يحيى محمد
ترد جملة من القضايا الشرعية الخاصة بالمرأة لها علاقة بالواقع. فلا شك أن لهذا الأخير تأثيراً على تحديد الأحكام المتعلقة بهذه القضايا، لذا سنقتصر على بحث ثلاث منها كما يلي:
أـ الشهادة
لقد نصّ القرآن الكريم على أن شهادة المرأة تعادل نصف شهادة الرجل في قضايا التداين ضمن التداولات المالية، وذلك بحسب ما جاء في قوله تعالى: ((.. فإن لم يكونا رجلين فرجل وإمرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل احداهما فتذكر احداهما الأخرى)) البقرة/282. وقد اختلف الفقهاء حول دلالة هذه الآية فيما لو كانت خاصة أو لها عموم. فالكثير منهم منع شهادة النساء في قضايا معينة كالحدود والدماء. وزاد بعضهم كل ما خرج عن التداول المالي، ومن ذلك ما ذكره صاحب (مهذب الاحكام) من ان شهادتها تُمنع في حقوق البشر التي تخرج عن النواحي المالية، كالشهادة على البلوغ والإسلام والولاء والجرح والتعديل والعفو عن القصاص والوكالة والوصاية والرجعة وعيوب النساء الظاهرة والنسب والهلال، وقد نُسب هذا الضابط إلى مشهور الإمامية[1]. وعلى خلاف ما سبق ذهب الكثير من السلف إلى الأخذ بالعموم أو الاطلاق الظاهر من الآية من غير استثناء، وكذلك من التعليل المعتمد على دلالة ‹‹الواقع››، حيث ان ‹‹مبنى الشهادة على الحفظ والضبط والصدق، وهذا المعنى موجود في النساء كما هو موجود في الرجال، وما يقدر من نقصهن مجبور بمضاعفة العدد، خصوصاً اذا كثرن وصرن معروفات بالصدق والحفظ››[2]. وكان ابن حزم من الذين يؤكدون هذا المعنى[3]؛ معتبراً ان رفض شهادة النساء في الحدود والقصاص ليس له أصل في السنة النبوية[4].
كما أن الكثير من الفقهاء ذهبوا إلى الإعتماد على الظاهر الحرفي لمنطوق الآية، فحكموا بعدم جواز قبول شهادة النساء في الأمور المالية مهما كان عددهن ما لم يكن معهن شاهد من الرجال، ومن ذلك ما قاله صاحب (الاعتبار في الناسخ والمنسوخ): ‹‹لو شهد خمسون امرأة لرجل بمال لا تقبل شهادتهن، ولو شهد به رجلان قبلت شهادتهما››[5]. فالمناط المعول عليه في المسألة هو الشاهد الذكوري وليس الكشف عن الواقع. وتبعاً لهذا المناط اعتبرالمحقق القمي بأنه ‹‹قد يحصل الظن بشاهد واحد أكثر من شاهدين ولا يعتبر ذلك، لأن الشارع جعل الشاهدين من حيث أنهما شاهدان مناطاً للحكم لا من حيث الظن الحاصل بهما››[6]. مع ان هذا التصور يفرغ قضية الشهادة من مقصدها الخاص بالكشف عن الواقع، ويحولها إلى صورة تعبدية بلا معنى. وهو أمر يناقض ذات ما عوّل عليه الشارع من تقديم الشاهدين على الواحد، مع أخذ اعتبارات التوثيق، فذلك لا يستقيم الا مع قصد الكشف عن الواقع باجراء مناسب يتفق مع اغلب حالات الابتلاء.
وفي القبال اعتمد كل من ابن تيمية وتلميذه ابن القيم على دلالة الواقع في اقرار التساوي بين شهادة النساء وشهادة الرجال لبعض المواقف. فبحسب هذا الرأي أنه اذا كان سبب النصفية في شهادة المرأة يعود إلى ضعف العقل لا الدين؛ فإن هناك من الشهادات ما لا يخشى منها الضلال والخطأ عادة، لذا يقبل تساويها مع الرجل، وهي عبارة عن الأشياء التي ‹‹تراها بعينها أو تلمسها بيدها أو تسمعها باذنها من غير توقف على عقل، كالولادة والاستهلال والارتضاع والحيض والعيوب تحت الثياب، فإن مثل هذا لا ينسى في العادة ولا تحتاج معرفته إلى كمال عقل، كمعاني الاقوال التي تسمعها من الاقرار بالدَّين وغيره››[7].
طبقاً لهذا التحليل فإنه لا مانع من ان تكون شهادة المرأة مساوية لشهادة الرجل؛ اذا ما ضمنّا في العادة عدم خطئها وضلالها حتى في القضايا المعدة عقلية ومعنوية. إذ لسنا هنا أمام قضية تعبدية، فالقصد من التشريع بدلالة النص الآنف الذكر لا يخرج عن معنى التثبت في الشهادة. وهنا يأتي دور الدلالة الواقعية لحسم القضية. فبحسب دراسة الواقع هناك إحتمالان يخصان إدراك المرأة وذاكرتها، على الأقل في ما يتعلق بما نحن فيه. فلو اقمنا سلسلة متنوعة من الاختبارات الاحصائية النفسية على كل من الرجال والنساء لغرض المقارنة بينهم والكشف عن دقة ما يعبرون عنه من شهادات لحوادث مختلفة تجري أمامهم؛ لكنا نصل في النتيجة إما إلى إثبات عدم وجود اختلاف محدد بينهما، أو الاقرار بوجود نقص طبيعي وفطري في الإدراكات الشخصية للمرأة. أما الإفتراض الثالث الخاص بوجود نقص في الرجل لا المرأة فهو مستبعد تماماً. وعلى الفرض الأول يصبح ما شهده القرآن الكريم على نقص إدراك المرأة لا يراد منه جانب الطبيعة والاطلاق كما هو ظاهر النص، بل قصد الجانب الظرفي للمرأة في ذلك الزمان، لقلة التعليم وضآلة الدور الذي كانت تمارسه في الحياة الاجتماعية العامة. والبعض يرى أن الحكم جاء استناداً إلى ما كانت تبتلى به النساء من كثرة الحمل. وكل ذلك يفضي الى ضعف الإدراك والتذكر. وبالتالي كان من الممكن تحديد فهم النص بربطه بالواقع الخاص بالتنزيل عبر دراسة الواقع العام، بما يتسق مع المقصد المنصوص فيه. وهو أمر يفضي إلى تغيير الحكم ولا بد. أما على الفرض الثاني الذي يثبت نقص إدراك المرأة بالمقارنة مع الرجل؛ فإن الحكم القرآني يكون ناظراً إلى الواقع العام لطبيعة المرأة بما هي كذلك وليس إلى الواقع الخاص بالتنزيل. وفي جميع الأحوال نعلم كم هي فائدة الدلالة الواقعية في فهم النص وتحديد الحكم؛ سواء الخاصة منها أو العامة.
يبقى أن المفسرين اختلفوا حول تعليل ما وصفت به النساء من أنهن عرضة للضلال والنسيان، فقديماً عللوا ذلك تبعاً للمزاج، وهو أن مزاج المرأة يعتريه البرد فيتبعه النسيان. وهو تعليل مرده إلى الأمر الطبيعي الفطري، لذا يقتضي ان يكون الحكم حكماً ثابتاً لا يقبل التغيير مهما تغيرت الظروف والاحوال، ويكون القرآن الكريم ناظراً إلى ما عليه الواقع العام للمرأة وليس إلى ظروفها الخاصة كما قدمنا. لكن حديثاً أبدى رشيد رضا تعليلاً آخر، وهو أن المرأة ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من التداولات، لذا تكون ذاكرتها ضعيفة، خلافاً لما يحصل لها في الأمور المنزلية التي هي شغلها الرئيسي[8]. وهذا التعليل مرده إلى طبيعة ما عليه الأحوال والظروف، فلو أنها تغيرت لتغير الحكم معها، وان القرآن الكريم ناظر في الحكم إلى ما عليه ذات الظروف وليس إلى الأمر العام الذي يخص طبيعة المرأة بما هي مرأة.
ب ـ السفر
ورد عدد من الأحاديث التي تحرّم سفر المرأة بغير محرم، منها ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قوله: ‹‹لا تسافر إمرأة مسيرة يومين ليس معها زوجها أو ذو محرم››[9] . كما أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس عن النبي (ص) قوله: ‹‹لا تسافر المرأة الا مع ذي محرم ولا يدخل عليها رجل الا ومعها ذو محرم››[10]. وأخرج الإمام الترمذي في جامعه عن أبي هريرة ان النبي (ص) قال: ‹‹لا تسافر إمرأة مسيرة يوم وليلة الا مع ذي محرم››[11]. كما أخرج الترمذي عن أبي سعيد عن رسول الله (ص) قوله: ‹‹لا يحل لإمرأة تؤمن بالله واليوم الآخر ان تسافر سفراً يكون ثلاثة ايام فصاعداً الا ومعها ابوها أو اخوها أو زوجها أو ابنها أو ذو محرم منها››[12].
وقال ابن حجر العسقلاني: ‹‹قد عمل أكثر العلماء في هذا الباب بالمطلق لاختلاف التقييدات. وقال النووي: ليس المراد من التحديد ظاهره، بل كل ما يسمى سفراً، فالمرأة منهية عنه الا بالمحرم، وانما وقع التحديد عن أمر واقع فلا يعمل بمفهومه. وقال ابن المنير: وقع الاختلاف في مواطن بحسب السائلين››[13].
ولا شك أنه لو نظرنا للنصوص السابقة من زاوية علاقتها بالواقع الخاص بالتنزيل؛ لرأينا أن النهي الوارد فيها مفهوم ومناسب لتلك الظروف والأحوال القائمة؛ حيث لا أمان لسفر المرأة وحدها في ظل انعدام الأمن وبدائية المواصلات. أي ان القصد من التحريم معلوم بدلالة الواقع المشار اليه. لهذا فإن مذهبي مالك والشافعي لا يأخذان باطلاق النهي الوارد في مثل تلك النصوص، حيث أجازا حج المرأة وحدها من غير محرم إن كانت في رفقة مأمونة. الأمر الذي فهما النهي المنصوص عن سفرها وحدها هو فقط عند اضطراب الأمن وخوف الفتنة[14].
مع هذا فهناك إحتمالان يمكن تمحيصهما من قبل الواقع العام لأجل الافادة منهما بالنظر في الموقف الذي يفرضه تغير الواقع الخاص. فاذا كنا نعلم ان التحريم بدلالة هذا الواقع هو لأجل منع ما قد يحدث من ارتكاب المحرمات الجنسية؛ فإن تحقيق هذا المقصد يعتمد على دراسة طبع المرأة في ظل الظروف المؤمنة اجتماعياً. فإما ان يكون هذا الطبع ضعيفاً يميل إلى ارتكاب تلك المحرمات مما لا ينفع فيه الامن الاجتماعي، ومن ثم تبقى مبررات استمرارية الحكم وثباته قائمة بلا تغير.. أو أن طبعها ليس كذلك. وعليه لا نجد تفسيراً معقولاً للنهي الا من حيث أنه نهي باعتبار انعدام ذلك الأمن المقترن بطبيعة ظروف مواصلات السفرالبدائية، كما هو الحال في المجتمعات القديمة السابقة. وبالتالي لا يصح التعويل على الاطلاق الظاهر لتلك النصوص. إنما يعتبر الحكم الوارد فيها رهين موضوعها المؤطر بالظروف الخاصة التي اشرنا اليها قبل قليل.
هكذا يتضح ان الحكم الانف الذكر لم يُعرف مقصده الا من خلال الواقع الخاص بالتنزيل، كما لا يعرف اطلاقه من نسبيته الا من حيث دراسة الواقع العام. فلو ان هذا الواقع دلنا على معرفة طبائع المرأة وميولها عبر الدراسات النفسية والاجتماعية؛ لكان من الممكن تقرير ما اذا كان يوجد مبرر لبقاء الحكم كما هو أم لا؟
ج ـ الحجاب
من المعلوم ان الغرض من حجاب المرأة هو لسد الذريعة عن حدوث الاثارة والشهوة وربما الاعتداء؛ بدلالة الواقع وعدد من النصوص[15]، وبالتالي منعاً لأذية كل من الرجل والمرأة على السواء. لكن يرد في الأمر إحتمالان يتعلقان بكيفية التحجب والكشف غير السافر للجسم. فبحسب الواقع العام إما ان يكون الطبع البشري منساقاً إلى التأثر والشهوة عند أي كشف نهى عنه الشارع المقدس، أو ان النهي المنصوص كان لازماً لاعتبارات بعض الحالات الخاصة بالواقع. فاذا دلّ الواقع المطلق على خطأ الفرضية الأولى أصبحت المسامحة في الحكم الثاني مقبولة غير خارجة عن الشرع، ويؤيدها ما ورد من مسامحة في الكشف المحتشم امام ملك اليمين أو الخدم، وكذا نفس الحال مع كشف الإماء، وايضاً كبار السن من النساء، دفعاً للعسر والتخفيف، مضافاً إلى ما جرى من حالات الاختلاط والملامسة عند تضميد جرحى الحرب وسقيهم وما إلى ذلك[16]. وربما يميل المقدس الاردبيلي (المتوفى سنة 993هـ) الى قريب من هذا المعنى، حيث ذكر بمناسبة قوله تعالى ((وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهنّ ويحفظن فروجهنّ ولا يبدين زينتهنّ إلا ما ظهر منها)) ان معنى ((إلا ما ظهر منها)) أي إلا ما جرت العادة على ظهوره، والأصل فيه الظهور ‹‹فالعادة ظهور الرقبة بل الصدر والعضدين والساقين وغير ذلك››، سيما فيما يخص العسر الذي يصيب الفقيرات من النساء. وهو يعد الحكم في ذلك محل إشكال[17].
لكن مع هذا لا بد من أخذ الملاحظات التالية بنظر الاعتبار كما يلي:
1 ـ أنه حتى لو فرضنا خطأ الفرضية الأولى وبالتالي جاز الكشف غير السافر في الأحوال المناسبة؛ فإن ما يلزم هو ان يكون هذا الكشف معقولاً لا يخرج عن حدود الحشمة المتعارف عليها، وذلك كي لا يفضي إلى الصدام مع المقصد الخاص ولا يجر إلى اضرار جانبية ولو بعناوين أخرى مختلفة.
2 ـ أنه حتى مع فرض خطأ تلك الفرضية قد يلزم الابقاء على الحجاب المعهود كعمل وقائي سداً للذريعة وخشية من توظيف الأمور الشرعية في غير مجاريها الصحيحة، سيما مع كثرة الأهواء وضعف الوعي التربوي كما هو مألوف عند الناس.
3 ـ استناداً إلى الواقع يعتبر الالتزام بالحجاب في الحدود المتعارف عليه من كشف الوجه والكفين حالة كمالية تصون العلاقة الخاصة بين الرجل والمرأة، وهو لا يشكل عائقاً امام تطور الحياة والحركة النسوية عادة. وعليه فمن الناحية المبدئية ان المطالبة به تظل واردة ومبررة.
[1] مهذب الأحكام، ج27، ص194. وانظر ايضاً: فقه الإمام جعفر الصادق، مصدر سابق، ج5، ص163.
[2] عبد الرحمن الناصر السعدي: المختارات الجلية من المسائل الفقهية، نشر الرئاسة العامة لادارة البحوث العلمية والافتاء والدعوة والارشاد، الرياض، الطبعة الثانية، 1405هـ، ص176-177.
[3] الطرق الحكمية، ص183.
[4] عن: محمد الغزالي: السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، دار صحارى، الطبعة الخامسة، 1409هـ ـ1989م، ص59.
[5] الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الاثار، ص11. وانظر ايضاً: جواهر الكلام، ج14، ص400.
[6] ابو القاسم القمي: قوانين الاصول، طبعة حجرية قديمة، ص443.
[7] الطرق الحكمية، ص177. كذلك: اعلام الموقعين، ج1، ص95.
[8] المنار، ج3، ص124.
[9] صحيح البخاري، حديث 1765. وفتح الباري، ج4، ص63.
[10] صحيح البخاري، حديث 1763. وفتح الباري، ج4، ص60-61.
[11] عن: عبد الكريم زيدان: المفصل في أحكام المرأة، مؤسسة الرسالة، الطبعة الاولى، 1413هـ ـ1993م، ج4، ص202.
[12] المفصل في أحكام المرأة، ج4، ص203.
[13] فتح الباري، ج4، ص60. والمفصل في أحكام المرأة، ج4، 203.
[14] عن: محمد الغزالي: دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، دار القلم، دمشق، الطبعة الاولى، 1407هـ ـ1987م، ص95.
[15] كقوله تعالى: ((قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك ازكى لهم إن الله خبير بما يصنعون. وقل للمؤمنات يغضضن من ابصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن الا ما ظهر منها وليضربن بخُمُرهنّ على جيوبهن ولا يبدين زينتهن الا لبعولتهن أو آبائهن.. أو ما ملكت ايمانهن أو التابعين غير أُولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بارجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن)) النور/30ـ31، وقوله: ((يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يُدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يُعرفن فلا يؤذَين وكان الله غفوراً رحيماً)) الاحزاب/59ـ60.
[16] معلوم ان النساء في عصر النبي (ص) كنّ يشاركن في الحروب ويضمدن جروح المجاهدين. وقد اعتقد الفقهاء ان هذه الخلطة في المشاركة النسوية كانت لوجود الحاجة الماسة. وهو تقدير غير صحيح، إذ لو كان صحيحاً لظهر هناك نهي عن المشاركة عند ارتفاع الحاجة اليهن، مع أنه لا يوجد مثل هذا النهي رغم التضخم الملحوظ في تزايد اعداد الجماعة الإسلامية قبل الفتح وبعده. وهناك نصوص متضافرة تبدي المشاركة النسوية بتلقائية، الصغار منهن والكبار، وبعضهن من نساء النبي وبناته، دون ان يظهر ما يثير الشكوك في طبيعة الابتلاءات التي يمكن ان تحدث من جراء هذا التماس. ومن ذلك ما جاء في صحيح البخاري عن الربيع بنت معوذ قالت: ‹‹كنا نغزو مع النبي (ص) فنسقي القوم ونخدمهم ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة ››. وعن أم عطية الانصارية قالت: ‹‹غزوت مع رسول الله (ص) سبع غروات اخلفهم في رحالهم واصنع لهم الطعام واداوي الجرحى واقوم على الزمنى››. وعن انس قال: كان رسول الله (ص) يغزو وام سليم ونسوة معها من الانصار يسقين الماء ويداوين الجرحى. وقد بوّب البخاري في صحيحه باباً بعنوان (غزو النساء وقتالهن مع الرجال). ومن النساء من قاتلن في الحروب مباشرة، فمنهن أم سليم التي اشتركت في غزوة حنين واتخذت خنجراً لتقتل به من يدنو منها من المشركين، كما اشتركت أم عمارة في حرب الردة ضد مسيلمة الكذاب، حيث جُرحت يومئذ اثنتا عشرة جراحة وقطعت يدها، كما اشتركت صفية بنت عبد المطلب في معركة الخندق وقتلت رجلاً من اليهود آنذاك. وقبل ذلك ان هذه الصحابية جاءت يوم احد وبيدها رمح تضرب به وجوه المشركين. ومن النساء من نُصب لها خيمة في المسجد بعلم النبي واذنه لتداوي فيها الجرحى، كما هو الحال مع رفيدة الانصارية.
ومما يذكر في الخلطة مما هو خارج عن الحرب ومداواة الجرحى ما اخرجه البخاري في صحيحه عن اسماء بنت ابي بكر أنها قالت: ‹‹تزوجني الزبير وما في الارض من مال ولا مملوك ولا شيء غير ناضح وغير فرسه فكنت اعلف فرسه واستقي الماء واخرز غربه واعجن ولم اكن أحسن الخبز فكان يخبزه جارات لي من الانصار، وكن نسوة صدق، وكنت انقل النوى من ارض الزبير التي اقطعه رسول الله على رأسي، فلقيت رسول الله ومعه نفر من الانصار فدعاني ثم قال اخ اخ ليحملني خلفه، فاستحييت ان اسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته وكان أغير الناس، فعرف رسول الله اني قد استحييت، فمضى رسول الله، فجئت الزبير فقلت: لقيني النبي ومعه نفر من أصحابه، فاناخ لأركب، فاستحييت منه وعرفت غيرتك، فقال: والله لحملك النبي كان أشد عليّ من ركوبك معه. قالت: حتى ارسل الي ابو بكر بعد ذلك بخادم تكفيني سياسة الفرس فكأنما اعتقني (لاحظ حول ما سبق: صحيح البخاري، حديث 2727، وحديث 1812، وحديث 4926، وصحيح مسلم، حديث 2182. وفتح الباري، ج6، ص59-61. والمفصل في أحكام المرأة، ج4، ص269-272، وص389-392). ومن الروايات التي لها علاقة بهذا الصدد ما ذكره ابن حجر العسقلاني في ترجمته للشفاء بنت عبد الله من أن عمر بن الخطاب كان يقدّم هذه المرأة في الرأي ويرعاها ويفضلها وربما ولاها شيئاً من أمر السوق (ابن حجر العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق علي محمد البجاوي، نشر دار الجيل، بيروت، 1412هـ ـ 1992م، عن مكتبة المشكاة الالكترونية، ج7، فقرة 11373، ص727).
[17] أحمد بن محمد الأردبيلي: زبدة البيان في أحكام القرآن، تعليق محمد الباقر البهبودي، نشر المكتبة المرتضوية لاحياء الاثار الجعفرية، تهران، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ص544.