يحيى محمد
لقد خضعت نظرية السلف حول المتشابهات إلى التنظير لدى إبن تيمية الذي حوّلها إلى نوع من البيان الخاص. فابتداءً اعتبر إبن تيمية الشريعة بيّنة ومفهومة لدى السلف، وبالتحديد فترة القرون الثلاثة الأولى، كما تتمثل بالصحابة ثم تابعيهم ثم تابعي هؤلاء، لذلك رأى أن سيرة السلف كاشفة عن بيان الشرع وهداه، مما جعله يستدل نفياً وإثباتاً تبعاً لما ينكشف له من سيرة الصحابة والتابعين، كما كان يردّ على الفلاسفة والصوفية طبقاً لفهمه لسلوك الصحابة من السابقين الأولين ومَن إتّبعهم بإحسان. ففي إحدى المناسبات قال: «ومعلوم أن أصحاب النبي (ص) من السابقين الأولين، والتابعين لهم بإحسان... كانوا أعلم بالدين وأتبع له ممن بعدهم. وليس لأحد أن يخالفهم في ما كانوا عليه... وما من أحد نقل عنه ما يخالف سبيلهم إلا وقد نقل عن غيره من هو أعلم منه وأفضل أنه خالف سبيل هذا المخالف..»[1].
فقد اعتقد بأن أصل الخطاب الديني المتمثل بالقرآن قد فُسّر على يد النبي (ص)، وعنه تعلمه الصحابة، ثم نُقل ذلك إلى التابعين. وقيل أنه لا يتبع رأياً بعد النبي إلا الصحابة، كما أنه يستأنس بأقوال التابعين، ويحتج بها أحياناً عند المناظرة[2].
وهو من هذا المنطلق اعتبر حقل البيان منبسطاً على كل من دائرة النص المحكم والمتشابه، رغم أنه أحال معرفة حقيقة الموضوع الذي يثيره النص المتشابه، خلافاً لما هو الحال في النص المحكم، زاعماً ومؤكداً بأن طريقته هذه ليست مبتدعة وإنما هي عين طريقة السلف، جاعلاً من نفسه إمتداداً لما ذهب إليه هؤلاء. ففي تنظيره البياني للمتشابه إستند إلى منفذ سلفي متعلق بآية المتشابهات: ((هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وآخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كل من عند ربنا وما يذكَّر إلا أولوا الألباب))[3]، فهو يعترف بأن جمهور سلف الأمة وخلفها يعتقدون بوجود وقف في قوله تعالى ((وما يعلم تأويله إلا الله)) ناصاً على أن هذا هو المأثور عن أبي بن كعب وإبن مسعود وإبن عباس وغيرهم[4].
وروى بصدد هذه القضية عن إبن عباس خبرين متعارضين، أحدهما نُسب إليه أنه قال: التفسير على أربعة أوجه، تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، من ادعى علمه فهو كاذب. أما الخبر الآخر، فهو أنه روى عن مجاهد وطائفة من المفسرين أنهم قالوا بأن الراسخين في العلم يعلمون تأويله، حتى قال مجاهد: «عرضت المصحف على إبن عباس من فاتحته إلى خاتمته، أقفه عند كل آية وأسأله عن تفسيرها»[5].
والذي استنتجه إبن تيمية من هذين الخبرين المتعارضين هو أنهما غير متنافيين. لذا فقد سلك مسلكاً توفيقياً هو ذاته الذي نظّر إليه ونسبه إلى السلف. فذكر بأن لفظ «التأويل» قد أُستخدم في ثلاثة معان مختلفة:
الأول: بمعنى صرف اللفظ في النص مما هو ظاهر وراجح إلى ما هو غير ظاهر أو مرجوح، وذلك لدليل يقترن به. وهو إصطلاح كثير من المتأخرين من المتكلمين وعلماء الفقه وأصوله.
الثاني: بمعنى التفسير، وهو الغالب على إصطلاح المفسرين للقرآن الكريم.
الثالث: بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الكلام كما في قوله تعالى ((هل ينظرون إلى تأويله، يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق))[6]. فبحسب هذا المعنى أن تأويل ما في القرآن من أخبار المعاد هو ما أخبر الله مما يكون من القيامة والحساب والجزاء والجنة والنار وما إلى ذلك، مثلما هو الحال في قوله تعالى في قصة يوسف عندما سجد أبواه واخوته، حيث قال: ((يا أبتِ هذا تأويل رؤياي من قبل))[7]، فجعل عين ما وجد في الخارج هو تأويل الرؤيا[8].
وعليه فالفارق بين المعنيين الثاني والثالث لإصطلاح «التأويل» هو أن المعنى الثاني يشير إلى تفسير الكلام، أي: «هو الكلام الذي يفسر به اللفظ حتى يفهم معناه أو تعرف علته أو دليله». أما المعنى الثالث فيقصد به عين ما هو موجود في الخارج وحقيقته. وهو المعنى الذي دلل عليه ببعض أقوال السلف، كما جاء في قول سفيان بن عيينة: «السنة هي تأويل الأمر والنهي» من حيث «أن نفس الفعل المأمور به هو تأويل الأمر به، ونفس الموجود المخبر عنه هو تأويل الخبر». كذلك ما قاله أبو عبيد وغيره من أن الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة، وذلك بإعتبار أن الفقهاء يعلمون تفسير ما أمر ونهي عنه، لعلمهم بمقاصد الرسول (ص)، مثلما يعلم أتباع بقراط وسيبويه ونحوهما من مقاصدهما ما لا يعلم بمجرد اللغة[9].
ويطبق إبن تيمية هذا المعنى (الأخير) للتأويل على مفاد ما تعنيه تلك اللفظة في آية المتشابهات ((وما يعلم تأويله إلا الله))، كي يصل إلى تنظيره البياني للمتشابه، فيرى أن تأويل ما أخبر الله به عن نفسه من حقائق الأسماء والصفات هو حقيقة لنفسه المقدسة، وكذلك في ما أخبر به من الوعد والوعيد، فهو أيضاً نفس ما يكون من الوعد والوعيد. فهذه الأخبار الإلهية فيها «ألفاظ متشابهة يشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا»، كما هو الحال في ما أخبره الله بأن في الجنة لحماً ولبناً وعسلاً وخمراً ونحو ذلك، حيث أن «هذا يشبه ما في الدنيا لفظاً ومعنى، ولكن ليس هو مثله ولا حقيقته»[10]. وعلى ذلك فقد كان إبن عباس يقول: «ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء»، فحقائق الدنيا ليست مماثلة لحقائق الآخرة في الجنة «بل بينهما تباين عظيم، مع التشابه كما في قوله تعالى ((وأتوا به متشابهاً))[11]، على أحد القولين، أنه يشبه ما في الدنيا وليس مثله، فأشبه إسم تلك الحقائق أسماء هذه الحقائق كما أشبهت الحقائق الحقائق من بعض الوجوه. فنحن نعلمها إذا خوطبنا بتلك الأسماء من جهة القدر المشترك بينهما ولكن لتلك الحقائق خاصية لا ندركها في الدنيا ولا سبيل إلى إدراكنا لها لعدم إدراك عينها أو نظيرها من كل وجه. وتلك الحقائق على ما هي عليه هي تأويل ما أخبر الله به»[12].
وكذا الحال في ما يخص أسماء الله وصفاته، فهي وإن كان بينهما وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه، لكن لا يقتضي ذلك تماثلهما ولا أن حقيقة هذا الشاهد كحقيقة ذلك الغائب[13]. فهذا ما حرص إبن تيمية على أن ينسبه للسلف، معتبراً طريقتهم تتضمن إثبات الأسماء والصفات لله تعالى مع نفي مماثلة المخلوقات له، فهو إثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل، كما في قوله تعالى: ((ليس كمثله شيء وهو السميع البصير))، إذ في قوله ((ليس كمثله شيء)) رد للتشبيه والتمثيل، وقوله ((وهو السميع البصير)) رد للإلحاد والتعطيل[14]. لكن هذه النتائج المتمخضة عن طريقة إبن تيمية والإتجاه السلفي عموماً تلتقي - تقريباً - مع النتائج التي أكد عليها العقل الفلسفي في النظام الوجودي، سيما الإتجاه الإشراقي المتمثل بالغزالي وصدر المتألهين، كالذي كشفنا عنه في (العقل والبيان والإشكاليات الدينية).
وننتهي إلى أن إبن تيمية اعتبر المتشابه بيّناً من حيث التفسير طبقاً للمعنى الثاني للتأويل، لكنه أحال معرفة حقيقة موضوع التشابه خارجاً، فهو عنده من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله طبقاً لآية المتشابهات كما مرّ علينا. وهو في جميع الأحوال ينكر تأويل المتشابه طبقاً للمعنى الأول الذي يمارسه أصحاب الدائرة العقلية والذي تتحول فيه دلالة البيان إلى المتشابه، خلافاً لما عليه طريقة إبن تيمية من تحويل المتشابه إلى بيان، كما هو واضح. رغم أن هذه الطريقة لإبن تيمية تخالف دعوة السلف إلى إمرار نصوص الصفات، كما هي، دون تفسير ولا بحث ولا تنقيب، كما أخطأت فيما نسبته إلى السلف من معرفتهم التامة بالتفسير، يضاف إلى أنها مارست التأويل أحياناً شبيهاً بما فعلته الدائرة العقلية، كالذي فصلنا الحديث عنه في (العقل والبيان والإشكاليات الدينية).
[1] إبن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم، مكتبة الرياض الحديثة، ص438.
[2] إبن تيمية، ص217ـ218.
[3] آل عمران/7.
[4] إبن تيمية: الرسالة التدمرية، المكتب الإسلامي في بيروت، الطبعة الثانية، ص58.
[5] المصدر السابق، ص59.
[6] الأعراف/53.
[7] يوسف/100.
[8] الرسالة التدمرية، ص59ـ60.
[9] المصدر السابق، ص60ـ61.
[10] المصدر السابق، ص61.
[11] البقرة/25.
[12] إبن تيمية: الإكليل في المتشابه والتأويل، مكتبة الموسوعة الشاملة الإلكترونية، ج1، ص8ـ9. كذلك: إبن تيمية وجهوده في التفسير، ابراهيم خليل بركة، المكتب الإسلامي (بيروت ـ دمشق)، الطبعة الأولى، 1405هـ ـ1984م، ص159.
[13] الرسالة التدمرية، ص61.
[14] المصدر السابق، ص8.