يحيى محمد
يعد أبو الفرج بن الجوزي (المتوفى سنة 597هـ) أهم شخصية بيانية للرد على البيانيين الذين تقبلوا الظواهر اللفظية من الصفات الإلهية مع قيد (ليس كمثله شيء). ذلك أنه زيّف هذا الجمع المفتعل بين الأمرين كالذي عليه طريقة أغلب الحنابلة التي انتصر لها إبن تيمية - فيما بعد - وادعى أن السلف كانوا يذهبون إليها دون خلاف. فعلى العكس من ذلك نفى إبن الجوزي أن تكون طريقة السلف - بما فيها طريقة أحمد بن حنبل - كما تصورها المتأخرون من الحنابلة، وأيّد ذلك بما نقله من الآثار التي تشير إلى أنهم لم يتقبلوا الظواهر اللفظية للصفات، بل أجروا عليها شتى أنواع التأويل، وإن كان أغلبهم أمر بإمرارها دون تأويل ولا تفسير.
لقد ألّف إبن الجوزي كتابه (دفع شبه التشبيه) رداً على أصحابه من أتباع الإمام أحمد بن حنبل، فذكر في ديباجته أنه رأى من أصحابه من تكلم في الأصول بما لا يصلح، وانتدب للتصنيف ثلاثة، هم أبو عبد الله بن حامد البغدادي (المتوفى سنة 403هـ)، وصاحبه القاضي أبو يعلى الحنبلي (المتوفى سنة 458هـ)، وإبن الزاغوني (المتوفى سنة 527هـ)، ووصفهم بأنهم صنفوا كتباً شانوا بها المذهب، إذ حملوا الصفات على مقتضى الحس، فسمعوا أن الله تعالى خلق آدم على صورته، فأثبتوا له صورة ووجهاً زائداً على الذات، وعينين وفماً ولهوات وأضراساً وأضواء لوجهه هي السبحات ويدين وأصابع وكفاً وخنصراً وإبهاماً وصدراً وفخذاً وساقين ورجلين، وقالوا: ما سمعنا بذكر الرأس، كما قالوا: يجوز أن يمس ويُمس، ويدني العبد من ذاته. وقال بعضهم أنه يتنفس أيضاً، لكنهم مع ذلك يستدركون ويقولون أن هذه الصفات لا كما يعقل ويتصور، وأنها صفات ذات لا فعل. ومع أنهم حملوا النصوص على ظواهرها اللفظية لكنهم تحرجوا من التشبيه، مع أن كلامهم كما يقول إبن الجوزي صريح في التشبيه والتجسيم المفرط، وأن ذلك صار مدعاة لتهمة من كان حنبلياً.
واعتبر إبن الجوزي أنه لا غنى من إستخدام العقل في مثل هذه الموارد، فهو أصل قد عُرف به الله وحُكم عليه بالقِدم[1]. وهو ذات التبرير الذي قدمته الدائرة العقلية في ممارستها للتأويل ورفض الظواهر اللفظية عند معارضتها للعقل، كما مر معنا سابقاً. لذلك سعى للرد على الحنابلة الثلاثة وتأويل ما قدموه من الظواهر التشبيهية الواردة في كل من القرآن والسنة. وعول في هذا الأمر على الترتيب الذي قدمه أبو يعلى الحنبلي للصفات المذكورة[2]. وقد كان لذلك رد فعل من قبل بعض الحنابلة المتشددين، إذ هاجمه إسحاق بن أحمد العلثي (المتوفى سنة 634هـ) برسالة طويلة شديدة اللهجة، واتهمه بالتناقض؛ لأنه ممن ينتحل مذهب السلف، ولا يرى الخوض في الكلام، ثم يقْدم على تفسير ما لم يره، ويقول: إذا قلنا كذا أدى إلى كذا، ويقيس ما ثبت من صفات الخالق على ما لم يثبت عنده، وينقض عهده وقوله بقول فلان وفلان من المتأخرين[3].
كما قام عدد من الحفاظ والبيانيين بالرد على المشبهة والآخذين بالظواهر اللفظية من الصفات، ووظفوا لذلك مقالات السلف وغيرهم من البيانيين الذين مارسوا التأويل. وكان من بين هؤلاء الإمام النووي والحافظ إبن حجر العسقلاني وإبن دقيق العيد وغيرهم، حيث وجدوا لكل صفة تذكر، سواء في القرآن أو الحديث، تأويلاً أو أكثر ينسب إلى السلف أو من جاء بعدهم من البيانيين، من أمثال القاضي عياض وأبي سليمان حمد الخطابي وإبن عقيل وإبن بطال وغيرهم.
فقد ذكر النووي أن لأهل العلم في أحاديث وآيات الصفات قولين: أحدهما يعود إلى معظم السلف أو كلهم، ومفاده أنه لا يصح التكلم في معناها، بل يجب الإيمان بها والإعتقاد أن لها معنى يليق بجلال الله وعظمته، مع الإعتقاد الجازم بأن الله تعالى ليس كمثله شيء، وأنه منزه عن التجسم والانتقال والتحيز في جهة وعن سائر صفات المخلوق. وهو قول نسبه النووي أيضاً إلى جماعة من المتكلمين، واعتبره أسلم القولين. أما الثاني فيعود إلى معظم المتكلمين، ومفاده أنه ينبغي أن تتأول الصفات بما يليق ويناسب مواقعها، تبعاً للسان العرب وأصول العلم. وهو يوصي أن يكون المأول عارفاً باللغة وقواعد الأصول والفروع وذا رياضة في العلم[4].
كما ذكر إبن حجر العسقلاني أن الخلاف حول الصفات الموهمة للتشبيه يندرج في ثلاثة أقوال: أحدها أنها صفات ذات أثبتها السمع ولا يهتدي إليها العقل. والثاني أنها تعرف بالتأويل، فالعين كناية عن صفة البصر، واليد كناية عن صفة القدرة، والوجه كناية عن صفة الوجود.. الخ. أما القول الثالث فهو امرارها على ما جاءت وتفويض معناها إلى الله تعالى. واستشهد على القول الأخير بما ذكره شهاب الدين السهروردي من أن الله أخبر في كتابه وثبت عن رسوله الإستواء والنزول والنفس واليد والعين، فلا يتصرف فيها بتشبيه ولا تعطيل، إذ لولا إخبار الله ورسوله ما تجاسر عقل أن يحوم حول ذلك الحمى. وعلّق الطيبي عليه بأن هذا هو المذهب المعتمد وبه يقول السلف الصالح. كما استشهد بقول غيره دون أن يسميه: أنه لم ينقل عن النبي (ص) ولا عن أحد من أصحابه من طريق صحيح التصريح بوجوب تأويل شيء من ذلك، ولا المنع من ذكره، ومن المحال أن يأمر الله نبيه بتبليغ ما أنزل إليه من ربه وينزل عليه ((اليوم أكملت لكم دينكم)) (المائدة/3) ثم يترك هذا الباب فلا يميز ما يجوز نسبته إليه مما لا يجوز، مع حضه على التبليغ عنه بقوله: (ليبلغ الشاهد الغائب) حتى نقلوا أقواله وأفعاله وأحواله وصفاته وما فعل بحضرته، فدلّ على أنهم اتفقوا على الإيمان بها على الوجه الذي أراده الله منها ووجب تنزيهه عن مشابهة المخلوقات[5].
على أن موقف إبن حجر من هذه الأقوال الثلاثة هو تقبل كلا المسلكين الأخيرين الخاصين بالتفويض والتأويل ضد المسلك الأول المثبت للصفات حسب ظهورها اللفظي. وكما قال: «إن أصل ما ذكروه قياس الغائب على الشاهد، وهو أصل كل خبط، والصواب الإمساك عن أمثال هذه المباحث، والتفويض إلى الله في جميعها، والإكتفاء بالإيمان بكل ما أوجب الله في كتابه أو على لسان نبيه إثباته له، أو تنزيهه عنه على طريق الإجمال. ولو لم يمكن في ترجيح التفويض على التأويل إلا أن صاحب التأويل ليس جازماً بتأويله بخلاف صاحب التفويض»[6].
في حين ذهب بعض المتأخرين البيانيين إلى تفصيل الأمر حول تأويل الصفات وعدمه، كالذي عليه إبن دقيق العيد الذي رجح تأويلها عندما توهم التشبيه، فكما قال: «نقول في الصفات المشكلة أنها حق وصدق على المعنى الذي اراده الله، ومن تأولها نظرنا فإن كان تأويله قريباً على مقتضى لسان العرب لم ننكر عليه، وإن كان بعيداً توقفنا عنه ورجعنا إلى التصديق مع التنزيه، وما كان منها معناه ظاهراً مفهوماً من تخاطب العرب حملناه عليه، مثل قوله تعالى: ((يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله)) (الزمر/56) فإن المراد به في إستعمالهم الشائع حق الله؛ فلا يتوقف في حمله عليه، وكذا قول النبي: (إن قلب إبن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن) فإن المراد به إرادة قلب إبن آدم مصرفة بقدرة الله وما يوقعه فيه، وكذا قوله تعالى: ((فأتى الله بنيانهم من القواعد)) (النحل/26) معناه خرّب الله بنيانهم، وقوله: ((إنما نطعمكم لوجه الله)) (الإنسان/9) معناه لأجل الله»[7].
[1] دفع شبه التشبيه، ص97ـ102.
[2] دفع شبه التشبيه، ص112.
[3] إبن رجب الحنبلي: ذيل طبقات الحنابلة، شبكة المشكاة الإلكترونية، ج2، فقرة إسحاق بن أحمد العلثي (لم تذكر ارقام صفحاته).
[4] المنهاج شرح صحيح مسلم، ج1، كتاب الايمان، باب معرفة طريق الرؤية.
[5] فتح الباري، ج13، ص330.
[6] فتح الباري، ج13، ص324.
[7] فتح الباري، ج13، ص323ـ324. وفي تصريح آخر قال إبن دقيق العيد: إذا كان التأويل من المجاز البيّن الشايع فالحق سلوكه من غير توقف، أو من المجاز البعيد الشاذ فالحق تركه، وإن استوى الأمران فالإختلاف في جوازه وعدم جوازه مسألة فقهية اجتهادية والأمر فيها ليس بالخطر بالنسبة للفريقين (تكملة الرد على نونية إبن القيم، نشر ضمن: السيف الصقيل، ص151).