يحيى محمد
لقد أسس إبن حزم (المتوفى سنة 456هـ) منهجه البياني على عنصرين هامين، هما الظاهر والمنطق، فعمل على توظيف الأخير لخدمة الظاهر من النص، سواء تعلق بمجال الفقه، أو بعلم العقيدة. لذا اختلف مذهبه عن المذهب الظاهري في الفقه لداود الأصبهاني (المتوفى سنة 270هـ) وإبنه. فالمذهب الظاهري لدى الأخير قائم على الظاهر فحسب، أما لدى إبن حزم فهو قائم على الظاهر والمنطق، كما اشرنا.
ويقصد إبن حزم بالظاهر، هو كل ما ورد من نصوص الشريعة محمولة على حقيقتها الظاهرة كبيان. فهو يرى الخطاب الديني بيّناً وشاملاً لجميع ما يحتاج إليه البشر. وفي مقالته عن «الظاهر» دلالات متعددة للرد على الخصوم.
فمن جهة اعتبر إبن حزم طريقته في «الظاهر» تقع على الضد من طريقة أهل السر والباطن الذين ينقّبون تحت رموز الألفاظ وظواهرها للبحث عن بواطن الشريعة وأسرارها، كما هو الحال مع الإسماعيلية ومن على شاكلتها من الإتجاهات الوجودية. ومن جهة ثانية أن مقالته في «الظاهر» جعلته يرفض مظاهر التأويل التي يمارسها المتكلمون. كما من جهة ثالثة رأى بأن طريقته السابقة لا تحتاج إلى قواعد الإجتهاد المتعارف عليها فيما لا نص فيه، كما في القياس وغيره من القواعد. أما من جهة رابعة فقد اعتبر طريقته لا تحتاج إلى التقليد بكافة أنواعه وأصنافه، بل ولا تحتاج إلى إتباع أحد لفهم الدين سوى صاحب الشرع.
فمن حيث الرد على أهل السر والباطن، صرح إبن حزم قائلاً: «اعلموا أن دين الله تعالى ظاهر لا باطن فيه، وجهر لا سر تحته، كله برهان لا مسامحة فيه. واتهموا كل من يدعو أن يُتّبع بلا برهان، وكل من ادعى للديانة سراً وباطناً، فهي دعاوى ومخارق، واعلموا أن رسول الله (ص) لم يكتم من الشريعة كلمة فما فوقها، ولا اطْلَعَ أخص الناس به من زوجة أو ابنة أو عم أو إبن عم أو صاحب على شيء من الشريعة كتمه على الأحمر والاسود ورعاة الغنم، ولا كان عنده عليه السلام سر ولا رمز ولا باطن، غير ما دعا الناس كلهم إليه، ولو كتمهم شيئاً لما بلّغ ما أُمِر. فإيّاكم وكل قول لم يَبِنْ سبيله ولا وضح دليله، ولا تعوجوا عما مضى عليه نبيكم وأصحابه»[1]. كما ردّ على من يقول بالالهام بقوله: «ما الفرق بينك وبين من ادعى أنه أُلهم بطلان قولك فلا سبيل له إلى الانفصال عنه؟..»[2].
ومن حيث الرد على منهج المتكلمين العقلي، رأى إبن حزم أن طريقته تختلف عن هذا المنهج بأنها لا تحمل تشريعات قبلية تفرضها على البيان الشرعي، وبالتالي فهي تحرص على عدم ممارسة تأويل النص إتساقاً مع مقالته في «الظاهر البياني». فهو وإن لم يرفض علم الكلام؛ إلا أنه جعل الغرض منه موظفاً لأجل البيان، كما يظهر من كتابه البسيط والموسوم بـ (علم الكلام)، إذ بثّ فيه نظرته البيانية، كما أبرز فيه ممارسته العقلية ليثبت من خلالها جملة من القضايا العقائدية المتعلقة بالتأسيس الخارجي للخطاب، كحدوث العالم وابتداء الزمان ووحدانية الله وخلقه للعالم بغير علة، وغيرها من الإعتبارات العقلية[3].
ومن حيث الردّ على القواعد الإجتهادية فيما لا نص فيه، فقد أنكر إبن حزم ذلك على أهل الفقه لأنهم يتبعون الظن في العملية الإجتهادية، واعتبر أن الخالق قد أحكم شريعته بالبيان والكمال بمنطق الظاهر نفسه، بدلالة قوله تعالى: ((اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي))[4]، وقوله أيضاً: ((ما فرطنا في الكتاب من شيء))[5]، لذا «صحّ بنص القرآن أنه لا شيء من الدين وجميع أحكامه إلا وقد نصّ عليه، فلا حاجة بأحد إلى القياس»، سيما وقد أمر الله تعالى بالرد إليه والى رسوله عند الإختلاف والتنازع[6].
هكذا فإن هذه الطريقة لا تتجاوز ما ثبتّه الفقهاء من مبدأ القياس وغيره من المبادئ الفقهية الظنية فحسب، بل وتختلف كذلك عن الطريقة الظاهرية لداود الأصبهاني، لا لكونها أشمل منها فحسب، بل والأهم من ذلك هو تأسيسها البياني في توظيف المنطق، وهو تأسيس إبستمولوجي منظّر لا يقوم على مجرد الإعتبارات المعيارية.
أما من حيث الرد على دعاوى التقليد وما شاكلها من الالتزام بالامام «المعصوم»، فقد ردّ إبن حزم عليها وأبطلها من منطلق عقلي منطقي، فردّ على من يلتزم بالامام متسائلاً: «بأي شيء عرفت صحة قول الامام، أببرهان، أم بمعجزة، أم بالالهام، أم بقوله مجرداً؟ فإن قال ببرهان كلف بأن يأتي به ولا سبيل له إليه، وإن قال بمعجزة ادعى البهتان لا سيما الآن وهم يقرون أنه قد خفي عنهم موضعه منذ مائة وسبعين عاماً، وأن قالوا بالالهام سئلوا بما ذكرنا في إبطال الإلهام، وإن قالوا بقوله مجرداً سئلوا عن الفرق بين قوله وقول خصومهم في إبطال مذهبهم دون دليل ولا سبيل إلى وجه خامس أصلاً». كما ردّ على من يتمسك بالتقليد بقوله: «ما الفرق بينك وبين من قلّد غير الذي قلدت أنت، بل كفّر من قلدته أنت أو جهّله، فإن أخذ يستدل في فضل من قلده كان قد ترك التقليد وسلك في طريق الاستدلال من غير تقليد..»[7].
ثم أنه رد على أصحاب تلك النزعات بطرح جملة من التساؤلات عليهم كالتالي: «بأي شيء عرفتم صحة ما تدعون إليه وصحة التوحيد والنبوة ودينك الذي أنت عليه؟ أبعقل دلّك على صحة كل ذلك أم بغير عقل؟ وبأي شيء عرفت فضل من قلدت أو صحة ما ادعيت انك ألهمته بعد إن لم تكن ملهماً إليه ولا مقلداً له برهة من دهرك، وبأي شيء عرفت صحة ما بلغك من الأخبار بعد إن لم تكن بلغتك، وهل لك عقل أم لا عقل لك؟ فإن قال: عرفت كل ذلك بلا عقل ولا عقل لي فقد كفانا مؤونته وبلغنا من نفسه أكثر مما رغبنا منه، فاننا إنما رغبنا من الإعتراف بالخطأ فقد زادنا في نفسه منزلة لم نرغبها منه، وسقط الكلام معه ولزمنا السكوت عنه، وإلا كنّا في نصاب من يكلم السكارى الطافحين والمجانين المتعرين على الطرق. فإن قال لي عقل وبعقلي عرفت ما عرفت فقد أثبت حجة العقل وترك مذهبه الفاسد ضرورة»[8].
وهو قد شدد على إبطال التقليد بما في ذلك تقليد المجتهد في الفقه، فرفض تقليد الأئمة والمذاهب جميعاً، ولم يرَ فرقاً بين من قلد هذا الإمام أو المذهب أو ذاك، بل جعل الإجتهاد نصيب الكل، وواجباً على الجميع، كل بحسب طاقته، ولو أدى ذلك إلى الخطأ في الإجتهاد، فهو يفضله على التقليد مع الإصابة[9]. ومعنى الإجتهاد عنده إنفاد الجهد في طلب الحكم الديني من القرآن والسنة والإجماع، إذ أمر الله تعالى بأخذ أحكامه من هذه الوجوه فقط، فمن أصاب في ذلك فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد ولا إثم عليه[10]. وهو يرى أن هذا الإجتهاد ملزم لكل من العامي والعالم، ولكل منهما حظه من الإجتهاد، إذ لم يخص الله تعالى عامياً من عالم ((وما كان ربك نسياً))[11]. لذلك اعتبر بأن «من ادعى وجوب تقليد العامي للمفتي فقد ادعى الباطل وقال قولاً لم يأتِ به قط نص قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قياس، وما كان هكذا فهو باطل لأنه قول بلا دليل»[12]. وبالتالي رأى بأن «التقليد كله حرام في جميع الشرائع أولها عن آخرها، من التوحيد والنبوة والقدر والإيمان والوعيد والامامة والمفاضلة وجميع العبادات والأحكام»[13]. ومن ذلك أنه حرم تقليد أئمة المذاهب الأربعة والصحابة ومن على شاكلتهم، معتبراً «أن كل من قلد من صاحب أو تابع أو مالكاً وأبا حنيفة والشافعي وسفيان والأوزاعي وأحمد - إبن حنبل - وداوود - الأصبهاني - رضي الله عنهم، أنهم متبرأون منه في الدنيا والآخرة»[14]. وارتكز في هذا النكران والتحريم للتقليد إلى أولئك الأئمة. فمثلاً أنه روى عن الإمام مالك بعض الأقوال التي تفيد هذا المعنى، منها أنه حين قال إبن القاسم للامام مالك: ليس أحد بعد أهل المدينة أعلم بالبيوع من أهل مصر، قال له مالك من أين علموا ذلك؟ قال: منك يا أبا عبد الله، قال مالك: ما أعلمها أنا فكيف يعلمونها هم؟!
كما روى عنه كلاماً آخر وهو قوله: «انما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه»[15].
ورأى إبن حزم قبال ذلك بأن لكل فرد ما تيسر من طاقة وقدرة على فهم الخطاب الديني طبقاً لمنطق الظاهر. بل كل شيء له علاقة بالدين يفضي عنده إلى اليقين حتى خبر الآحاد، إذ يرى أن النقل إذا كان عن ثقة فثقة حتى يبلغ عن النبي (ص) فإنه «داخل في باب ما تيقن ضرورة بالمقدمات المذكورة»[16]. وعليه فقد اعتبر خبر الواحد أصلاً من أصول الدين، وهو يوجب العلم والعمل معاً، مؤيداً بذلك كلاً من أبي سليمان والحسين بن علي الكرابيسي والمحاسبي وغيرهم[17]. وهذا ما جعله يعتقد بأن الله قد حرّم التعبد بالظن مهما كان. فبرأيه لا يحل الحكم بالظن أصلاً لقوله تعالى: ((إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني عن الحق شيئاً))[18]، ولقول الرسول (ص): «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث»[19].
على أن رفض إبن حزم للتقليد والالهام وسائر الإعتبارات الأخرى يتسق مع نظريته في البيان الظاهري للخطاب. بل لولا هذا المتبنى ما كان يمكن أن نجد تفسيراً منطقياً لذلك الرفض. وهو ذات الأمر الذي جعله ليس بحاجة إلى إتخاذ أي قبليات عقلية لفهم الخطاب سوى ما تفرضه بديهة العقل وضرورة الحس. فالعقل الذي يوظفه إبن حزم لفهم الخطاب لا يزيد عن كونه كاشفاً عن البيان الديني وليس مؤسساً له، مما جعل البيان المستنبط من الخطاب عين المعقول، فـ «كل ما قاله الله تعالى فحق ليس منه شيء منافياً للمعقول، بل هو كله قبل أن يخبرنا به تعالى في حد الإمكان عندنا، ثم إذا أخبر به عزّ وجل صار واجباً حقاً يقيناً»[20].
وبذلك يتضح بأن طريقة إبن حزم تختلف أساساً عن كل من الطرق السابقة التي تعتمد على الباطن والعقل والظن والتقليد. فهي تختلف عن الفلسفة والعرفان، وعن علم الكلام والفقه، وعن الإتجاهات الداعية للتقليد وإتّباع الأئمة.
والذي يصل إليه إبن حزم هو أن دين الله كامل لا يُنقص منه ولا يبدل ولا يحتاج إلى ما يزيد عليه بدلالة قوله تعالى: ((اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً))[21]، وهو يتحدد بكلام الله تعالى الذي بيّنه النبي الكريم، وبلّغه إلينا أولو الأمر منّا. فما عدا ذلك ليس من الدين بشيء[22]. وفي جميع الأحوال يظل الدين عنده عبارة عن «الظاهر» بلا مزيد. فكما يقرر بأنه «لا يحل لأحد أن يحيل آية عن ظاهرها ولا خبراً عن ظاهره، لأن الله تعالى يقول: ((بلسان عربي مبين))، وقال تعالى ذاماً لقوم: ((يحرفون الكلم عن مواضعه))، ومن حال نصاً عن ظاهره في اللغة بغير برهان من آخر أو إجماع فقد ادعى أن النص لا بيان فيه، وقد حرّف كلام الله تعالى ووحيه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم عن موضعه، وهذا عظيم جداً مع أنه لو سلم من هذه الكبائر لكان مدعياً بلا دليل. وبرهان ما قلنا من حمل الألفاظ على مفهومها من ظاهرها قول الله تعالى في القرآن: ((بلسان عربي مبين))، وقوله تعالى: ((وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم))، فصح أن البيان لنا إنما هو حمل لفظ القرآن والسنة على ظاهرهما وموضوعهما، فمن أراد صرف شيء من ذلك إلى تأويل بلا نص ولا إجماع فقد افترى على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وخالف القرآن وحصل في الدعاوى وحرّف الكلم عن مواضعه»[23].
لكن رغم تأسيس إبن حزم للدين أو البيان على الظاهر، ورغم أنه يعده كاملاً لا يحتاج إلى أي تعديل أو مزيد، فإنه لا يمنع من أن تتدخل عناصر أخرى تقوم بعملية التأسيس والتوجيه من الخارج والداخل، وهي تتحدد بكل من بداهة العقل وضرورة الحس، وكل ما يستنتج عنهما بالبرهان المنطقي الأرسطي. وبذلك فقد جعل طريقته العامة بعيدة عن متاهات أهل الكلام الذين يمارسون جميع صنوف الاستدلال العقلي. فقد اعتبر أنه لا طريق إلى العلم أصلاً إلا من وجهين: أحدهما ما أوجبته بديهة العقل وأوائل الحس، والثاني مقدمات راجعة إلى هذه الأوائل وتلك البديهة[24]، وكما يقول: «وحد العلم بالشيء وهو المعرفة به أن نقول: العلم والمعرفة اسمان واقعان على معنى واحد، وهو إعتقاد الشيء على ما هو عليه وتيقنه به وارتفاع الشكوك عنه، ويكون إما شهادة الحواس وأُول العقل، وإما ببرهان راجع من قرب، أو من بعد إلى شهادة الحواس أو أُول العقل، وإما بإتفاق وقع له في مصادفة إعتقاد الحق خاصة بتصديق ما افترض الله عز وجل عليه اتباعه خاصة دون استدلال»[25].
فهو من منطلق الإستناد إلى أولوية العقل وضرورة الحس قام بتأسيس الخطاب الديني من الخارج، فاعتبر الخطاب يتوقف على إثبات الخالق وصدق الرسالة، وهو يتوقف على مقدمات العقل والحس. وقد أدرك إبن حزم أنه لا مجال لإثبات هذه القضايا بواسطة نفس الخطاب، وإلا لأفضى إلى الدور والمصادرة على المطلوب، فاعتبر الخطاب منبهاً على طريقة الاستدلال لمن كان جاهلاً أو غافلاً عنها، وكما قال: «وجب علينا تفهم القرآن والأخذ بما فيه فوجدنا فيه التنبيه على صحة ما كنا متوصلين به إلى معرفة الأشياء على ما هي عليه من مدارك العقل والحواس، ولسنا نعني بذلك أننا نصحح بالقرآن شيئاً كنا نشك فيه من صحة ما أدركه العقل والحواس، ولو فعلنا ذلك لكنا مبطلين للحقائق ولسلكنا برهان الدور الذي لا يثبت به شيء أصلاً. وذلك أننا كنا نسأل فيقال لنا بم عرفتم أن القرآن حق؟ فلا بد أن نقول بمقدمات صحاح يشهد لها العقل والحس. ثم يقال لنا: بماذا عرفتم صحة العقل والحس المصححين لتلك المقدمات؟ فكنا نقول بالقرآن فهذا الاستدلال فاسد مبطل للحقائق، ولكنا قلنا: أن في القرآن التنبيه لأهل الجهل والغفلة وحسم شغب أهل العناد. وبذلك أن قوماً من أهل ملتنا يبطلون حجج العقول، ويصححون حجج القرآن. فأريناهم أن في القرآن ابطال قولهم، وافساد مذاهبهم»[26].
ولجأ إبن حزم في تأسيسه للخطاب من الخارج إلى مفهومه الخاص عن السببية. فهو بقدر ما يبتعد عن المفهوم الأشعري، يبتعد كذلك عن المفهوم الفلسفي لها. فإذا كان الأول لا يعترف بوجود الطبايع والصفات الثابتة للأشياء، فإن الثاني ينكر أن يكون هناك مجال لاختراق هذه الطبايع وتلك الصفات، بإعتبارها قائمة على الضرورة والحتمية. لهذا فإن لإبن حزم مسلكاً وسطاً بين الإتجاهين، فهو يتقبل فكرة الطبايع والصفات الثابتة للأشياء، لكن ليس لكونها تتصف بالضرورة والحتمية للأشياء، بل لأن الله جعلها هكذا، فهي بالتالي رهينة أمره في البقاء والخرق. ومنه يتبين صدق النبوة حين تظهر المعجزة، إذ هي دالة على أن الله أراد تجاوز وخرق ما جعله ثابتاً من قبل، ليكون علامة يستدل بها على صدق النبي وصحة رسالته[27]. وهو ما التزم به إبن القيم الجوزية من معنى، معتقداً بأن ما جاءت به الرسل ودل عليه الحس والعقل والفطرة هو إثبات الأسباب وجواز - بل وقوع - سلب السببية عن الأشياء إذا شاء الله ودفعها بأمور أخرى نظيرها أو اقوى منها، بل أن ذلك قد وقع مع بقاء مقتضى السببية فيها[28]. وهو المعنى الذي لا يختلف كثيراً عن المعنى الذي أراده المعتزلة للسببية تبعاً لمنطق ما اطلقوا عليه (الإعتماد والتوليد)[29].
أما بخصوص تأسيس الخطاب من الداخل فيكاد إبن حزم يقتصر على حصر الممارسة العقلية الاستدلالية بالشكل الصوري من البرهان المنطقي، ليوظفه في توسعة صور البيان الظاهري للخطاب.
وبهذه الطريقة يتوسط إبن حزم بين أولئك الذين يعولون على العقل في الكشف عن أمور الخطاب، وبين الذين يبطلون حجج العقل كلياً بذريعة الاكتفاء بالبيان. فهو يرى أن وظيفة العقل هي تمييز الأشياء المدركة بالحواس ومعرفة صفاتها والتي تُعرف بها قضايا التأسيس الخارجي للخطاب، كإيجاب حدوث العالم ووحدانية الخالق وصحة النبوة.. أما ما عدا ذلك مما يدخل ضمن فهم الخطاب فليس للعقل قدرة على إدراكه، فليس بمقدوره أن يعرف كم ينبغي أن تكون ركع الصلوات أو كيفية الوضوء أو الحدود والقصاص وغير ذلك مما يدخل ضمن عنوان الحرمة والحلية. وفي هذه الحالة ليس للعقل إلا فهم ما جاء به البيان الديني[30]، والوقوف عند جميع ما قاله الرسول، إلى درجة أنه ينفي التعليل العقلي في الدين التزاماً بطريقة البيان الظاهري للفهم. فهو يرى أنه «لا علة في شيء من الدين أصلاً، والقول بها في الدين بدعة وباطل»[31].. «وبالجملة فليس في الشرائع علة أصلاً بوجه من الوجوه ولا شيء يوجبها إلا الأوامر الواردة من الله عز وجل فقط، إذ ليس في العقل ما يوجب تحريم شيء مما في العالم وتحليل آخر، ولا إيجاب عمل وترك إيجاب آخر. فالأوامر أسباب موجبة لما وردت به. فإذا لم ترد فلا سبب يوجب شيئاً أصلاً ولا يمنعه. وإذا لم تكن العلة إلا التي لم توجد قط إلا وموجبها معها فليس ذلك إلا في الطبيعيات فقط، وإذا كان ذلك فلا يجوز أن يوقع إسم علة على غير هذا المعنى فيقع التلبيس بايقاع إسم واحد على معنيين مختلفين، وهذه أقوى سبيل لأهل المخرقة»[32].
وهو بهذا يعد نهاية العقل عند بداية البيان، فهو يخالف أصحاب الدائرة العقلية الذين يشرّعون للعقل لفهم الخطاب ويرجحونه على البيان، ويبررون ذلك تعويلاً على حاجة الخطاب للعقل في التأسيس الخارجي، ويرون أن الطعن في النتائج التي تسفر عن تأويل العقل للخطاب؛ يبرر- في حد ذاته - الطعن في نتائج العقل عند ذلك التأسيس، كالذي صرح به الغزالي والفخر الرازي. بينما الحال عند إبن حزم مختلف تماماً، إذ برأيه أن العقل لما أوجب بالبرهان صحة تأسيس المسألة الدينية من الخارج؛ لذا ليس له أن يحرّف ما تتضمنه هذه المسألة من «بيان». وربما رأى إبن حزم أن العقل لو تدخل في تأويل «البيان» لكان فعله متناقضاً، بإعتباره أوجب صحة الخطاب كـ «بيان»؛ لكنه في الوقت ذاته قام بتحويل هذا البيان إلى متشابه كما يفعل أصحاب الدائرة العقلية. ودفعاً لمثل هذا التناقض فقد كبح إبن حزم جماح العقل عند حدّه، فألزمه بحدود التأسيس الخارجي للخطاب وألجمه عن التدخل في الفهم. وكما قال: «وانما ننكر الإقدام في الدين بغير برهان من قرآن أو سنة أو إجماع بعد أن أوجبه برهان الحس وأُول بديهة العقل والنتائج الثابتة من مقدماته الصحيحة من صحة التوحيد والنبوة، فإذا ثبتا بما ذكرناه فضرورة العقل توجب الوقوف عند جميع ما قاله لنا الرسول..»[33].
ولم يكتف إبن حزم بهذه الحدود من الترسيم بين العقل والبيان، بل طمح إلى توسعة دائرة البيان ليطابقها مع «البرهان العقلي» إلى حد المغالاة، معتبراً أن كل ما صحّ ببرهان فإن عليه شاهداً من البيان، وكما قال: «كل ما صح ببرهان، أي شيء كان، فهو في القرآن وكلام النبي (ص) منصوص مسطور، يعلمه كل من أحكم النظر وأيده الله تعالى بفهم. وأما كل ما عدا ذلك، مما لا يصح، إنما هو اقناع أو شغب، فالقرآن وكلام النبي (ص) منه خاليان... ومعاذ الله أن يأتي كلام الله سبحانه وتعالى وكلام نبيه (ص) بما يبطله عيان أو برهان. إنما ينسب هذا إلى القرآن والسنة من لا يؤمن بهما ويسعى في ابطالهما»[34].
لذلك فما فعله إبن حزم من مطابقة بين البيان والبرهان؛ جعله يرفض «المشاغبات العقلية» الساعية لتحويل البيان الديني إلى «متشابه»، كالحال مع علم الكلام بصيغته العقلية.
هكذا فالأساس العقلي الذي أراد إبن حزم توظيفه هو ما يتمثل بالشكل الصوري من القياس الأرسطي البرهاني. فمن خلاله تتحقق عملية التوسعة للبيان، سواء في الفقه أو العقيدة، بلا حاجة للإنشغال بالقضايا القبلية أو «المشاغبات العقلية» التي تسقط منطق «التشابه» على النص بدل البيان. لهذا فقد أنكر أن يكون «المنطق» بدعة كما يشاع عنه وسط النظام المعياري. فعلى العكس أنه أوجب تعلمه وإتخاذه في كل من الفقه والعقائد، حتى اعتبر كتب أرسطو في المنطق «كلها كتب سالمة مفيدة دالة على توحيد الله عز وجل وقدرته، عظيمة المنفعة في انتقاد جميع العلوم. وعظم منفعة الكتب - التي ذكرنا - في الحدود أمر واضح. ففي مسائل الأحكام الشرعية بها يتعرف كيف التوصل إلى الإستنباط، وكيف تؤخذ الألفاظ على مقتضاها، وكيف يعرف الخاص من العام، والمجمل من المفسر، وبناء الألفاظ بعضها على بعض، وكيفية تقديم المقدمات وإنتاج النتائج، وما يصح من ذلك صحّة ضرورية أبداً وما يصحّ مرة، وما يبطل أخرى ولا يصح البتة، وضروب الحدود التي من شذّ عنها كان خارجاً عن أصله، ودليل الخطاب ودليل الإستقراء، وغير ذلك مما لا غناء بالفقيه المجتهد لنفسه ولأهل ملته عنه»[35].
لذلك اعتبر أن مَن جهل المنطق فسيخفى عليه فهم الخطاب والإنتاج المعرفي من الكتاب والسنة بترتيب المقدمات والنتائج وتمييزها عن بعضها البعض. ورأى بأن مَن لا يعرف المنطق «لم يجز له أن يفتي بين إثنين لجهله بحدود الكلام وبناء بعضه على بعض وتقديم المقدمات وإنتاجها النتائج التي يقوم بها البرهان وتصدق أبداً، ويميزها من المقدمات التي تصدق مرة وتكذب مرة أخرى»[36]. لكنه مع ذلك عذر السلف في جهلهم له لعدم حاجتهم إليه آنذاك، سيما وانهم قضوا فترة تتصف بصفاء الذهن من المشاغبات والتشويشات التي ظهرت في ما بعد، والتي اختلط فيها الحق بالباطل[37].
لقد اتخذت عملية توظيف المنطق البرهاني لخدمة البيان صورة ما اطلق عليه إبن حزم (الدليل)، إذ اعتبر الأصول أربعة، هي القرآن والسنة والإجماع والدليل. وعنده أن الإجماع كاشف عن النص لا في قباله، مما يعني اختزال هذه الأصول إلى النص والدليل. ولما كان الدليل ليس مادة أو موضوعاً في قبال النص، بل مجرد إجراء يطبق لغرض فهم الموضوع دون أن يضيف إليه أمراً آخر خارجاً عنه، لذا فالموضوع الوحيد في تلك الأصول هو النص بما يحمل من ظاهر أو يكشف عن بيان. وعليه فبعد أن يعدد هذه الأصول الأربعة يعود فيعتبر أنه «لا سبيل إلى معرفة شيء من أحكام الديانة أصلاً إلا من أحد هذه الوجوه الأربعة، وهي كلها راجعة إلى النص، والنص معلوم وجوبه، ومفهوم معناه بالعقل على التدريج الذي ذكرناه»[38].
هكذا يكون المنطق قد وُظف لتوسعة البيان لا لتضييقه، خلافاً للعقل الكلامي الذي عمل على تضييق البيان وتحويله إلى «متشابه» طبقاً للتشريعات القبلية المنافسة للبيان. فنحن مع طريقة إبن حزم المنطقية قلما نجد تشريعات قبلية مثل تلك التي يمارسها الكلاميون والفلاسفة وغيرهم، كما لا نجد عناصر أجنبية تعمل على توجيه النص وتحرفه عن بيانه وظاهريته من الناحية الإبستمولوجية. فإدخال المنطق في توظيفه للظاهر لم يزد البيان إلا بياناً، فالبيان كما عرّفه هو «كون الشيء في ذاته ممكناً أن تعرف حقيقته لمن أراد علمه»[39]، وهو متحقق – بنظره - في نص الخطاب، فقد ورد اللفظ في النص الديني في غاية الوضوح والبيان بحيث لا يحتمل إلا معنىً واحداً. لذلك منع أن يمارس في حق هذا اللفظ التوجيهات اللغوية بما فيها المعاني التي كانت مألوفة في العصر الجاهلي قبل الإسلام[40]. فالتوجيه الذي وافق عليه هو فقط ذلك الذي ينحصر بالنص ذاته، فيكون الأخير بعضه مفسراً للبعض الآخر، أو ببديهة العقل وضرورة الحس، وكما صرح بأن الشريعة وردت بـ «الفاظ عربية معروفة المعاني في اللغة التي نزل بها القرآن، فلا يحل لأحد صرف لفظة معروفة المعنى في اللغة عن معناها الذي وضعت له في اللغة التي بها خاطبنا الله تعالى في القرآن، إلى معنى غير ما وضعت له، إلا أن يأتي نص قرآن أو كلام عن رسول الله (ص) أو إجماع من علماء الأمة كلها على أنها مصروفة عن ذلك المعنى إلى غيره، أو يوجب ضرورة حس أو بديهة عقل، فيوقف حينئذ عند ما جاء من ذلك»[41].
لكن مع كل ما سبق فإن إبن حزم لم يلتزم بالمبدأ الذي دعا إليه من البيان الظاهر أحياناً، فهو قد مارس التأويل بشأن الصفات الإلهية كما مارسها علماء الكلام من الدائرة العقلية، كالذي كشفنا عنه في (العقل والبيان والإشكاليات الدينية)[42]. كما أن من المؤاخذات التي نؤاخذ بها هذه النظرية هو أنها تتعالى على الواقع وتتنافى مع مقاصد الشريعة العامة، كالذتي فصلنا الحديث عنها في (جدلية الخطاب والواقع) و(فهم الدين والواقع).
[1] إبن حزم: الفصل، ج2، ص91ـ92.
[2] إبن حزم: الأحكام في أصول الأحكام، مطبعة السعادة في مصر، الطبعة الأولى، 1345هـ، ج1، ص17.
[3] إبن حزم: علم الكلام على مذهب أهل السنة والجماعة، تحقيق أحمد حجازي السقا، نشر المكتب الثقافي في الأزهر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1989م.
[4] المائدة/3.
[5] الانعام/38.
[6] إبن حزم: النبذ في أصول الفقه، شبكة المشكاة الإلكترونية، ص16. والأحكام في أصول الأحكام، ج8، ص2ـ3. والمحلى، ج1، ص52.
[7] الأحكام في أصول الأحكام، ج1، ص18.
[8] المصدر السابق، ج1، ص19.
[9] إبن حزم: الأحكام في أصول الأحكام، ج5، ص121 و124 و140، وج2، ص120، وج6، ص151ـ152. والمحلى، تصحيح محمد خليل هراس، مطبعة الإمام في القلعة بمصر، ج1، ص59. كذلك: سالم يفوت: إبن حزم والفكر الفلسفي بالمغرب والاندلس، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1986م، ص159.
[10] إبن حزم: النبذ في أصول الفقه، ص74.
[11] النبذ في أصول الفقه، ص72.
[12] المحلى، ج1، ص 60.
[13] الأحكام في أصول الأحكام، ج6، ص 150.
[14] المصدر السابق، ج1، ص 99ـ100.
[15] المصدر السابق، ج6، ص56 و123 و149ـ150، وج2، ص122ـ123. كما لاحظ: الموافقات للشاطبي، ص289.
[16] الأحكام في أصول الأحكام، ج1، ص 42.
[17] نفس المصدر، ج1، ص117 و119.
[18] النجم/28.
[19] نفس المصدر السابق، ج1، ص126. كذلك: المحلى، ج1، ص64.
[20] الفصل، ج2، ص98.
[21] سورة المائدة/ 3.
[22] الأحكام في أصول الأحكام، ج1، ص10.
[23] النبذ في أصول الفقه، ص36ـ38.
[24] الأحكام في أصول الأحكام، ج1، ص65 و77.
[25] الفصل، ج5، ص68ـ69.
[26] الأحكام في أصول الأحكام، ج1، ص66.
[27] إبن حزم الأندلسي: علم الكلام على مذهب أهل السنة والجماعة، ص26ـ27. كذلك: إبن حزم: رسالة التقريب لحد المنطق، ضمن رسائل إبن حزم الأندلسي، تحقيق احسان عباس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1983م، ص197. ورسالة مراتب العلوم، ضمن رسائل إبن حزم الأندلسي، ج4، ص62. والمحلى، ج1، ص32.
[28] اعلام الموقعين، ج2، ص299.
[29] شرح الأصول الخمسة، مصدر سابق، ص571. كما لاحظ: الفصل السابع من كتابنا العقل والبيان والإشكاليات الدينية.
[30] الأحكام في أصول الأحكام، ج1، ص28ـ29. والفصل، ج2، ص 135.
[31] المصدر السابق، ج1، ص 44، وج8، ص77 و98ـ99 و102ـ103.
[32] رسالة التقريب لحد المنطق، ضمن رسائل إبن حزم الاندلسي، ج4، ص303.
[33] الفصل لإبن حزم، ج2، ص135 و177.
[34] الفصل، ج2، ص77. وإبن حزم، ص438.
[35] الفصل، ج2، ص77. والتقريب لحد المنطق، ضمن رسائل إبن حزم، ج4، ص98 وما بعدها.
[36] رسالة التقريب لحد المنطق، ضمن رسائل إبن حزم، ج 4، ص102 و95.
[37] المصدر السابق، ص94ـ95.
[38] الأحكام في أصول الأحكام، ج1، ص69.
[39] المصدر السابق، ج1، ص 40
[40] الفصل، ج3، ص109 وما بعدها. كذلك: إبن حزم والفكر الفلسفي بالمغرب والاندلس، ص120.
[41] الفصل، ج3، ص30.
[42] انظر الفصل الأخير من الكتاب.