-
ع
+

التراث المعرفي المعياري وصراع الأصول المولّدة

يحيى محمد

 لإشكالية العلاقة بين العقل والنص في تراثنا الإسلامي تطورات أدت إلى خلق أنواع أربعة من الصراع والمنافسة كالتالي:

الصراع الأول:

إن أول ما ظهر من منافسة هو ما كان بين العقل والنص، كالذي تبلور لدى موقف الدائرة العقلية من الأخير، إذ يحمل هذا الموقف تشريعاً عقلياً في قبال تشريع النص والبيان، كما هو واضح من الممارسة التي أظهرها الإتجاه العقلي في فهمه للخطاب كما عرفنا. رغم أن هذا الفهم لم يقصد التحديد الإيجابي لنوع الحقيقة التي يكنّها الخطاب أو النص كما يفعل النظام الوجودي، بل اكتفى بتحديد المعنى السلبي للفهم، بإفتراض تشابه النص وجهل حقيقته. فهو غير معني بمعرفة هذه الحقيقة الخافية، بل معني بنفي ظاهر النص عندما يكون مصادماً لتشريع العقل وأحكامه القبلية.

وبعبارة أخرى، رغم ما يبديه الإتجاه العقلي من تحديد ايجابي لفهم الخطاب، إلا أنه لا يقطع بذلك ولا يقصده. فغايته تحديد الفهم من الناحية السلبية، بفهم النص على أي نحو كان، شرط أن لا يصادم ما يشرعه العقل القبلي من أحكام مختلفة، وعلى رأسها الأحكام المعيارية. فقد نصّ الهمداني على هذا المعنى، عبر ما قرره من وجود وجوه عديدة تبرر المتشابهات في القرآن دون أن يحصر ذلك في وجه محدد[1].

كما نقل الهمداني في (فرق وطبقات المعتزلة) بأن الخياط سأل جعفر بن بشر المعتزلي عن معنى قوله تعالى: ((يظل من يشاء ويهدي من يشاء))، وعن (الختم والطبع)، فقال في جوابه: «أنا مبادر إلى حاجة، ولكني أُلقي إليك جملة تعمل عليها، إعلم أنه لا يجوز على أحكم الحاكمين أن يأمر بمكرمة ثم يحول دونها، ولا أن ينهى عن قاذورة ثم يدخل فيها، وتأول الآيات بعد هذا كيف شئت»[2].

فالعبارة الأخيرة «وتأول الآيات بعد هذا كيف شئت» تعني ولا شك بأن فهم النص عند الإتجاه العقلي لا يبتغي إثبات ما يريده الخطاب من معنى، بل يكتفي بنفي ما يعارض العقل القبلي من تشريع وأحكام. وهذا ما جعل البعض يتصور بأن الطريقة العقلية تتفق مع ما يريده السلف، وأن الخلاف بينهما لفظي، فكلاهما لا يريد أن ينساق لتحديد المعنى، بل يكفي لديهما نفي الظاهر من النص. وكما قال العلامة البناني في حاشيته على (شرح المحلي على جمع الجوامع) وهو بصدد قضية تأويل الآيات والأحاديث: «الظاهر أن السلف لا يخالفون في إحتمال تلك الآيات والأحاديث لتلك المعاني التي حملها عليها الخلف - أصحاب الدائرة العقلية -، فهي عند الفريقين محتملة لتلك المعاني. غير أن السلف تركوا حملها عليها احتياطاً والخلف ارتكبوا الحمل عليها على سبيل الإحتمال لا القطع»[3]. ونفس الشيء فيما جاء عن الكوثري في تعليقه على (تبيين كذب المفتري) لإبن عساكر[4].

لكن هذا الحال يصدق على جماعة من السلف، فهم منقسمون إلى عدة طوائف كما عرفنا، ومنهم من كان يذهب إلى نفس المعنى الذي قرّبه إبن تيمية، ويشهد على ذلك بأن الأشعري بالرغم من إتجاهه العقلي إلا أنه كان يدعو إلى نفس ما دعا إليه إبن تيمية فيما بعد، وذلك بخصوص الموقف من الصفات الإلهية كما وردت في النص الديني من القرآن والحديث.

وهنا يطرح إشكال، وهو أن الدائرة العقلية تنكر أن تكون تشريعاتها القبلية مصادمة لأحكام النص وتشريعاته، ومن ثم فليست هناك منافسة بين التشريعين العقلي والنصي، فالتشريع الأول لم يأتِ في قبال الثاني، وذلك لأن النص ليس دائرة من دوائر الفهم والتفكير، بل هو (موضوع) تتناوله الدوائر المعرفية بالفهم والتحديد، بما فيها الدائرة العقلية. وبالتالي لا يمكن أن يكون النص مطرحاً للتنافس والندية والصدام طالما أنه موضع للفهم فحسب، فالمسلمات المعتمدة لدى الدائرة العقلية في تشريعاتها القبلية جاءت في قبال الفهم الخاص الذي تمارسه بعض الدوائر المعرفية، كالدائرة البيانية المعتمدة على الظهور العرفي واللغوي دون مراعاة لأحكام العقل القبلية. مما يعني أن الصدام حاصل مع الدائرة البيانية وليس مع النص كنص.

مع هذا فالمنافسة التشريعية التي نقصدها بين العقل والنص تأتي بأربع مراتب مختلفة، وجميعها يصدق عليها شيء من المنافسة، وبعضها لا يتضمن الضدية والمنافاة بالضرورة. كما أنها لا تتنافى مع كون النص موضعاً للفهم، إذ أن ذلك لا يلغي أثر النص على هذا الأخير، حاله حال القبليات. فالفهم هو نتاج كل من القبليات والنص، وبحسب بعض قوانين الفهم؛ أنه كلما كان تأثير القبليات قوياً كلما ضعف تأثير النص، والعكس بالعكس[5].

فما يجعل المنافسة قائمة هو التأثير القوي للقبليات على الفهم. وبالتالي فهناك أربع مراتب للمنافسة، أدناها أن العقل يشرّع أحكامه القبلية فيصادف مصادقة ما يشرعه النص. والمنافسة هنا في التشريع لا الأحكام، فكلاهما له تشريعه وإن صادف المصادقة بينهما.

وأعلى من السابقة رتبة أن العقل يشرّع أحكامه فيما أن النص ساكت لم يرد فيه تشريع قط. وتبدو المنافسة – هنا - ليس بين التشريعين، إذ لم يظهر للنص تشريع، ومع ذلك فالمنافسة باقية بإعتبار أن ما شرعه العقل لم يأخذ بإعتبار ما نصّ عليه النص، وبالتالي فالمنافسة ضمنية.

وأكثر من ذلك درجة أن العقل يشرّع أحكاماً تخالف ما يبديه النص من ظواهر. وتبدو المنافسة هنا واضحة في التشريع، وإن لم تكن المنافاة بينهما قطعية. وبالتالي لا تنطوي هذه الحالة بالضرورة على الضدية والمنافاة بين أحكام التشريعين.

يبقى أعظمها درجة، وهي أن العقل يشرّع أحكاماً نعلم يقيناً بأنها جاءت مخالفة لأحكام النص.

هكذا يتضح بأن المنافسة بين العقل والنص، تارة تعبّر عن منافسة التشريع فحسب دون الأحكام، وثانية تعبّر عن أكثر من ذلك، وهي منافسة التشريع والأحكام معاً. كما أن هذه المنافسة تارة تعبّر عن المنافاة والضدية بين الأحكام للطرفين، سواء على نحو قطعي أو ظني، وأخرى تعبّر عن المصادقة وعدم المنافاة، فضلاً عن أنها في حالات معينة لا يبدو منها التعبير عن المصادقة ولا المنافاة.

هذا فيما يخص المنافسة التشريعية بين الدائرة العقلية والنص. أما فيما يخص الصراع الثاني فسنستعرضه كالتالي..

الصراع الثاني:

وهو صراع العقل مع العقل، كما يتجلى بولادة الأشاعرة، إذ أن لها نظامها العقلي من التشريع المنافس لنظام الإعتزال، كما يشهد على ذلك آخر المحاورات التي جرت بين الأشعري واستاذه أبي علي الجبائي والتي كانت سبباً في الانفصال بينهما ومن ثم الإعلان عن التشريع العقلي الجديد. وقبل ذلك جرى العديد من الحوارات بين التلميذ واستاذه، وجميعها يبدي ذلك التناقض الذي أصاب العقل المعياري.

فمن ذلك سأل الأشعري استاذه الجبائي عما إذا كانت تسمية الله تعالى (عاقلاً) جائزة أم لا؟

فأجاب الأخير بأن ذلك غير جائز، معللاً الأمر بأن العقل مشتق من العقال، وهو المانع، والمنع في حق الله محال، فامتنع الإطلاق.

لكن الأشعري أجابه بالقول: على قياسك لا يسمى الله سبحانه حكيماً، لأن هذا الإسم مشتق من حكمة اللجام، وهي الحديدة المانعة للدابة عن الخروج.. فإذا كان اللفظ مشتقاً من المنع، والمنع على الله محال، لزمك أن تمنع إطلاق الحكيم عليه.

فقال الجبائي: فلِمَ منعت انتَ أن يسمى الله سبحانه عاقلاً، وأجزت أن يسمى حكيماً؟

أجابه الأشعري: أن طريقي في مآخذ الأسماء هو الإذن الشرعي دون القياس اللغوي، فأطلقت حكيماً لأن الشرع أطلقه، ومنعت عاقلاً لأن الشرع منعه، ولو أطلقه الشرع لأطلقته[6].

لكن محاورة الأشعري الأخيرة هي أهم المحاورات التي جرت بينه وبين الجبائي. فقد سأل الشيخ الأشعري استاذه الجبائي قائلاً: أيها الشيخ ما قولك في ثلاثة، مؤمن وكافر وصبي؟

فأجاب الجبائي: المؤمن من أهل الدرجات، والكافر من أهل الهلكات، والصبي من أهل النجاة.

فقال الأشعري: فإن أراد الصبي أن يرقى إلى أهل الدرجات هل يمكن؟

أجاب الجبائي: لا، يقال له: إن المؤمن إنما نال هذه الدرجة بالطاعة، وليس لك مثلها. فقال الأشعري: فإن قال: التقصير ليس مني فلو أحييتني كنت عملت من الطاعات كعمل المؤمن.

أجاب الجبائي: يقول له الله: كنت أعلم أنك لو بقيت لعصيت ولعوقبت فراعيت مصلحتك وأمتك قبل أن تنتهي إلى سن التكليف.

فرد الشيخ: فلو قال الكافر: يا رب، علمتَ حاله كما علمت حالي، فهلا راعيت مصلحتي مثله؟!

فانقطع الجبائي[7]...

وعلى هذه الشاكلة وردت محاورة قصيرة أخرى تبرز الصراع في النظام التشريعي للعقل لدى كل من الأشاعرة والمعتزلة. فقد صادف أن تقابل القاضي عبد الجبار الهمداني المعتزلي مع أبي اسحاق الاسفراييني الأشعري، فقال الأول للغمز بالثاني: «سبحان الذي تنزّه عن الفحشاء»، فردّ عليه الأخير: «سبحان الذي لا يجري في ملكه إلا ما يشاء»[8].

بل شبيه بهذه المحاورة جاء ذكرها قبل ولادة الأشاعرة بزمن طويل. فقد روي أنه حدث بين غيلان الدمشقي وهو من القدرية، وبين خصمه ربيعة، إذ قال لربيعة: «أأنت الذي تزعم أن الله يحب أن يعصى؟»، فأجابه ربيعة: «أأنت الذي تزعم أن الله يعصى قسراً؟»[9].

وتستمد طاقة هذا الصراع من الإختلاف الحاصل في دينامو التفكير، والمتمثل بالاصل المولّد كتأسيس قبلي للنظر. وبه يتأسس غالب الصراع والتنافس الحاصل حول فهم الخطاب الديني.

لكن كما لاحظنا بأن الأشاعرة، كما في مذهب الأشعري، منقسمة على ذاتها بين البيان والعقل، فهي بيانية من حيث معالجتها المعيارية للمشكل الوجودي المتمثل بالصفات الإلهية، لكنها عقلية من حيث تبنيها لنوع العلاقة الرابطة بين المكلِّف والمكلَّف. وعليه يتميز الأصل المولّد لديها بالتحليل الخاص لتلك العلاقة، فالصراع العقلي بينها وبين منافسها الآخر ضمن الدائرة العقلية يخضع إلى هذا الإعتبار مما يحملانه من أصل مولّد وظيفته تشكيل الرؤية والإنتاج المعرفي المنظم ومن ثم فهم النص أو الخطاب.

ورغم أن دينامو التفكير لكلا هذين الإتجاهين العقليين يعبّر عن معيار واحد فحسب هو ما نطلق عليه فكرة (الحق)، لكن تحديدهما لهذا (الحق) مختلف كلياً. ففي حين يعتبر أحدهما هذا (الحق) كياناً معيارياً غير مشروط بشروط خارجة عن ذاته، يرى الآخر أن هذا (الحق) مشروط بهذه الشروط. ويمكن أن نعبّر عن الأصل المولّد للتحديد الأول بمنطق (الحق الذاتي)، وهو ما يحتمي به كل من المعتزلة والإمامية والزيدية ومن على شاكلتها، كأساس لتوليد النظر القبلي والإنتاج المعرفي المنظّم ومن بعده فهم النص أو الخطاب. أما الإتجاه الآخر فحيث أنه لا يعترف بمنطق (الحق) كشيء في ذاته، بل يراه مشروطاً ببعض الشروط المعيارية المتمثلة بنوع الملكية الحقيقية؛ إن كانت فردية أو مشتركة مشاعية، لذا نطلق عليه منطق (حق الملكية) أو الحق المشروط بالملكية. وهو المنطق الذي تبناه الأشاعرة، وقام الشيخ الأشعري بتبريره عقلياً، كما في قوله: «..الدليل على أن كل ما فعله - الله - فله فعله: أنه المالك القاهر الذي ليس بمملوك ولا فوقه مبيح ولا أمر ولا زاجر ولا حاظر... فإذا كان هذا هكذا لم يقبح منه شيء، إذ كان الشيء إنما يقبح منّا لأنا تجوزنا ما حدّ ورسم لنا وآتينا ما لم نملك باتيانه، فلما لم يكن الباري مملوكاً ولا تحت أمر لم يقبح منه شيء. فإن قال: فإنما يقبح الكذب لأنه قبحه، قيل له: أجل ولو حسّنه لكان حسناً، ولو أمر به لم يكن عليه إعتراض»[10].

فواضح من هذا النص أن التفكير العقلي لدى الأشاعرة قائم على تحديدها لطبيعة (الحق) وفقاً للملكية، وهو ما جعلنا نعتبر أصلها المولّد يتمثل بـ (الحق المشروط بالملكية) خلافاً لمنطق (الحق الذاتي) كما يتبناه خصومها التقليديون من المعتزلة وغيرها. لكن إستناداً إلى هذين الأصلين من التوليد المعرفي تتجلى مظاهر الإنتاج المعرفي ومن ثم يتجلى الصراع بين الإتجاهين على صعيد كل من الإنتاج المعرفي وفهم النص أو الخطاب.

الصراع الثالث:

وهو صراع البيان مع العقل كما حدث بين الدائرتين العقلية والبيانية داخل النظام المعياري. فقد اعتبرت الدائرة الأولى أن فهم النص لا ينتج معرفة صحيحة ما لم تفرض عليه قبليات العقل المعرفية. وبعبارة أخرى أنه لا بد من عرض ظاهر النص على العقل بقبلياته التشريعية ليُعرف إن كان هذا الظاهر صحيحاً أم لا؟ وهو ما جعل الدائرة البيانية تردّ عليها بالدفاع عن منطق البيان بعيداً عن العقل وقبلياته التشريعية. وبالتالي فقد كان الصراع بين الدائرتين صراعاً متعلقاً بفهم النص، ولم يكن دائراً حول تأسيس النظر القبلي أو الإنتاج المعرفي المتقدم على الفهم، كما حصل مع الصراع الثاني المتمثل بصراع العقل مع العقل. ويعود السبب في ذلك إلى أن الدائرة البيانية توحّد بين تأسيسها القبلي للنظر وفهم النص، مما يجعل مدار هذا الصراع يتحرك حول مركز الفهم ذاته.

الصراع الرابع:

يبقى الصراع الرابع والأخير، وهو صراع قائم ضمن الدائرة البيانية ذاتها، أي أنه صراع البيان مع البيان. وأبرز تجلياته ما دار حول فهم الصفات الإلهية لدى البيانيين المتأخرين، وقد تأثر هذا الصراع بالخلاف الحاصل لدى السلف حول هذه الصفات.

ومن الناحية المبدئية تعلن الدائرة البيانية بأنها تتمسك بظاهر النص، وأنها لا تبدي له مخالفة كتلك التي تبديها الدائرة العقلية. لكن مع هذا نجد بعض التنافس في التشريع كما تظهره هذه الدائرة قبال تشريع النص، وهو ما يظهر أحياناً من خلال تأويلاتها للنص، تارة بدعوى أن ذلك ما التزم به السلف، وأخرى لإعتبارات عقلية غير معلنة. إلا أن هذه المنافسة تبقى قليلة وضعيفة مقارنة مع ما عليه الدائرة العقلية.

***

هكذا فعمليات الصراع بعضها كان يتعلق - أساساً - بالقبليات التشريعية أو التأسيس القبلي للنظر، وبعضها الآخر يلوح فهم النص أو الخطاب. فمبرر الوضع الأول من الصراع هو وجود ما يفصل بين التأسيسين القبلي والبعدي للخطاب، أي ما يفصل بين التأسيس القبلي للنظر - كما يتمثل بالأصول المولّدة - وبين فهم النص أو الخطاب. أما مبرر الوضع الآخر من الصراع فهو أن الدائرة البيانية تكاد توحد بين التأسيس القبلي للنظر وفهم النص. مما يعني أن اصلها المولّد لا يستقل عن آلية الفهم، فهما متحدان من حيث الأساس، وبالتالي فالبيان بما ينطوي عليه من (نقل) ليس أداة معرفية لطريقة الإنتاج والفهم فحسب، بل يعبّر في الوقت ذاته عن الأصل المولّد الذي يمارس آلية الإنتاج المعرفي عبر ممارسته للفهم.

لكن إذا كنّا قد اعتبرنا بأن الأصل المولّد هو آصرة معرفية تربط المنهج بالرؤية أو الأداة بالمضمون، وهذا ما يجعله حاملاً لوجهيهما معاً رغم إستقلاله الخاص، فإننا مع الدائرة البيانية نجد هذا الأصل ليس بمنفصل ولا مستقل عن الأداة أو المنهج. فالمنهج هنا هو عين الرؤية، والتأسيس القبلي للنظر هو ذاته عبارة عن الفهم من غير فصل تقريباً.

وهذا يعني أن البيان في الدائرة البيانية من حيث كونه منهجاً فهو بمثابة العقل في الدائرة العقلية. لكنه يعبّر – من جهة ثانية - عن رؤية عامة مستخلصة من فهم النص. فهو بالتالي مفروض على الفهم كمنهج، ومستخلص منه كرؤية، وهذا ما يجعله متحداً بالفهم منهجاً ورؤية، وهو بالتالي يعبّر عن نفس الأصل المولّد الفعال. ومع أنه يتوقف على وجود النص أو الخطاب، فذلك لا يدعو إلى إعتبار النص هو عين هذا المولّد، إذ يظل النص موضعاً للفهم، وهو من هذه الناحية يمثل عنصراً خاماً لا يتحول إلى دينامو للتفكير والتشغيل إلا بفضل آلية الفهم، والتي هي بحسب هذه الدائرة محددة بذات البيان، مما يجعلنا نعود من حيث بدأنا. ومع ذلك يمكن القول بأن البيان كأصل مولّد ينطوي على رؤية معرفية عامة للفهم، تتحدد بمصادر منتجة كالكتاب أو السنة أو غيرهما، إذ يمكن إعتبار هذه المصادر أصولاً فعالة إذا ما أخذنا بنظر الإعتبار أنها ليست شريعة أو خطاباً دينياً من حيث الذات، بل بما هي مصنوعة ومعمولة بحسب آلية الفهم البياني.

ولما كان الأصل المولّد متحداً بالفهم في الدائرة البيانية، فإن الإنتاج المعرفي المتوقف عليه سيكون متحداً به غالباً، وهذا ما يجعل الأصل عبارة عن كل من المنهج والفهم والإنتاج. وهكذا أصبح البيان وحدة مشتركة كأصل وأداة ورؤية وفهم وإنتاج. لكن مع الأخذ بعين الإعتبار أن البيان كأصل مولّد هو ذاته عبارة عن الفهم العرفي للنص، وهو من هذه الناحية يرتد إلى قبلية الإستقراء وإحتمالاتها العقلية، فبفضل هذه القاعدة يتحصل المعنى العرفي للنص غالباً أو إجمالاً، بدل أن يدلّ معناه على الرمزية والتأويل. كما يمكن إرجاع البيان قبل ذلك إلى قبليات الدلالة الاستعمالية للفظ على المعنى في الوسط الثقافي والعرفي؛ قبل الاحتكاك بفهم النص، إذ تتأسس عليها قواعد العلوم البيانية مثل تلك التي تنتمي إلى علم أصول الفقه وغيره. فحيث يكثر استخدام اللفظ على معنى محدد، فذلك يشكل ركيزة ذهنية قبلية يلجأ إليها القارئ لحمل معنى النص على الظاهر المتبادر. وهنا يكون البيان كأصل مولّد ليس هو الفهم ذاته، بل سابق عليه بالضرورة[11]. وهو ما يبرر حالة البون والمسافة البعيدة التي تفصل البيان كأصل مولّد عن النص كما هو في ذاته.

***

هكذا يظهر لنا أربعة أنماط من الصراع داخل النظام المعياري بدائرتيه العقلية والبيانية، فأولها ذلك التنافس الحاصل بين أحكام العقل القبلي وتشريع النص. وثانيها صراع العقل مع العقل، وهو صراع دائر ضمن الدائرة العقلية فحسب. وثالثها صراع العقل مع البيان، أي صراع الدائرتين العقلية والبيانية. وآخرها صراع البيان مع البيان، وهو الصراع الذي تتضمنه إتجاهات الدائرة البيانية. وقد تحدثنا بالتفصيل عن هذه الأنماط الأربعة من الصراع في الحلقة المخصصة للنظام المعياري، وذلك في كتاب (العقل والبيان والإشكاليات الدينية).

 

 

 

 



[1]  انظر شرح الأصول الخمسة.

[2]  عبد الجبار الهمداني: فرق وطبقات المعتزلة، دار المطبوعات الجامعية، 1972م، ص81.

[3]  حاشية البناني على شرح المحلي على جمع الجوامع للسبكي، شبكة المشكاة الإلكترونية، ج1، ص418. كذلك: إبن تيمية ليس سلفياً، ص9ـ10.

[4]  رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري، حاشية، ص120.

[5]  انظر التفصيل ضمن القانون الأول من قوانين الفهم لدى القسم الثالث من كتابنا: منطق فهم النص.

[6]  طبقات الشافعية الكبرى، ج3، ص357ـ358.

[7]  طبقات الشافعية الكبرى، ج3، ص356. علماً بأن نفس مضمون هذه المحاورة ورد على لسان كل من الغزالي والشهرستاني، فقد قال الغزالي وهو ينقد المعتزلة: «إنا نريهم من أفعال الله تعالى ما يلزمهم الإعتراف به بأنه لا صلاح للعبيد فيه، فإنا نفرض ثلاثة اطفال مات أحدهم وهو مسلم في الصبا، وبلغ آخر وأسلم ومات مسلماً بالغاً، وبلغ الثالث كافراً ومات على الكفر، فإن العدل عندهم أن يخلد الكافر البالغ في النار، وأن يكون للبالغ المسلم في الجنة رتبة فوق رتبة الصبي المسلم، فإذا قال الصبي المسلم، يا رب لم حططت رتبتي عن رتبته؟ فيقول: لأنه بلغ فأطاعني وأنت لم تطعني بالعبادات بعد البلوغ، فيقول: يا رب لأنك أمتني قبل البلوغ فكان صلاحي في أن تمدني بالحياة حتى أبلغ فأطيع فانال رتبته فلِمَ حرمتني هذه الرتبة أبد الآبدين وكنت قادراً على أن توصلني؟ فلا يكون له جواب إلا أن يقول: علمت أنك لو بلغت لعصيت وما أطعت وتعرضت لعقابي وسخطي فرأيت هذه الرتبة النازلة أولى بك وأصلح لك من العقوبة. فينادي الكافر البالغ من الهاوية ويقول: يا رب أوَ علمتَ أني إذا بلغتُ كفرتُ فلو أمتني في الصبا وأنزلتني في تلك المنزلة النازلة لكان أحب اليّ من تخليد النار وأصلح لي، فلِمَ أحييتني وكان الموت خيراً لي؟ فلا يبقى له جواب البتة..» (الإقتصاد للغزالي، ص181ـ182. وشبيه به ما ذكره الشهرستاني في كتابه: نهاية الاقدام في علم الكلام، مكتبة المثنى في بغداد، ص409ـ410. كذلك: مرهم العلل المعضلة، ص128).

[8]  الخوانساري: روضات الجنات، تحقيق اسد الله إسماعيليان، مكتبة إسماعيليان في قم، ج5، ص17.

[9]  نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج1، ص341.

[10]  اللمع للأشعري، ص117ـ118. كذلك: الباقلاني: التمهيد، تصحيح الأب رتشرد يوسف اليسوعي، المكتبة الشرقية في بيروت، 1957م، ص341.

[11]  للتفصيل يراجع كتابنا: منطق فهم النص.


comments powered by Disqus