يحيى محمد
بالرغم من أن فهم الخطاب الديني ينحصر عند البيانيين في بيان النص، إلا أن له مراتب وأنواعاً مختلفة تبعاً لإختلاف آراء البيانيين أنفسهم. فقد تمثل البيان لدى إبن حزم بالقرآن الكريم ومن ثم السنة النبوية. والشيء ذاته عند إبن تيمية، سوى أنه أضاف إليه مراتب أخرى تخص مسلك الصحابة والتابعين ككاشفين عن بيان الكتاب والسنة. في حين انحصر البيان عند الاسترابادي في حقل واحد فقط، وهو خبر الإمام المعصوم[1]، أما الكتاب والسنة النبوية فهما لديه مصدر التشابه والغموض. لهذا قال صراحة: «ان يقال كيف عملكم معاشر الإخباريين في الظواهر القرآنية مثل قوله تعالى: ((أوفوا بالعقود))، وقوله: ((أو لامستم النساء))، وقوله: ((إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم)). وفي ظواهر السنن النبوية مثل قوله (ص): (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام). وجوابه أن يقال: نحن نوجب الفحص عن أحوالهما بالرجوع إلى كلام العترة الطاهرة (ع)، فإذا ظفرنا بالمقصود وعلمنا حقيقة الحال عملنا به، والا أوجبنا التوقف والتثبت ولا يجوز التمسك بما تمسكت به العامة أنه (ص) لم يخص أحداً بتعليم كل ما جاء به وبتعليم تفسير القرآن وما جاء به من نسخ أو قيد أو تأويل أو تخصيص، بل أظهر كل ما جاء به عند أصحابه وتوفرت الدواعي على أخذه ونشره ولم تقع بعده (ص) فتنة أوجبت اخفاء بعضه ومن أنه لولا ذلك لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وللزم الإغراء بالجهل، وذلك لما علم من المذهب ضرورة من أنه (ص) أودع كل ما جاء به عند العترة الطاهرة (ع) وأمر الناس بسؤالهم والرد أي الرجوع إليهم. وأي بيان أقوى من ذلك»[2].
وقال أيضاً: «.. من المعلوم أنه لم يرد منهم (ع) إذن في التمسك في نفس أحكامه تعالى أو نفيها بالاستصحاب أو البراءة الأصلية أو بظاهر كتاب الله أو بظاهر سنة نبيه (ص) من غير أن يعرف ناسخهما ومنسوخهما وعامهما وخاصهما ومقيدهما من مطلقهما ومؤولهما من غير مؤولهما من جهتهم (ع)، فمن تمسك بتلك الأمور كان سارقاً، وهذا بعد التنزل عن الأحاديث الناطقة بأنهم منعوا عن ذلك»[3].
كما اعتبر الاسترابادي أن المجتهد في أحكام الله تعالى إنْ أخطأ فقد افترى وكذب عليه تعالى، وإنْ أصاب لم يؤجر، لأنه لم يسلك السلوك الطبيعي لمعرفة الحكم الشرعي عن منابعه الأصيلة.
وشبيه بهذا الموقف ما قرره بعض الإخباريين من أن القرآن كله متشابه بلا استثناء. وسبق أن نقلنا – خلال القسم الأول من هذا الكتاب – ما حكاه المحدث الجزائري من أن بعض مشايخه ذهب إلى أن القرآن الكريم كله متشابه، بما في ذلك قوله تعالى: ((قل هو الله أحد))، حيث لا يُعرف معنى الأحدية ولا الفرق بين الأحد والواحد وما إلى ذلك.
لكن لو قصد الاسترابادي بأن مطلق تفسير القرآن والحديث النبوي يتوقف على حديث الأئمة، كما هو ظاهر عبارته، لأفضى به ذلك إلى الدور، إذ أن إثبات حجية الأئمة يتوقف بدوره على القرآن والحديث النبوي. لذا لعله أراد أن يمنع إستنباط الأحكام النظرية من الكتاب والسنة إلا من جهة الأئمة؛ لعلمهم بالناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد والعام والخاص والظاهر والمؤول والمحكم والمتشابه... الخ، سيما أن الحر العاملي الذي اتبع خطواته خطوة بخطوة، عنون بعض أبواب كتابه (وسائل الشيعة) بعناوين تمنع جواز إستنباط الأحكام النظرية من الكتاب والحديث النبوي، وهو في بعض المناسبات سلّم بوجود جملة من الدلالات الواضحة في القرآن[4].
مع ذلك فإن الاسترابادي والحر العاملي كلاهما لم يبرءا من التناقض، فقد مارسا التفسير النظري أحياناً لتأكيد دعواهما الخاصة، من قبيل استدلالهما بالآيات على إبطال التمسك بالإستنباطات الظنية في نفس أحكامه، كما في قوله تعالى: ((ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق))، وقوله: ((إن الظن لا يغني من الحق شيئاً))، وقوله: ((ولا تقف ما ليس لك به علم))، وقوله: ((وإنْ هم إلا يظنون))، وقوله: ((وإنْ هم إلا يخرصون))، وقوله: ((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون))... حتى اعتبر الاسترابادي أن تخصيص تلك الآيات بأصول الدين كما يراه الأصوليون هو خيال ضعيف[5]. ولولا أن وجهة نظره حول العلم لا تخرج عن العلم العادي لكان إعتباره هذا يوحي بأن استدلاله على نفي الإستنباطات الظنية كان ظنياً أيضاً؛ فيسفر عن التناقض والدور. ومع ذلك فإن سلوكه هذا يجعل من إعتباراته كلها تقوم على الظن من الناحية المنطقية. إضافة إلى أن تعويله على حديث العترة لا يجد له مبرراً إذا ما عرفنا أنه كالقرآن أيضاً لا يخلو من المتشابه والمجمل والمطلق والعام فضلاً عن التقية وغيرها، مما يجعل الحجة في عدم جواز تفسير القرآن هي عينها تنطبق على الحديث أيضاً.
مهما يكن، فهذا التشدد والتضييق في إعتبار دائرة البيان موقوفة على حديث الأئمة، لم يكن صبغة جميع المنظرين للبيان الإخباري الشيعي. فهناك من سعى لتوسعة البيان والتخفيف من حدّته في الوقت ذاته. فمن الإخباريين من وسّع هذه الدائرة لتشمل القرآن والسنة النبوية، في الوقت الذي أنكر أن يكون هذا البيان مفضياً إلى القطع، خلافاً لما ذهب إليه الاسترابادي. وهذا ما لجأ إليه كل من الفيض الكاشاني والشيخ البحراني. فقد استدل الفيض الكاشاني على بيان القرآن وأجاز تفسيره بأدلة عديدة، منها الأحاديث التي تأمر بعرض الأخبار على القرآن، ولقول النبي (ص): «إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي»، ولقوله (ص) أيضاً: «فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن»، وغير ذلك من الأخبار. واعتبر هذا المحدث أن أخبار المنع من تفسير القرآن يجب حملها على المتشابهات دون المحكمات. كذلك فإنه حمل الأخبار الواردة حول معنى آيات (أهل الذكر) على المتشابهات، مثلما جاء في قوله تعالى: ((فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون))[6]. إذ دلّت هذه الأخبار على تخصيص (أهل الذكر) بالأئمة كمعنيين بعلم القرآن دون غيرهم من الناس، لكن الفيض الكاشاني اعتبرها من المتشابهات، وذكر على ذلك وجوهاً ودلالات من العقل والنقل لا يسع ذكرها. وهو مع ذلك أجاز تفسير حتى المتشابهات، وإن خصّ بذلك المجاهدين الكاملين من الطائفة - وربما أراد بهذا التخصيص العرفاء بإعتباره ينتمي إليهم صراحة - وأيّد ذلك بقوله تعالى: ((والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا))[7]، واستدل عليه بدلالات ذكرها في أحد فصول الأصل التاسع من أصوله الأصيلة.
وفي محل آخر أكد الفيض الكاشاني على وسع دائرة البيان من حيث شمولها للكتاب فضلاً عن السنة بما فيها أخبار الأئمة، بل اعتبر أن الكمال في بيان الكتاب هو في حد ذاته يمنع من الحاجة إلى الإجتهادات العقلية، فبنظره أن الله تعالى بيّن جميع أحكام الشرع من الأصول والفروع في الكتاب، واستدل على ذلك بجملة من الآيات والأخبار، كقوله تعالى: ((ما فرطنا في الكتاب من شيء))[8].. ((ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين))[9]، وهو يعترف بأن هناك آيات محكمات يجب التمسك بها، وآخر متشابهات قد أمر الله أن يرجع بها إلى أهل الذكر والراسخين في العلم، فجاء في قوله تعالى: ((فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون))، وقوله: ((وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم))[10]، وقوله: ((ولو ردوه إلى الرسول والى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم))[11]، واعتبر أهل الذكر والراسخين في العلم هم أئمة أهل البيت المعصومون بدلالة الأخبار الكثيرة. هكذا عدّ منهجه في الفهم قائم على كل من الكتاب وأهل البيت، كما ورد عن النبي «إني تارك فيكم الثقلين ما أن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي، كتاب الله وعترتي أهل بيتي». كما إستند إلى أخبار أهل البيت ليستدل على كفاية الكتاب، فذكر بعض الأخبار الدالة على ذلك كقول الإمام علي في وصف القرآن: « فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون، فلو سألتموني عنه لعلّمتكم»، وقول الإمام الصادق: «كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وفصل ما بينكم، ونحن نعلمه»، وقوله أيضاً: «ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة»، ومثله: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله، ولكن لا تبلغه عقول الرجال».
وبذلك ينتهي الفيض الكاشاني إلى بيت القصيد، وهو أنه «قد عُلم من هذا أن الثقلين كافيان في تعليم الأمة معالم دينها أجمع ولا حاجة لأحد في أن يجتهد برأيه في الأحكام، أو يعمل بالقياس والإستحسان، وأن يضع أصولاً فقهية وطرق إستنباطات ظنية لذلك، كما يفعله العامة، بل ورد المنع الوكيد والزجر البليغ عن أمثال ذلك في أخبار لا تحصى، كما يظهر للمتتبع»[12].
أما البحراني فقد سعى لتوسعة البيان من خلال الأحاديث ذاتها، فذكر أخباراً تؤكد على ضرورة الرجوع في تفسير القرآن إلى الأئمة المعصومين، كما وذكر أخباراً أخرى تؤكد العكس، بعرض الخبر على القرآن، مستنتجاً من طائفة الأحاديث الأولى كونها صريحة، بخلاف الثانية، حيث اعتقد أنها تخلو من الصراحة في معارضتها مع الأولى[13]، لكنه مع ذلك انتهى إلى أن الموقف الصحيح هو ما لجأ إليه شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي في كتابه (التبيان في تفسير القرآن)، والذي قسّم فيه معاني القرآن بطريقة بيانية أخفت نزعته العقلية التي حوّلت البيان إلى متشابه، إذ ذكر بأن هناك أقساماً أربعة لمعاني القرآن، أحدها ما أخصّ به الله تعالى نفسه بالعلم دون غيره، وثانيها ما كان ظاهره مطابقاً لمعناه، فيعرفه من كان عارفاً للغة، مثل قوله تعالى: ((ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق))[14]، وثالثها ما كان مجملاً يحتاج إلى تفصيل، فيُعرف تفصيله عن النبي (ص)، مثل قوله: ((أقيموا الصلاة))[15]، ورابعها ما كان اللفظ مشتركاً بين أكثر من غيره بلا نص عن المعصوم[16].
فهذا ما صوّبه البحراني، وأيّده بما روي في (الإحتجاج) عن حديث لأمير المؤمنين علي مع الزنديق، إذ جاء فيه أن الله تعالى قسّم كلامه إلى أقسام ثلاثة، أحدها يعرفه العالم والجاهل، وثانيها لا يعرفه إلا من صفى ذهنه ولطف حسّه وصحّ تمييزه ممن شرح صدره للإسلام، وقسم ثالث لا يعرفه إلا الله وأنبياؤه والراسخون في العلم[17].
[1] الفوائد المدنية، ص17.
[2] نفس المصدر، ص164ـ165.
[3] الأصول الأصيلة، ص134ـ135.
[4] وسائل الشيعة، ج18، ص86 و129 و152.
[5] الفوائد المدنية، ص92. والفوائد الطوسية، ص403ـ404.
[6] النحل/43.
[7] الأصول الأصيلة، ص35ـ38.
[8] الانعام/38.
[9] الانعام/59.
[10] آل عمران/7.
[11] النساء/83.
[12] تسهيل السبيل بالحجة في انتخاب كشف المحجة، ص22ـ23.
[13] حاول البحراني أن يرد على الحجج التي قد تُوظف لإثبات البيان في القرآن من دون حاجة للامام المعصوم، وهي حجج مستمدة من الأحاديث والآيات، وقال بهذا الصدد: «فمن ذلك الأخبار الواردة بعرض الحكم المختلفة فيه الأخبار على القرآن والأخذ بما يوافقه وطرح ما يخالفه. ووجه الاستدلال أنه لو لم يفهم منه شيء إلا بتفسيرهم (ع) انتفى فائدة العرض. والجواب أنه لا منافاة، فإن تفسيرهم (ع) إنما هو حكاية مراد الله تعالى، فالأخذ بتفسيرهم أخذ بالكتاب، وأما ما لم يرد فيه تفسير عنهم (ص) فيجب التوقف فيه وقوفاً على تلك الأخبار وتقييداً لهذه الأخبار بها. ومن ذلك الآيات، كقوله سبحانه: ((ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء..))، وقوله: ((ما فرطنا في الكتاب من شيء..))، وقوله: ((لعلمه الذين يستنبطونه))، وقوله ((أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)). والجواب أن الآيتين الأوليين لا دلالة فيهما على أكثر من استكمال القرآن لجميع الأحكام وهو غير منكور، وأما كون فهم الأحكام مشتركاً بين كافة الناس، كما هو المطلوب بالاستدلال فلا. كيف وجلّ آيات الكتاب، سيما ما يتعلق بالفروع الشرعية كلها ما بين مجمل ومطلق وعام ومتشابه لا يهتدي منه - مع قطع النظر عن السنة - إلى سبيل، ولا يركن منه إلى دليل... وأما الآية الثالثة فظاهر سياق ما قبلها وهو قوله: ((ولو ردوه إلى الرسول والى اولي الأمر لعلمه الذين يستنبطونه منهم)) يدل على كون المستنبطين هم الأئمة (ع)، وبذلك توافرت الأخبار عنهم (ع)... وأما الآية الرابعة فأنا لا نمنع فهم شيء من القرآن بالكلية ليمتنع وجود مصداق الآية، فإن دلالة الآيات - على الوعد والوعيد والزجر لمن تعدى الحدود الإلهية والتهديد - ظاهر لا مرية فيه، وهو المراد من التدبر في الآية، كما ينادي عليه سياق الكلام» (الحدائق الناضرة للبحراني، ج1، ص30ـ32).
[14] الانعام/ 151.
[15] البقرة/ 43.
[16] الحدائق الناضرة، ج1، ص32. علماً بأن تقسيم الطوسي يشابه تقسيم إبن عباس الذي اعتبر أن معاني القرآن بعضها لا يعلمه إلا الله تعالى، وبعضها من ضرورات الدين يعرفه كل مسلم، كوجوب الصلاة والزكاة والحج..الخ، وهو ما يعرف عن طريق القرآن أو غيره، وبعضها من ضرورات اللغة يعرفه من هو عارف بحالها، كما أن بعضها من النظريات التي لا يعلمها إلا العلماء (الفوائد المدنية، ص173ـ174).
[17] الحدائق الناضرة، ج1، ص33.