-
ع
+

الجابري والتصنيف الثلاثي للعقل العربي


يحيى محمد

أقام المفكر المغربي محمد عابد الجابري تصنيفاً جديداً لعلوم التراث يُعدّ ثورة منهجية كبيرة كما في مشروعه (نقد العقل العربي)، وهو يستحق التقدير، إذ أعاد فيه ترتيب العلاقات بين العلوم والمعارف التراثية بطريقة جديدة تتجاوز الاختلافات المظهرية لتنظر إلى ما تكنّه من توافقات أو إختلافات بنيوية داخلية تتمثل بآليات المعرفة ووسائلها ومفاهيمها الأساسية. حيث بدلاً مما كان تصنيفها إلى علوم النقل والعقل، أو الدين واللغة، أو علوم العرب وعلوم الأجانب، وبدلاً من إظهار الانفصال والاستقلال بين كل من علوم الفقه والنحو والبلاغة واللغة والكلام، وكذلك بدلاً من إظهار التجاور بين علمي الكلام والفلسفة، وأيضاً بدلاً من جعل التصوف في قائمة العلوم الدينية، والكيمياء في قائمة العلوم العقلية مع الرياضيات والطبيعيات.. بدلاً من كل ذلك أقام الجابري تصنيفه اعتماداً على البنية الجوانية فانتهى إلى وجود ثلاثة نظم معرفية متكاملة؛ هي النظام البياني الذي يعتمد على قياس الغائب على الشاهد كمنهج في إنتاج المعرفة، ونظام العرفان المؤلف من تصوف وباطنية وكيمياء وتطبب وفلاحة نجومية وسحر وطلسمات وعلم تنجيم، حيث يؤسسها النظام العرفاني القائم على (الكشف والوصال) و(التجاذب والتدافع). كذلك النظام البرهاني الذي يؤسس كلاً من المنطق والرياضيات والطبيعيات والالهيات أو الميتافيزيقا، والقائم على مبدأ «الملاحظة التجريبية والاستنتاج العقلي كمنهج»[1].

وقد عدّ الجابري تصنيفه هذا مطابقاً لما أشار اليه القشيري، فهو عبارة عن برهان وبيان وعرفان. لكن مقاصد القشيري وتقسيمه لهذه الطرق تختلف كثيراً عما رمى اليه الجابري. فالبرهان عند القشيري هو من خاصة علم الكلام بالدرجة الرئيسية، بخلاف ما عند الجابري الذي يعتبره من خاصة الفلاسفة الأرسطيين. يضاف إلى أن القشيري يعتبر هذه الطرق عبارة عن أنوار بعضها أكمل من البعض الآخر بغير تضاد ولا معارضة، وأن الترتيب والكمال فيما بينها  يسير باتجاه معاكس لما هو مرتب عند الجابري. فالقـشيري يرى أن أبلـغها كمالاً يتمثل بالعرفان ثم البيان وأخيراً البرهان. ويلاحظ أن تقسيمه هذا لا يعبّر عن تقسيم معرفي فحسب، بل كذلك فيه جنبة لاهوتية أو معيارية غير معرفية، حيث يتفاوت بالقيمة الايمانية، أي أنه عبارة عن معرفة ومعيار معاً[2].

مهما يكن من امر، يلاحظ أن التمايز بين الأنظمة المعرفية عند الجابري قائم على رصد الاختلاف في إسلوب كسب المعرفة، أو الاستدلال والقيمة المعرفية المتمخضة عنه. فبحسب رأيه أن للنظام البياني دلالة لغوية غير لزومية تفيد الوضوح والظهور حتى في مظهره الاستدلالي، لأنه استدلال قائم على القياس غير البرهاني، أي إنه لا ينتج القطع واليقين، بخلاف ما هو الحال في النظام البرهاني الذي يجعل من القياس أو الاستدلال ما يفيد البرهان واليقين، إذ يضمّنه علاقة اللزوم بين المقدمة ونتيجتها بكشفه عن علاقة السببية بين الوقائع الخارجية. في حين إن العرفان لا يقوم على هذا ولا على ذاك. فهو مجرد تعبير عن ادعاء شخصي بكشف الحقيقة، وهو يقوم على روابط سحرية غير لزومية ولا معقولة، مؤسسة على ركيزة (المشابهة في العلاقة)، لهذا فهو لا ينتج إلا النتائج غير المعقولة.

لكن الملاحظ أن التصنيف الذي وضعه الجابري ينتابه الخلل والقصور لعدة اعتبارات. فمن جهة ضمّن الجابري تقسيمه الآنف الذكر شكلاً صورياً افتعل عليه التضاد بين الأنظمة، كما هو الحال في افتعاله للتضاد بين النحو والمنطق مع أنهما في الأساس صوريان وليسا نظامين فكريين كسائر الأنظمة المعرفية التي تمتاز بامتلاكها رؤية كلية عن العالم أو الوجود. كذلك فإن (البيان) الذي عدّه نظاماً بحاله قد جرّده من الفعالية العقلية المستقلة رغم احتوائه على علم الكلام، كما هو الحال مع المعتزلة التي جرّدها من الممارسة العقلية المستقلة، وكذا الحال مع الامامية الاثني عشرية التي وضعها في مصاف الباطنية ضمن النظام العرفاني واتهمها بعدة تُهم باطلة. ولا شك في أن نظريته هذه تفضي إلى نفي أن يكون الفكر العربي الاسلامي حاملاً لأي دلالة عقلية مستقلة، باعتبار أن البيان هو النظام الوحيد الذي يمثل أصالة الفكر العربي، أما النظامان الآخران فهما من الأنظمة الدخيلة عليه كما هو معروف.

يضاف إلى ما سبق أن التصنيف المذكور يتضمن تضاداً تاماً بين العرفان الكشفي والبرهان الفلسفي، مع أن الروابط التي تربطهما تتيح امكانية ردّ نتاج أيّ منهما إلى الآخر على ما كشفنا ذلك في بعض الدراسات المستقـلة[3].

   صورية الأنظمة والصراع المزعوم  

من الغرائب التي احتواها مشروع الجابري محاولة جعل العلوم الصورية أنظمة فكرية بعضها يضاد البعض الآخر، بل وتنتج قضايا معرفية من غير اعتبار للأُصول المولدة التي لا غنى عنها في أيّ عملية من عمليات الانتاج المعرفي، رغم أنها لا تفضي بالضرورة إلى حالة القطع واليقين، حتى أن ادعاء بعض الدوائر المعرفية بأن ما تنتجه من معارف يقوم على البرهان ويتصف بالقطعية؛ لا يعني بالضرورة أنها كذلك حقاً، باعتبارها ليست محايدة، بل موجهة أساساً من قبل تلك الأُصول. فالطريقة البرهانية في الاستدلال والوصول إلى نتائج يقينة أو قطعية قد تدّعيها أحياناً حتى العلوم التي يكثر فيها الظن، كما هو حال علم الفقه، كالذي يدعيه أمثال إبن حزم الأندلسي والشريف المرتضى وإبن ادريس الحلي ومحمد أمين الاسترابادي وغيرهم، فكيف هو الحال مع علم الكلام الذي ينافس الفلسفة في ادعائه بكشف الحقائق، أو حتى استخدام طريقتها المنطقية للبرهان، كما فعل المتأخرون من أصحاب النظام المعياري؟! مما يعني أن وراء ما يُدعى من طرق برهانية شروطاً موجّهة غير محايدة هي التي تضفي على السلوك المعرفي نهجه البرهاني. فهذه الشروط عبارة عن مصادرات قبلية تحقق للجهاز المعرفي ما يتطلّع اليه من قطع وبرهان، وهو ينطبق على النظام الفلسفي (البرهاني)، فلولا ما يحمله من مصادرات قبلية خاصة ليست هي موضع اتفاق الجميع لما أمكنه أن يصل إلى نتائج هي بمثابة المقطوع بها والمبرهن عليها مع أخذ اعتبار هذه الشروط من المصادرات. ونفس هذا الحال ينطبق على طريقة أهل الكلام، فهي أيضاً تُعدّ برهانية أو مفضية إلى القطع مع أخذ اعتبار شروطها من المصادرات القبلية، حتى مع اعتمادها على منهج الاستدلال بالشاهد على الغائب. فطريقة البرهان تظل صورية لا يسعها إنتاج مادة الدليل ولا مادة النتيجة، فمثلما يمكن إجراءها على علوم الطبيعة والميتافيزيقا بحسب الشروط الخاصة؛ يمكن إجراءها أيضاً على علوم البيان أو المعيار كالفقه والكلام بحسب الشروط الخاصة أيضاً. مع ان الكشوف العلمية الحديثة بيّنت أن طريقة البرهان الأرسطية هي محل اعتراض جذري لكونها تفضي إلى المصادرة على المطلوب. 

على ذلك فإن صورية المنطق ـ ومنه القياس البرهاني ـ تقتضي أن لا يكون بينه وبين البيان أي تضاد ومعارضة، مما يجعل المحاولة التي سعى اليها الجابري بهذا الخصوص غير موفقة، إذ لم يكتفِ باظهار التضاد بين النظامين البياني والبرهاني على مستوى الرؤية كما هو الحال على صعيدي علم الكلام والفلسفة، بل وادعى كذلك وجود التناقض والانفصام بينهمـا على صعـيد المنهج متمثلاً بالنحو والمنطق[4]، بالرغم من إن هـذين العلمين يعالجان موضوعين مختلفين وإن تداخلا في بعض القضايا المشتركة. وهو طبقاً لهذا الادعاء حاول أن يُفسر بعض القضايا الميتافيزيقية استناداً إلى صورية هذين العلمين، فربط بين انطلاق لائحة المنطق الأرسطي من مقولة (الجوهر) وبين قول الفلاسفة بقدم العالم، وعلى نفس الشاكلة ربط في الطرف المقابل بين انطلاق لائحة النحو العربي من مقولة (الفعل) وبين قول الكلاميين بحدوث العالم، أو خلقه من لا شيء. كذلك فعل نفس الشيء في تفسير خلو قائمة النحو العربي من مقولات (الوضع والملكية والاضافة) بالقياس إلى حضورها في المنطق الأرسطي. إذ رأى أن ذلك الغياب ينسجم مع نزعة علم الكلام في نفي أن يكون لتلك المقولات حقيقة تصدق على الانسان، فهي تُحمل عليه مجازاً، إذ المعتبر أن الله هو المالك والفاعل والواضع حقيقة لا الانسان، وبالتالي فهو يفسر هذا النفي الكلامي لمصداقية تلك المقولات على الانسان من حيث كونها غائبة في لائحة النحو[5].

لكن بغض النظر عن غرابة هذا الربط بين النحو والكلام، فإن ما ذكره لا يصدق على جميع علماء الكلام. فإذا كان من الواضح إنه يصدق على الأشاعرة فعلاً، فإنه مع غيرهم يختلف تماماً، خاصة فيما يتعلق بنظرية الوضع والاضافة كما هو ملاحظ لدى المعتزلة. اما مقولة الملكية فمن الواضح أن لها أثرها الحضوري في النحو كما هو الحال في (لام الملكية). بل حتى مقولة الاضافة هي أيضاً تحظى بهذا الحضور بما تعبّر عن نسبة بين طرفين هما المضاف والمضاف اليه، بالرغم من وجود الاختلاف في حقيقة هذه النسبة إن كانت عبارة عن (المصداق) كما هو في النحو، أو (المفهوم) كما هو الحال في المنطق، على ما كشف عنه الفارابي في كتابه (الحروف) وأشار اليه الجابري في (بنية العقل العربي).

مع أنه يمكن القول إن غياب لفظة لا يدل بالضرورة على غياب معناها، كما سبق أن أكد على ذلك المستشرق (جولدتسيهر)، إذ ذكر بأن البعض قالوا بأن الاسلام خال من الفكرة الأخلاقية المسماة بـ (الضمير)، مبررين قولهم هذا بأن اللغة العربية وسائر اللغات الاسلامية الأُخرى كلها تخلو من كلمة خاصة للتعبير بدقة عما يُقصد من هذه اللفظة. وقد ردّ (جولدتسيهر) على هذا الزعم قائلاً بأنه «لو كان الأمر كذلك لكنّا ندعي بحق بأن شعراء (الفيدا) كانوا يجهلون عاطفة العرفان بالجميل لأن كلمة (شكر) غريبة عن اللغة الفيدية». وقد سبق للجاحظ في كتابه (البخلاء) أن فنّد ملاحظة أحد أصدقائه بأن عدم وجود كلمة (الجود) في لغة الروم يمكن أن تتخذ دليلاً على بخل الروم المطبوع فيهم. كما انتقد كذلك الذين أخذوا من فقدان كلمة (نصيحة) في اللغة الفارسية دليلاً على الغش الغريزي في هذا الشعب[6].

يضاف إلى ذلك إن طبيعة النحو الصورية وخصائص موضوعاته المستقلة ولو نسبياً لا يسعها أن تفسر القضايا الميتافيزيقية بمجرد وجود خيط ضعيف جداً من المناسبة بينهما، خاصة إذا ما كانت هذه القضايا قابلة لأن تُفسر باتساق بحسب المنطق الجواني الذاتي لطريقة الأصل المولد في الجهاز المعرفي.

والذي أتاح للجابري أن يصنع من نظام النحو نظاماً مضاداً لنظام المنطق هو تلك المحاورة الطويلة التي أوردها أبو حيان التوحيدي بين العالم النحوي أبي سعيد السيرافي والعالم المنطقي أبي بشر متى بن يونس خلال القرن الرابع الهجري، فبها برّر لوجود نظامين متكاملين ومتضادين، معتبراً هذه المحاورة بداية الوعي باختلاف وتضاد النظامين، حيث اكتمال البيان من جهة وحضور المنطق الأرسطي بتمامه بعد ترجمة كتاب (البرهان) من جهة أُخرى، الأمر الذي أفضى ـ بنظره ـ إلى حالة الانفجار والانفصال إلى حيث لا يلتقيان. خصوصاً وقد جاء بعد تلك الحادثة مَن عمل على توكيد ذلك الانفصال كما فعل المنطقي أبو سليمان السجستاني الذي شدّد على فصل العلاقة بين البيان والبرهان، مما جعل الجابري يعتبر ذلك لحظة جديدة في تطور العلاقة بين النظامين. مع أن إفتعال التضاد بين المنطق والنحو قد سبق أن ردّ عليه الفارابي الذي أعاد العلاقة الحقيقية بينهما فيما يختلفان وما يشتركان عليه من بحث، موضحاً أنه حتى في مجال ما يشتركان فيه تختلف الغاية بينهما، فغاية ما يريده المنطق من بحث هو عموم اللغة، في حين إن غاية ما يريده النحو منه هو خصوصية اللغة لا عمومها[7]. والعجيب إن الجابري بعد أن شدّد على وجود التضاد والتنافي بين المنطق والنحو في كلا كتابيه (التكوين والبنية) جاء ليقرر في بعض فقرات الكتاب الأخير (بنية العقل العربي) مشروعية ما قام به الفارابي مقتنعاً بطريقته التوفيقية[8]، وكأنه نفى ما ثبّته من قبل.

والواقع إن مناقضة أهل البيان للمنطق لا يقصد منه ـ في الغالب ـ مناقضة المنطق لذاته، فهو في حد ذاته لا يعد مضاداً للبيان أو المعيار، بل لأن الفلاسفة وضعوه واستخدموه لأغراضهم (الوجودية) حتى أصبح ملاصقاً لأعمالهم الفلسفية؛ لذا أبعده أهل المعيار عن اهتمامهم وحرّمه بعضهم للغرض ذاته، حتى حان وقت إعادة ترتيب اعتباره وتوظيفه داخل حيز البيان كما فعل إبن حزم والغزالي والفخر الرازي وغيرهم، على ما يشير إلى ذلك إبن خلدون في مقدمته.

بل يلاحظ أن أغلب الذين نقضوا الفلسفة وعلوم الأوائل عموماً هم من أهل المعيار لا البيان اللغوي والنحوي، كما هو الحال مع السلف وإبن قتيبة والغزالي ـ في شخصه المعياري الأشعري لا العرفاني الوجودي ـ وإبن الصلاح صاحب الفتوى الشهيرة في تحريم المنطق باعتباره مدخلاً للفلسفة، كذلك إبن تيمية الذي له كتب ورسائل عديدة في نقض كل من المنطق والفلسفة والتصوف. حتى أن إبن حزم الأندلسي كان يعتبر أن من العلل الأساسية لرفض مثل تلك العلوم هو الاعتقاد بأنها تبعث على الكفر ومناوئة الشريعة، كما في رسالة (التقريب لحد المنطق).

هكذا فليس هناك تضاد بين المنطق والنحو، وما حصل من تضاد إنما هو بين الروحين الوجودية الحتمية للفلاسفة والعرفاء من جهة، والمعيارية للمتشرعة من جهة ثانية، بحيث لا يمكن الجمع والتوفيق بينهما الا لحساب إحداهما على الأُخرى، إذ نرى أن بينهما قطيعة جوانية (منطقية). وهذا ما يدفعنا الى القول بضرورة دراسة هاتين الروحين كموضوعين في ذاتيهما بغض النظر عن العناصر الصورية المحايدة التي توظفها كل منهما، مثلما فعلنا ذلك في كتاب (مدخل إلى فهم الاسلام) وعدد من الكتب الاخرى.

 العقل العربي وتغييب العقل 

سبق أن أشرنا إلى أن من المؤاخذات التي يُؤاخذ عليها الجابري في تصنيفه لأنظمة الفكر العربي؛ هو انه جعل من (البيان) نظاماً مجرداً عن الاستقلالية العقلية رغم احتوائه لعلم الكلام، وقلنا إنه بهذا يجعل من الفكر العربي الاسلامي فكراً يغيب فيه العقل كلياً الا ما طرأ عليه من الخارج، وبالتحديد من أرض اليونان عبر الفلسفة.

فللنظام البياني في مشروع الجابري وجهان، أحدهما ظاهر من التسمية كمنطوق، لما له من دلالة لغوية تتسق مع التنظير الذي أراده صاحب المشروع في اعتبار اللغة العربية أساس العقل العربي. أما الوجه الآخر فهو ذو دلالة خلفية كمفهوم يعبّر عن نفي كل ما ليس بقائم على البيان أو اللغة، وبالتحديد فإنه يعبّر عن نفي الوجود العقلي المستقل. والذي يؤكد هذه الدلالة هو أنه  كان صريحاً فعلاً في نفي الاتجاه العقلي المستقل، أو نفي الوجود العقلي الا بحدود ما هو موظف لحساب البيان وخدمـته. وبالتـالي فإن رأيه يتمـاشى مع وجـهة نـظر إبن خلدون الذي يعتقد بأن علم الكلام إنما كان لدفع شبهات (الملحدين)، ولهذا السبب فهو يرى ان علماءه استخدموا النظر العقلي مثلما استخدمه (الملحدون)، دون أن يكون قصدهم تقرير الحقائق عن طريقه، بل كان العقل عندهم لأجل خدمة الايمان والشرع، وهو يتناسب مع تعريفه لعلم الكلام بأنه «علم يتضمن الحجاج عن العقائد الايمانية بالأدلة العقلية والرد على المبدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة».

وكذا الحال مع الجابري، فهو يرى ان المتكلمين، والمعتزلة منهم بالخصوص، يرفعون شعار العقل من حيث «إنهم يريدون الدفاع عن العقيدة أمام من لا يؤمن بكتاب ولا سنة.. فالعقل هنا مع المعتزلة.. مجرد أداة، فهو في جميع الأحوال في خدمة الكتاب والسنة وليس بديلاً عنهما»، وعليه لا فرق بينهم وبين الفقهاء والنحاة، فالجميع ينظرون في (الدليل): «والدليل عندهم هو النص أساساً. واذن فتكوين العقل البياني إنما يتم عبر حفظ النص والنظر في النص، وبالتالي فاهتمامه سيتركز أساساً على (نظام الخطاب) وليس على نظام  العقل». ومع ذلك فإن الجابري يفرّق شكلياً بين السلطة المرجعية التي تتحكم في علم الكلام وبين تلك التي تتحكم في كل من الفقه والنحو. إذ بنظره إنه إذا كانت تلك السلطة في الفقه والنحو هي النص، فإنها في علم الكلام عبارة عن الميتافيزيقا «لكن لا الميتافيزيقا التي يشيّدها (العقل المجرد)، بل التي يستنبطها العقل المؤول للنص. ذلك لأن العقل في علم الكلام ليس مشرّعاً، فهو لا يبتدئ بصورة مطلقة، بل يبتدئ الحجج والأدلة لنصرة العقيدة ككل أو مذهب هذه الفرقة الكلامية أو تلك في فهم وتأويل قضايا العقيدة والدفاع عنها»[9].

مهما يكن فالملاحظ أن الجابري لا يرى استقلالاً خاصاً بالطريقة العقلية بالقياس إلى الطريقة الأُخرى المنافسة لها، فهو يجمعهما معاً تحت غطاء وسقف واحد يطلق عليه البيان أو النظام البياني الذي يعاني برأيه من غياب أولوية التفكير على التعبير، وأولوية المعنى على اللفظ، وأولوية العقل على النص، باعتبار أن مفكريه كانوا يضعون طاقاتهم الفكرية ويقيدونها في حدود عملية استثمار النص، لا أكثر. هذا على الرغم من أن مشروعه لا يتورع عن نقل النصوص الاسلامية التي تحمل الدلالات العقلية في أسبقية المعنى على اللفظ، كتلك التي ينقلها عن المعتزلة، مثل الجاحظ والهمداني.

والحق إن الجابري قد خلط بين ورقتين، أو إنه أخفى ورقة في طي أُخرى. فما ذكره عن النظام البياني يصدق على قسم من أقسام التفكير داخل الفكر الاسلامي. فقد سبق لنا في (مدخل إلى فهم الاسلام) أن اعتبرنا النظام المعياري يحمل دائرتين من التفكير، هما الدائرة البيانية والدائرة العقلية. أما ما فعله الجابري فهو أنه أقحم الدائرة الأخيرة في طي الأُولى، وهو أمر غير مقبول. فالطريقة العقلية لم تمارس مجرد عملية التأسيس القبلي والخارجي للخطاب الديني حتى يُفترض أن يقال بأن ذلك كان لمواجهة العقائد الأُخرى ومن ثم جاء لخدمة الخطاب أو النص، بل هناك أمر آخر أهم، وهو ما يتعلق بالتأسيس البعدي والداخلي للخطاب وذلك عبر آلية الفهم. فطبقاً لهذا التأسيس يكون التوظيف مقلوباً، فهو ليس توظيفاً للعقل لخدمة البيان أو النص، بل العكس هو الصحيح. وما يزيد الأمر تأكيداً هو أن هذا التأسيس أو الفهم لم يتشكل طبقاً لموجهات النص والبيان، بل كان مُثبّتاً من قبل التشريع القبلي للعقل. فمثلاً جاء عن الشريف المرتضى، وهو بصدد تأويل بعض الآيات التي لها علاقة بعصمة الأنبياء، قوله: «إنه إذا ثبت بأدلة العقول التي لا يدخلها الاحتمال والمجاز ووجوه التأويلات أن المعاصي لا تجوز على الأنبياء عليهم السلام؛ صرفنا كل ما ورد ظاهره بخلاف ذلك من كتاب أو سنة إلى ما يطابق الأدلة ويوافقها، كما يُفعل مثل ذلك فيما يرد بظاهره مخالفاً تدل عليه العقول من صفاته تعالى وما يجوز عليه أو لا يجوز». فالقاعدة التي يقررها هذا الاتجاه هو أن للعقول «دلالة على جميع الأحوال غير محتملة، فرددنا كل مشتبه من آيات وغيرها إلى أدلة العقول لأنها أصل..».

وهذا الاتجاه نجده حتى لدى الأشاعرة المتأخرين، كالفخر الرازي الذي أكد في كثير من نصوصه على ضرورة الثقة بالعقل وممارسة التأويل حين تعارضه مع النقل، مُبدِياً أن دلالة العقل قطعية بخلاف دلالة النص التي لا ترقى لأكثر من الظن.

هكذا يدل ما سبق على وجود تأسيس قبلي للنظر العقلي يتأسس به الخطاب خارجاً وداخلاً، أو قبلاً وبعداً. وهو إن دلّ على شيء فإنما يدل على وجود منافسة بين التشريع العقلي والتشريع البياني للنص.

ومن الضروري أن نعرف بأن النظام التشريعي للنص لما كان قائماً أساساً على (المعيار)، ومثله النظام التشريعي للعقل، اذ يقوم هو الاخر على ذات (المعيار)، الأمر الذي يميّزه عن نظام التشريع العقلي للفلسفة والذي يتأسس على (الوجود) لا (المعيار).. فهذا الحال من الاتفاق في المشاركة بالمعيار بين العقل والنص، والذي يجعل مدار قضاياهما مشتركة، حيث أن العقل يبحث أساساً في المطارح التي يطرحها النص أو ما يتعلق بها مباشرة أو غير مباشرة؛ كل ذلك يشكل سبباً للوهم الذي أوقع الجابري في الالتباس الآنف الذكر، إذ بوجود طابع الشُركة المعيارية، ولكون العقل المعياري يتغذى من نفس المائدة التي أحضرها النص؛ فإن الجابري لم يفرّق بين الأمرين، فظن أنهما يعبّران عن تشريع واحد هو تشريع النص أو البيان.

وعليه هناك مفارقة يبديها المشروع بخصوص غياب العقل في النظام البياني. فهذا النظام بنظر الجابري عبارة عن فكر لا يقوم على أي فعّالية عقلية مستقلة، مع أنه في الوقت ذاته يعمل على توليد وتأسيس قضايا لها خصائص عقلية صرفة، كما في توليد النحو لقضايا علم الكلام على ما قدمنا.

كذلك يُخطئ الجابري خطأً جسيماً حينما يجرّد الإمامية الاثني عشرية من صفتها المعيارية أو البيانية ليضعها في دائرة العرفان والباطنية المحضة، شبيهاً بالاسماعيلية. ذلك إنه ميّز بين السنة والشيعة تمييزاً جذرياً قائماً على أساس اختلاف النظام المعرفي. فهو يرى وجود عقلين «باعتبار أن الأمر لا يتعلق بعقيدتين بل بنظامين معرفيين مختلفين يقرءان نفس العقيدة». وهو في محل آخر قدّم بعض الأدلة والمؤشرات التي تثبت بنظره النزعة الباطنية للاتجاه الشيعي الإمامي. فهو من جهة اعتبر العالم الشيعي القديم هشام بن الحكم الذي ينتمي إلى مجموعة الإمام موسى الكاظم متأثراً بالديناصية، وهي حركة غنوصية تلتقي مع الهرمسية. كما استدل من جهة ثانية على تلك النزعة من خلال وجود بعض الروايات ذات المسحة الباطنية في كتاب (الكافي في الأُصول والفروع) الذي يعدّ أهم كتب الحديث المعتبرة عند الشيعة الإمامية. يضاف إلى أنه اعتبر الإمامية متفقة مع الاسماعيلية في نظرتها إلى الأئمة وعلاقة الإمام بالنبوة، لا فقط من جهة الروايات، بل أيضاً «اعتماداً على منهجهم المفضل، منهج المماثلة»، أي المماثلة العرفانية. وفوق كل ذلك فإنه يساوي بينهما في نظرتيهما إلى مصادر الشريعة، إذ يعتبر الإمامية تنظر بذات النظرة التي يراها العالم الاسماعيلي الباطني القاضي النعمان (المتوفى سنة 363هـ) الذي يرفض القياس والاجتهاد والاستدلال وكذلك الاجماع[10].

والواقع إن هذه الدلالات ليست سليمة ولا دقيقة للغاية. ففيما يتعلق بهشام بن الحكم، فالمطلع على الكتب الشيعية التي تناولته؛ تنفي عنه تهمة الديناصية بعد إلتحاقه بالإمام الصادق، وعلى الأقل فإنها ليست راضية عما يحمله من أفكار. لذلك فقد عرّضه مثبّت التنظير الشيعي العقائدي الشريف المرتضى مع غيره من رجال الشيعة إلى النقد، إذ استنكر عليه وعلى جماعة أُخرى من الشيعة كعلي بن منصور وعلي بن اسماعيل بن ميثم ويونس بن عبد الرحمن مولى آل يقطين وإبن سالم الجواليقي؛ قولهم بأن الله عزّ وجل في مكان دون مكان وأنه يتحرك ويتنقل[11].

أما فيما يتعلق بكتاب (الكافي) ورواياته، فمع أنه يُعدّ من أهم كتب الأخبار المعتبرة عند الشيعة الإمامية، الا أنه وسائر كتب الأخبار الأُخرى لا تحظى بالتوثيق والقبول لجميع ما فيها من أخبار، بخلاف الحال مع ما ينظر اليه أهل السنة بالنسبة إلى بعض كتبهم الحديثية. ومع الأسف فإن العديد من المفكرين المعاصرين ومنهم الجابري ومحمد أركون وغيرهما ينظرون إلى كتاب الكافي عند الشيعة وكأنه صحيح البخاري عند السنة، أي أنهم يظنون أن الشيعة تنظر اليه نظرة قدسية ملؤها الصحة. فالاتجاه الأُصولي الإمامي ـ على خلاف الإخبارية ـ يعرّض الأخبار الواردة في كتب الحديث الشيعية إلى شتى أنواع النقد، سواء على الصعيد الخارجي المتعلق بالسند، أو على الصعيد الداخلي المتمثل بالمتن، مثلما فعل الشيخ المفيد، وزاد عليه تلميذه الشريف المرتضى الذي أكـثر من نقد الرواية والراوي.

وقد استمر هذا المنهج النقدي لكتب الحديث والرواية لدى جميع الأُصوليين من الإمامية، إلى درجة أن المتأخرين منهم قسموا سند الخبر إلى أربعة أقسام رئيسية هي: الصحيح والحسن والموثق والضعيف، وأطلقوا على هذه الطريقة (الاصطلاح الجديد)، باعتبار أن مفهوم (الصحيح) عند القدماء منهم هو غير مفهومه بحسب هذا الاصطلاح، كما أن التقسيم برمته لم يكن معروفاً أو مأخوذاً به لديهم، فأول من عمل به هو العلامة جمال الدين بن المطهر الحلي أو شيخه جمال الدين بن طاووس، ثم صار مسلكاً يحتذي به جميع الأُصوليين من بعده.

على أن وجود روايات لها دلالات عرفانية باطنية في كتب أهل السنة كما في الصحاح وغيرها لا يجعل من الصحيح اعتبار أهل السنة عرفاء أو باطنيين، ومن الأولى أن ينطبق ذلك على الشيعة، باعتبارهم يعرّضون جميع كتب الحديث والرواية للنقد بدون استثناء. من هنا فإن الجابري لم يُجِد الموازنة بين الحقلين السني والشيعي، إذ حصر البيان (= المعيار) في الأول بينما جرّده عن الثاني باستثناء الزيدية.

يضاف إلى ما سبق إن الإمامية كنظام معياري لم تستخدم المماثلة الباطنية العرفانية. فهي في غالبها أُصولية اجتهادية عقلية تتفق مع الاعتزال في طريقة تفكيرها، ويكفي ما أشار اليه الشهرستاني في (الملل والنحل) من أن الإمامية بعد عصر الغيبة قد انقسمت إلى إخبارية ومعتزلة أو أُصولية، مُذكراً بانه كان بينهما نزاع وصل إلى حد السيف والتكفير. فالنزعة العقلية ظاهرة عند أغلب رجالها منذ نشأة التنظير المعياري بعد عصر الغيبة. فهي تعدّ العقل أحد مصادر التشريع الأربعة للفقه (الكتاب والسنة والاجماع والعقل). وقد اقترن اعترافها بالعقل كأحد مصادر التشريع مع بداية نشأة التنظير عندها، كما يظهر ذلك جلياً لدى تصريحات الشريف المرتضى في عدد من المناسبات والرسائل.

هكذا إن تأسيس الإمامية للعقل كمصدر أساس من مصادر التشريع يجعلها بحق أولى من غيرها في ممارسة الاجتهاد. وبالفعل إنها مارست هذه العملية في مجال الفقه كما هو الحال في مجال العقائد وعلم الكلام وذلك منذ نشأة تنظيرها المعياري خلال القرن الرابع الهجري، ومازال بابها مفتوحاً في المجال الأول ـ الفقه ـ بعد أن أقفل الاتجاه السني أبوابه في الاجتهاد منذ ذلك القرن وحتى يومنا هذا، باستثناء بعض الومضات التاريخية الخاطفة.

 



[1] محمد عابد الجابري: تكوين العقل العربي، ضمن سلسلة نقد العقل العربي (1)، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثالثة، ص333ـ334.

[2] القشيري: لطائف الإشارات، حققه وقدم له وعلق عليه ابراهيم بسيوني، دار الكاتب العربي، القاهرة، ج2، ص180 وما بعدها.

 

[3] يلاحظ بصفة خاصة ما جاء في القسم الثاني من: (مدخل إلى فهم الاسلام)، كذلك: (الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية).

[4] محمد عابد الجابري: بنية العقل العربي، ضمن سلسلة نقد العقل العربي (2)، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية، ص557.

[5] الجابري: التراث والحداثة، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأُولى، ص147ـ148. كذلك: بنية العقل العربي، ص50 وما بعدها.

[6] جولدتسيهر، أجنتس: العقيدة والشريعة في الاسلام، نقله إلى العربية كل من محمد يوسف موسى وعبد العزيز عبد الحق وعلي حسن عبد القادر، دار الكتاب المصري في القاهرة، الطبعة الأُولى، ص28.

[7] الفارابي: إحصاء العلوم، تصحيح وتقديم وتعليق عثمان محمد أمين، مطبعة السعادة بمصر، ص18ـ19.

[8] بنية العقل العربي، ص428.

[9]  بنية العقل العربي، ص155.

[10] بنية العقل العربي، ص322 وما بعدها.

[11] رسائل الشريف المرتضى، ج3، ص281.

 

comments powered by Disqus