يحيى محمد
لا يخلو أي حكم من أحكام الشريعة من أن تتحكم به بعض الدلالات المعرفية تحديداً وتغييراً. وهي على أربعة أنواع:
1ـ الدلالة الحرفية للنص.
2ـ دلالة المقاصد، سواء كانت خاصة أو عامة، وكذا إن كانت وسيلة أو غاية أو شرطية ضرورية.
3 ـ دلالة العقل أو الوجدان.
4 ـ دلالة الواقع، سواء كان الواقع عاماً، أو خاصاً بالتنزيل، أي الواقع الذي تم فيه انزال النص والأحكام الشرعية.
ورغم تعدد هذه الدلالات الكاشفة عن طبيعة الحكم الشرعي، يلاحظ ان بعضها يكشف عن البعض الاخر. أي ان بامكانها ان تلعب ادواراً مختلفة من الكشف المتبادل. ففي موارد كثيرة تسبق الدلالة الحرفية فهم الواقع في الكشف عن مداليله، كما تنبه أحياناً على الدلالة العقلية، وكذا بخصوص ما تعلن عنه بصدد المقاصد. لكن في القبال ان لدلالة الواقع دوراً هاماً في فهم طبيعة ما يريده النص أو الدلالة الحرفية؛ وكذا الكشف عن المقاصد وما يقرره العقل. ونفس الشيء بخصوص الدلالتين المتبقيتين العقلية والمقصدية ولو ضمن حدود، مثل فهمهما لمراد النص.
يضاف إلى ما سبق فإن للدلالة الواقعية ميزة أخرى اضافية، وهي أنها تكشف عما يجري لبعض الأحكام من الضعف وعدم القدرة على الصمود أمام تجددات الواقع. كما بامكانها الكشف عما يصيبها من خلل وتضارب مع المقاصد، الأمر الذي يستدعي تغييرها تبعاً لمصلحة هذه المقاصد.
أ ـ الدلالة الحرفية للحكم
الدلالة الحرفية للحكم، سواء من حيث المنطوق أو المفهوم، هي دلالة تتكشف من حيث الظهور اللفظي والسياقي للنص، مع الأخذ بنظر الاعتبار الفحص والتفتيش في القرائن المنفصلة لسائر النصوص والتي لها دورها في تأسيس الحكم. فمن المسلّم به - لدى العلماء – أن النص من غير هذه القرائن لا يفي بالغرض، إذ لم يُنشئ الشارع الحكيم مراده من حكم النص جملة واحدة، بل سلك سبيل التفرقة في النصوص الأخرى. لذلك فمن الخطأ التعويل على حجية الظهور دون مراعاة البحث والتفتيش عن القرائن المنفصلة المبثوثة في النصوص؛ كالتخصيص والتقييد وما اليها من الدلالات الأخرى المنافية للظهور. وقد نهى الأصوليون عن الأخذ بالظهور اللفظي ما لم يتم الفحص عن تلك القرائن، وتقررت القاعدة العامة التي تقول: (ان اصالة الظهور لا تكون حجة الا بعد الفحص واليأس عن القرينة) [1].
هذه هي الدلالة التي شغلت اذهان الفقهاء والاصوليين للكشف عن الحكم الشرعي. حتى انك حين تطلع على كتب الفقه والاصول تجد بوضوح حجم الجهد والاهتمام المصروفين لأجلها. فمباحث الظهور والعام والخاص والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ وغيرها كلها معنية بهذا الأمر. في الوقت الذي تجد اهمالاً كبيراً لسائر الدلالات الأخرى، اذا ما استثنينا دلالة المقصد الخاص الذي له حيزه من البحث الأصولي والفقهي ضمن عنوان القياس. بل ان بعضها غاب وعياً عن البحث الأصولي والفقهي، كالدلالة الواقعية. أما الدلالات المتعلقة بالمقاصد العامة والعقل فانها تكاد تخلو من الوظيفة والفاعلية في التأثير على الأحكام انتاجاً وتغييراً، وكأنها تبحث في الأصول لأجل التقرير لا للتحقيق والبناء.
إذاً ينبغي على علم أصول الفقه أن يكون معنياً بأخذ اعتبار جميع الدلالات السابقة للكشف عن الحكم الشرعي، وذلك لما في بعضها من تأثير على البعض الآخر، وبالتالي تحديد ذلك الحكم.
إن تكريس العلماء جلّ اهتمامهم في الدلالة الحرفية وتغليب طابع الاستغراق في النص وتشقيق الكلام؛ إنما جاء على خلفية الاعتقاد بقداسة النص بإعتباره كلام الله وما يتضمنه من الحقائق المطلقة، سيما عند اولئك الذين اعتبروا هذا الكلام من الصفات الذاتية الأزلية. بل إن القداسة والطابع الإجمالي للنص مع ضغط حاجات الواقع؛ كل ذلك قد ساهم في تكثير فهم النص وتفصيله، إلى درجة نعتبر فيها العلاقة بين العوامل الثلاثة من جهة، وبين تكثر الفهم والاستغراق فيه من جهة أخرى، علاقة طردية؛ كلما اشتد الأول ازداد الثاني. فهذا ما يفسّر لنا التخوم التي احتواها تراثنا الإسلامي في تعلقه بفهم النص دون أن يجد لذلك حداً ولا نهاية. حتى أن الإهتمام بالجوانب اللغوية والبلاغية والنحوية وتقعييدها ما كان له ذلك الشأن لولا تعلقه بتلك القداسة. وعليه جاءت هذه العلوم المساعدة متأخرة في نشأتها عن علوم النص، كالحديث والفقه والتفسير.
وهذا ما جعل مثل هذه العلوم تميل الى التعالي والتجريد. فأقربها علاقة بالواقع هو علم الفقه، ومع ذلك فإنه قد خضع لهيمنة الصور الحرفية للنص وفقاً للنهج الماهوي ومسلك ما اطلقنا عليه (حق الطاعة)، بعيداً عن التفكير في الواقع الا في الضرورة التي فرضتها حاجات الواقع وضغوطاته. وكان الأولى أن تكون الرؤية بعينين: عين للواقع وأخرى للنص، كالذي جرى خلال الدورة الأولى من الحضارة الإسلامية، وهي الدورة التي ساد فيها الجدل بين الخطاب والواقع، كما هو معلوم من ظاهرة النسخ وتدرج الأحكام.
ب ـ الدلالة المقصدية للحكم
يتم التعرف على المقاصد، سواء الخاصة منها أو العامة، تارة بإستنباطها من ألفاظ النص صراحة فتكون راجعة للدلالة الحرفية التي سبق الحديث عنها، وأخرى بإنتزاعها عبر الدلالتين العقلية والواقعية. وما يهمنا في هذه الفقرة هو بحث المقاصد التي يستعان بتحديدها عبر الدلالتين الأخيرتين عند غياب التصريح بها من قبل النص.
فللمقاصد سواء الخاصة منها أو العامة مكانتان، احداهما تتخذ شكل المدلول الذي تدل عليه بعض الدلالات الأخرى انفراداً أو اجتماعاً، فتكون بذلك مثبتة ومحققة. وأخرى تأتي بعد مرحلة الإثبات السابقة كما تدل عليها تلك الدلالات، إذ تصبح مؤهلة للدلالة على الأحكام، انتاجاً وتغييراً، وذلك بفضل التنبيه الذي تمارسه بعض الدلالات الآنفة الذكر، سيما الواقع الذي يتضمن موضوع الحكم. إذ يتأسس الحكم وفقاً لمعرفة عناصر موضوع الحكم المؤثرة في الواقع، لكن تحديد هذه العناصر وتمييزها عن غيرها لا يتم الا من خلال النظر لطبيعة العلاقة التي تربط بينها وبين المقاصد؛ اتفاقاً أو اختلافاً. فلو أن العلاقة متفقة لكان الحكم نافذ المفعول لا مبرر لتغييره، طبقاً لثبوت عناصره المؤثرة. أما لو اختلفت العلاقة وتضاربت لكان هناك مبرر لتغيير الحكم، ولإعتبرنا ما حدث من اختلاف وتضارب ناتجاً عن تغير في عناصر الواقع المؤثرة. وعليه فمن الممكن تشخيص هذه العناصر لوضع ما يناسبها من حكم على ضوء المقاصد؛ حتى تتم حالة الوفاق والإتساق.
هكذا فللمقاصد أدوار ثلاثة؛ بعضها يكمل البعض الآخر كما يلي:
1 ـ دور الوسيط الذي يستثيره الواقع وما يطرأ عليه من تغيرات، اتساقاً أو تضارباً.
2 ـ دور المشخص للعناصر المؤثرة للواقع أو موضوع الحكم.
3 ـ دور التحكم، حيث أنها بفعل الوساطة وتحديد عناصر الموضوع يمكنها أن تتحكم في انتاج الحكم وتغييره. أي كما أنها دالة على العناصر المؤثرة للواقع كما أشرنا إلى ذلك في النقطة السابقة؛ فإنها كذلك دالة على مقتضى طبيعة الحكم الواجب امتثاله.
1 ـ الدلالة الخاصة للمقاصد
للمقاصد مكانتان، إحداهما كمدلول، والأخرى ككاشف أو دال. وما يعنينا من المقاصد الخاصة تلك التي لم تصرح بها الدلالة اللفظية للنص، إنما يمكن استكشافها بمشاركة عدد من الدلالات، كالدلالة المشتركة للنص مع الواقع أو العقل، وذلك بنوع من القطع أو الحدس أو الإطمئنان، مثل أحكام الحدود حيث تعلم بدلالة الواقع بأنها للردع لما يلاحظ من وجود الشدة في العقوبة، سيما وأن بعضها منصوص عليه بأن يقام وفق اشهاد طائفة من المؤمنين، كما في قوله تعالى: ((وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين)) النور/2 .
2 ـ الدلالة العامة للمقاصد
إن المقاصد العامة هي روح الشرع وأساس الحكمة من وجوده. لذلك فمن الأهمية بمكان أن يجاز لها الاعتبار في الكشف عن الحكم الشرعي. فمن خلالها يتبين إن كان الحكم يتفق معها أو يتعارض، وبها يُحدد مجرى تغيير الأحكام، دون المقاصد الخاصة، باعتبار أن الأخيرة لا تقوم لها قائمة ما لم تتسق مع الأولى. فالحدود - مثلاً - لها مقاصدها الخاصة من الردع كما علمنا، وهي تتفق مع المقاصد العامة في حماية المجتمع وتأمين حياته وسلامته. وكذا الصلاة، حيث من مقاصدها الخاصة أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، والغرض من ذلك سلامة المجتمع وصيانته من الإنحراف والتحلل.
وجدير بالذكر إن للدلالة المقصدية صوراً وبدائل أخرى غير تلك المتعلقة بثنائية إثبات الحكم ونفيه. فالحكم البياني هو أحد أطراف تحقيق الدلالة المقصدية الخاصة، لكن تغايرات الواقع تبعث على النظر في أطراف أخرى لهذه الدلالة، وبحسب الاحتكام إلى أمر المقاصد العامة والنظر إلى الواقع فإن من الممكن تقدير الصور المصداقية للدلالة المشار اليها. فمثلاً تتمثل هذه الدلالة في حالة الحدود بشدة الردع، لكن للشدة صوراً وأطرافاً متباينة يمكن تطبيقها على تغايرات الواقع المختلفة بحسب هدي المقاصد الكلية.
ج ـ الدلالة العقلية للحكم
سبق أن عرفنا في (جدلية الخطاب والواقع) أن الإدراك العقلي له زاويتان من النظر، أحدهما قبلي، أي بغض النظر عما عليه الموضوع الخارجي سواء كان نصاً أو واقعاً، والآخر بعدي يتأسس على ما يتزود به من مادة الموضوع المدرك؛ الأمر الذي تتداخل فيه الدلالتان العقلية والموضوعية، فيصبح بذلك مستنتجاً ومضيفاً. ففي العملية الاستنتاجية يقوم باستنساخ مفردات الموضوع ليؤلف منها ما يتسق والصورة المنطقية حسب مبادئ قبلية يرتكز عليها من غير أن يبدي أي إضافة إخبارية قبلية كاشفة عن الموضوع الخارجي، باستثناء الإضافة (الحسابية) التي تؤكدها الدراسات المنطقية، وذلك بتحويل درجة الإحتمال المتناهية القوة إلى اليقين طبقاً للعملية الإستقرائية، إذ يتم فيها تصفية الحسابات الخاصة للقضية المدركة ضمن ضوابط منطقية، مثل إدراكاتنا التصديقية للقضايا الحسية وما يترتب عليها من نتائج خاصة، وكذا إدراكنا للنصوص الواضحة الصريحة التي لا تحتاج إلى تأمل وحمل عقلي، ولو على نحو الإجمال. فليس للحساب الإحتمالي بلوغ اليقين بذاته ما لم يتم ذلك بالإضافة العقلية الخاصة. لكن تظل هذه الإضافة التصديقية غاية في الضآلة قياساً بما يقابلها من قوة إحتمالية، لذا فهي غير محسوبة ولا محسوسة الا عند النظر المنطقي.
هذا فيما يتعلق بظاهرة الإدراك الاستنتاجي. أما ظاهرة الإدراك الاضافي فيشير إلى أن للعقل دوراً في الإضافة الإخبارية عند مداخلته للموضوع المدرك. وتتفاوت هذه الإضافة ضعفاً وقوة، حيث تشترك مع المعطى الموضوعي لتحديد النتاج المعرفي الإخباري. مع هذا ففي جميع الأحوال يكون المعطى الموضوعي صغروياً في الدليل لا يستغني عن تحكم مبادئ عقلية شاملة وثابتة هي التي تهيمن على عملية الاستدلال والانتاج المعرفي، وهو أمر يصدق حتى مع القضايا الإستقرائية المستمدة من الموضوع الخارجي، حيث تتحكم فيها مبادئ ومصادرات الإحتمال كقضايا عقلية تفضي إلى ترجيح القضية المستقرأة إلى أكبر قيمة إحتمالية ممكنة. لكن هذا التحكم ليس له علاقة بالإضافة العقلية الإخبارية التي تحدثنا عنها. فهو لا يعدو كونه تحكماً منطقياً لا يكشف عما عليه الموضوع الخارجي. ولو انا اعتبرناه ضمن هذه الإضافة لكانت جميع قضايانا قضايا عقلية. لهذا فإن المميز للإضافة العقلية الإخبارية يتحدد بمدى علاقتها في الكشف عما عليه الموضوع بعيداً عن الضبط المنطقي الذي يستهدف الكشف عما يستنتج من المعطى الموضوعي. فهي بالتالي عبارة عن إضافة حدسية كاشفة بدرجة ما من درجات التصديق، بحيث تزيد على ما عليه المعطى المنطقي. ومن ثم فحينما نواجه قضايا تجمع بين المعطى الموضوعي والإضافة العقلية الإخبارية؛ فإن النتاج المعرفي لهذا الجمع يفضي إلى تكوين نتيجة يمكن النظر اليها بإعتبارين؛ أحدهما يفيد الدلالة العقلية، والآخر يفيد الدلالة الموضوعية؛ نصية كانت أو واقعية.
إذاً فللدلالة العقلية أهمية خاصة في الكشف عن فهم النص وتحديد الأحكام بما يتسق والمقاصد، كالذي يمارس في بعض القياسات الفقهية ذات المغزى المقصدي.
كما أن من الامثلة على هذه الدلالة ما يتعلق بحاكمية بعض العمومات على البعض الآخر، ومن ذلك اعتبار عموم حديث (لا ضرر ولا ضرار) حاكماً على سائر العمومات الأخرى للأحكام عند التعارض. وكذا بخصوص الأحكام الفقهية التي تستند إلى عدد من القواعد الأصولية مثل قاعدة الإستصحاب ومقدمة الواجب واجبة وغيرها.
لكن للقضية المعرفية – عموماً – مراتب متباينة من القيم التصديقية. وينطبق هذا الحال على تلك التي لها علاقة بفهم النص والأحكام، سواء في الدلالة العقلية أو غيرها من الدلالات.
فحول مراتب الفهم والأحكام طبقاً للدلالات الثلاث (العقلية والواقعية والنصية) قد تكون القضية المعرفية (ضرورية) لا غنى عنها في الفهم، كالذي يُدرك من الآيات التي تتحدث عن قدرة الله المطلقة، كما تشير اليه الآية الكريمة: ((إن الله على كل شيء قدير)) (البقرة/20)، إذ لا يراد منها القدرة المطلقة التي تشتمل على الممتنعات العقلية؛ كالقدرة على خلق الشريك المماثل وما اليه. وبخصوص التشريع فمثل نفي التكليف بلا بيان اللازم منه الحكم بالبراءة، وكذا نفي تكليف ما لا يطاق، والحكم بتقديم الأهم في مورد التزاحم بين الحكمين، وما إلى ذلك.
كما قد تكون القضية المعرفية (قطعية) وإن لم تصل إلى حد الضرورة؛ مثل مختلف الأحكام التكليفية التي نقطع بصحتها كالصلاة والصوم والزكاة والحج وما اليها.
وقد تكون (حدسية) بحيث لا تجد إحتمالاً معقولاً قبالها، مثل اعتبار قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) حاكمة على غيرها من الأحكام التكليفية.
وقد تكون (عادية إطمئنانية) كما عليه سيرة العقلاء في معاملاتهم وعلاقاتهم، حيث الإحتمال المقابل ضعيف لا يعتد به، مثل فهم النصوص التي تنهى عن التصوير لذوي الأرواح طبقاً للمقاصد كي لا تتخذ للعبادة، وكذا فهم النصوص الخاصة بتحديد موارد الزكاة في عدد محدد ومحدود من الأشياء طبقاً لظروف الحياة بشبه الجزيرة العربية في عصر النص. ومثل ذلك فهم الكثير من النصوص غير الصريحة وفقاً للمقاصد؛ كالحديث القائل: (لا يقضي القاضي وهو غضبان)، حيث الغرض منه للتثبت من الحكم الذي يقضي به، وحديث: (القاتل لا يرث).
وقد تكون القضية (ظنية) يقابلها إحتمال ضعيف يعتد به، كالكثير من القياسات القائمة على مجرد الشبه من وجه دون اعتماد على ملاكات الأحكام والمقاصد.
كما قد تكون الدلالة (شكية) أو (وهمية) وما دونها.
تلك هي المراتب التصديقية للفهم والأحكام. وتتميز الأربعة الأولى منها بأنها معتبرة ومقبولة، وهي القضايا الضرورية والقطعية والحدسية والعادية. أما المراتب الأخرى فهي بعيدة عن الأخذ والإعتبار.
د ـ الدلالة الواقعية للحكم
للواقع أقسام متعددة في علاقته بالنص، لكن المعتبر منها قسمان: الواقع المطلق العام والواقع الخاص بالتنزيل. وينقسم الواقع المطلق بدوره الى الواقع الوصفي والواقع الاعتباري. ويختص الأخير بقضايا القيم مثل اعتبارات المصالح والمضار، وهو ما نحن بصدده. أما الأول فيتحدد بالواقع التقريري او الإخباري، وهو يشتمل على السنن والحقائق الكونية منها أو البشرية، كالذي بيناه في كتابنا (منطق فهم النص)[2]. أما الواقع الخاص بالتنزيل فيختص بمرحلة عصر النص.
ومثلما أن الإحاطة بالواقع الخاص بالتنزيل ضرورية لا غنى عنها لفهم النص ومقصده، فكذلك أن معرفة مضامين الواقع المطلق لا غنى عنها هي الأخرى للفهم عموماً. فبدون هذه المعرفة تنقلب الكثير من موازين الفهم، ويصبح النص الإلهي برمته غير معقول ولا مقبول. فالكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لا يمكن أن تُفهم فهماً معقولاً من غير معرفة الواقع العام، كقوله تعالى: ((فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض)) الكهف/77، وقوله: ((تدمر كل شيء بأمر ربها)) الاحقاف/25، وقوله: ((وآتاكم من كل ما سألتموه)) ابراهيم/34، وكذا الآيات التي تتحدث عن أن الله هو الذي ينشئ السحاب وينزل الغيث وما اليها من النصوص الكثيرة، كالتي بحثناها في (جدلية الخطاب والواقع)[3].
على أن لهذا الواقع أهمية أخرى في مجال إدراك الأحكام وتجديد النظر فيها أو تغييرها استناداً إلى هدي المقاصد. وبغير أخذ هذه الحقيقة بنظر الاعتبار فإنه لا مجال لإضفاء المعقولية أو العقلانية على التشريع والإجتهاد المترتب عليه. فكثيراً ما يكشف الواقع العام، وتبعاً للمقاصد، بأن الأحكام المنصوصة مقيدة بسياقها التاريخي وظروفها الخاصة في عصر التنزيل وما شاكله. لذا فلأهمية هذه الدلالة الكاشفة وعلاقتها بالمقاصد فقد استعرضنا في بعض الدراسات عدداً من النماذج والأمثلة المتنوعة للكشف عن عقلانية التشريع ومعقوليته.
[1] اصول الفقه، ج1، ص157.
[2] انظر القسم الأخير من: منطق فهم النص، دار افريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 2009م.
[3] انظر القسم الاول من: جدلية الخطاب والواقع.