفجار العظيم[30]. وهكذا أصبح البغّال عالماً كبيراً رغم عدم تخصصه.

هذه جملة من الشواهد التي تدل على أن أساليب العلم والإكتشاف لا تتوقف على التمنطق ولا الدليل الصناعي ولا التخصص، وهي محفوفة بالتأثيرات الشخصية والنفعية والبيئية.

***

وإذا انتقلنا إلى علم الفقه نجد أن المفكر محمد باقر الصدر يرجح أن تكون فتاوى الفقهاء حول موارد السلطنة (الناس مسلطون على أموالهم) قد جاءت بحسب ما تأثر به الفقهاء من إرتكازاتهم العقلائية أكثر مما تأثروا به من الصناعة الإستدلالية[31]. وعلى رأيه أن هناك حالة نفسية عند الكثير من الفقهاء تمنعهم من إعمال الصنعة في مقام استنباط الحكم الشرعي لكثير من الموارد الفقهية، الأمر الذي دعاهم إلى التفتيش عن أساليب إستدلالية مستحدثة لتلائم تلك الحالة النفسية؛ كدعوى حجية الشهرة والإجماع المنقول وانجبار الخبر ووهنه تبعاً لعمل الأصحاب الأسلاف وإعراضهم.. ثم أن من القواعد التي اصطنعت لإيفاء تلك الحالة النفسية؛ مسألة الإرتكاز العقلائي في السيرة، إذ كلما بطلت تلك الدعاوى في أذهان الفقهاء فإنهم يعوضون الأمر في توسعتهم لدليل الإرتكاز العقلائي كي يفتوا بما يتفق والحالة النفسية التي هم عليها، بعيداً عن المألوف من الصنعة الفقهية المتوارثة[32]. ومن وجهة نظر المفكر الصدر ان الإطمئنان الناشئ عن هذه الحالة مقبول، كما ان حجية الإعتقاد لا تتوقف على الدليل؛ طالما أن العلم ذاته غير متوقف على البرهان والدليل، فهو قد يحدث بعلة تؤثر في النفس تكويناً بلا برهان[33].

مع ذلك فبإعتقاد تلميذه (كاظم الحائري) أن هذا الكلام إنما صدر عن السيد الصدر قبل استكشافه لمنطق الإحتمالات وما يؤول إليه الحساب الإحتمالي في المعرفة الموضوعية وإمكاناتها عند البحث والتفتيش العلمي، وبالتالي لا يخلو علم موضوعي في غير الضروريات من ذلك[34].

إلا أن ما يشكل عليه هو أن من القضايا ما تتحدد بالوجدان وإن لم يتمكن الإنسان من تقديم الدليل عليها، وبالتالي يصح له الإعتماد على قناعاته الوجدانية الكاشفة سواء إمتلك لذلك دليلاً أو لم يمتلك، وهو موضع إشتراك المختص وغيره. ومهما يكن فإن السيد الصدر في كتابه (دروس في علم الأصول) - وهو من الكتب المتأخرة - أقر بحجية القطع سواء كان القطع موضوعياً يستند إلى البديهة أو الدليل، أو كان ذاتياً لا يستند إلى ذلك مثلما يكثر لدى عامة الناس[35]. وبهذا تكون الحجية عند الصدر ليست رهينة الدليل والبداهة فقط.

وما يجب أن يلاحظ بهذا الصدد هو أن هناك نقاط ضعف منهجية قد تتسرب إلى المختص فتجعل نتائجه أقل قبولاً من نتائج الوجدانيات العقلائية لغير المختصين. ومن ذلك ما سنذكره من هذين الإعتبارين:

قد يبتعد المختص عن المطلوب لكثرة إيغاله بقوالب الإستدلال، فكلما طال الإستدلال كلما زاد إحتمال الوقوع في الخطأ.

قد يفضي المنهج المتبع في التفكير إلى أن تكون نتائجه الظنية هي على خلاف ما يصدّق به الوجدان. مما قد يجعل الاستسلام إلى قرار هذا الأخير أقرب وأفضل تصديقاً من الإعتماد على الدليل الصناعي مهما كان دقيقاً ومنضبطاً، فالدقة والضبط ليسا كافيين في حد ذاتهما إذا ما أخذنا المنهج المعتمد بنظر الإعتبار. فالقياس المنطقي - مثلاً - هو صحيح ودقيق، لكنه لا يكشف في حد ذاته عن الواقع الموضوعي. فكيف إذا ما أعطى الدليل الصناعي نتائج هي من حيث الوجدان واضحة البطلان[36]؟!

ولا يقتصر تطبيق ما ذكرناه على الدراسات الإنسانية، وإنما يمتد أحياناً إلى العلوم الطبيعية. فهناك قضايا منهجية تتنافى والمشاهدة الوجدانية، مثلما هو الموقف من مبدأ القصد والغرضية الذي لا تقره هذه العلوم رغم أن الشواهد عليه لا تقبل العد والإحصاء. كذلك هناك قضايا مضمونية لا زال العلم يتقبلها مع أن بعضها واضح البطلان، والبعض الآخر فيه الكثير من الغموض والشكوك. ومن ذلك التفسير المادي لنشأة الحياة وتطورها إعتماداً على المصادفات العشوائية، وكذلك التسليم بنظرية التطور رغم أن الأدلة عليها ليست كافية لكثرة ما ينتابها من شكوك.

فهنا نجد أن الحجة الوجدانية لغير المختص هي أقوى إعتباراً من حجة أولئك المختصين الذين رضوا لأنفسهم أن يتبعوا النهج التعسفي من التفكير المادي الصرف.

هكذا ننتهي إلى أنه لا فرق في القضية الوجدانية بين أن تكون ملبّسة بالدليل العلمي أو عارية عنه، وبالتالي فإن صحة التصديق وقوته لا تتوقفان بالضرورة على الصياغة المنطقية للدليل. كذلك لا ضرورة تدعو لترجيح الدليل العلمي على ما يخالفه من القضية الوجدانية. فقد تكون هذه القضية أصح مما يقدم من تلك الملبّسة بالدليل الصناعي ما لم يكتسب هذا الدليل صفة القوة الترجيحية من التصديق. ويظل التصديق في جميع الأحوال يعبّر عن حالة وجدانية نابعة عن البصيرة أو العقل الوجداني، وإلا أدى الأمر إلى تسلسل الأدلة إلى ما لا نهاية له.

 

الغطاء الشرعي

إذا كنا نعد الدين الإسلامي خلواً من السلطة الكهنوتية وأن غرض التخصص في قضاياه المعرفية هو تبليغ العلم الصحيح أو ما هو أقرب إلى الصحة؛ فإن رجوع غير المختص إلى المختص يفترض أمرين هامين: أحدهما جهل غير المختص بالقضية التي يراد لها التبليغ. والثاني عدم الشك بصحة القضية التي يعرضها المختص. فلو أن هذين الأمرين متحققان للزم أن يكون الرجوع إلى المختص واجباً. أما إذا لم يتحقق أحدهما أو كلاهما فلا جدوى من الرجوع إليه.

وهذا يعني أن فهم القضايا الإسلامية والعلم بها لا ينحصر في دائرة المختصين، مثلما يلاحظ من التلقائية التي كانت تسود بين الصحابة في أخذهم للعلم الشرعي من دون الرجوع إلى وسائط منهم ما لم يكونوا على جهل أو شك فيما يواجهونه من قضايا. فالمهم هو الفهم المقرب للصحة سواء بُني الأمر على التخصص وممارسة الأدلة الصناعية أو على غيره مما يجري بصورة تلقائية. وقد جاء عن النبي (ص) قوله: ‹‹إستفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك››[37]، وفي رواية أخرى قوله: ‹‹إستفت قلبك وإستفت نفسك، البِرّ ما إطمأنت إليه النفس وإطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك››[38].

وهنا نواجه عدداً من القضايا كالتالي:

هناك من القضايا الإسلامية ما يستسلم إليها الوجدان من دون أن تحتاج إلى التخصص عادة، لوضوحها ولكونها تشكل روح الدين ومقاصده. فمن حيث إنها قطعية تعد حجة لا تحتاج إلى جعل شرعي كما يقول الأصوليون.

إن الفهم المقرب للصحة لا يتوقف بالضرورة على التخصص. ولا على من تتحقق فيه الأعلمية، فملاك الحكم هو الرجحان والأقربية لا التخصص والأعلمية من حيث ذاتهما. ومن حيث الأعلمية يلاحظ أن حكم الأعلم ليس بحجة في حق المجتهد الأقل منه علماً، فالأعلمية شيء والأخذ بالأقربية شيء آخر، وأن المجتهد المفضول إنما يعول على ما يراه أقرب إلى حقيقة الحكم ولا يعول مطلقاً على ما يقوله الأعلم لعلمه بأن الأقربية مقدمة على الأعلمية. وأن الأقربية إنما تتحقق بحسب الرؤية التي يُرى فيها الراجح من الأدلة، وهو أمر لا يتوقف تحقيقه على المختص، إنما يمكن لغيره ممن يتصف بخاصية التمييز بين الأدلة، ومن له قوة البصيرة أو الوجدان العقلي، أن تتحقق لديه الأقربية والترجيح حتى لو كان ذلك على خلاف ما يراه المختص. بل إن التخصص قد يفضي أحياناً إلى الإبتعاد عن ذلك الفهم المقرب. فأهم ما تتوقف عليه الأقربية هو طبيعة المنهج المتبع، بدلالة أن المختصين كثيراً ما تختلف رؤاهم تبعاً لإختلاف مناهجهم. بل على الرغم من وجود التخصص في عدد من العلوم التقليدية يلاحظ أنها أصبحت اليوم في عداد العلوم غير المنتجة؛ لسلوكها النهج المختل في البحث وفهم القضايا، وينطبق عليها ما كان يقوله عرفاؤنا من أن العلم النظري (التخصصي) قد يكون حجاباً مانعاً للعلم الصادق والكشف عن الحقائق.

إن إرتكاز الفهم المقرب على النهج السليم يجعل لغير المختص من ذوي التمييز والنظر إمكانية أن يدلو بدلوه عبر إتّباعه هذا النهج، طالما لا يتوقف الأمر على التخصص. لكن يظل أن التخصص مع ضميمة المنهج الصحيح يجعل الأقربية أعظم وأقوى. مع هذا فالمشكلة تنحصر في المنهج المتبع، إذ إن المختصين التقليديين في الشؤون الإسلامية ما زالوا يتبعون ذات المناهج رغم ما فيها من داء وضعف؛ تبعاً لما تنتجه من رؤى تتصادم أحياناً مع المقاصد، وأخرى مع الواقع والوجدان.

أخيراً إن ما يميز المنهج السليم عن غيره يعتمد - بالدرجة الرئيسية - على ما يُقدّم من رؤى يراعى فيها حالة التوافق مع مبادئ الإسلام وكلياته، وكذا روح النصوص ومقاصدها، وأيضاً وجدان العقل والواقع.

هكذا رغم أهمية التخصص، إلا أن النتائج المترتبة عليه قد لا تكون موضع قبول دائم. فما يكون حجة على المختص قد لا يكون حجة على غيره، وقد يكون للغير معرفة أدق وأوفى مما لدى المختص عندما يكون منهج الأخير ضعيفاً أو ناقصاً لا يراعي الإعتبارات الواقعية أو الوجدانية.

 

الوجدان والضابط الموضوعي

لا شك أن بإمكان النزعة غير الموضوعية (الذاتية) أن تتسرب إلى الذهنية البشرية وبأشكال متعددة، ولا فرق في ذلك بين المختص وغيره من أصحاب التمييز والنظر. ولا يقال إن هذه النزعة تقل لدى المختص مقارنة بغيره، بل قد يحصل العكس أحياناً، وذلك تأثراً بطبيعة مجال البحث وحيويته. فمثلاً في قضايا العقائد وما يتأسس عليها كثيراً ما تصاب الذهنية العلمية بداء النزعة غير الموضوعية، فيشطح عندها الخيال وتتأسس عليها الأوهام مما لا نجده لدى الذهنية العادية العقلائية غير المختصة. ومن ذلك أن علم الكلام التقليدي قد أُصيب بداء نزعة الآيديولوجيا المذهبية، فأصبحت المذهبية كإنتماء إجتماعي هي أساس تكوين العلم لا العكس، وأصبح العمل المعرفي مساقاً بآيديولوجيا المذهب عوض أن يساق بابستمولوجيا الحقيقة، ومن ثم أُغلق باب البحث والتفكير وعلا مكانه باب التضليل والتكفير. فالتقليد عوض الإجتهاد المحض هو السائد على البحث والتفكير لدى المختصين في العقائد[39]. حتى أن الغزالي أخذ يحلل هذه الظاهرة التي شاعت بين أوساط العلماء المختصين بحسب الحيل النفسية فذكر يقول: ‹‹وأما إتّباع العقل الصرف فلا يقوى عليه إلا أولياء الله تعالى الذين أراهم الله الحق حقاً وقواهم على إتباعه، وإن أردت أن تجرب هذا في الإعتقادات فأورد على فهم العامي المعتزلي مسألة معقولة جلية فيسارع إلى قبولها، فلو قلت أنه مذهب الأشعري لنفر وإمتنع عن القبول وإنقلب مكذباً بعين ما صدّق به مهما كان سيء الظن بالأشعري، إذ كان قبح ذلك في نفسه منذ الصبا، وكذلك تقرر أمراً معقولاً عند العامي الأشعري ثم تقول له إن هذا قول المعتزلي فينفر عن قبوله بعد التصديق ويعود إلى التكذيب، ولست أقول هذا طبع العوام بل طبع أكثر من رأيته من المتوسمين بإسم العلم، فإنهم لم يفارقوا العوام في أصل التقليد، بل أضافوا إلى تقليد المذهب تقليد الدليل، فهم في نظرهم لا يطلبون الحق بل يطلبون طريق الحيلة في نصرة ما إعتقدوه حقاً بالسماع والتقليد، فإن صادفوا في نظرهم ما يؤكد عقائدهم قالوا قد ظفرنا بالدليل، وإن ظهر لهم ما يضعف مذهبهم قالوا قد عرضت لنا شبهة، فيضعون الإعتقاد المتلقف بالتقليد أصلاً وينبزون بالشبهة كل ما يخالفه، وبالدليل كل ما يوافقه، وإنما الحق ضده، وهو أن لا يعتقد شيئاً أصلاً وينظر إلى الدليل ويسمي مقتضاه حقاً ونقيضه باطلاً، وكل ذلك منشؤه الإستحسان والإستقباح بتقديم الإلفة والتخلق بأخلاق منذ الصبا››[40].

وفي القبال لا يقال إن الإعتماد على وجدان غير المختص هو دعوى للهوى. فالإنسان سواء كان مختصاً أو غيره كثيراً ما يتعرض إلى مغريات الهوى. بل ما يواجهه المختص من مغريات يفوق غيره عادة. وأصبح من البيّن أنه لا يخلو زمان إلا وفيه عدد غير قليل من الفقهاء يصطنعون أدلة التشريع تحت هيمنة سلطان الهوى، وعلى رأس ذلك هوى السياسة. ولقد كان الغزالي يكثر من ذم الفقهاء ويفسر علة الإهتمام بالفقه بسبب الجاه والسياسة[41].

مع ذلك فالقيد الذي نضعه كمسلك للوقاية أو التخفيف من الهوى والنزعة غير الموضوعية التي قد تنشأ لدى غير المختص؛ هو التعويل ما أمكن على الوجدان العقلائي أو النوعي، باعتباره ذا طبيعة عامة وكلية. فلكي تكتسب القضية الوجدانية القبول الموضوعي وتكون محل إعتبار لا بد من أن يُحرز فيها الموافقة العقلائية أو الحس المشترك العام (common sense)، شبيه بما يطلق عليه الإقتصادي آدم سميث بالمشاهد المحايد، سواء من حيث التصور في المرتكز الذهني، أو من حيث الإجراء الإستخباري إذا ما استدعى الأمر ذلك، ويمكن للأخير أن يتم بطرق عديدة يُضمن فيها سلامة الإجراء وربما عدم التحيز، مثلما تتكفل بذلك مناهج البحث في علم الإجتماع.

وهذا يعني أن الرؤية الكشفية العرفانية لما كانت فردية لا تكتسي صفة الشمول والعموم؛ فهي على هذا ليست محل قبول لعدم إحرازها الشرط الذي ذكرناه من موافقة الوجدان العقلائي أو الحس المشترك العام.


[1] كما يلاحظ ذلك في مثل قوله تعالى: ((أفلا ينظرون إلى الابل كيف خُلقت والى السماء كيف رُفعت والى الجبال كيف نُصبت وإلى الأرض كيف سُطحت)) الغاشية/17ـ 20. وقوله: ((أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج، والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج، تبصرة وذكرى لكل عبد منيب)) ق/ 6ـ 8... الخ.

[2] إبن خلدون: المقدمة، طبعة المكتبة التجارية الكبرى، ص535ـ 536.

[3] يقول دوركايم في كتابه المشار اليه: ‹‹لم يكتفِ الدين باغناء فكر الإنسان المكوَّن سابقاً له، بعدد من الأفكار، بل عمل على تشكيل هذا الفكر. إن قسماً مهماً من معارف الإنسان حتى والشكل الذي تبلورت فيه هذه المعارف يعود فضله إلى الدين. تجدر الإشارة إلى أن عدداً من المفاهيم الأساسية التي تهيمن على فكرنا تغرس جذورها في الدين: مفهوم الزمان والمكان والنوع والعدد والسبب والجوهر والشخصية، فهي الاطر المتينة للفكر›› ( فردريك معتوق: علم إجتماع المعرفة في الغرب، ضمن الموسوعة الفلسفية العربية، رئيس التحرير د. معن زيادة، معهد الانماء العربي، الطبعة الأولى، 1988م، المجلد الثاني، ص888ـ 889).

[4] تيري إيجلتون: أوهام ما بعد الحداثة، ترجمة منى سلام، مراجعة سمير سرحان، نشر أكاديمية الفنون، مصر، ص29، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com.

[5] محمد باقر الصدر: فلسفتنا، دار التعارف، بيروت، ص 304ـ305.

[6] محمد باقر الصدر: الأسس المنطقية للإستقراء، تعليقات يحيى محمد، مؤسسة العارف، بيروت، 2008م.

[7] لاحظ كتابنا: الإستقراء والمنطق الذاتي، دار أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية، 2015م. والأسس المنطقية للإستقراء/ بحث وتعليق، مطبعة نمونه، قم، الطبعة الأولى، 1405هـ ـ 1985م، ص243 وما بعدها.

[8] الغزالي: المنقذ من الضلال، مطبعة الجامعة السورية، الطبعة الخامسة، 1956م.

[9] صدر المتألهين الشيرازي: الحكمة المتعالية في الاسفار العقلية الأربعة، دار احياء التراث العربي، الطبعة الثالثة، 1981م، ج2، ص144ـ167.

[10] إبن رشد: تهافت التهافت، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ص56ـ57.

[11] من ذلك أنه قد استبدل التصور البطليمي بالتصور الكوبرنيكي للنظام الشمسي بسبب بساطة هذا الأخير مقارنة مع الأول، وليس بحسب الصواب والخطأ. إذ اختزل كوبرنيكوس الدوائر الفلكية الصغيرة للنظام الشمسي من (80) دائرة كما افترضها بطليموس إلى (34) دائرة فقط، أي أنه تخلص من (46) دائرة صغيرة (لاحظ: ولترستيس: الدين والعقل الحديث، ترجمة وتعليق وتقديم إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1998م، ص76 وما بعدها). كما لاحظ: Hemple, Philosophy of Natural Science, 1996, current printing 1987, USA, p.41.

[12] رولان أومنيس: فلسفة الكوانتم، ترجمة أحمد فؤاد باشا ويمنى طريف الخولي، سلسلة عالم المعرفة، عدد 350، الكويت، 2008م، ص46ـ47، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com.

[13] مقدمة إبن خلدون، طبعة دار الهلال، بيروت، 1986م، ص336ـ337.

[14] محمد رشيد رضا: المنار في تفسير القرآن، دار الفكر، الطبعة الثانية، ج1، ص229ـ 230.

[15] ديفيد لندلي: مبدأ الريبة، ترجمة نجيب الحصادي، دار العين للنشر، القاهرة، 1430هـ ـ 2009م، ص223، عن مكتبة الموقع الالكتروني: www.4shared.com

[16] بنّاصر البُعزاتي: الإستدلال والبناء/ بحث في خصائص العقلية العلمية، دار الامان - المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1999م، ص258.

[17] فيليب فرانك: فلسفة العلم، ترجمة علي علي ناصف، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 1983م، ص386.

[18] Maxwell, N. The Comprehensibility of the Universe, Clarendon Press, Oxford, 1998, p. 29.

[19] فلسفة العلم، ص76.

[20] والتر إيزاكسون: أينشتاين حياته وعالمه، ترجمة هاشم أحمد محمد، نشر دار كلمة وكلمات عربية، الطبعة الثالثة، 2011م، ص29.

[21] انظر:John Hospers, An Introduction to Philosophical Analysis. 3rd ed. London. p.175

[22] الكون الأنيق، ص278.

[23] لويد موتز وجيفرسون هين ويفر: قصة الفيزياء، ترجمة طاهر تربدار ووائل الأتاسي، دار طلاس، دمشق، الطبعة الثانية، 1999م، ص149، عن الموقع الإلكتروني: www.4shared.com

[24] جايمس غليك: نظرية الفوضى، ترجمة أحمد مغربي، دار الساقي، الطبعة الأولى، 2008م، ص160، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com.

[25] دافيد رويل: المصادفة والشواش، ترجمة طاهر شاهين وديمة شاهين، منشورات وزارة الثقافة، سوريا، ص71، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com.

[26] نظرية الفوضى، ص185 و268.

[27] المصدر السابق، ص137ـ138.

[28] نفس المصدر، ص136.

[29] سبق أن نشرنا عدداً من المقالات حول نقد نظرية الانفجار العظيم في موقع فلسفة العلم والفهم، ثم ضمنّاها في كتاب (انكماش الكون).

[30] كارل ساغان: الكون، ترجمة نافع أيوب لبّس، مراجعة محمد كامل عارف، سلسلة عالم المعرفة (178)، 1993م، ص211ـ212، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com.

[31] لاحظ حول ذلك: كمال الحيدري: لا ضرر ولا ضرار، تقرير أبحاث السيد محمد باقرالصدر، دار الصادقين، قم، الطبعة الأولى، ص386.

[32] كاظم الحائري: مباحث الأصول، تقرير أبحاث السيد محمد باقر الصدر، مكتب الاعلام الإسلامي، قم، 1408هـ، القسم الثاني، ج2، ص131.

[33] فعلى رأي السيد الصدر أن نزوع العلماء نحو البحث عن الدليل ربما يكون من نتائج المنطق الأرسطي القائل بأن الشيء إما أن يكون ضرورياً أو مكتسباً ينتهي إلى الضروري، وكان لهذا المنطق أثره على مختلف العلوم بما فيها علم الفقه، لكن العلم ليس ناشئاً على الدوام تبعاً للبرهان، بل قد ينشأ عن علة تؤثر في النفس تكويناً وإن لم يكن هناك برهان ولا دليل. فالعلم هو أمر حادث قائم بممكن حادث تسيطر عليه قوانين العلة والمعلول، فحيث توجد علة العلم فإن هذا الأخير يوجد حتماً؛ سواء تعرفنا على هذه العلة أو لم نتعرف (المصدر السابق، ص134). ولا شك أن فصل العلم عن الإحكامات والمباني المنطقية، كالذي يذهب إليه المفكر الصدر، يجد له صدى كبيراً لدى الكثير من فلاسفة العلم المعاصرين (يلاحظ بهذا الصدد كتاب: الإستدلال والبناء/ بحث في خصائص العقلية العلمية).

[34] المصدر السابق، هامش ص134.

[35] محمد باقر الصدر: دروس في علم الأصول، ج2 (الحلقة الثالثة)، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، الطبعة الرابعة، 1417هـ، ص134.

[36] من الأمثلة على هذا النوع من النتائج الواضحة البطلان ما جاء في الصنعة الفقهية لدى عدد من الفقهاء، ومنهم بعض مشايخ النجفي صاحب (جواهر الكلام)، فهناك فتوى ترى أنه يجب على المحبوس في المكان المغصوب الصلاة على الكيفية التي كان عليها أول الدخول إلى هذا المكان؛ فإن كان قائماً فقائم، وإن كان جالساً فجالس، بل لا يجوز له الانتقال إلى حالة أخرى في غير الصلاة أيضاً، وذلك بإعتبار أن أي حركة إنما هي تصرف في مال الغير بغير اذنه، ومن هؤلاء من يقول أنه ليس له أن يحرك أجفان عيونه أكثر مما يحتاج إليه، ولا يديه ولا سائر أعضائه، وأن الحاجة تقدر بما تتوقف عليه حياته ونحوها. وهي فتوى ادعى أصحابها أن الفقهاء عليها. لكن النجفي إعتبرها من الخرافات غير اللائقة، خاصة وأنها تفضي إلى ظلم المحبوس بأعظم من ظلم الظالم الذي الجأه إلى هذا الحبس المغصوب (النجفي: جواهر الكلام، ج3، ص416ـ417). وواضح أن الإستدلال في الصنعة الفقهية هنا يتصادم كلياً مع ما عليه حكم الوجدان العقلي ومقاصد الشرع.وهناك أمثلة أخرى على هذا النحو ذكرناها ضمن حلقة النظام الواقعي من سلسلة المنهج في فهم الاسلام (5)، مؤسسة العارف، بيروت، 2019م.

[37] إبن القيم الجوزية: أعلام الموقعين عن رب العالمين، راجعه وقدم له وعلق عليه طه عبد الرؤوف، دار الجيل، بيروت، 1973م، ج4، ص254.

[38] الشاطبي: الاعتصام، دار الكتب الخديوية، مصر، تقديم محمد رشيد رضا، الطبعة الأولى، 1913م، ج2، ص342ـ343. والحر العاملي: وسائل الشيعة، ج18، أبواب صفات القاضي، ص121.

[39] للتفصيل انظر: يحيى محمد: علم الطريقة، ضمن سلسلة المنهج في فهم الإسلام (1)، مؤسسة العارف، بيروت، 2016م، خاصة القسم الأول.

[40] الغزالي: الاقتصاد في الإعتقاد، دار الأمانة، بيروت، 1388هـ ـ1969م، ص173.

[41] الغزالي: احياء علوم الدين، دار احياء التراث العربي، ج1، ص42 و 68ـ 69.

comments powered by Disqus