يحيى محمد
معلوم أن علماء السلف لم يميلوا إلى التفكير العقلي المجرد كالذي مارسه غيرهم من المعتزلة والجهمية، بدليل ذمهم لعلم الكلام ونبذه. بل زيادة على ذلك هو أنهم لا يملكون التحليل المعرفي إزاء العقل كـ «آخر» مثلما حصل الحال في ما بعد. وبالتالي فهم لم يشيّدوا - في الغالب - الجدل المعرفي مع «العقل» الذي ظهر منذ بداية التفكير المعياري، خلافاً لما حصل لدى المتأخرين من أتباع «البيان»، إذ تحول البيان من مستوى التنظير الذاتي المتعلق ببعض جوانب فهم الخطاب الديني، كما هو الحال مع الفروع، إلى تنظير مركب وشامل، فهو من جهة شامل لكل من الفروع والأصول، كما أنه تنظير يعي ذاته إبستمولوجياً في قبال ما سبقه من التنظير المضاد للعقل المعياري. علاوة على أن له موقفاً محدداً إزاء قضايا تأسيس النظر القبلي وعلاقتها بتأسيس فهم الخطاب، وهو ما لم يتعرض له أهل السلف بشيء من التحليل المعرفي؛ بإعتباره يعود بهم إلى علم الكلام «المذموم».
لكن مع ذلك واجه السلف مشكلتين لهما علاقة بالعقل، إحداهما على صعيد الفروع، وتتحدد بالرأي كإنتاج معرفي يطلق عليه الإجتهاد في ما لا نص فيه، كما مارسته المذاهب الفقهية الأربعة وغيرها. فقد كان علماء السلف مضطرين للعمل بالإجتهاد وإعمال الرأي حين وجدوا أنفسهم أمام حوادث لا تدخل ضمن عناوين النص. فهم في الأساس يتحركون طبقاً لبيان النص، دون السماح للإجتهاد أو الرأي أن يحتل موقع التشريع إلا عند غياب النص أو ما يكشف عنه. ومع ذلك لم تعالج مشكلة الإجتهاد التي واجهها العلماء آنذاك طبقاً للإعتبارات العقلية الصرفة. ففي الغالب حُدد الإجتهاد تبعاً لما يستند إلى النص، فهو يحمل شيئاً من بصماته، كالحال مع القياس، إذ لم يكن قضية عقلية منفصلة عن النص، بل هو «ظل النص» والقائم على فهمه. كذلك فمن الإجتهادات التي عوّل عليها علماء السلف هي تلك التي تأخذ بمصالح الناس وحاجاتهم، كما في المصالح المرسلة والإستحسان، وهي أيضاً تخرج عن الإعتبارات العقلية الصرفة. مما يعني أن السلف لم يواجهوا في هذا الحد عنوان «العقل» كعنصر مستقل، أو كـ «آخر».
أما المشكلة الأخرى التي واجهها السلف فهي على صعيد الأصول، وبالتحديد حول ما ورد بشأن النعوت الإلهية التي أثارها الخطاب. فلثقل هذه المشكلة عاملها السلف معاملة لا تخلو أحياناً من الممارسة العقلية، وأحياناً أخرى أدركوا أنها تشكل مشكلاً عقلياً، ومع ذلك لم يجيزوا لعقولهم الإنفتاح عليها بالتحليل والمعالجة، فضلاً عن أن يسمحوا لأنفسهم التورط في أجواء الصراع المعرفي العقلي البياني، وهو الصراع المنظّر الذي تأخر ظهوره بعد الإعلان عن التقنين الكلامي للعلاقة بين العقل والنص. فمشكلة الصفات، كمشكلة عقلية أو نقلية، ظهرت قبل الوعي بوجود كيانين يبديان نوعاً من التعارض والتنافس للإستحواذ على «النص» وتوظيفه. فقد برز الصراع المعرفي - على أوجّه - عند تمنطق الدائرة البيانية التي وجدت نفسها تنظّر لتأسيس الأصول معرفياً ولم تقنع بأن تكون حبيسة التنظير للفروع كطريقة علماء السلف، وهي الطريقة التي لم تمنح «البيان» الهيبة والسطوة إزاء منافسها من الدائرة العقلية المشحونة بحمولة التحليل المعرفي.
لقد دعت المنافسة التي أظهرتها الدائرة العقلية قبال النشاط التشريعي المعتمد على «نص الخطاب» إلى أن تقوم الدائرة البيانية بممارسة التنظير والتمنطق كمنافس ضد غريمتها العقلية. فقد قامت الدائرة البيانية المنظّرة كرد فعل على التقنين العقلي (النهائي)؛ بعد أن وصل العقل إلى أوج منافسته لنص الخطاب في السطوة والإنتاج المعرفي؛ عبر آلياته وقبلياته المعرفية الخاصة بالفهم. فلأجل هذا ظهرت الدائرة البيانية رافعة شعار الدفاع عن منطق الخطاب وبيان النص، لتدخل الصراع الإبستمولوجي الممنطق ضد الحركة العقلية. وبذلك أصبحت النزعة البيانية دائرة مستقلة قائمة بذاتها على الصعيد الإبستمولوجي الشمولي، إذ دخلت المنافسة مع الدائرة العقلية حول كل من تأسيس النظر وإنتاج المعرفة وفهم الخطاب.
أما في زمن الحركة السلفية فإن عملية التقنين العقلي لم تكن كافية لظهور دائرة البيان بشكلها المنظر الكامل. فقد كانت هذه الحركة تعبّر عن ممارسة تلقائية لفهم النص على صعيد الأصول، وهي وإن تعرضت أحياناً إلى أجواء الصراع مع الدائرة العقلية، إلا أن طبيعة الصراع الذي خاضته معها لم يستكمل شروطه الإبستمولوجية من النقد والتحليل الممنطق، بل غالباً ما انسابت إلى التعلق بتلقائية النص بلا تمنطق ولا تنظير، كما يتضح مما يشير إليه الشهرستاني من أنه «كانت بين المعتزلة وبين السلف في كل زمان إختلافات في الصفات، وكان السلف يناظرونهم عليها، لا على قانون كلامي، بل على قول اقناعي، ويسمون الصفاتية: فمن مثبت صفات الباري تعالى معاني قائمة بذاته، ومن مشبه صفاته بصفات الخلق، وكلهم يتعلقون بظواهر الكتاب والسنة، ويناظرون المعتزلة في قِدم العالم على قول ظاهر»[1].
هذا بالرغم من أن البعض قد باشر «الكلام» لتأييد مقالات السلف والرد على خصومهم العقليين، كما هو الحال مع كل من عبد الله بن سعيد الكلابي (المتوفى سنة 240هـ) والحارث بن أسد المحاسبي (المتوفى سنة 243هـ) وأبي العباس القلانسي (المتوفى سنة 255هـ)، وقد كان لهم الفضل الكبير على ظهور الأشعري بنزعته الإزدواجية من البيان والعقل، إلا أنهم كما يبدو لم يمارسوا عملية التنظير المطلوبة للبيان مثلما حصل في ما بعد[2].