يحيى محمد
مثلما جرى الصدام الذاتي بين إتجاهي الدائرة العقلية، فهناك صدام آخر حدث بين هذه الدائرة والدائرة البيانية، ويتحدد هذه المرة بنزاع الإعتبارات المتعلقة بفهم الخطاب، وهو النزاع الحاصل بين الإعتبارات العارضة والذاتية. إذ يعتمد الفهم لدى الإعتبارات العقلية على ما للعقل من مضامين قبلية، في حين أنه يعتمد لدى الإعتبارات البيانية على الظهور اللفظي للمسائل الخاصة بالخطاب الديني. ومعلوم أن النزاع بين هذين النوعين من الإعتبارات قد ظهر بعد التنظير الذي أسست له الدائرة العقلية حول علاقة العقل بالخطاب، ليس في الساحة السنية فحسب، بل والشيعية أيضاً، واتخذ أشكالاً شتى كان أعمقها ما ظهر لدى مدرسة إبن تيمية (المتوفى سنة 728هـ) كردّ فعل على التنظير المشار إليه.
ويلاحظ أن هناك نوعين من الصراع للبيان ضد العقل، أحدهما ينكر مصداقية العقل وممارساته، كالذي ينحو إليه محمد أمين الإسترابادي (المتوفى سنة 1033هـ) في الساحة الشيعية. في حين لا ينكر الآخر هذه المصداقية، بل يحددها بما يوافق البيان، كالذي ذهب إليه إبن تيمية في عدد من كتبه، أهمها (درء تعارض العقل والنقل)، إذ كشف فيه عن انتفاء المعارض العقلي للخطاب الديني، كردّ فعل على ادعاء العقليين بوجود هذا المعارض الذي استندوا إليه لتبرير الممارسات التأويلية التي حاربها أصحاب البيان بقوة.
ويتحدد موقف الدائرة البيانية من نظيرتها العقلية أساساً؛ لا بما قدّمته الأخيرة من إعتبارات التأسيس القبلي للنظر، ولا إعتباراتها حول تأسيس الخطاب من الخارج، بل بما لها من إعتبارات للفهم وتأسيس الخطاب من الداخل. فأهم ما فرض على الدائرة البيانية مواجهته هو المنهج العقلي لفهم الخطاب، إذ فيه يتحكم العقل بتحديد مضامين الأخير دون العكس.
فالصراع بين الدائرتين يدور حول العلاقة التحكمية بين العقل ونص الخطاب، فمَن يحكم مَن: العقل أم النص؟ فإذا كانت الدائرة العقلية ترى العقل حاكماً على الآخر لذرائع عدة؛ منها كون لغة النص مجازية، وأن المفاهيم المستخلصة من الخطاب ظنية، خلافاً لما يتصف به العقل من الإحكام والقطع، ولهذا يعد المصدر الوحيد لتأسيس الخطاب من الخارج، وبالتالي كان لا بد من قبوله للتأسيس الداخلي والعمل بممارسات التأويل.. فإذا كانت هذه هي ذرائع الدائرة العقلية لترجيح الدلالة العقلية على اللفظية، فإن الحال مع الدائرة البيانية هو العكس، بترجيحها النص على العقل، وجعل ما تذرّعت به الدائرة العقلية مردوداً عليها.
وبعبارة أدق، إن أصل المشكل في النزاع بين الدائرتين يعود إلى تحديد نوع المرجعية المعتمدة لفهم الخطاب وتأسيسه من الداخل؛ إن كان يتمثل بالعقل أو البيان؟ فلو تمثلت المرجعية بالعقل لكان من اللازم عرض الدليل اللفظي على الدليل العقلي ليُعرف ما إذا كان هناك معارض عقلي محتمل أم لا؟ أما لو تمثلت المرجعية بالبيان فسوف لا يحتاج إلى أي عرض من ذلك النوع، بل العكس هو الصحيح، حيث يُعرض الدليل العقلي على اللفظي ليُعرف ما سيُقبل أم لا؟
وينعكس هذا التضاد على الخلاف المتعلق بمسألة تأسيس الخطاب من الخارج، فأهم الحجج المطروحة لدى الدائرة العقلية لتبرير حاكمية العقل وترجيحه على النص، هي أن الأخير يكتسب حجيته من العقل ذاته، إذ لولا تأسيسه للخطاب من الخارج لما كان للنص حجة. فهذه هي الذريعة الأساسية التي يوظفها العقليون لتبرير مرجعية العقل وحاكميته للنص ضمن القانون الكلي للتأويل؛ والذي يتضمن توقف الدليل اللفظي على عدم وجود المعارض العقلي. فالذي يثق بالممارسة العقلية في التأسيس الخارجي؛ يتحتم عليه أن يثق بها في التأسيس الداخلي وفهم الخطاب. وقد أثارت هذه القضية العديد من الردود من قبل أتباع الدائرة البيانية، كتلك التي أدلى بها إبن تيمية.
إذاً فقد جاء التنظير البياني لإبن تيمية كرد فعل صارخ على التضخّم الذي شهدته الشحنة العقلية لدى أصحابها، سيما فيما يخص القانون الكلي للتأويل كما أعلنه الفخر الرازي. وهو ما حدا بابن تيمية إلى أن يؤلف كتابه الكبير (درء تعارض العقل والنقل) ليرد فيه على قانون الرازي بأربع وأربعين وجهاً، ناقضاً الزعم القائل بتقديم الأدلة العقلية مطلقاً بما يفضي إلى التأويل عند المعارضة، بل وكاشفاً عن إنتفاء المعارض العقلي القطعي[1]. فهدف الكتاب بالتحديد هو «بيان إنتفاء المعارض العقلي - القطعي - وإبطال قول من زعم تقديم الأدلة العقلية مطلقاً»[2].
والى هذا الإتجاه سار إبن القيم الجوزية الذي يعد أبرز تلامذة إبن تيمية، كما في كتابه (الصواعق المرسلة). فقد سخّر كتابه للرد على قانون الفخر الرازي، فنقد مقالة تقديم العقل على النص في ما لو تعارضا، وذلك بأكثر من خمسين وجهاً[3]. كما اعترض على مبدأ كون «الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين» على ما صرح به الفخر الرازي في قانونه الكلي، وذلك بسبع وخمسين وجهاً[4].
ويدور التنظير البياني لدى إبن تيمية حول تجاوز الخلاف بين العقل والبيان كحدين مطلقين، وذلك بتحويله إلى خلاف قائم على القيمة المعرفية كمعطى (منطقي)، رغم أنه قام بالردّ على طريقة المناطقة وسخّف آراءهم ومقولاتهم، كما في كتابه (الرد على المنطقيين)، فهو لا يرفض ما يتأسس عليه المنطق من مسلمات عقلية صورية عامة، والتي منها أخذ إعتبار تمايز القيمة بين القطع والظن، أياً كان موضوع هذا الظن أو ذلك القطع. فهو لا يرجح الدلالة النصية على العقلية بنحو مطلق، كما لا يرجح العكس، بل يأخذ بما هو قطعي منهما. وبالتالي رأى بأن التعارض ليس بين العقل والنص، وإنما بين القطع والظن. فمثلما يمكن أن نجد القطع في العقل حيناً، والظن حيناً آخر، فكذلك هو الحال في النص.
فمن هذا المنطلق (المنطقي) خطّأ إبن تيمية الدائرة العقلية التي رجحت الدلالة العقلية على النصية مطلقاً، بل وجعلت الدلالة الأخيرة تفتقر إلى القطع واليقين خلافاً لما هو الحال في الدلالة الأولى. فما شغل إبن تيمية أساساً هو العمل على قلب ما افتعلته الدائرة العقلية، فعمل على ترجيح القضايا النصية بتبيان ما تفيده من بيان ويقين يتناسب مع بعض الإعتبارات العقلية التي أضفى عليها طابع اليقين لكونها تتفق مع تلك القضايا، في الوقت الذي كشف عن زيف القضايا العقلية التي تمسك بها الإتجاه العقلي عموماً.
أما من الناحية المبدئية فهو يحيل التعارض بين العقل والنص في ما لو كانا قطعيين، لذلك أصرّ على التفصيل، بالتمسك بما هو قطعي وترجيحه على ما هو ظني، مهما كان موضوع القطع والظن[5]. لهذا رأى أن الدليل العقلي إما أن يكون ظنياً راجحاً أو مرجوحاً أو قاطعاً، فإذا كان هذا هو الأخير يؤخذ به لا لكونه عقلياً، بل لأنه قطعي[6]. وبالتالي فهو يسلّم بأن القدح في بعض القضايا العقلية لا يعني القدح في جميعها[7].
وهو بإعترافه بوجود قطع في بعض القضايا العقلية، تمكّن من أن يؤسس الخطاب من الخارج. فهو يعي بأنه لا بد من أن يتوقف إثبات صدق الرسالة على بعض القضايا العقلية. لكن لا يعني ذلك أن مساحة الخطاب الداخلية هي الأخرى متوقفة على هذه القضايا كما هو رأي الدائرة العقلية. وبعبارة أخرى أنه إذا كان الشرع متوقفاً على العقل من جهة تأسيس الخطاب من الخارج، فإن عملية الفهم المنتسبة إلى الخطاب من الداخل لا تتوقف بالضرورة على القضايا العقلية[8]، وهو محل النزاع مع الدائرة العقلية.
فمن هذا المنفذ اعترف إبن تيمية بأن الدليل العقلي يمثل أساس العلم بصدق الرسول، لكنه نفى في الوقت نفسه أن يكون هناك مبرر لتقديم ذلك الدليل على غيره من الأدلة بشكل مطلق. فالقضية التي يصدّق بها العقل حول إثبات الرسالة هي غير القضايا الأخرى، كتلك التي تتعلق ببحث المسائل الفرعية من الشرع[9].
أما إبن القيم الجوزية، فقد كان أشد جرأة وصراحة، إذ اعتبر النص متوقفاً فقط على صدق الرسول من العقليات دون غيره[10]. مما يعني أن الخطاب من الداخل ليس بحاجة مطلقاً إلى أي دليل عقلي، وهو ما تروم إليه دائرة البيان بشكل عام.
والمهم في طبيعة التنظير الذي مارسه إبن تيمية للدائرة البيانية هو أنه عمل على بسط حقل البيان ليلوح حتى القضايا المتوقفة على العقل، فقلب بذلك السلوك الذي نهجه أصحاب الدائرة العقلية. فهم قد بسطوا دائرة العقل على «البيان» وحولوه إلى «متشابه»، فأنكر عليهم إبن تيمية ذلك وعكس المسألة، إذ بسط حقل البيان على الساحة العقلية، وبالتالي عدّ العقل «متشابهاً» يحتاج إلى بيان «الآخر». وبذلك عمل على تغطية مختلف حقول العقل ومجالاته بالبيان الذي دعا إليه، بما فيها الحقل الخاص بأصول الدين وتأسيس الخطاب من الخارج، إذ كتب يقول: «بيّنا أن دلالة الكتاب والسنّة على أصول الدين ليست بمجرد الخبر، كما تظنه طائفة من الغالطين من أهل الكلام والحديث والفقهاء والصوفية وغيرهم، بل الكتاب والسنة دلاّ الخلق وهدياهم إلى الآيات والبراهين والأدلة المبينة لأصول الدين، وهؤلاء الغالطون الذين اعرضوا عما في القرآن من الدلائل العقلية والبراهين اليقينية صاروا إذا صنفوا في أصول الدين أحزاباً»[11].
وعلى هذه الشاكلة صرح إبن القيم الجوزية فعدّ القرآن الكريم «هو المرشد إلى الطرق العقلية والمعارف اليقينية»[12].
هكذا أن ما تريده الدائرة البيانية عموماً هو تكريس البيان على حساب العقل، فهي عند التعارض بين العقل والنص تعمل على ترجيح الأخير على الأول، خلافاً لما تفعله الدائرة العقلية. وتأكيداً لهذا الموقف قام إبن أبي العز في شرحه لكتاب (العقيدة الطحاوية) بالردّ على سلوك الدائرة العقلية وقلب القضية عليها، بقوله: «إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل، لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، ورفعهما رفع النقيضين، وتقديم العقل ممتنع. لأن العقل قد دل على صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرسول (ص)، فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل، ولو أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضاً للنقل، لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء، فكان تقديم العقل موجباً عدم تقديمه فلا يجوز تقديمه. وهذا بين واضح، فإن العقل هو الذي دل على صدق السمع وصحته، وأن خبره مطابق لمخبره، فإن جاز أن تكون الدلالة باطلة لبطلان النقل لزم أن لا يكون العقل دليلاً صحيحاً، وإذا لم يكن دليلاً صحيحاً لم يجز أن يتبع بحال، فضلاً عن أن يقدم، فصار تقديم العقل على النقل قدحاً في العقل»[13].
إذاً فالدائرة البيانية عند إبن تيمية وأتباعه، تفرض البيان على العقل في كلا التأسيسين: الخارجي والداخلي، دون تمييز. فقد اعتبر إبن تيمية أن بيان الخطاب هو في حد ذاته يفيد اليقين والبرهان، مما جعله يؤسس المسألة الدينية عليه، كمصدر للهداية إلى الطرق التي ينبغي تأسيسها بالعقل، مثلما هو مخول لأن يكون مصدراً حقيقياً للفهم والإنتاج المعرفي.
ويتمثل «البيان» الذي أراد إبن تيمية أن ينظّر له بكل من الكتاب والسنة والإجماع. والإجماع عنده كاشف عما في النص[14]. وهو يعد النص، سواء في الكتاب أو السنة، واضحاً ومبيناً غاية البيان، وهذا ما جعله يفصّل العلاقة بينه وبين العقل بأربعة موارد هامة، كما في (درء تعارض العقل والنقل)، وهي:
1 ـ كشفه بأن في الكتاب والسنة الهدى والبيان.
2 ـ تنبيهه على أن ما يقدّره الذهن من إحتمالات في قبال مراد المتكلم يعتبر باطلاً، لكون الدليل قد دلّ على معرفة مراد المتكلم بغير تلك الإحتمالات المقدرة. ومن ذلك تبيانه بأن آية (ال إستواء على العرش) تدل على معنى واحد لا يحتمل آخر بنحو عشرين دليل.
3 ـ بيان بطلان ما يدعى بأن العقل يعارض بعض الظواهر الشرعية من الكتاب والسنة.
4 ـ بيان أن العقل موافق ومعاضد لتلك الظواهر، لا معارض ومناقض لها[15].
[1] درء تعارض العقل والنقل، ج1، ص20.
[2] المصدر السابق، ص22.
[3] مختصر الصواعق المرسلة، ص84ـ187.
[4] المصدر السابق، ص60ـ83.
[5] درء تعارض العقل والنقل، ج1، ص80 وما بعدها. ومختصر الصواعق المرسلة، ص 84 وما بعدها.
[6] درء تعارض العقل والنقل، ج1، ص 86ـ87.
[7] مختصر الصواعق المرسلة، ص85.
[8] درء تعرض العقل والنقل، ج1، ص89ـ90.
[9] المصدر السابق، ص134ـ137.
[10] مختصر الصواعق المرسلة، ص85.
[11] إبن تيمية: معارج الوصول، عن شبكة المشكاة الإلكترونية، ضمن: فصل في أن رسول الله بيّن جميع الدين أصوله وفروعه (لم تذكر ارقام صفحاته ولا فقراته). وابو زهرة: إبن تيمية، دار الفكر العربي، ص 214.
[12] مختصر الصواعق المرسلة، ص61.
[13] شرح العقيدة الطحاوية، فقرة قوله: والرؤية حق لأهل الجنة. كذلك: أصول مذهب الإمام أحمد، ص73ـ74.
[14] درء تعارض العقل والنقل، ج1، ص244.
[15] المصدر السابق، ص279.