يحيى محمد
رغم ان الفلاسفة يقرون بقاعدة (العالي لا يريد السافل ولا يلتفت اليه)، الا انهم لا يقصدون منها نفي ان يكون هناك طريق للسافل ينتفع ويستفيد به من العالي. فهم يفرقون بين الانتفاع والافادة بالقصد الذاتي او الاول، وبين ما يحصل بالقصد العرضي او الثاني. فمن حيث القصد الذاتي ان العلة لا تعتني بما هو دونها ولا تقصده في فعلها، فهي عالقة النظر الى ما فوقها لتتشبه وتستكمل به في عشقها اياه دون ان تلتفت الى ما دونها. أما بحسب القصد العرضي فان العلة يترشح عنها انتفاع السافل، وذلك بفعل ما تقوم به في قصدها الاول. وقد جاء في قول الحكماء القدماء: ‹‹لولا عشق العالي لانطمس السافل››، وكما قيل: ‹‹وللارض من كأس الكرام نصيب››.
وعلى هذه القاعدة فان الاجسام الطبيعية من الماء والنار والشمس والقمر، انما تفعل افاعيلها من التبريد والتسخين والتنوير، وذلك لحفظ كمالاتها وليس لانتفاع الغير منها. فانتفاع الغير انما يلزم عنها على سبيل الترشح. وكذا الحال ان القصد من حركات الاجرام السماوية ليس نظام العالم السفلي، بل عشق النفوس الجرمية وتشبهها بمفارقاتها العقلية، ومن ثم ان هذه المفارقات لا تفعل افاعيلها الا من حيث عشق المبدأ الحق وطاعته والتشبه به، فمن كل ذلك يترشح نظام ما دون الاجرام من العالم السفلي. اذن ان غاية جميع المحركات من القوى العالية والسافلة في تحريكها لما دونها انما هو لاجل الاستكمال والتشبه لمعشوقاتها التي فوقها، حتى تنتهي سلسلة التشبهات والاستكمالات الى الغاية الاخيرة والخير الاقصى، وهو المبدأ الحق، حيث انه يمثل قصد جميع الموجودات وغايتها من التشبه والعشق، وذلك تبعاً لتشبهها بعللها القريبة واستكمالها بها.[i]
فلو اخذنا باعتبار النظام التسلسلي للعلل والمعلولات، وان الالتفات المقصود هو التفات صاعد من المعلول الى العلة، فان امر الحب سيتوقف عند مرتبة المبدأ الحق الذي ليس له من قصد في فعله سوى حبه لذاته، وذلك لعدم وجود ما هو اعلى منه.
اذن ان العلة لا تنظر الى المعلول ولا تلتفت اليه ذاتاً، وذلك تطبيقاً للقاعدة الانفة الذكر. فكل ما للسافل من علاقة انما هو استلام ما يترشح عن العالي من نفع غير مقصود، ويظل ان غاية ما تفعله العلة هو لاجل ما هو اعلى منها.
وقد يبدو للقارئ ان الفلاسفة لا يقرون اي نحو من انحاء الالتفات من قبل العلة الى المعلول، خصوصاً العلل الثانوية بعد العلة الاولى، وذلك استناداً الى نظرية الترشح، لكن حقيقة الامر ان اغلبهم لا يقصدون نفي مطلق الالتفات، بل يعولون على الالتفات بالقصد الثاني.
ويمكن ان يقال ان هناك تفسيرين لمسألة الحب وعدم التفات العالي للسافل، احدهما ارسطي ينكر اي نحو من انحاء الالتفات نحو السافل، انما يستفيد هذا الاخير من العالي تبعاً لنظرية الترشح من غير قصد تماماً. بل تبعاً لهذا التفسير انه لا علم للعالي بوجود السافل الا من حيث كونه صورة في ذاته.
أما التفسير الاخر فهو ذلك الذي تبناه اغلب الفلاسفة المسلمين، وهو ان العالي يلتفت الى السافل بحسب القصد الثاني لا الاول. حيث على هذا الاعتبار يمكن للعالي ان يحب السافل ويحنو عليه تبعاً لحبه لذاته، وبذلك يمكن ان تفسّر نشأة الوجودات وترتيبها المحكم تبعاً لما عليه هذا النوع من الحب العرضي. فمن حيث حب المبدأ الاول لذاته وقصده لها فانه يحب ما يصدر عنها من الموجودات، وذلك بالعرض والتبعية، ولولا هذا الحب والقصد للذات لما نشأ حبه لسائر الموجودات ولا ارادها ولا اوجدها تبعاً للعناية. بل ان حب الحق لذاته هو عين علمه بالذات كما لدى صدر المتألهين، مما يعني ان هذا الحب الاولي لا بد ان يستلزم عنه حبه للوازمه وآثاره المتمثلة بالموجودات كافة، مثلما ان علمه بذاته يستلزم علمه بآثاره ولوازمه من الموجودات[ii]. او يمكن القول انه لما كانت عنايته للموجودات هي نفس ذاته، فارادته هي عين الداعي، وهو نفس علمه بنظام الخير الذي هو عين ذاته، وبالتالي فهو في هذه العناية التي هي عين علمه بذاته، انما يكون مبتهجاً بها اشد الابتهاج، ومن ابتهج بشيء ابتهج بجميع ما يصدر عنه، فيكون قصده وحبه والتفاته الى ذاته بحسب القصد الاول، أما حبه لغيره فهو بالعرض، حيث ان حبه لذاته قد تقدم على حب كل شيء، ومن هذا الحب ترشح الحب والعناية بالسفليات. هكذا يكون المبدأ الحق هو الفاعل والغاية والقصد والمقصود، كما انه آخر الاواخر من جهة كونه غاية تبتغيه جميع الاشياء، اذ تتشوق اليه طبعاً وارادة، فهو المعشوق الحقيقي والخير المطلق. [iii]
***
لكن السؤال الذي يطرح بهذا الصدد، هو ما الذي دعا الفلاسفة يجمعون على نفي امكانية ان يلتفت العالي الى السافل بحسب الذات والقصد الاول؟
عن هذا السؤال يجيب الفلاسفة بان نظام الوجود قائم على ان الغاية والمقصود لا بد ان يكونا بالضرورة اكمل من القاصد. فلو ان العلة كان لها قصد ذاتي الى معلول لكان هذا القصد معطياً لوجود ما هو اكمل منه، فتكون العلة مستكملة بما هو دونها، وهو محال[iv]. لهذا نفى الفلاسفة ان يكون للمبدأ الحق غرض غير ذاته، فكما قرر ابن سينا ان الغرض يفضي الى الاستكمال بالغير، كما يفضي ايضاً الى التكثر في ذاته، اذ على هذا الفرض لا بد ان يكون في المبدأ الحق شيء ما عنه ظهر القصد، وهو علمه بوجوب القصد او استحبابه او خيرية فيه توجب ذلك، ثم قصد ما، وبالتالي الفائدة التي يستفيد فيها من القصد، وهذا التكثر محال[v]. كما استدل ابن سينا على بطلان ان يكون للمبدأ الحق قصد غير ذاته في فعله لنظام العالم، وذلك بانه لو توخى هذا القصد في فعل النظام لجاز عليه فعل غير النظام، كما هو جائز لدى البشر، وحيث لا يجوز عليه ذلك فيجب ان لا يكون النظام هو المتوخى لفعله[vi].
لكن لِمَ لا يقال ان الحق لما كان عبارة عن كل شيء فهو ناظر وملتفت الى هذه الاشياء بعين نظره والتفاته الى ذاته؟ فغرضه على هذا يكون هو الذات او الاشياء من دون فرق، ومن ثم فلا يوجد تكثر عارض عليه، كما ليس من الممكن ان يفعل شيئاً اخر غير النظام. وهذا الجواب هو ذاته يقال بخصوص كل علة في علاقتها بمعلولها.
كما لِمَ لا يقال ان التفات كل علة الى معلولها انما هو بحسب القصد الاول، وذلك للجاذبية الناشئة عن المشاكلة بينهما بحسب السنخية، لكن دون ان يمنع ذلك من التفاتها الى ذواتها وما هو فوقها من العوالي؟ وذلك لان العلة تمثل كمال معلولها، فنظرها الى ذاتها وحبها لها؛ يبرر حبها لمعلولها والتفاتها اليه ذاتاً، حيث شبيه الشيء منجذب اليه.
كما لِمَ لا يقال ان كل علة تنظر الى ما تحتها نظراً ملؤه الرحمة والرأفة من غير ان يكون لها غرض يخصها بالذات، باعتبارها في غنى عن المعلول لكمالها؟ واذا ما طبقنا هذا الامر على المبدأ الحق، فان غرضه من الفعل هو تمام العطف والرحمة بآثاره دون ان يكون له غرض لذاته الخاصة، وبالتالي فان من الممكن اعتبار هذا الغرض هو الدافع الذي يمنعه من ان ينشئ غير هذا النظام المعهود. وهذا الافتراض لا يلزم منه الاستكمال بالمعلول والمقصد، وذلك لكون العلة لم تفعل ما تفعله الا من جهة الجود والرحمة.
على ان الفلاسفة حاولوا ان يدفعوا الكثير من الاشكالات التي ترد حول تلك القاعدة (المتعالية) بأجوبة مختلفة ومتعارضة احياناً، وهي اشكالات مستمدة من اغلب ظواهر الواقع المشهود. ومن ذلك ما ذكره ابن سينا، وهو إنا نرى الاحسان الى الاخرين من دون نفع شخصي يعود الى المحسن، فكذا لِمَ لا يجوز للحق ان يفعل الاحسان للخلق من غير غرض آخر؟ فأجاب الشيخ الرئيس بان مثل هذا السلوك للانسان لا يخلو من غرض، اذ قد تكون ارادة الخير بالغير لتحصيل اسم حسن او ثواب او ثناء او هو امر واجب[vii]. مع ان هناك احوالاً لا تتحقق بها تلك الدواعي الشخصية التي ذكرها ابن سينا. فمثلاً ان انقاذ غريق يشرف على الموت غالباً ما يحصل لدواعي انسانية محضة دون اعتبار آخر من حسن السمعة والثواب والخوف من العقاب وما الى ذلك.
وهناك جواب آخر ذكره الغزالي لدفع الاشكالات التي ترد على القاعدة عبر عدد من الامثلة الحياتية، وذلك مثل حراسة الراعي لغنمه وتعليم المعلم لتلميذه وارشاد النبي لامته، حيث اعترف بان نفس هذه الافعال لها دلالة على خسة الفاعل مقارنة مع المفعول لاجله، ولكن من تلك الجهة لا غيرها، اذ قد يكون الفاعل اشرف من ذلك المفعول في كل الجهات باستثناء تلك الجهة. لذا صرح كجواب عن الفلاسفة: ‹‹قيل: أما الراعي فهو اخس من الغنم من حيث انه راع، وانما هو اشرف من حيث هو انسان. وانسانيته غير مطلوبة لاجل الرعاية فقط، فإن لم يعتبر منه الا وصف كونه راعياً، فهو بهذا الاعتبار اخس من الغنم بالضرورة، كالكلب الحارس للغنم، فانه اخس من الغنم بالضرورة ان لم يكن له وصف سوى كونه راعياً. فإن كان يتأتى منه الصيد فهو بذلك الوجه يجوز ان يكون اشرف. فأما هو من حيث انه حارس للغنم فقط بالضرورة يكون اخس منه، لان ما يراد لغيره فهو تبع لذلك الغير، فكيف لا يكون اخس منه. وهو الجواب عن المعلم والنبي، فان شرف النبي من حيث انه كامل في نفسه بصفات يكون بها شريفاً وان لم يشتغل باصلاح الخلق، فان لم يعتبر منه الا وصف الاصلاح لزم ان يكون المطلوب صلاحه اشرف من المستعمل في الاصلاح››.[viii]
والواقع ان هذا الجواب غير مقنع، فنحن لا نستطيع ان نحكم بخسة او شرف الفاعل بالقياس مع المفعول لاجله اذا ما جزأنا الامر ونظرنا الى عين جهة الفعل الذي يقوم به دون النظر الى اعتبارات اخرى، فقد يكون الفاعل مقدماً على فعله بالكرم والجود الذاتي دون اعتبار اخر، وهو من هذه الجهة لا يعقل ان يكون اخس من المفعول لاجله. لهذا لا يجوز ان نحكم بخسّة المعلم بالقياس الى التلميذ، والنبي بالقياس الى امته، وكذا المنقذ بالقياس الى الغريق؛ من جهة ما يقومون به من خدمات لا تفسّر في حد ذاتها الا بالشرف والجود. بدلالة انه لو صح ما يقوله الفلاسفة لتعين ان يكون شرف المعلم أقل عند تعليمه للتلميذ مقارنة مع ترك فعل التعليم، وكذا بالنسبة لما يقوم به النبي من اصلاح وارشاد لامته، فانه تبعاً لذلك يكون اقل شرفاً وكمالاً مقارنة مع تركه لهذا الفعل الحسن.
وعلى هذه الشاكلة ما اختاره صدر المتألهين في بعض كتبه، حيث قرر بأن ما ثبت عند الحكماء من (ان العالي لا يلتفت الى السافل) انما يراد بذلك العالي من كل وجه، وعليه يمكن ان يلتفت العالي الى السافل لو كان اقل منه كمالاً في بعض الوجوه. وبه فسّر كيف ينفعل الجوهر النفساني من السماوات عن احوال بعض الارضيات كالنفوس الناطقة الشريفة، فيلتفت الى تلبية طلباتها واجابة دعواتها، وهو لا ينافي كون تلك النفوس اعلى من ذلك الجوهر في جوانب اخرى غيرها. وبهذا الجواب ردّ على ابن سينا في تعليقاته الذي اراد ان يفسر علة انفعال النفوس السماوية بالارضيات التي هي ادنى منها، كما يحصل في حالة استجابة هذه النفوس لدعاء الناس. فمن وجهة نظر ابن سينا انه لا يمكن للارضيات ان تؤثر على العلويات السماوية، لكون هذه الاخيرة عللاً للاولى، وليس من المعقول ان يؤثر المعلول على علته، وعليه اعتبر ان سبب الدعاء هو ايضاً منبعث من فوق، اي ان النفوس السماوية هي التي تحفزنا على الدعاء، فنكون نحن وسبب الدعاء كلانا معلولين لعلة واحدة هي تلك النفوس الفوقية.[ix]
ومن الواضح ان اجابة ابن سينا اشد اتساقاً مع المنطق الفلسفي في حفظه للمراتب الوجودية. أما صدر المتألهين فله نظر اخر عرفاني قائم على منطق المقامات المتعددة للشيء الواحد، وبه يجوز للانسان ان يتحد بالعلويات في بعض المقامات التي يترقى فيها، فيكون بذلك اعلى رتبة من بعض العلويات السماوية وإن كان في مقامات اخرى اقل منها، كالذي سيأتينا تفصيله فيما بعد.
كما ان هناك اجابة اخرى تختلف عما سبق، وقد ذهب اليها صدر المتألهين ومن قبله ابن سينا. فقد عرض مثالاً حول قصد الطبيب من معالجة المرضى وتدبيره اياهم، رغم ان الطبيب هو اكثر كمالاً من المريض في علمه وتدبيره. وكان من المتوقع ان يعقد هذا العارف مثل هذه المقارنة ومن ثم يقوم برفع الاشكال عن ذلك، لكنه لم يفعل، بل لجأ الى التركيز على الغاية التي يراد تحقيقها من المعالجة، وهي الصحة، معتبراً الطبيب ليس فاعلاً لها الا بالعرض، فواهب الصحة أجلّ من الطبيب وقصده؛ يهب الكمال على المواد حين استعدادها، فيكون المفيد شيئاً آخر اكثر من القاصد[x]. وواقع الامر ان هذا ليس بجواب على الاشكال، اذ يمكن ان يقال ان من قصد الطبيب شفاء المريض، وهو ملتفت لاجل هذه الناحية بالذات رغم انه لا يهب الكمال للمواد، وبالتالي كيف جاز له ان يلتفت الى تقديم العون الى مريضه مع انه اكمل منه في هذه الناحية بالذات؟
كذلك فان هناك اجابة اخرى مختلفة تمسك بها صدر المتألهين وقبله ابن سينا. فقد اعترف بان الغاية كثيراً ما تكون اخس من القصد والقاصد، وذلك اعتماداً على ما اذا كان الامر يقع على سبيل الغلط والخطأ او الجزاف، كما يقع لافراد البشر من طلب ما هو اخس منه، وهو يجري في عالم الفساد والكون ولا يجري في عالم السماوات المصونة عن الخطأ والغلط.[xi]
وهذا الجواب وان كان ينطبق على حالات كثيرة، لكنه لا ينطبق على حالات اخرى، فحاجة الانسان مثلاً للماء والهواء والنار، ليست على سبيل الخطأ، مع ان الانسان ليس اقل شأناً منها، ولا ان بدنه اقل قيمة من هذه المواد، فمثلاً ان البدن لا يخلو من ماء، وهو يزيد عليه بعناصر اخرى مختلفة؛ فيكون اعظم شأناً منه تبعاً للمقاييس الوجودية. الامر الذي يدل على جواز احتياج الكامل الى ما هو انقص منه، كشرط للكمال والبقاء والوجود.
ويلاحظ مما سبق ان هناك اجوبة عديدة لتبرير قاعدة عدم التفات العالي للسافل، بعضها يفيد ان فعل الفاعل ينطوي على وجود غاية مستترة تخص ذاته كما عليه ابن سينا، وبعض آخر يعتبر الفاعل الاشرف يجوز ان يكون اخس مما هو دونه من جهة نفس الفعل لا غير كما عليه الغزالي، كما ان هناك جوابين لصدر المتألهين، احدهما يعد بعض الافعال الغائية عرضية لا اعتبار لها من حيث القيمة، والاخر يعد الفعل يستبطن لوناً من الغلط والاشتباه. ولكن كما لاحظنا ان جميع هذه الاجوبة لا يمكنها ان تفسر لنا بعض الظواهر التي تتعلق بالافعال الغرضية للغير على سبيل محض الجود والرحمة، كما في مثال انقاذ الغريق، وكذا لا يسعها ان تبرر لنا لماذا يحتاج الكامل الى ما هو دونه ويقصده بالذات، سواء في الوجود او الكمال او البقاء، كما في حاجة الانسان للماء والهواء. وعلى رغم نفي الفلاسفة للالتفات الذاتي من قبل العالي للسافل؛ فانهم مقرون بان مقصود الشرائع وغايتها هداية الناس وسوقهم من الحضيض الى الكمال بجوار المبدأ الحق[xii]. لكن قد نتساءل ونقول: لماذا هذا الاهتمام والاعتناء؟ وما للتراب ورب الارباب؟!
وهذا الاشكال ينضوي تحت اشكال اعم منتزع عن حسابات الاحتمال، وهو ان قاعدة (عدم التفات العالي للسافل) تفضي الى ان يكون تلائم الوجود بالصورة المنظمة الدقيقة على ما نراه؛ قد حدث للمصادفات العرضية الكبيرة، وذلك لكون مصالح الخلق لم تأت بالقصد الذاتي وانما جاءت على سبيل العرض. في حين يمكن تفسير هذا النظام البديع تبعاً للقصد الذاتي، اي ان النظام مقصود لأن يكون من الناحية الذاتية بهذه الدقة والروعة، وذلك استناداً الى مبدأ البساطة ومنطق الاحتمالات.
لكن يجوز ان يجاب على هذا الاشكال بحسب المنطق الوجودي، وهو ان العالم لما كان يستند في صدوره على السنخية؛ فان ما نراه من مصالح ونظام دقيق انما جاء وفق ما كان في ذات الحق من طبيعة متسقة، فلا يضر بذلك ان لم يلتفت الحق الى غيره الا بالعرض، لان مآل الامر واحد، وهو ان نظام الحق في ذاته المقدسة لا بد ان ينعكس على الواقع؛ فيحدث النظام الدقيق ومصالح الخلق في العالم.
وبالفعل نجد هذا الجواب عند صدر المتألهين، اذ عرض اشكالاً على هيئة ما سبق، وهو انه لو كان غرض المبدأ الحق لا علاقة له بنفع الممكنات؛ فلماذا نرى هذا النفع والاتقان والتدبير العظيم الذي لا غنى للممكنات عنه؟ وكان جوابه هو ان كل ما نراه انما صدر عنه باعتباره منبع الخيرات ومنشأ الكمالات، وعليه كان لا بد ان يصدر عنه ابلغ ما يكون في الكمال والاتقان والجمال، سواء من الضروريات كوجود العقل للانسان، وارسال النبي للامة، او ليس من الضروريات مثل إنبات الشعر على الاشفار والحاجبين، وتقعير الاخمصين على القدمين، وما الى ذلك[xiii].
والعجيب ان صدر المتألهين رغم كل ما سبق من دفاعه عن قاعدة (عدم التفات العالي للسافل) فانه قام بخرقها ومناقضتها بحكم لحاظ العديد من ظواهر الواقع. اذ اصبح لا مانع لديه من ان يلتفت العالي للسافل بقصد ذاتي لا عرضي. وكما أقرّ هذا الفيلسوف من انه لما كان في جبلة المعلولات نزوع نحو عللها واشتياق اليها؛ لذا يحصل في جبلة هذه العلل رأفة وعطف عليها، كما يكون في الاباء والامهات على الاولاد، وفي الكبار على الصغار، وفي الاقوياء على الضعفاء، وكذلك لشدة حاجة الضعيف الى معاونة الاقوياء، وسر ذلك يعود بنظره الى ان الجنس يحن على جنسه[xiv]. ولا شك ان هذا الجواب هو اوفق مع السنخية واليق بها من نفي الالتفات الذاتي للعلة الى معلولها.
[i] صدر المتألهين: المبدأ والمعاد، ص136-137 و140-141. كذلك الاسفار، ج2، ص281. ومفاتيح الغيب، ص370.
[ii] المبدأ والمعاد، ص156.
[iii] انظر: التعليقات لابن سينا، ص16و18. ورسالة التعليقات، ضمن رسائل الفارابي، ص2. والمبدأ والمعاد لصدر المتألهين، ص135-136 و139.
[iv] صدر المتألهين: المبدأ والمعاد، ص139. ورسالة اجوبة المسائل، ضمن رسائل صدر المتألهين الفلسفية، ص127.
[v] ابن سينا: المبدأ والمعاد، ص75.
[vi] ابن سينا: التعليقات، ص163.
[vii] التعليقات لابن سينا، ص18-19.
[viii] مقاصد الفلاسفة، ص277.
[ix] الاسفار، ج6، ص402-403.
[x] المبدأ والمعاد لصدر المتألهين، ص139-140. وابن سينا: النجاة، مطبعة السعادة، ص268.
[xi] المبدأ والمعاد، ص140. كذلك مفاتيح الغيب، ص370. والنجاة، ص268.
[xii] المبدأ والمعاد لصدر المتألهين، ص497.
[xiii] المبدأ والمعاد لصدر المتألهين، ص140.
[xiv] الاسفار، ج7، ص163.