يحيى محمد
طبقاً للمقاصد يمكن للفكر الديني أن يجعل من نظرية الاستخلاف قاعدته للتحرك تبعاً للمقاصد، فهي جامعة لأصلين هامين على مستوى الاعتقاد والسلوك، هما الايمان بالله الواحد والعمل الصالح. فهي نظرية تستقطب عدداً من القضايا، هدفها بناء (الانسان الصالح) وفقاً لمنظومة القيم، عبر الاطلاع على تجارب البشرية. فلو رجعنا إلى النص الديني، كما في القرآن الكريم، نجد أنه يستهدف هذين الأصلين دون قيد أو شرط، وبالتالي فإنه يستهدف بناء ذلك الانسان، كما يدل عليه ما لا يحصى من التعاليم الدينية. فغرض وجود هذه التعاليم واضح، وهو العمل على جعل الانسان صالحاً، سواء مع نفسه أو مع غيره من افراد المجتمع، وسواء مع الطبيعة أو مع الله تعالى.
ولا يتعلق مفهوم (الانسان الصالح) هنا بالجانب الفردي للانسان، كما لا يتعلق بالمجتمع ككل، سيما أن الصورة الأخيرة لا تخلو من طوباوية من الصعب تحقيقها، ويبقى أن يتعلق المفهوم بالإمكانات الواقعية لعدد كبير من الأفراد والشرائح الاجتماعية التي تتقبل التغيير تبعاً لهذا المنطق الانساني، كما لها القدرة على التأثير الايجابي وسط المجتمع استناداً الى ما تحمله من قوة في المنطق والقيم. وتتصف مقومات هذا الانسان بأنها لا تميز بين عرق وعرق، ولا بين مذهب وآخر، ولا دين وآخر، ولا بين مسلم وغيره، الا بقدر ما يمتلك من عناصر ومقومات الصلاح، فهي نزعة انسانية عامة تستهدي بقوله جلّ وعلا: ((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن اكرمكم عند الله اتقاكم)) الحجرات/13.
وعلى الصعيد النظري تختلف أبعاد هذا التصور عن تصور الحضارة الغربية، حيث تطالب الأخيرة بأن يكون الانسان حراً دون قيود ما لم يمس حريات الآخرين، وليس الأمر هكذا في التصور الديني الذي يطالب الانسان ان يكون صالحاً، وان الحرية - ضمن حدود - لا تعد غاية في هذا الصدد، بل وسيلة حقة دونها يعجز الانسان عن تحقيق مبتغاه من الصلاح المنشود.
كما يختلف التصور السابق عن الفهم التعبدي الذي يضفي على الوسائل والآليات الدينية صفة التعبد، فيرى العمل بالدين هو ذاته عبارة عن العمل بما هو جاهز من الآليات والوسائل الدينية بكل ما تتضمنه من تشريعات جزئية. وبالتالي فبحسب التصور الأخير لا يمكن فصل الدين عن آليات النُظم الاجتماعية المستنبطة من الأصول الدينية ومفاهيمها، وعلى رأسها آليات النُظم السياسية والاقتصادية والقانونية، والتي يكون غرضها تطبيق تلك الجاهزية من التشريعات.
ونحن نطلق على الدعوات التي ترى هذه الآليات وتطبيقاتها جزءاً لا ينفصل عن الدين؛ سمة (الفهم التعبدي للدين). ونطلق على التصور السابق المخالف لهذه النظرية؛ سمة (الفهم المقصدي للدين).
وبحسب الفهم التعبدي للدين هناك مسألتان، إحداهما الآليات كوسائل، والأخرى الجاهزية من التشريعات الجزئية التي تلعب - في الغالب - دور الغاية لتلك الوسائل، والتي تمثل لديه عين الدين ذاته. ومنه يفهم قول الإمام الغزالي: «الملك والدين توأمان، فالدين أصل والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع»[1].
وكلا المسألتين معرضتان للنقد الذاتي. فاذا بدأنا بالغاية، فإن مفادها اعتبار الدين هو عين الجاهزية من التشريعات التي يراد تطبيقها عبر تلك الوسائل أو الآليات. فالدين هو الشريعة، والشريعة هي الدين. ومن الممكن ان تأخذ المسألة بعداً آخر، وهو اعتبار تطبيق تلك الجاهزية عين العدل، فكل ما يطرح خلاف تلك الجاهزية ليس من العدل ولا من الدين في شيء. فالشريعة هي العدل، والعدل هو الشريعة. وقد يعني هذا ان من غير الممكن الارتكاز على الوجدانيات العقلية لتقرير ما هو عدل وانصاف، وذلك تأثراً بالموقف الأشعري. وبالتالي لا توجد مراعاة لما يمكن ان تفضي اليه النتائج من تطبيق تلك الجاهزية من التشريعات، وما قد تفضي اليه الأمور خلاف الهدف المنشود، وهو بناء الانسان الصالح. بل نحن على ثقة بأن التطبيق لا بد من أن يسفر عن نتائج هي خلاف العدل ومقاصد الدين، باعتبارهما ليسا لازمين عن تلك المفاصل الشرعية بالضرورة، بل الأمر يتوقف على طبيعة الواقع والظروف، وحيث ان هذين الأخيرين في حالة تغير مستمر؛ لذا فمن المحال أن تناسب تلك المفاصل طبيعة العدل والمقاصد على الدوام. فقد جاءت المفاصل الشرعية وفق ما كان عليه الواقع من أحوال، وبالتالي لا يعقل أن تكون ثابتة كثبات المقاصد، فهي ذات طبيعة اجرائية جزئية قد تتفق مع المقاصد أحياناً، وقد تتضارب معها أحياناً أخرى، وكل ذلك يعتمد على طبيعة الواقع وتغيراته غير المتناهية.
إذاً لا يمكن للفهم السابق أن يقيم الدين من دون ان يعرّضه للتشويه والإلغاء. فإما أن يعبّر الدين عن مقاصده بغض النظر عن طبيعة ما تكون عليه التشريعات، أو يعبّر عن جاهزية التشريعات فحسب، أي دون أخذ اعتبار ما عليه المقاصد ذاتها، ومن المحال واقعاً ان يكون الدين جامعاً بين المقاصد وجاهزية التشريعات أو ثباتها، فالاهتمام بأحدهما يلغي الآخر ويهدمه. وبالتالي فإما ان نعمل على مراعاة المقاصد وعلى رأسها مبدأ العدل فنلغي الثبات والجاهزية من التشريعات، أو نعمل على مراعاة هذه الأخيرة فنلغي المقاصد والعدل، ومن ثم سوف يكون نظرنا للدين إما أن يمثل العدل والمقاصد، أو يمثل تلك الجاهزية الثابتة. ومن التعسف اعتبار الأخيرة عين العدل، فيصبح العدل صورياً بلا قيمة، كالذي ترمي اليه نظرية الأشاعرة بما يخالف العقل والوجدان.
هكذا فالمقاصد هي المعنية بتحديد ما هي التشريعات المناسبة وفق ما عليه الواقع المتغير، أما العكس فغير صحيح، بمعنى أن التشريعات ليست معنية بتحديد المقاصد. والتصور الآنف الذكر قام بقلب هذه المعادلة الوجدانية فأصبحت المطالبة بإقامة الدين تعني في الوقت ذاته إلغائه وتعطيله أو تشويهه.
واذا كان هذا الأمر ينطبق على ما اعتبر غاية، فإنه ينطبق على الآليات بالأولوية، فهي الأخرى لا يمكن اعتبارها تعبدية ولا توقيفية، بل كل ذلك يخضع لموجهات المقاصد بمراعاة ظروف الواقع وأحواله. صحيح أنه سواء من حيث الآليات أو التشريعات هناك صور لها قابلية أعظم على الثبات والاتساق مع المقاصد، لكنها في جميع الأحوال قليلة، وهي لا تتعالى على ظروف الواقع وتقلباته. وينطبق هذا الحال حتى على الصور التي يكثر فيها جوانب التعبد؛ كالصلاة والصيام مثلما بينا ذلك في كتاب (فهم الدين والواقع)[2].
أما بحسب الفهم المقصدي للدين، فلا توجد وسائل تعبدية ثابتة لتحقيق تلك المهمة السامية؛ غير العمل بالقيم الوجدانية والاخلاقية وترسيخ حالات الصلة بالله. فليس هناك تفصيل يتعلق بطبيعة آليات النظام السياسي فضلاً عن غيره من آليات النُظم الأخرى. فمثلاً لا يوجد هناك ما ينص على آليات التنصيب ولوائح الدستور العام وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وكذا صلاحيات الحاكم وشروط استمراريته في الحكم. فنحن نعلم - مثلاً - بأن عملية التنصيب التي جرت مع الخلفاء الراشدين بعضها يختلف عن البعض الآخر، فما جرى من تنصيب للخليفة الأول يختلف عما جرى مع الخليفة الثاني، وهما غير ما حدث مع الثالث، وكذا ان ما جرى مع الثلاثة مختلف عما جرى مع الرابع. ولم تكن جميع صور التنصيب السابقة قائمة على مبدأ الشورى، كما ان الأخيرة التي حدثت بفعل قرار الخليفة الثاني لم تكن بين جميع المؤمنين ولا جميع أهل الحل والعقد، وكذا يقال بخصوص البيعة حيث لم تحدث على وتيرة واحدة، وبالتالي لا توجد هناك آليات ثابتة ومفصلة للتنصيب. والحال ذاته ينطبق على ما يتعلق بطبيعة العلاقة التي تحكم الحاكم بالمحكوم، ونعلم كم الفارق بين الطريقة التي سار عليها الخليفتان الأول والثاني، وبين ما أحدثه الخليفة الثالث من تغيير.
ومن حيث النصوص القطعية، يعترف بعض الفقهاء المعاصرين ان المبادئ الدستورية في القرآن الكريم تعد قليلة للغاية. فالاستاذ عبد الوهاب خلاف يعتقد بأن نصوص القرآن قد اقتصرت على تقرير مبادئ اساسية ثلاثة عامة، وهي كل من الشورى ((والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون)) الشورى/38، والعدل ((واذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)) النساء/58، والمساواة ((انما المؤمنون اخوة)) الحجرات/10[3]. مع ان للمبدئين الأول والأخير دلالة على كل من الشورى والمساواة بين المؤمنين فحسب، وهو أمر لا يتناسب والواقع الحديث للدولة. كما ان نصوص القرآن في القانون الاقتصادي قد اقتصرت على تقرير حق الفقير في مال الغني، وكذا حق الفقراء والمساكين في مال الدولة، حيث لهم سهم من الصدقات والغنائم والفيء، وعلى رأي الاستاذ خلاف لم تُفصَّل أحكام هذا البر بالفقراء؛ لتُفصِّل كل امة ما يناسبها[4]. وفي قانون العقوبات وتحقيق الجنايات اقتصرت نصوص القرآن على تحديد خمس عقوبات لخمس جرائم، هي: القتل والسرقة والسعي في الأرض بالفساد، والزنا، وقذف المحصنات، أما غيرها فهو - على رأي الاستاذ خلاف - متروك لولي الأمر[5].
وعلى الصعيد السياسي نحن نعلم ان الأنبياء لم يُطلب منهم أن يكونوا قادة سياسيين، مثلما طُلب منهم التبليغ بدواعي النبوة والرسالة. أو أنهم غير مكلفين بهذا الأمر ما لم يبايعهم الناس، سيما أن بعض الأنبياء والرسل لم يتولوا هذه المهمة ولم يطلبوها[6]. ومن الشواهد على ذلك ان موسى وهارون (ع) لم يذهبا الى فرعون للانقلاب عليه وابدال منصبه بمنصبهما، بل ذهبا اليه لاجل الاصلاح فحسب، كالذي يكشف عنه قوله تعالى: ((إذهب انت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري. إذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى)) (طه/42ـ43). وكذا الحال فيما إرتضاه يوسف (ع) من عمل تحت امرة وزعامة أحد ملوك مصر، مع انه نبي مبعوث من قبل الله تعالى، فقال جلّ وعلا: ((وقال الملك أئتوني به استخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين. قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم. وكذلك مكنّا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين)) (يوسف/54ـ56). كما من الانبياء من طلب منه الناس ان يولّي عليهم ملكاً يرأسهم، وقد تحقق هذا الطلب، كالذي حصل في زمن نبي الله داود، كما جاء في قوله تعالى: ((ألم تر الى الملأ من بني اسرائيل من بعد موسى اذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله.. وقال لهم نبيهم ان الله قد بعث لكم طالوت ملكاً)) (البقرة/246ـ247). ويخمن بعض العلماء ان هذا النبي الذي لم يسمّه القرآن هو صموئيل[7]. وابلغ من ذلك دلالة ما جاء في قوله تعالى من الفصل بين النبوة والملك او الرئاسة والسياسة: ((اذكروا نعمة الله عليكم اذ جعل فيكم انبياء وجعلكم ملوكاً)) (المائدة/20). لذا لو تخيلنا بأن الله بعث نبينا (ص) إلى دولة يحكمها حاكم أسلم على يديه، وليس إلى قبائل كثيرة متناثرة كما هو واقع ما شهدته شبه الجزيرة العربية، فهل نتصور أنه سيطالب بخلع الحاكم وتنصيب نفسه بحجة النبوة؟
كل ما يمكن قوله ان قيادة النبي للأمة على المستوى الاداري قد تمت بشكل تلقائي لعدم وجود زعامة مسبقة.
[1] الغزالي: احياء علوم الدين، دار احياء التراث العربي، بيروت، ج1، ص17. ومن الجدير بالذكر ان هذا النص وما على شاكلته يُنسب إلى ملك الفرس الساسانيين اردشير خلال القرن الثالث بعد الميلاد، وقد اعتبر أحد المفكرين أنه رغم ما رددته أدبيات الفكر الاسلامي لهذا النص فإن الفكرة المنتزعة عنه فُهمت خلاف ما أراده لها واضع النص (اردشير). وعلى العموم يعتقد هذا المفكر بانه ليس لفكرة ذلك النص وما على شاكلته أصل دينيى، بل مردها إلى اردشير الفارسي(محمد ع ابد الجابري: العقل الأخلاقي العربي، ضمن سلسلة نقد العقل العربي، ج٤، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الاولى، 2001م، ص155). مع ان العلاقة التي تربط الملك بالدين هي علاقة مبررة عقلياً، وذلك سواء فهمنا الدين بمعناه التعبدي كما هو سائد، أو فهمناه بالمعنى المقصدي كما ندعو اليه، وقد كانت السيرة منذ عهد النبي والخلفاء الراشدين قائمة على أحد هذين الفهمين، وتبعاً للفهم التعبدي فإن تلك السيرة قد جرت بحسب المعنى الذي يبدو من نص اردشير.
[2] انظر الفصل الأخير من هذا الكتاب.
[3] مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه، ص158. ويقترب من هذا الموقف ما ذهب اليه السيد محمد حسين الطباطبائي، فإعتبر أنه لا يوجد اطار معين ثابت للتشريع للسلطة والحكم في الاسلام مراعاة لتغير الظروف، اذا ما استثنينا بعض الاهداف العامة كمصلحة الاسلام والمسلمين، والوحدة العامة، والعقيدة التي توحدهم (الطباطبائي: مقالات تأسيسية في الفكر الاسلامي، تعريب خالد توفيق، مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، الطبعة الاولى، 1415هـ).
[4] مصادر التشريع الاسلامي فيما لا نص فيه، ص159.
[5] المصدر السابق، والصفحة ذاتها.
[6] انظر التفاصيل في كتابنا: مشكلة الحديث.
[7] محمد رشيد رضا: المنار في تفسير القرآن، دار الفكر، الطبعة الثانية، ج2، ص475.