يحيى محمد
القرآن الكريم هو خطاب لغوي موحى الى صدر النبي (ص)، وهو وإن كان منزلاً من صاحب العزة والجلالة، وكذلك رغم انه عبارة عن كلام الله، الامر الذي يميزه عن سائر كلام البشر، الا انه مع ذلك لم يفارق ملابسات الالفاظ والعبارات الدارجة بكل ما تحمله من معاني عرفية سائدة في مكان وزمان محددين، وبكل ما تتضمنه من فكر لا يتعالى غالباً عن فهم وادراك الجماعة التي خوطبت به مباشرة. فالقرآن بهذا الاعتبار خطاب يتصف بنوع من الازدواج، ذلك ان مصدره علوي مجرد عن الواقع بما يحمله من معاني الوحي، لكنه من جانب اخر ملابس للواقع كل الملابسة. فهو من حيث كونه تنزيلاً لم يعد مجرد وحي سماوي يحمل صفات التجريد، بل اضحى خطاباً يتذرع بالواقع ليتخذ منه مسلكاً للغاية التي أُنزل لأجلها. لذلك نزل بلغة بشرية لها معاني مشخصة في بيئة محددة هي البيئة العربية بكل ما تحمله من ظروف وملابسات خصوصية. الأمر الذي أفضى – ولا بد - الى نوع من الجدل بينه وبين الواقع، بل وافضى الى ان يكون حاملاً لصور الواقع الذي جاراه بالجدل والاحتكاك. لكن رغم هذا ظل الهدف الذي ينشده الخطاب هدفاً شاملاً ومطلقاً لم تؤثر عليه اعتبارات التنزيل من اللغة والاحتكاك بالواقع. ذلك ان الرسالة التي حملها الخطاب هي رسالة تكليف الانسان بكل ما تحمله هذه اللفظة من معاني الامانة والمسؤولية، وبكل ما تتضمنه من علاقة بين المكلِّف والمكلَّف وما تستهدفه من استخلاف وحساب. وهي معاني عامة ومطلقة لا تتقيد بظروف واحوال، وإن كانت وسائل تحقيق ذلك لا يمكنها ان تتجاوز ما عليه الظروف من المكان والزمان، اي انها لا تتجاوز الواقع.
ان ما سبق ايراده يتسق مع بعض النظريات التي شهدها تاريخ الفكر الاسلامي حول طبيعة الخطاب الالهي، والمسماة بمسألة كلام الله. صحيح ان هذه المسألة هي من المسائل العقلية المجردة التي ليس لها علاقة بالواقع، وقد عالجها المسلمون معالجات ذات سمة تجريدية عقلية احياناً ونصية احياناً اخرى، وقد ظلت دائرة الخلاف مستحكمة بين المسلمين قروناً طويلة لارتباطها بنمط التفكير العقلي المجرد من غير ان تثمر شيئاً يذكر على صعيد الواقع.
فقد ذهب البعض الى ان كلام الله قديم، واعتبره صفة لازمة عن الذات الالهية، او أنه معنى نفسي قائم بذاته كما هو رأي الاشاعرة التي وظفته في تصحيح اثبات الرسالة النبوية. وفي قبال ذلك ذهب بعض آخر الى ان كلام الله مخلوق، كما هو رأي المعتزلة التي لم توافق على مقولة القدم باعتبارها تعني اثبات شيء آخر غير الله، مما يستلزم لديها الشرك. فيما لجأ جماعة الى اعتباره محدثاً، كما هو رأي محمد بن شجاع الثلجي (المتوفى سنة 266هـ)، وهو المنقول عن بعض أئمة اهل البيت (ع)[1]. في حين رأى آخرون انه ليس بمخلوق وإن لم يحددوا هويته، وهو المنقول عن اهل السلف[2].
ومن الواضح ان هذه الاراء لم يكن يعنيها خصوصية النص والواقع، فبعضها كان موظفاً لاثبات الرسالة، وبعض آخر وُظف للدفاع عن التوحيد الخالص بعيداً عما يظن انه من الشرك. وفي جميع الاحوال ان دائرة الاهتمام لم تكن معنية بالواقع وتأثيره، رغم الصلة الاكيدة بهذا الامر، وذلك تبعاً للحاظ عدد من الفرضيات كالتالي:
1ـ أن يقال بان الكلام الالهي يعمل على تحديد مسار الواقع والتحكم في مصيره، او ما يقرب عن هذه الحتمية القبلية بما يتسق ومقولة قدم الكلام، كما سنفصل ذلك عما قريب.
2ـ أن يقال بأن الأمر متبادل التأثير، فمثلما ان للكلام او النص دوراً في تغيير الواقع وتحديد مساره، فان للواقع ايضاً تأثيره غير المنكر على مسار الكلام، وذلك بعد التسليم بما يمتاز به هذا الكلام من فاعلية واستقلالية نسبية. فالنص مشكَّل بما يتناسب وطبيعة الخصوصيات التي تمتاز بها حوادث الواقع، ولولا هذه الخصوصيات ما كان للنص ان يتخذ الشكل الذي اتخذه في التعبير. كذلك فأن تغير الواقع وتنوّعه قد عملا - ولا شك - على ترتيب اشكال متغايرة للصور التي تضمنها النص، كالذي يعرف بالنسخ والنسأ وكذا التدرج في الاحكام والمفاهيم والتعليمات. الأمر الذي يتسق ومقولة إحداث الكلام.
3ـ كما قد يقال انه لا علاقة لأحدهما بالآخر. فالكلام ليس مؤثراً ولا متأثراً بالواقع بأي نحو كان. والعلاقة بينهما هي علاقة اتفاقية يشكل فيها النص القرآني رموزاً ليست معنية بما يجري من أحداث. فالنصوص التي تتحدث عن سيرة الانبياء وقصص الامم الغابرة وكذا الاحكام والمفاهيم؛ كلها لا يفهم منها انها معنية بالواقع كما هو الظاهر، وانما هي محض رموز صادف ان اقترنت بوجود تلك الوقائع او رُكّبت عليها، مثلما تحاول الاتجاهات الباطنية المغالية التركيز على هذا المعنى؛ موظفة النص للقيام بمثل هذا الدور، رغم ان بطلانه بيّن بما لا يحتاج الى ايضاح.
وعليه فالتنافس محصور بين الفرضين الاولين. لكن المشكلة ترتبط بالكيفية التي عليها الفرض الأول عندما يعتبر الكلام حاكماً ومحدداً لمسار الواقع بالاطار الذي نصّ عليه الكلام بالذكر. فبحسب هذا الفرض يمكن تصوير الكلام القديم، كصفة ذاتية، بايقاع مسجل تتردد فيه الكلمات النفسية بثبات وتواصل، ازلاً وابداً. لكن مع اخذ اعتبار ان هذا التردد لا يتخذ صورة التدافع في الكلمات بحيث تتقلب وجوداً وعدماً، او حضوراً وزوالاً، كما ان بعضه لا يتقدم على البعض الآخر. وهو من هذه الجهات يساوق العلم الالهي الثابت. وبالتالي فهو ليس ككلامنا نحن الذي يدافع بعضه البعض الاخر ويتقدم عليه.
وتكمن المشكلة في صعوبة تصور جريان كلام على وتيرة واحدة ثابتة تتصل ازلاً وابداً لحادث عابر لا يتعدى قطرة ضئيلة من بحر الوجود او الزمان والمكان؛ كإن نتصور ترداد قوله تعالى: (فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها.. فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها.. فلما قضى زيد..) وذلك بثبات واتصال ازلاً وابداً بلا انقطاع، رغم ضيق الحادثة من الناحية الوجودية. فكيف يمكن للكلام ان يرتبط بحادثة ضيقة الوجود لم توجد بعد، ثم يظل الحال هكذا ابد الدهر رغم فناء الحادثة وانتهائها؟ ثم كيف نتصور ان يكون في هذا الكلام ناسخ ومنسوخ والحادثة المحكوم عليها بالنسخ لم تقع بعد؟
فمثلاً كيف نتصور ان يتردد كلام مثل قوله تعالى: ((يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إنْ يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإنْ يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون))، ثم يتبعه ناسخه او ناسئه: ((الآن خفف الله عنكم وعلم ان فيكم ضعفاً، فانْ يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإنْ يكن منكم الف يغلبوا ألفين باذن الله والله مع الصابرين))، وهما على هذا الشكل من النسخ الاخير للاول ازلاً وابداً بلا انقطاع، مع انهما مربوطان بحادثة ضيقة الوجود؟ سيما وان اياً منهما لا يتقدم على الآخر، وليس لاحدهما من الصلاحية والاعتبار اكثر من نظيره، خلافاً لما ينعكس عليه الأمر حين يعاصران الحادثة ويتجسدان بنص بعضه يتقدم على البعض الآخر، وله من الصلاحية والاعتبار ما يختلف فيه عن قرينه. لهذا نعتبر ان مقولات، كالنسخ والنسأ والتدرج في الاحكام وكذا الإخبار عن الوقائع الشخصية والاحكام الخصوصية، كلها مما يتسق واطروحة حدوث الكلام لا قدمه.
يضاف الى ان هناك مشكلة اخرى، وهي أن الحوادث - بحسب اطروحة قدم الكلام - لم تكن سبباً داعياً الى وجود الكلام، بل العكس هو الصحيح، اذ قد تمّ تحديد هذه الحوادث بكل ما تتضمنه من تفاصيل طبقاً لما عليه مضمون الكلام، فأصبح الكلام سبباً للحوادث لا العكس.
فمثلاً ما حدث للمشركين من الكفر والجحود والمعاداة لله؛ لم يكن سبباً داعياً لأن تصفهم نصوص الآيات بصفاتهم وتتوعدهم، بل إن وجود الكلام القديم الذي تضمن ذكر المشركين وصفاتهم؛ جعل منهم وقائع تطابق ما عليه ذلك الذِكر من الكلام، ولولاه ما كان للمشركين ان يكونوا على ما وصفتهم به الآيات.
كذلك نسمع قوله تعالى: ((قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي الى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير)). اذ لم يرد هذا النص - بحسب تلك الاطروحة - طبقاً لما أجرته المرأة من الحوار والمجادلة بالفعل، بل إن كلمات الله على هذه الصورة أفرزت بالضرورة ان تكون هناك مرأة تجادل النبي (ص) في قضية زوجها حتى توافق ما عليه ذلك الكلام القديم. فالكلام - إذاً - هو المحدد للحدث لا العكس.
وقد يلاحظ ان هناك نوعاً من الجبرية، فكل حادث وصفه النص وعلّق عليه كان لا بد من ان يكون محدداً سلفاً بحسب الكلام القديم، وليس هناك ما يمكن ان يؤثر او يغير من الحدث، بما في ذلك القدرة الالهية، اذ اي تغيير يعني تغييراً لصفة الله الثابتة القديمة، وهو تناقض. مع هذا فالامر ينطوي على حتمية لا جبرية. اذ تقتضي الجبرية ان يكون احد الطرفين حراً ليمارس ارادته في اجبار الآخر، مع ان ما نحن بصدده ليس كذلك؛ طالما لا يمكن لارادة الخالق ان تؤثر على صفاته سلباً وايجاباً.
كما يلاحظ ان الحتمية التي نتحدث عنها لا تقتضي بالضرورة التأثير والسببية، فقد تكون مجرد كشف سابق محتم من أحد الطرفين للاخر. ففي موضوعنا لا مانع من ان يكون الكلام القديم مجرد «حكاية استشرافية» لما سيحدث، مثلما يقال بشأن العلم الالهي انه ليس مؤثراً على الحادث؛ بل يعبر عن «رؤية استشرافية» لما سيحدث فحسب.
وبذلك يمكن اخذ فرضية الكلام القديم باعتبار المساوقة مع العلم الالهي، فيعبّر الكلام عن «الحكاية» مثلما يعبّر العلم عن «الرؤية». لكنها يمكن ان تؤخذ باعتبار آخر فيه دلالة التأثير والسببية، وهو ان ما يحدث في الواقع هو تابع ومحكوم بتأثير الكلام. ومع ان النتيجة في الحالتين واحدة، الا ان فرق التحليل والتعليل يختلف تماماً، اذ في حالة الرؤية والحكاية يمكن ان تكون الارادة في الحادث البشري ثابتة، في حين تنتفي هذه الارادة في حالة التأثير والسببية تماماً. فالحدث في الحالة الاولى مسبب بفعل الارادة البشرية ذاتها، بينما في الثانية يتسبب بفعل العلم والكلام، رغم ان المحصلة في النتيجة واحدة بلا اختلاف.
مع هذا فعندما نقول ان هناك مساوقة بين العلم والكلام لا نغفل كون هذه المساوقة ليست تامة بحسب الفرض المتصور، فهناك فرق بينهما لا بد من اعتباره، اذ لا يوجد في العلم الالهي استثناء فيما يكشف عنه من حوادث وجودية. في حين ليس الأمر كذلك فيما يرتبط بالكلام الالهي. فهو كلام يخص حوادث دون اخرى، وان ما جرى فيه الكلام لا يتعدى حدود قطرة من مياه البحر الواسعة. وهنا نعود الى ما سبق ان طرحناه من مشكل، وهو انه كيف يمكن تصور ان يكون الكلام الالهي مرتبطاً بحوادث عابرة ضيقة الوجود؟ وما قيمة مثل هذه الحوادث حتى يكون الكلام عالقاً بها ازلاً وابداً؟
ومع انه قد يعدّ المشكل لا معنى له طالما كان التعلق والارتباط ذاتياً، مثلما لا معنى لان يقال لِمَ كانت النار حارة، اذ ليس هناك من جواب سوى القول بأن الأمر هكذا وكفى. لكن الاشكال وارد من حيث التحليل، وهو: لِمَ يرتبط القديم بحيّز ضيّق من الوجود؟ فلماذا نمنع ان يتصف العلم الالهي بحوادث دون اخرى، ونعتبر هذا العلم إما ان يكون عالقاً بمطلق الحوادث، او انه ليس عالقاً بشيء منها، وبالتالي لماذا نستدل في العلم الالهي على سعة العلم واطلاقيته ولا نستدل كذلك فيما يخص الكلام الالهي؛ كإن نقول إما ان يكون هذا الكلام عالقاً بمطلق الحوادث او انه ليس عالقاً بشيء منها؟ ذلك انهما بحسب الفرض متساوقان، حيث كلاهما عبارة عن صفة قديمة ذاتية وعالقة بالحوادث. فهل هناك فرق بين الحالين؟!
هكذا يجرنا البحث الى تصحيح اطروحة قدم الكلام، وذلك انها تصبح متسقة حين تتحدث عن كلام شمولي يستوعب بين جوانحه كافة الحوادث وإن تمّ انزال نموذج منه كما في حالة القرآن الكريم، وظل اغلبه في مكنون علم الغيب. فهل اليه الاشارة بقوله تعالى: ((ولو أنما في الأرض من شجرةٍ أقلامٌ والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله))؟
ورغم اتساق هذا الفرض وقدرته على ان يبرر حالات؛ مثل النسخ وتغيير الاحكام وكل ما يتعلق بتجدد الحوادث والواقع، فكل ذلك يمكن ان يستوعبه كلام الله المطلق الشامل؛ لكن مع هذا ليس بامكان هذا الفرض ان ينافس الفرض الثاني الذي سبق طرحه، وهو انه يجعل العلاقة بين الواقع والكلام متبادلة التأثير. فالخلاف بين الفرضين هو خلاف بين الظاهر الوجداني وخلافه. فالقول بمقولة قدم الكلام بكافة صورها يخالف ادراكنا لظاهر النص القرآني في تجاوبه وتفاعله مع الواقع تأثراً وتأثيراً. وبالتالي فان القول بتلك الاطروحة يجعلنا نعتبر مثل تلك العلاقة التبادلية محض وهم وخداع.
لكن مثل هذا الأمر يفتح لنا الباب على مصراعيه. فقد يأتينا من يقول بأن ما نتصوره من وجود واقع موضوعي خارج الذهن هو محض وهم وخداع، مثلما يدعو لذلك الفيلسوف المعروف (جورج باركلي). مع انه ليس لنا الرد في كلا هاتين الحالتين سوى العودة الى الظاهر الوجداني!
مهما يكن فالاختلاف في طبيعة الاتساق لكلا الظرفين له انعكاسات على ادراكنا لقيمة الخطاب المنزّل بما تتضمنه من قدسية. فلو اننا اعتبرناه قديماً وصفة من صفات الله الذاتية؛ لكان ثابتاً لا يقبل التغيير بفعل الواقع من المحو والنسخ والازالة وما اليها، بخلاف ما لو اعتبرناه محدثاً ومخلوقاً، اذ يصبح حاله كحال اعتبارات عالم التكوين من الخلق، فيقبل المحو والازالة بمشيئة الله تعالى، كما ويقبل الجدل مع الواقع تأثراً وتأثيراً.. لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، اذ تصبح القيمة المعرفية والمعنوية المضفاة على الخطاب في الحالتين مختلفة ولابد. فالقول بكونه صفة - مثلاً - يجعله متعالياً عن امكانية اعطاء قيمة مضادة، فاذا اعتبرنا الكلام صادقاً، فان ذلك يمنع من ان يكون هناك امكان للكذب والخداع وخلف الوعد والوعيد، وهو امر قد تمسكت به الاشاعرة لتصحح اثبات المسألة الدينية برمتها. وهو خلاف ما لو قلنا انه مخلوق، حيث لا يجد العقل في هذه الحالة اي معنى للاستحالة في اعطاء القيم المضادة؛ كامكانية الكذب والخداع والخلف في الوعد والوعيد. ولا شك ان هذا التفاوت المعرفي هو في حد ذاته يعكس تفاوتاً في القيمة المعنوية او القداسة، حيث يبدو في الحالة الاولى وكأنه صورة الاله، بينما في الحالة الاخرى لا يكون كذلك. الأمر الذي له انعكاس على طبيعة تعاملنا معه فهماً وعلاقة.
من هنا برز التفكير في مسألة ما اُصطلح عليه بالصرفة، ومن ثم طبيعة الاعجاز الخاص بالخطاب. فالصرفة بحسب عدد من العلماء هي المقصودة من الاعجاز في الخطاب؛ كالذي ذهب اليه النظام ومن ثم الجاحظ وكثير من المعتزلة وابن حزم وابي اسحق الاسفراييني، ومن الامامية ابن سنان والشيخ المفيد، وربما تلميذه الشريف المرتضى اذ له كتاب بعنوان (الصرفة في اعجاز القرآن)[3]. والمقصود بالصرفة وعلاقتها بالاعجاز هي كما حددها النظام بأنها تعني «ان الله صرف العرب عن معارضته وسلب عقولهم، وكان مقدوراً لهم، لكن عاقهم امر خارجي فصار كسائر المعجزات»[4]. وكذا ما ذكره الشيخ المفيد تحت عنوان (القول في جهة اعجاز القرآن) من «أن جهة ذلك هو الصرف من الله تعالى لأهل الفصاحة واللسان عن المعارضة للنبي (ص) بمثله في النظام عند تحديه لهم، وجعل انصرافهم عن الإتيان بمثله وإن كان في مقدورهم دليلاً على نبوته (ص)، واللطف من الله تعالى مستمر في الصرف عنه إلى آخر الزمان، وهذا من أوضح برهان في الإعجاز وأعجب بيان وهو مذهب النظام وخالف فيه جمهور أهل الاعتزال»[5].
وليس هذا المفهوم هو الوحيد عن الصرفة، فقد ذُكر ان من قال بها على قولين: «احدهما انهم صُرفوا عن القدرة عليه، ولو تعرضوا له لعجزوا عنه. والثاني انهم صرفوا عن التعرض له مع كونه في مقدورهم، ولو تعرضوا له لجاز ان يقدروا عليه»[6]. وقد ذهب آخرون في القبال الى «ان التحدي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة الذات، وان العرب كلفت في ذلك ما لا يطاق، وبه وقع عجزها». وقد رد السيوطي على هذا الموقف الاشعري باعتبار «ان ما لا يمكن الوقوف عليه لا يتصور التحدي به»، ونسب الى الجمهور اعتبار الاعجاز والتحدي انما بالالفاظ التي ورد فيها القرآن كما هو[7].
ولا شك ان القول بالصرفة يتسق مع نظرية خلق القرآن، اذ هو شيء محدث قابل بذاته للصياغة المماثلة والتقليد، كما يقبل المحو والازالة كأي مخلوق آخر في عالم التكوين. في حين ان الرأي الذي يعد الاعجاز والتحدي بمجرد اللفظ والكلام يتسق تماماً مع مقولة القدم وصفة الذات للكلام، فهو لا يقبل أي امكانية من امكانيات الصياغة المماثلة والتقليد، كما ان من اعجازه افتراض كونه لا يقبل اي شكل من أشكال التغيير والتجديد؛ سواء من حيث الواقع وضغوطه، او من حيث اعتبارات أخرى غيره. أما القول بالصرفة فهو وإن كان لا ينفي الاعجاز في الكلام، لكنه يجعل خاصية هذا الاعجاز لا تعود الى الكلام ذاته، وانما الى اعتبارات المشيئة الالهية، اي انه من حيث ذاته ليس معجزاً، كما انه من حيث الذات يكون قابلاً للتغيير كأي مخلوق اخر في عالم التكوين.
هكذا انه مع مقولة إحداث القرآن تصبح العلاقة التي تستحكم بين النص والواقع علاقة منطقية يمكن فهمها بما تحمله من صور الجدل والتغيير في الاحكام. فمن جانب ان النص يحمل صوراً منتقاة ومحددة من الواقع؛ كثيراً ما تكون محكومة بطابع نسبي من الزمان والمكان، او من الظروف الطارئة غير العامة والمطلقة. كما ان النص من جانب اخر كثيراً ما يستجيب الى امر الواقع. الأمر الذي يؤكد حالة التفاعل والجدل بين حمل النص للمعاني والمفاهيم المنزلة وبين استجابته للواقع بنوع ما من المحكومية.
تظل هناك ناحية أخرى وهي ان النص هو كعالم التكوين؛ كثيراً ما نتوهم تطابق عقولنا مع مداليله بالفهم والمصداقية، مع ان حقيقة الأمر شيء آخر. فتاريخ الفكر البشري غارق - حتى عهد قريب - بالوهم القائل بتطابق عقولنا - كلياً - مع ما ينكشف لها من مضامين الواقع. لكن بفضل الثورة العلمية ثبت ان الانسان كان مغالياً الى ابعد الحدود. ولعل من المفيد التذكير كيف ان العقل البشري ظل يتصور - طيلة قرون مديدة - جملة من الافكار المجانبة للحقيقة حول الواقع، حتى انكشف له الصواب فيما بعد، وكان من ذلك توهمه بان الارض مسطحة وساكنة، او انها مركز الكون، وأن الشمس هي التي تدور حول الارض، وان سرعة الاجسام الساقطة الى الارض تتناسب اطراداً مع أوزانها، وان النجوم المرئية موجودة بالضرورة فعلاً... الخ.
ويشبه هذا الأمر من بعض الجوانب ما تقرر لدى الفكر الاسلامي من رسم العلاقة بين العقل والنص، اذ كان اغلب العلماء يظنون بان العقل قد حسم الأمر مع النص؛ إما من حيث انه يطابق منطوقه تماماً عند لحاظ موافقة العقل لما عليه ظاهر النص، وعلى الاقل لا يُرى في البين تعارض، او ان النص بظاهره يفيد مثل هذا التعارض، الأمر الذي اقتضى الاستنجاد بالعقل وممارسة ظاهرة التأويل كي تتخذ العلاقة بينهما شكل التطابق التام.
والنتيجة التي نخلص اليها، هي ان النص ليس معزولاً عن الواقع. واذا كان من المعلوم ان النص قد اثر تأثيراً كبيراً على تغيير الواقع؛ فان لهذا الاخير طريقته في التأثير على النص، وذلك بحمله على الاستجابة اليه من غير تعال ولا تجريد. كما نخلص الى ان النص والواقع توأمان محدثان عن الله تعالى، احدهما يكشف عما في الاخر من حقائق، وقد درج العلماء ان يطلقوا على الأول سمة الكتاب التدويني، بينما اوسموا الاخر سمة الكتاب التكويني، فكل منهما يكشف عما يحمله الاخر من حقائق.
[1] جاء عن الامام الصادق (ع) قوله: «ان القرآن كلام الله محدث غير مخلوق وغير أزلي مع الله تعالى.. كان الله عزّ وجل ولا شيء غير الله معروف ولا مجهول، كان عزّ وجل ولا متكلم ولا مريد ولا متحرك ولا فاعل.. فجميع هذه الصفات محدثة عند حدوث الفعل منه.. والقرآن كلام الله غير مخلوق..» (الصدوق: التوحيد، ص277). وفي حديث آخر وردت لفظة مخلوق بمعنى مكذوب (المصدر، ص225).
[2] الاشعري، ابو الحسن: الابانة عن اصول الديانة، ص40 وما بعدها.
[3] الخوانساري: روضات الجنات، ج4، ص291.
[4] السيوطي: الاتقان في علوم القرآن، ج2، ص1005 1.
[5] المفيد: اوائل المقالات، ص63.
[6] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج1، ص67.
[7] الاتقان، ج2، ص1005.