-
ع
+

أربعة مواقف للفلاسفة والعرفاء من النص الديني

يحيى محمد

اذا سلمنا ان النص الديني والمعرفة القبلية الوجودية قطبان يلتقيان احياناً ويفترقان احياناً اخرى، فما هو موقف الفلاسفة والعرفاء من حالات الافتراق والتعارض؟ فهل يا ترى انهم يؤيدون (القبلية الوجودية) على حساب الوحي والنص الديني، ام انهم يتخلون عنها دفاعاً عن عينة هذا النص؟ وبعبارة ثانية، اي ركن يتخذه الفلاسفة والعرفاء ملاذاً لتقويم الركن الآخر: القبلية الوجودية ام النص؟ فهل انهم يعملون على تحريف الرؤية الوجودية ليوافقوا بها النص، ام يفعلون العكس، بتحريف الاخير ليتفق مع ما تجنح اليه تلك الرؤية؟

من الواضح اننا لا نجد موقفاً موحداً للفلاسفة والعرفاء ازاء ما طرحناه من تساؤل. فهناك بلا شك مواقف متعددة لها علاقة بالظروف المختلفة التي تكتنف كل واحد منهم. لكن مع هذا يمكننا ان نجد موقفين متباينين، احدهما يتسم بقدر معقول من المصداقية لوجود الاتساق - عادة - بين موقفه النظري وموقفه التطبيقي من التعامل مع العينة الدينية او النص. أما الاخر فهو ما يفتقر الى هذه المصداقية، حيث المفارقة بين الموقفين النظري والتطبيقي.

وابرز من يمثل الخط الاول الفلاسفة التقليديون من امثال الفارابيين واتباعهما. فهذا الخط ظل محافظاً - في الغالب - على موقفه من دلالة العينة الدينية التي اعتبرها ظنية اقناعية لا تفيد اليقين، وبالتالي فهي بحسب هذا الموقف ليس لها مرجعية معرفية وتحقيقية مقارنة بما تقدمه الرؤية الوجودية الموسومة بالبرهان، انما شأنها ان تكون خاضعة للممارسات التأويلية والاستبطانية بحسب التوجيه الذي تقدمه تلك الرؤية القبلية. فهذا هو سلوك الخط الاول.

أما الخط الثاني فهو ما يمثله العرفاء المتأخرون ومن تأثر بهم من الاشراقيين، حيث يتصف بالمفارقة وعدم الاتساق، باعتباره يجمع التناقض بين موقفه النظري من مرجعية النص الديني ودلالته من جهة، وبين الممارسة العملية التي يجريها في التعامل مع هذا النص من جهة ثانية. فهو لا يكف عن التصريح بضرورة الاخذ بمرجعية ظاهر النص من غير تأويل، وانه مقدّم على ما يعارضه من الاطروحات الاخرى بما فيها تلك التي تقدمها الرؤية الوجودية، لكنه من حيث الممارسات التطبيقية نراه متخماً باليات العمل بالتأويل والاستبطان والخلط والتلفيق لصالح هذه القبلية في الغالب.

لذلك فبقدر ما نجد من السهل الحكم على الخط الاول باعتباره متسقاً في ذاته من حيث تقديمه للرؤية الوجودية على العينة الدينية، بقدر ما نجد صعوبة الحكم على الخط الثاني، لكونه لا يتخذ مساراً موحداً، انما له جملة مسارات مختلفة، استظهارية وتوفيقية وخلطية وتلفيقية وتأويلية واستبطانية، حيث يتحكم فيها منطق القبلية الوجودية في الغالب.

إن الطابع العام الذي يسود وسط رجال النظام الوجودي هو التعامل مع النص الديني تعاملاً قائماً على ما نطلق عليه الاستبطان او المباطنة، سواء لدى المتقدمين منهم ام المتأخرين، مع وجود فارق الكم والسعة، فالمتأخرون يفوقون اسلافهم اضعافاً مضاعفة في ممارسة هذه الظاهرة، وذلك اذا ما استثنينا الاسماعيلية التي هي ايضاً لها سمتها الموسوعية في العمل الاستبطاني.

على ان الاستبطان يختلف عن التأويل، كما يختلف عن الاستظهار الذي خاصيته العمل بالاخذ بظاهر النص. فهذه الاليات الثلاث تختلف فيما بينها اختلافاً واضحاً، وما يحدد هذا الاختلاف هو مواقفها من عنصرين جوهريين، هما الظهور اللفظي و(المجال). فبفضل الفكرة الاخيرة استطعنا ان نميز بين الاليات الانفة الذكر، اذ لم يسبق للباحثين والعلماء ان ميزوا بين ممارسات التأويل والاستبطان، فمردها لديهم الى عملية واحدة هي التأويل فحسب.

وكتعريف اولي للاستبطان هو أنه يفترض وجود معنى باطن خلف ظاهر النص هو الذي يشكل جوهر ما يعنيه الاخير، سواء تم الاعتراف بحقيقة الظاهر ام لا. لكن تبقى اهمية الظاهر انه يعمل كرمز يشير الى ذلك المعنى الخفي. وهنا تأتي اهمية الدلالة الوجودية لتغطي المعنى الاخير، عبر الاليات القبلية، سواء كانت عقلية فلسفية او كشفية ذوقية. فحيث يمتلك النظام الوجودي منظومة قبلية لها اصول معرفية ضاربة في القدم، وان لديه منهجاً محدداً للتوليد المعرفي، لذلك شكّلت ممارسته الاستبطانية مطمحاً نحو (التطبيق)، وهو الية يتم فيها اسقاط الرؤية الوجودية وتطبيقها على النص الديني. وبالتالي فان العمل وفق هذه الالية جعل من الممارسة الاستبطانية وغيرها من ممارسات فهم النص ضرورة ملحة لا غنى عنها.

لقد بدأ الاستبطان مع الفلاسفة والاسماعيلية ومن على شاكلتها، ويمكن التفرقة بين هذين الاتجاهين بحسب اختلاف السلطات المعرفية التي خضع لها كل منهما. فالسلطة المعرفية التي ادان لها الفلاسفة هي تلك التي تعود الى النظام الوجودي غالباً. في حين خضعت الاسماعيلية تحت هيمنة سلطتين، احداهما وجودية واخرى مذهبية دينية، كثيراً ما يفترقان، الامر الذي جعلها تتوسع في الممارسة الاستبطانية بالبحث عن الباطن في النصوص لادنى مناسبة تذكر، سواء كان ذلك لدعم رؤاها الوجودية، او لتأييد عقيدتها المذهبية. أما الفلاسفة فقد اقتصروا على معالجة النصوص التي لها علاقة بالعالمين الغيبي والالهي عادة، كمسألة وجود الله وتوحيده وصفاته وكذا الوحي والمعجزات والاخرة ودلالاتها، ولم يكن يعنيهم شيء خارج حدود نصوص هذه القضايا عادة. وبالتالي لم يكن لهم ذلك الهجين الذي اصاب الاسماعيلية نتيجة اختلاف تلك السلطات، كما لم يكن لديهم ما لديها من الموسوعة الاستبطانية التي تكرر ظهورها بقوة لدى المتأخرين من العرفاء، وهي تحمل معها هذه المرة مبرراتها التنظيرية التي تؤهلها للمزيد من السعة التفسيرية او الاستبطانية بلا حدود.

ويمكن اعتبار مرحلة الغزالي مرحلة وسط، فهو وإن لم يمعن بممارسة المباطنة كالتي مارسها المتأخرون عنه، ولم تكن لديه الموسوعة الاستبطانية التي لا يحدها حد ولا تشبعها النصوص، لكنه وضع ما يبرر لهذا النهج من المباطنة الرمزية والتي ظهر اثرها الموسوعي عند العرفاء بعده بفنون واشكال عديدة. صحيح ان الغزالي اخذ بالنهج الذي سار عليه المتقدمون من العرفاء، وهو ان للنصوص اشارات وتنبيهات لامور اخرى تضاف الى ما للظاهر من معنى، لكن ذلك دفع به الى تنظير هذه الفعالية والتنبيه على بسط الرؤية الوجودية وتطبيقها على النص انطلاقاً من مبدأ ما اطلق عليه (الاعتبار)، وهو المبدأ الذي كلله بنظريته التوفيقية بين النص الديني والرؤية الوجودية، وهي ما اطلقنا عليها (نظرية المشاكلة) كما سنرى. مع ان العمل الفعلي وفق ذلك المبدأ لم يتقيد بقيود هذه النظرية، وانما تعداها الى تفننات مختلفة لا يعرف لها نهج ولا ضابط، كالذي يتبين لدى العرفاء الذين ورثوا هذا المبدأ العرفاني.

والمقصود بمبدأ الاعتبار هو اقامة الباطن مع قبول الظاهر ووجود المناسبة الدلالية التي تربط بين الظاهر والباطن. فالوسيط الذي يتمسك به العرفاء في تطبيق مبدأ الاعتبار هو المناسبة الدلالية التي يتعين عليها الباطن من خلال الظاهر. لكن واقع الحال ان العرفاء اخذوا يتمسكون بادنى مناسبة لتعيين ذلك الباطن. فهدفهم من الممارسة الاستبطانية ليس البحث في المناسبة الدلالية إن كانت تفي بالغرض ام لا، وانما (التطبيق) باسقاط الرؤية الوجودية على النص الديني، عبر التذرع بتلك المناسبة، او بمبدأ الاعتبار.

أما بعد الغزالي فقد بلغت حالات الإستبطان والتأويل منذ إبن عربي واتباعه درجتها القصوى، بتأثير بارز بكل من حجة الإسلام (الغزالي) والباطنية الإسماعيلية، بحيث أصبحت النصوص الدينية كأنها لا تخلو من تعبير يراد به مضامين الرؤية الوجودية، كإن تدل على وحدة الوجود أو تشاكل مراتبه، أو على الأعيان الثابتة والماهيات، أو غير ذلك من الرؤى والأفكار. وبالتالي جاز لنا ان نعتبر مرحلة إبن عربي وأتباعه بأنها مرحلة الموسوعات الإستبطانية التي ظهر فيها ما يمكن ان نطلق عليه (الديانة الوجودية)، إذ تستهدف الجمع والتوفيق - وحتى التلفيق - بين العينتين الدينية والوجودية.

ومن الأمثلة على هذه الموسوعات الإستبطانية للديانة الوجودية كتاب (الفتوحات المكية) لإبن عربي، وهو في أربعة مجلدات كبار، كذلك تفسير حيدر الآملي المسمى (المحيط الأعظم والطود الاشم في تأويل كتاب الله العزيز المحكم)، وهو في سبع مجلدات كبار، وقد جاء بإزاء تفسير نجم الدين دايه الرازي المتوفى (سنة 654هـ) في كتابه (بحر الحقائق ومنبع الدقائق)، وهو في ستة مجلدات كبار[1]، وأيضاً تفسير صدر المتألهين الشيرازي للقرآن الكريم وشرحه لأصول الكافي... الخ.

هكذا فإن الديانة الوجودية عبر موسوعاتها الإستبطانية جاءت قبال تلك التي نطلق عليها (الديانة المعيارية). أو قل ان تراثنا يحمل دينين متقابلين لنظامين معرفيين؛ وجودي ومعياري.

أما بعد صدر المتألهين فقد ظهرت موسوعات أخذت على عاتقها الاهتمام في الرواية والحديث، وكان هدفها الجمع بين عناصر ثلاثة كتلك التي مارستها الباطنية الإسماعيلية، وهي القبليات الوجودية والإعتبارات الدينية والتقاليد المذهبية، حيث كان اللجوء إلى الحديث يشكل ممارسة انتقائية من غير اهتمام بالسند، وأحياناً يتعمد الأخذ بهذه الانتقائية بحجة تطبيق منهج الكشف في معرفة الحديث الصحيح من غيره. وعلى رأس هذه الموسوعات: الصافي في تفسير القرآن للفيض محسن الكاشاني، وهو صهر وتلميذ صدر المتألهين، وكذلك شرح الزيارة الجامعة الكبيرة للشيخ احمد الاحسائي.

ومن الناحية المبدئية يمكن القول ان للفلاسفة والعرفاء عدداً من المواقف ازاء العلاقة بين النص الديني والقبلية الوجودية، كالاتي:

الموقف الأول: وهو الذي فصل بين النص الديني والقبليات الوجودية، إذ جعل لكل منهما مداره الخاص المختلف عن المدار الآخر دون ان يتناقض معه، فكلاهما على هذا الرأي صحيح وسديد. ويعد هذا الموقف شاذاً وسط التيار العام للفلاسفة والعرفاء، وأبرز من يمثله أبو سليمان المنطقي الذي يقول: ‹‹إن الفلسفة حق لكنها ليست من الشريعة في شيء، والشريعة حق لكنها ليست من الفلسفة في شيء، وصاحب الشريعة مبعوث، وصاحب الفلسفة مبعوث إليه، وأحدهما مخصوص بالوحي، والآخر مخصوص ببحثه، والأول مكْفيّ، والثاني كادح، وهذا يقول: أُمرتُ وعُلّمتُ، وقيل لي وما أقول شيئاً من تلقاء نفسي. وهذا يقول: رأيت ونظرت واستحسنت واستقبحت. وهذا يقول: نور العقل اهتدي به، وهذا يقول: معي نور خالق الخلق أمشي بضيائه. وهذا يقول: قال الله تعالى، وقال الملك، وهذا يقول: قال افلاطون وسقراط. ويُسمع من هذا ظاهر تنزيل وسائغ تأويل وتحقيق سنة واتفاق أمة، ويسمع من الآخر الهيولى والصورة والطبيعة والاسطقس والذاتي والعرضي والايسي والليسي وما شاكل هذا مما لا يُسمع من مسلم ولا يهودي ولا نصراني ولا مجوسي ولا مانوي››. ويقول أيضاً: ‹‹من أراد ان يتفلسف فيجب عليه ان يُعْرض بنظره عن الديانات، ومن اختار التديّن فيجب عليه ان يُعرِّد - ينكب ويحيد - بعنايته عن الفلسفة››، حيث لكل مجاله الصحيح[2].

وقد تجددت مثل هذه الدعوة في العصر الحالي، حيث ظهر في ايران تيار يدعو إلى التفكيك بين العلاقتين الوجودية والدينية. وهو تيار مازال شاذاً وسط الرواج الذي يعاكسه. ويعرف هذا التيار بإسم (المدرسة التفكيكية).

الموقف الثاني: وهو الذي جعل العلاقة بين النص الديني والقبليات الوجودية قائمة على التبعية الصرفة، كالفلاسفة التقليديين من أمثال الفارابيين وأتباعهما الذين إعتبروا النص الديني تابعاً في مرجعيته المعرفية للقبليات الوجودية، بإعتباره لا يحظى بدرجة القطع واليقين. وبعضهم بدى عليه شيء من التذبذب، كإن يأخذ شيئاً من هنا وشيئاً من هناك، كما هو الحال مع إبن رشد.

الموقف الثالث: وهو الذي اهتم بشاغل التوفيق بين العينتين الدينية والوجودية. ونقصد بذلك الانشغال المعرفي في العمل على اظهار التوافق بين العينتين من غير ان يكون لإحداهما الترجيح على الأخرى أو التبعية الصرفة لها، فلا القبليات الوجودية تتبع في منظومتها النص الديني، ولا ان هذا الأخير يكون تابعاً ومترجماً للأولى، انما لكل منهما مرجعيته المعرفية وحقيقته المستقلة التي يتم عليها مبنى المصالحة والتوفيق من دون التضحية بأحدهما لحساب الآخر. فكلاهما يمثل الحق والصواب، وان أياً منهما أشبه بالمرآة التي يرى فيها الآخر. وأول من ظهر لديه هذا الشاغل بوضوح هو الغزالي الذي حاول التوفيق بين العينتين تبعاً للتحول المعرفي الذي خالف به ما أفاده الفلاسفة التقليديون كما سنعرف. لكن هذا الشاغل قد تعمق بعده عند صدر المتألهين، بل وأخذ أبعاداً أخرى من التحول، فبدل ان يحتفظ بكونه شاغلاً توفيقياً كالذي ابتغاه واضعه الأول واعتنقه الأخير بإصرار، فإنه تحول إلى شاغل للخلط والتلفيق، سواء عند هذا الأخير أو عند شيخه إبن عربي وأتباعه من العرفاء.

الموقف الرابع: وهو الذي انشغل بحالات الخلط والمزج والتلفيق مضافاً إلى حالات أخرى من التوفيق والتبعية والتذبذب. وأبرز من يمثل هذا الموقف الإسماعيلية والعرفاء المتأخرون من أمثال إبن عربي واتباعه. فكما قلنا ان شاغل التوفيق الذي استهدفه الغزالي لم يحتفظ بمنزلته عند من جاء بعده من العرفاء، فلم يعد التوفيق يعني شيئاً عند هؤلاء بقدر ما يعنيهم (التطبيق)، أو جوانب الرصف الهجين كالفسيفساء، فأخذ يظهر بأشكال مختلفة من الموسوعات التفسيرية، والتي تحمل في احشائها مختلف حالات التذبذب والتلفيق، وكذا حالات المزج والخلط لأدنى مناسبة.


[1]     تصدير عام لكتاب الآملي: جامع الأسرار، ص7.

[2]     أبو حيان التوحيدي: الامتاع والمؤانسة، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، تصحيح أحمد أمين وأحمد الزين، ج2، ص18-19.

comments powered by Disqus