يحيى محمد
لقد اهتم عدد من المتأخرين من أصحاب الدائرة البيانية بقضية تأويل الظواهر اللفظية للصفات، وكان الغرض من ذلك تفويت الفرصة على المثبتين لها، بعد أن ساد في أوساطهم نزعة التشبيه والتكييف رغم قولهم أنها مما لا تعقل تبعاً لقوله تعالى: ((ليس كمثله شيء)). وكان من بين ما فعله النافون للظواهر اللفظية هو نقل الأخبار التأويلية المأثورة عن السلف، كما نقلوا تأويل من جاء بعدهم من الحفّاظ، وأخذوا يستنجدون أحياناً ببعض من أصحاب الدائرة العقلية أو المتأثرين بها لتأويلها. وبالتالي أنه لم تذكر صفة من الصفات الموهمة للتشبيه إلا ووجدوا لها شاهداً من تأويل السلف وأتباعهم من المنشغلين بالقضايا البيانية. والنماذج على ذلك كثيرة، منها ما يلي:
1ـ عن صفة الصورة كما في الصحيحين: (خلق الله آدم على صورته) ذكر إبن الجوزي أن للناس فيها مذهبين أحدهما: السكوت عن تفسيرها، والثاني: الكلام في معناها، حيث ردّ على من فسّرها بصيغة التشبيه ولو بقول القائل إن له صورة لا كالصور، كالذي يقوله إبن قتيبة والقاضي أبو يعلى، فعلى رأيه أن الصورة هي هيئة وتخاطيط وتأليف، وتفتقر إلى مصور ومؤلف، وقول القائل لا كالصور ينقض ما قاله، وصار بمثابة من يقول: جسم لا كالأجسام، فإن الجسم ما كان مؤلفاً، فإذا قال: لا كالأجسام نقض ما قال[1]. وعليه نقل عدداً من وجوه التأويل والتفسير المتضمن للتنزيه، فالبعض اعتبر الصورة المشار إليها في الحديث لا تعود إلى الله تعالى، بل إلى آدم كالذي ذهب إليه أبو سليمان حمد الخطابي (المتوفى سنة 388هـ). واعتبر بعض آخر أن لفظ الصورة يعود إلى الله لكن بمعنى الصفة، فنقل عن إبن عقيل (المتوفى سنة 513هـ) قوله: إنما خصّ آدم بأضافة صورته إليه لتخصيصه بالسلطنة التي تشاكلها الربوبية استعباداً وسجوداً وأمراً نافذاً وسياسات تعمر بها البلاد ويصلح بها العباد، وليس في الملائكة والجن من تجمع على طاعة نوعه وقبيلته سوى الآدمي[2].
كما نقل إبن حجر ما مال إليه الحافظ البيهقي من معنى الصفة. ونقل أيضاً ما قاله إبن بطال (المتوفى سنة 449هـ) من أن لفظ الصورة الوارد في حديث البخاري ومسلم: (فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة فيقول أنا ربكم)[3]؛ يحتمل أن يكون بمعنى العلامة وضعها الله لهم دليلاً على معرفته، إذ يسمى الدليل والعلامة صورة[4]. كذلك فإن الإمام النووي نقل عن القاضي عياض أن معنى الصورة في الحديث (فيأتيهم في صورته التي يعرفون) هو الصفة، والمعنى هو أن الله يتجلى لهم على الصفة التي يعلمونها ويعرفونه بها، وإنما عرفوه بصفته[5].
2ـ وعن صفة الوجه نقل إبن الجوزي ما رآه الضحاك وأبو عبيدة بأن المقصود به في الآية: ((كل شيء هالك إلا وجهه)) (القصص/88)، هو الله تعالى، خلافاً لما صرح به جماعة من البيانيين مثل إبن حامد الذي يقول: أثبتنا لله وجهاً ولا يجوز إثبات رأس[6]. كما نقل إبن حجر قول البعض بأن المراد من الوجه في الآية السابقة هو الذات المقدسة، حيث لو كانت صفة من صفات الفعل لشملها الهلاك كما شمل غيرها من الصفات وهو محال. ونقل ما روي عن سفيان وغيره أن المقصود من الوجه هو القصد، أي يبقى ما أريد به وجهه. واستشهد بقول البيهقي: تكرر ذكر الوجه في القرآن والسنة الصحيحة، وهو في بعضها صفة ذات، مثل الحديث الوارد في صحيح البخاري: (وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)[7]، وفي بعض آخر بمعنى من أجل، مثل قوله تعالى: ((إنما نطعمكم لوجه الله)) (الإنسان/9)، وفي بعض ثالث بمعنى الرضا، كقوله تعالى: ((يريدون وجهه)) (الأنعام/52) وقوله: ((الا ابتغاء وجه ربه الأعلى)) (الليل/20). وفي جميع الأحوال ليس هناك ما يدل على الجارحة جزماً[8]. كما ذكر الكرماني أن المراد بالوجه في الآية والحديث هو الذات أو الوجود أو لفظه زائد أو الوجه الذي لا كالوجوه؛ لإستحالة حمله على العضو المعروف، فتعين التأويل أو التفويض[9]. وكذا جاء عن الكرماني أن الحديث السالف الذكر (رداء الكبرياء على وجهه) هو من المتشابهات؛ فإما أن يفوض أو يأول بأن يكون المراد بالوجه الذات، والرداء صفة من صفات الذات اللازمة المنزهة عما يشبه المخلوقات.
كما نقل إبن حجر قول القاضي عياض بأن العرب كثيراً ما كانت تستعمل الإستعارة، وأن مخاطبة النبي لهم كان على هذا الوجه، فمن أجرى الكلام على ظاهره أفضى به الأمر إلى التجسيم، ومن علم أن الله منزه عن مقتضى الظاهر فإما أن يكذب نقلة الحديث أو يأوله[10].
كذلك قال النووي في معنى الحديث الذي رواه مسلم (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)[11]؛ إن معنى الوجه هو الذات، ومعنى (ما انتهى إليه بصره من خلقه) جميع المخلوقات، لأنه سبحانه محيط بها جميعاً[12].
3ـ وعن صفة العين كما جاء في قوله تعالى: ((ولتصنع على عيني)) (طه/39) وقوله ((واصنع الفلك بأعيننا)) (هود/37) نقل إبن الجوزي ما قاله المفسرون بأن معناها بمرأى منا، وردّ على من قال بأن العين هي صفة زائدة على الذات كما يقول القاضي أبو يعلى، وسبقه في ذلك أبو بكر بن خزيمة الذي يقول: «لربنا عينان ينظر بهما». فقد اعتبر إبن الجوزي أن إثبات العينين إبتداعاً لا دليل عليه، لأنه لم يرد فيه نص[13]، إنما أثبتوه من دليل الخطاب كما في الحديث الوارد في صحيح مسلم: (وإن الله ليس بأعور)[14]، مع أن العلماء اختلفوا حول حجية دليل الخطاب في أحكام الفقه وفروع الدين، فكيف بأصوله[15] ؟!
وجاء عن إبن المنير أن وجه الإستدلال على إثبات العين لله من الحديث السابق (ان الله ليس بأعور) هو أن العور عبارة عن عدم العين عرفاً، وضد العور ثبوت العين، فلما نزعت هذه النقيصة لزم ثبوت الكمال بضدها وهو وجود العين، لكنه اعتبر ذلك على سبيل التمثيل والتقريب للفهم لا على معنى إثبات الجارحة[16].
4ـ وعن صفة اليد كما في قوله تعالى: ((يد الله فوق أيديهم)) (الفتح/10) نقل إبن الجوزي رأي الحسن بأن معناها هو المن والإحسان. كما نقل رأي إبن عقيل في تفسيره لآية: ((لما خلقت بيديّ)) (ص/75) هو لما خلقت أنا، وهو كمعنى قوله: ((ذلك بما قدمت يداك)) (الحج/ 10)، أي بما قدمت أنت[17].
كذلك رأى البعض أن الآية السابقة ((لما خلقت بيديّ)) تساق مساق التمثيل للتقريب، لأن من اعتنى بشيء واهتم به باشره بيديه، فيستفاد من ذلك أن العناية بخلق آدم كانت أتم من العناية بخلق غيره[18].
وعلى هذه الشاكلة سبق للطبري أن قام بتأويل الأيد في قوله تعالى: ((والسماء بنيناها بأيد)) (الذاريات/ 47) بأن معناها القوة، وهو أن السماء رفعناها سقفاً بقوة، وصرح بأن هذا التأويل هو ما ذهب إليه المفسرون، ونقل ذلك عن كل من إبن عباس ومجاهد وقتادة ومنصور وإبن زيد وسفيان[19].
وقد عُرف أن لليد في اللغة معان كثيرة، حتى اوصلها البعض إلى أربعة وعشرين معنى ما بين حقيقة ومجاز[20]، وذلك كالتالي:
الاول: الجارحة.
الثاني: الطاعة.
الثالث: الطاقة.
الرابع: الجماعة.
الخامس: الحفظ.
السادس: السلطان.
السابع: جناح الطائر.
الثامن: الذل، نحو: ((حتى يعطوا الجزية عن يد)) (التوبة/29).
التاسع: العهد، نحو: ((يد الله فوق أيديهم)) (الفتح/10)، ومنه قولهم: هذي يدي لك بالوفاء.
العاشر: الملك، نحو: ((قل إن الفضل بيد الله)) (آل عمران/73).
الحادي عشر: ((أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح)) (البقرة/237).
الثاني عشر: القوة، نحو القول: داود ذا الأيد.
الثالث عشر: التفرق، نحو القول: تفرقوا أيدي سبأ.
الرابع عشر: النعمة، نحو القول: وكم لظلام الليل عندي من يد.
الخامس عشر: الإبتداء، نحو القول: لقيته أول ذات يدي وأعطاه عن ظهر يد.
السادس عشر: الإستسلام والإنقياد، نحو قول الشاعر: أطاع يداً بالقول فهو ذلول.
السابع عشر: المدة، نحو القول: لا ألقاه يد الدهر.
الثامن عشر: الطريق، نحو القول: أخذتهم يد الساحل.
التاسع عشر: النقد، نحو القول: بعته يداً بيد.
العشرون: يد القوس أعلاها.
الحادي والعشرون: يد السيف مقبضه.
الثاني والعشرون: يد الرحى عود القابض.
الثالث والعشرون: يد الشيء أمامه.
الرابع والعشرون: يد الثوب ما فضل منه.
5ـ وعن صفة اليمين كما في حديث أبي هريرة (إن يمين الله ملأى)، رأى الخطابي أن معناه هو حسن القبول، حيث جرت العادة من ذوي الأب بأن تصان اليمين عن مس الأشياء الدنيئة وإنما تباشر بها الأشياء التي لها قدر ومزية، وليس فيما يضاف إلى الله تعالى من صفة اليدين شمال، لأن الشمال لمحل النقص في الضعف، وقد روي (كلتا يديه يمين) وليس المقصود باليد الجارحة إنما هي صفة جاء بها التوقيف[21].
6ـ وعن صفة القبض في اليد كما في قوله تعالى: ((وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون)) (الزمر/67)، ذكر إبن الجوزي إنما أضيفت القبضة إلى الله لأن أفعال المملوك تنسب إلى المالك[22]. وأشار في موضع آخر إلى أن القبض الذي ورد في بعض الأحاديث لا يحمل على المعاني الحسية، معتبراً أن الله ليس له كف ويد وجارحة، وأن قبضه للأشياء لا يكون بالمس والمباشرة. وعليه فما جاء في الحديث أن رسول الله قبض أصابعه وبسطها - حال إخباره عن قبض الله تعالى - إنما كان غرضه تقريب المعنى إلى الافهام[23]. وكذا جاء عن المازري أن القبض يقع ضمن القدرة في التصرف، أما اليدان كما وردا في الحديث فهما لتفهيم المعنى بما اعتاده المخاطبون[24].
7ـ وعن صفة الأصابع، كما في عدد من الأحاديث، ذكر الخطابي أنه ليس لليد في الصفات معنى الجارحة حتى يتوهم بثبوتها ثبوت الاصابع، بل هو توقيف شرعي مثلما جاء به الكتاب من غير تكييف ولا تشبيه[25].
وكذا قال القرطبي - كما نقل إبن حجر - بأنه لو كان الله ذا يد وأصابع وجوارح لكان كواحد منا، فوجب له من الافتقار والحدوث والنقص والعجز ما يجب لنا، ولو كان كذلك لاستحال أن يكون إلهاً. وحول الحديث القائل: (إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن) صرح القرطبي بأنه إذا جاءنا مثل هذا في الكلام الصادق تأولناه أو توقفنا فيه إلى أن يتبين وجهه مع القطع بإستحالة ظاهره، لضرورة صدق من دلّت المعجزة على صدقه، وأما إذا جاء على لسان من يجوز عليه الكذب كذّبناه وقبحناه[26].
8ـ وعن صفة القدم نقل إبن الجوزي ما رواه أبو بكر البيهقي عن الحافظ النضر بن شميل (المولود سنة 122هـ) أنه قال: القدم في حديث (حتى يضع الجبار فيها قدمه) يعني الكفار الذين سبق في علم الله أنهم من أهل النار. وقال أبو منصور الأزهري أن القدم هم الذين قدّم الله تخليدهم في النار[27].
كما نقل إبن حجر عدداً من الأقوال في معنى القدم الوارد في الحديث، منها ما قاله الاسماعيلي من أنه قد يكون اسماً لما قدم، كما يسمى ما خبط من ورق خبطاً، فالمعنى هو ما قدّموا من عمل. وقال إبن حبان في صحيحه أن معناه الموضع، أي يضع الرب فيها موضعاً من الأمكنة فتمتلئ، وذلك لأن العرب تطلق القدم على الموضع، كما قال تعالى: ((ان لهم قدم صدق)) (يونس/2)، أي موضع صدق. كما اعتبر الداودي أن المراد بالقدم هو قدم صدق، وهو محمد (ص)، والإشارة بذلك إلى شفاعته وهو المقام المحمود. وقيل أن المراد به الأخير لأن القدم آخر الاعضاء فيكون المعنى حتى يضع الله في النار آخر أهلها فيها[28].
9ـ وعن صفة الساق نقل إبن الجوزي ما يراه كل من إبن عباس ومجاهد وإبراهيم النخعي وقتادة وجمهور العلماء من أن معناه في قوله تعالى: ((يوم يكشف عن ساق)) (القلم/ 42)، هو الشدة، إذ كانت العرب تنشد وتقول: (وقامت الحرب بنا على ساق)، أو تقول: (إذا شمرت عن ساقها الحرب شمرا). وعلى رأي إبن قتيبة أن أصل ذلك هو أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى معاناة الجد فيه، شمّر عن ساقه، فاستعيرت الساق في موضع الشدة. وبهذا قال الفراء وأبو عبيدة وثعلب واللغويون. وروى البخاري ومسلم في الصحيحين عن النبي (ص): (إن الله عز وجل يكشف عن ساقه)، وكما يرى إبن الجوزي أن المقصود به هو أن الله يزيل شدته. وقال عاصم بن كليب: رأيت سعيد بن جبير غضب وقال: يقولون يكشف عن ساقه، وإنما ذلك عن أمر شديد[29].
كما نقل النووي وإبن حجر عن الخطابي قوله: تهيب كثير من الشيوخ الخوض في معنى الساق، ونقلا عنه أيضاً قوله: إن الساق قد يراد به النفس. كما نقلا عن إبن عباس معناه في الآية الآنفة الذكر هو أن الله يكشف عن قدرته التي تظهر بها الشدة، إذ استفاد المعنى من الشعر، وذلك أنه قال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فاتبعوه من الشعر. كما روي عن أبي موسى الأشعري أنه فسّر الساق بالنور العظيم. كذلك نقل النووي ما قاله القاضي عياض في معنى الحديث النبوي: (فيكشف عن ساق) وهو أن المراد به نور عظيم. كما أورد عياض معاني أخرى قيلت في الساق، منها أنه قد يكون علامة بينه وبين المؤمنين من ظهور جماعة من الملائكة على خلقة عظيمة، لأنه يقال ساق من الناس كما يقال رجل من جراد. كما قد يكون ساقاً مخلوقاً جعله الله تعالى علامة للمؤمنين خارجة عن السوق المعتادة. وأيضاً قيل أن معناه كشف الخوف وإزالة الرعب عنهم، فتطمئن حينئذ نفوسهم عند ذلك ويتجلى لهم الرب فيخرون سجداً[30]. كما نقل النووي عن إبن فورك أن معناه ما يتجدد للمؤمنين من الفوائد والألطاف، وعن المهلب قوله: كشف الساق للمؤمنين رحمة ولغيرهم نقمة[31].
10ـ وعن صفة المجيء والإتيان والنزول والهرولة والدنو والتدلي وما إليها مما ورد في القرآن والحديث؛ سبق أن ذكرنا ما نقله إبن الجوزي عن أحمد بن حنبل تأويله لآيات المجيء والإتيان. وفي حديث النزول أحال إبن الجوزي أن تكون لله حركة ونقلة وتغيير، واعتبر أن الناس في ذلك إما متأول للحديث على معنى أنه يقرب رحمته، أو ساكت عن الكلام مع إعتقاده التنزيه[32].
كما نقل الحافظ العسقلاني تأويل إبن حزم لحديث النزول بأنه فعل يفعله الله في سماء الدنيا كالفتح لقبول الدعاء، وأن تلك الساعة من مظان الإجابة وهو معهود في اللغة. وردّ على الهروي الذي زعم أن هناك طرقاً عديدة لحديث النزول؛ يُذكر في بعضها الصعود بعد النزول مما لا تقبل التأويل، فردّ عليه بالقول: إن الطرق التي ذكرها كلها ضعيفة، وعلى تقدير ثبوتها فإن محصلها ذكر الصعود بعد النزول، فكما قبل النزول التأويل لا يمنع قبول الصعود التأويل[33].
كذلك نقل العسقلاني تأويل العديد من البيانيين لمعنى الهرولة والتقرب إلى العبد كما جاء في الحديث[34]، مثل إبن بطال وإبن التين والخطابي والكرماني. فمثلاً أن إبن بطال رأى أن الإتيان والهرولة كل ذلك يحتمل الحقيقة والمجاز؛ فحملها على الحقيقة يقتضي قطع المسافات وتداني الأجسام وذلك في حقه تعالى محال، فلما استحالت الحقيقة تعين المجاز لشهرته في كلام العرب، فيكون وصف العبد بالتقرب إليه شبراً وذراعاً وإتيانه ومشيه معناه التقرب إليه بطاعته وأداء مفترضاته ونوافله، ويكون تقربه سبحانه من عبده وإتيانه والمشي عبارة عن إثابته على طاعته وتقربه من رحمته، ويكون قوله أتيته هرولة أي أتاه ثوابي مسرعاً. وقريب من ذلك ما قاله إبن التين والخطابي والكرماني[35].
ونقل إبن حجر عن إبن عباس تأويله لمعنى الدنو والتدلي في حديث الإسراء وفي الآية ((ثمّ دنا فتدلّى، فكان قاب قوسين أو أدنى)) (النجم/8ـ9)، وهو أنْ دنا أمره وحكمه، وأصل التدلي النزول إلى الشيء حتى يقرب منه، وقيل تدلى الرفرف لمحمد (ص) حتى جلس عليه ثم دنا محمد من ربه[36]. كما نقل عن القاضي عياض في الشفاء تأويله للدنو والقرب مثلما يقال في حديث النزول وحديث التقرب. ونقل عن غيره أن الدنو عبارة عن مجاز عن القرب المعنوي لاظهار عظيم منزلته عند ربه تعالى، والتدلي طلب زيادة القرب، وقاب قوسين بالنسبة إلى النبي عبارة عن لطف المحل وإيضاح المعرفة، وبالنسبة إلى الله إجابة سؤاله ورفع درجته[37].
11ـ وعن صفة الإستواء والعرش والكرسي نقل إبن حجر قول إبن بطال، بأن أهل السنة اختلفوا في معنى قوله تعالى: ((استوى على العرش)) (الأعراف/54)؛ إن كان المقصود بالإستواء صفة ذات تعني العلو، أو صفة فعل تعني غير ذلك[38]. وجاء أن عدد نصوص الإستواء سبع والفوق ثلاث والعلو خمسة؛ كالتي ذكرها إبن القيم[39]. وسبق للطبري أن حدد معاني الإستواء لغوياً وجاء في بعضها أن معناه العلو، لكنه علو ملك وسلطان لا علو انتقال وزوال، وكما قال: «الإستواء في كلام العرب منصرف على وجوه: منها انتهاء شباب الرجل وقوته، فيقال إذا صار كذلك: قد استوى الرجل، ومنها استقامة ما كان فيه أود من الأمور والأسباب، يقال منه: استوى لفلان أمره: إذا استقام له بعد أود.. ومنها الإقبال على الشيء بالفعل، كما يقال: استوى فلان على فلان بما يكرهه ويسوءه بعد الإحسان إليه. ومنها الإحتياز والإستيلاء كقولهم: استوى فلان على المملكة، بمعنى احتوى عليها وحازها. ومنها العلو والإرتفاع، كقول القائل: استوى فلان على سريره، يعني به علوه عليه. وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه: ((ثم استوى إلى السماء فسواهن)) علا عليهن وارتفع فدبرهن بقدرته وخلقهن سبع سموات. والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله: ((ثم استوى إلى السماء)) الذي هو بمعنى العلو والارتفاع هرباً عند نفسه من أن يلزمه بزعمه إذا تأوله بمعناه الموهم كذلك أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها، إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر، ثم لم ينج مما هرب منه. فيقال له: زعمت أن تأويل قوله: استوى أقبل، أفكان مدبراً عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل ولكنه إقبال تدبير، قيل له: فكذلك فقل: علا عليها علو ملك وسلطان لا علو انتقال وزوال»[40]. ونُقل عن سفيان بن عيينة أنه كان يقول: يفهم من الإستواء في آية الإستواء على العرش ما يفهم من قوله تعالى: ((ثم استوى إلى السماء)) (البقرة/29) [41].
في حين اعتبر البعض، مثل إبن القيم، أن أهل العلم أجمعوا على أن الله فوق العرش، وذكر جماعة كثيرة منهم؛ بمن فيهم الطبري الذي نقلنا قوله آنفاً. ومن هؤلاء إبن عباس ومجاهد ومقاتل والكلبي ورفيع وأبي عبيدة والأشعري والبغوي ومالك والشافعي والنعمان ويعقوب وأحمد وإبن المبارك وإبن خزيمة. ونقل إبن القيم عن جماعة ادعوا الإجماع مثل إبن عبد البر وإبن وهب وحرب الكرماني وإبن أبي زيد والكرجي. وجاء القول به لدى كل من عبد بن حميد والنسائي وعثمان الدارمي وإبن أصرم وعبد الله بن أحمد والأثرم وأبي حاتم وابنه ومحمد بن أبي شيبة وإبن أبي داود وإبن أسباط وسفيان وحماد بن زيد وحماد بن سلمة والبخاري والطبري اللالكائي الشافعي وإسماعيل التيمي والطبراني والطلمنكي والطحاوي والباقلاني وإبن كلاب والطبري في التفسير والداني وإبن سريج وأبي الخير العمراني صاحب البيان وسواهم[42].
وجاء في الحديث أنه سئل النبي (ص): يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ فأجاب النبي: كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء. لكن الخطابي اعتبر أن المقصود من السؤال هو: أين كان عرش ربنا فحذف اتساعاً واختصاراً كقوله تعالى: ((واسأل القرية)) (يوسف/82) والمقصود أهل القرية، وكذا قوله تعالى ((وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم)) (البقرة/93)، أي حب العجل، وأكد هذا المعنى بقوله تعالى: ((وكان عرشه على الماء)) (هود/7)، حيث اعتبر العماء بمعنى السحاب محل الماء فكنى به عنه[43].
أما الكرسي فقد روي عن أبي موسى الأشعري أنه قال: الكرسي موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل. لكن علق على ذلك السيوطي بقوله: إن هذا على سبيل الإستعارة تعالى الله عن التشبيه[44]. وسبق للطبري أن روى عن إبن عباس أنه كان يأول معنى الكرسي إلى العلم، كما في تفسيره لقوله تعالى: ((وسع كرسيه السموات والأرض)) (البقرة/256)، وعلق الطبري بقوله: أصل الكرسي: العلم، ومنه قيل للصحيفة يكون فيها علم مكتوب كراسة، ومنه قول الراجز في صفة قانص: حتى إذا ما احتازها تكرسا يعني علم. ومنه يقال للعلماء: الكراسي، لأنهم المعتمد عليهم، كما يقال: أوتاد الأرض، يعني بذلك أنهم العلماء الذين تصلح بهم الأرض، ومنه قول الشاعر: يحف بهم بيض الوجوه وعصبة كراسي بالأحداث حين تنوب، يعني بذلك علماء بحوادث الأمور ونوازلها. والعرب تسمي أصل كل شيء: الكرس، يقال منه: فلان كريم الكرس، أي كريم الأرض[45].
12ـ وعن صفة الضحك كما في عدد من الأحاديث نقل إبن الجوزي أن المراد به عند العلماء هو اظهار الفضل والكرم والكشف عن الكرب، ونقل عن الخطابي أن معنى ضحك الجبار كما في الحديث هو الرضى وحسن المجازاة[46].
وكذا نقل النووي قول العلماء بأن معنى الضحك المنسوب إلى الله هو رضاه بفعل عبده ومحبته إياه وإظهار نعمته وإيجابها عليه[47]. ولدى الخطابي أن معناه الإخبار عن رضا الله. كما تأوله البخاري فاعتبره دالاً على معنى الرحمة[48].
13ـ وعن صفة المحبة والغيرة نقل إبن حجر قول المازري من أن معنى محبة الله في القرآن والحديث هو إرادته ثوابهم وتنعيمهم. وقيل هي نفس الإثابة والتنعيم[49]. أما الغيرة التي وردت في جملة من الأحاديث فكما قال إبن دقيق العيد أن أهل التنزيه في مثل هذا على قولين: أما ساكت وإما مؤول، على أن المراد بالغيرة شدة المنع والحماية، فهو من مجاز الملازمة[50]. وكذا ما جاء عن إبن باز المعاصر للعسقلاني، وهو أن معنى الغيرة عند أهل السنة على وجه لا يماثل فيه صفة المخلوقين ولا يعلم كنهها وكيفيتها إلا الله سبحانه كالقول في الإستواء والنزول والرضا والغضب وغير ذلك من صفاته، لأنه منزه عن كل تغير ونقص فيتعين حمله على المجاز، فقيل لما كانت ثمرة الغيرة صون الحريم ومنعهم وزجر من يقصد إليهم أطلق عليه ذلك، فهو من باب تسمية الشيء بما يترتب عليه[51].
***
وأهم ما نستخلصه من العرض السابق هو اتهام المثبتين للظواهر اللفظية للصفات بأنهم من المشبهة حتى وإن قالوا بقيد عدم التشبيه والتكييف. فقد اعتبر العلماء السابقون بأن مثل هذا القول هو مجرد دعوى كاذبة. فابن الجوزي مثلاً يعد إثبات ذلك عبارة عن تشبيه وتكييف ولا يفهم غير هذا المعنى.
[1] دفع شبه التشبيه، ص144 و147.
[2] دفع شبه التشبيه، ص146ـ147.
[3] صحيح البخاري، حديث 7001. وصحيح مسلم، حديث 299.
[4] فتح الباري، ج13، ص357ـ358.
[5] المنهاج شرح صحيح مسلم، ج1، كتاب الايمان، باب معرفة طريق الرؤية.
[6] دفع شبه التشبيه، ص113.
[7] صحيح البخاري، حديث 7006.
[8] فتح الباري، ج13، ص329.
[9] المصدر السابق، ج13، ص329.
[10] نفس المصدر، ج13، ص363ـ364.
[11] صحيح مسلم، حديث 293.
[12] عن فتح الباري، ج13، ص362ـ363.
[13] بل هناك نص أوردوه كما ذكرناه سابقاً.
[14] صحيح مسلم، حديث 169.
[15] دفع شبه التشبيه، ص113ـ114 و264.
[16] فتح الباري، ج13، ص330.
[17] دفع شبه التشبيه، ص114ـ115.
[18] فتح الباري، ج13، ص331.
[19] الطبري: جامع بيان العلم عن تأويل أي القرآن، تحقيق أحمد شاكر، شبكة المشكاة الإلكترونية، مجلد14، ج22، ص438.
[20] علماً بأن المذكور خمسة وعشرون معنى، لكن أحدها مكرر (فتح الباري، ج13، ص331ـ332).
[21] فتح الباري، ج13، ص347 وص352ـ353.
[22] دفع شبه التشبيه، ص163.
[23] المصدر السابق، ص210.
[24] فتح الباري، ج13، ص334.
[25] دفع شبه التشبيه، ص206.
[26] فتح الباري، ج13، ص336.
[27] دفع شبه التشبيه، ص171.
[28] فتح الباري، ج8، ص457.
[29] دفع شبه التشبيه، ص118ـ119.
[30] المنهاج شرح صحيح مسلم، ج1، كتاب الايمان، باب معرفة طريق الرؤية. وفتح الباري، ج13، ص359.
[31] نفس المصدر والباب السابقين.
[32] دفع شبه التشبيه، ص194ـ196.
[33] فتح الباري، ج13، ص389ـ390.
[34] روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة (صحيح البخاري، حديث 6970. وصحيح مسلم، حديث 2675، وحديث 2687).
[35] فتح الباري، ج13، ص427 و429.
[36] المصدر السابق، ج13، ص403.
[37] المصدر السابق، ج13، ص403ـ404.
[38] المصدر السابق، ج13، ص342.
[39] السيف الصقيل، ص136.
[40] جامع البيان، ج1، ص276ـ277.
[41] البحر المحيط، فقرة 286.
[42] السيف الصقيل، ص122ـ123.
[43] أبو سليمان الخطابي البستي: إصلاح غلط المحدثين، مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ص108ـ110.
[44] الدر المنثور ج1، ص328.
[45] تفسير الطبري، ج3، ص15ـ17.
[46] دفع شبه التشبيه، ص180.
[47] المنهاج شرح صحيح مسلم، ج1، كتاب الايمان، باب معرفة طريق الرؤية، وباب آخر أهل النار خروجاً.
[48] فتح الباري، ج6، ص30.
[49] المصدر السابق، ج13، ص302.
[50] المصدر السابق، ج2، ص440، وج13، ص327.
[51] فتح الباري، ج2، ص439.