يحيى محمد
المصلحة هي إحدى الأصول المرجعية لتحديد الأحكام الإجتهادية لدى عدد من المذاهب الفقهية. والمقصود بها بوجه عام هي كل ما يجلب نفعاً ويدفع ضرراً. وبعض التعاريف قيّدها بالمحافظة على مقاصد الشرع كي تكون مقبولة. فمثلاً عرّفها الغزالي بأنها المحافظة على مقصود الشرع، أو المقاصد الضرورية الخمسة[1]. وعرّفها الطوفي بأنها السبب المؤدي إلى مقصود الشارع عبادة أو عادة [2]. كما عرّفها الخوارزمي بأنها (المحافظة على مقصود الشرع بدفع المفاسد عن الخلق)[3].
ومع ان العلماء أجمعوا على كون الشارع قد راعى مصالح العباد في معاشهم ومعادهم؛ الا أنهم اختلفوا في التشريع لها من قبل العقل البشري، أو على ضوء الإجتهاد الناظر إلى مقاصد الشرع أو حتى القياس. فقد عُرف عن الإمام مالك أنه أبرز من قال بها صراحة وكان يطلق عليها (الإستحسان) مما يشمل الإستحسان المصطلح عليه ومبدأ المصلحة[4]، حيث ان لفظ (الإستحسان) كان مستخدماً لدى ابي حنيفة قبل مالك[5].
ورغم ما اشتهر من انفراد المالكية بالقول بالمصلحة؛ الا ان الزركشي اعترض على ذلك معتبراً (ان العلماء في جميع المذاهب يكتفون بمطلق المناسبة، ولا معنى للمصلحة المرسلة الا ذلك)[6]. وكذا قال القرافي بأنها (عند التحقيق في جميع المذاهب لأنهم يقومون ويقعدون بالمناسبة، ولا يطلبون شاهداً بالاعتبار، ولا نعني بالمصلحة المرسلة الا ذلك)[7]. كما قال ابن دقيق العيد: (الذي لا شك فيه ان لمالك ترجيحاً على غيره من الفقهاء في هذا النوع، ويليه أحمد بن حنبل، ولا يكاد يخلو غيرهما عن اعتباره في الجملة، ولكن لهذين ترجيحاً في الاستعمال لها على غيرهما)[8]. وسميت المصلحة المرسلة أو المطلقة باعتبار ان وظيفتها تتحدد بالقضايا التي لم يرد فيها حكم نص، لا بالاعتبار ولا بالالغاء، أو أنها مما لم يشهد لها شاهد معين من الشريعة بالاعتبار[9]. مع ذلك صرح الفقيه المالكي ابن العربي بقوله: (لم يفهم الشريعة من لم يحكم بالمصلحة)[10]. واطلق عليها الغزالي في كتابه (المستصفى) الإستصلاح.
واغلب الظن ان الذي جعل مالكاً يعول على المصلحة هو ما رأى عليه العمل بين الصحابة إبان عهد الخلافة الراشدة، إذ كان سلوكهم لا يخلو من العمل بها عندما يحتاجون إلى شيء من النص. ولعل أول عمل مصلحي قام به هؤلاء بعد وفاة النبي (ص) هو جمع المصحف. لذلك كثيراً ما يشار إلى هذه الحادثة على رأس الأمثلة التي يستدل بها على مصداقية ما نحن بصدده. فقد اعتاد العلماء أن يذكروا نماذج عدة على المصلحة المرسلة كالتالي:
1 ـ اتفاق الصحابة على جمع المصحف في عهد أبي بكر[11]، وذلك خشية اندثار القراء أو الحفظة بفعل القتل بالحروب فيذهب بذلك قرآن كثير[12]. كما روي أن عثمان قام بنسخ الصحف في المصاحف خشية الإختلاف كما اختلفت اليهود والنصارى[13].
2 ـ اتفق الصحابة على حد شارب الخمر بثمانين جلدة في عهد عمر بن الخطاب الذي استشار الصحابة فأشار عليه الإمام علي (ع) بقوله: (اذا شرب سكر، واذا سكر هذى، واذا هذى افترى). وعلى رأي البعض أن مستندهم في ذلك هو الرجوع إلى المصالح والتمسك بالاستدلال المرسل[14].
3 ـ ومثل ذلك زواج امرأة المفقود بعد اربع سنين من انقطاع خبره لترجيح مصلحة الزوجة، حيث أنها من الحوادث البكر التي حدثت في عصر الخليفة عمر، وكذا تدوين الدواوين، ومن ثم ضرب السكة واتخاذ السجن[15].
4 ـ ان الخلفاء الراشدين قضوا بتضمين الصنّاع عند تلف أو ضياع ما في أيديهم من أمانة، وقال الإمام علي بهذا الشأن: (لا يصلح الناس الا ذاك)[16].
5 ـ جواز الضرب للمتهم ليقر بالمسروق[17].
6 ـ جواز قتل الجماعة بالواحد[18].
ويلاحظ ان الكثير من الأمثلة المذكورة هي من الإستحسانات بحسب الاصطلاح، مع ما يلاحظ أنه كان هناك تداخل بين الإستحسان والاسترسال، كما يشير اليه الشاطبي بتعليقه على بعض الشواهد الخاصة بترك الدليل بالمصلحة، فيقول: (فان قيل: هذا من باب المصالح المرسلة لا من باب الإستحسان، قلنا: نعم، الا أنهم صوروا الإستحسان تصور الاستثناء من القواعد، بخلاف المصالح المرسلة)[19].
كما أن من المعاصرين من ذكر أمثلة أخرى على المصلحة المرسلة ليست منها. فالمرحوم عبد الوهاب خلاف استعرض أمثلة على الإستصلاح معتبراً أنها من الحوادث البكر، مثل: اشتراط الاشهاد الشرعي لصحة الوقف أو التغيير فيه، واشتراط وثيقة الزواج الرسمية لسماع الدعوى به، واشتراط سن معينة للزوجين لتوثيق عقد الزواج بينهما[20]. وهي أمثلة تعد تبريراً للواقع القضائي الحديث. وبغض النظر عن ذلك يلاحظ ان جميع هذه الأمثلة تتضمن عنصراً مشتركاً لا يُبقي الحكم الشرعي على حاله مثلما هو عليه من قبل، سواء ذلك الذي يستمد من النص، أو من الاجماع، أو من القياس، حيث هناك (شرط) مضاف على الممارسة الشرعية للأحكام[21]. وبالتالي فإن هذه الأمثلة تعود إلى الإستحسان لا المصلحة؛ باعتبار ان من وظائفه تخصيص العام وتقييد المطلق.
وليس المالكية وحدهم من انفرد بقبول المصلحة والاقتناع بحجيتها، وإنما وافقهم على ذلك الحنابلة، إلا أنهم لم يجعلوها دليلاً مستقلاً وانما اعتبروها عائدة إلى ضرب من ضروب القياس[22]. بينما منع العمل بها كل من مذهب الشافعي والظاهرية. في حين أجازت الإمامية الاثنى عشرية الاستناد اليها بحدود قطعية العقل لا غير.
أما بخصوص المذهب الحنفي فنجد بعض الالتباس. إذ أُتهم أصحابه بأنهم لا يأخذون بالمصالح المرسلة كالشافعية، وهي تهمة سبق أن قال بها الآمدي[23]، كما كررها الشيخ ابو زهرة بتحفظ، حيث صرح بأن المصلحة المرسلة ليس لها اعتبار عند الأحناف، وإن كان الإستحسان يفتح الباب قليلاً[24]. وأبدى في محل آخر تسليمه بعمل ابي حنيفة بالمصلحة. إذ ذكر بأنه من حيث تأثره بمعاملات الناس لممارسته التجارة فقد اعتمد على أصلين: أولهما العرف الذي هو أصل يترك به القياس، والثاني الإستحسان حيث به رأى تطبيق القياس يؤدي إلى (معاملة لا تتفق مع المصلحة أو مع العرف التجاري، فيترك القياس)[25]. وقد تصدى الدكتور الدواليبي للرد على الاتهام السابق موضحاً بأن الإجتهاد الحنفي قد أسس نظرية الإستحسان الذي هو خروج عن النظائر والقواعد القياسية العامة لوجهة أقوى أو لضرورة تقتضي مصلحة أو تدفع مفسدة، لذا كان الأولى أنه يوجب اعتبار المصلحة المرسلة. أي أن الأحناف اذا كانوا يعولون على المصلحة ويرجحونها على القواعد القياسية كما هو حال ما يسمى الإستحسان فكيف لا يعملون بالمرسلة التي لا تعارضها مثل تلك القواعد المعتبرة[26]؟! وهو ما أيده الشيخ الزرقاء الذي عقد بحثاً عن العلاقة القائمة بين القياس والإستحسان والإستصلاح؛ توصّل فيه إلى ان الفترة بين المذهب الحنفي والمالكي وإن كانت واحدة الا ان تأخر المذهب المالكي عن نظيره الحنفي زماناً جعل الصياغة الفنية الفقهية للمصلحة وشرائطها تتبلور عنده، الأمر الذي اشتهر بها. في حين أنها في المذهب الحنفي ظلت كامنة في صورة الإستحسان الذي يتضمن المخالفة لمقتضى القياس[27]. وكذا ما ذهب اليه عبد الوهاب خلاف[28].
مع هذا فرب قائل يقول ان من الممكن ان لا تأخذ الحنفية بالمصالح رغم تعويلها على الإستحسان الذي يعني عندها على الأقل بانه ترجيح دليل إجتهادي على دليل آخر مثله، كترجيح قياس خفي على ظاهر[29]، أو كترجيح دليل مستمد من العرف على القياس. فليس في ذلك وجود للمصلحة. لذا أقرّ الزرقاء بأن تعريف الإستحسان عند الحنفية هو عبارة عن قياس خفي مرجح على قياس ظاهر، بينما هو ليس كذلك عند المالكية، حيث أنه عبارة عن ترك القياس الظاهر لاحد امور ثلاثة، وهي اذا عارضه عرف غالب، أو عارضته مصلحة راجحة، أو أدى إلى حرج ومشقة[30]. كما اعترف بأن الشافعي ـ وكذا الغزالي ـ هو وإن انكر نظرية الإستحسان، الا أنه لم ينكر الإستحسان القياسي عند الحنفية واحكام الضرورات الملجئة، بل أقرّ ذلك وإن رده إلى القياس[31]. وهو أمر شبيه بما لجئت اليه الإمامية من الاعتراف بصحة العمل بالإجتهاد وإن لم تعول على مبادئ القياس والمصلحة والإستحسان الظنية الحكم. فالذي يراها تعمل بالقياس لاعترافها بالإجتهاد لم يكن مصيباً. لذا فالتعويل على الإستحسان هو كالتعويل على الإجتهاد، لا تتبين مبادؤه بمفهومه العام، باعتباره يقبل الانطباق على أكثر من مبدأ ممكن. وهذا يعني أنه ليس هناك تناقض بين الأخذ بالإستحسان ورفض المصلحة المرسلة. وبالتالي فإن ما أقامه الدواليبي ومن والاه من رد على إتهام الحنفية بعدم اخذها بالمصلحة المرسلة؛ لم يكن موفقاً.
شروط المصلحة
إن أول شرط أساس اتفق عليه العلماء هو ان مجال الأخذ بالإستصلاح يجب ان يكون خارج حدود دائرة العبادات، سيما تلك التي لا يدرك مغزاها على وجه التحديد. بل ان البعض كالاستاذ عبد الوهاب خلاف اعتبر هذا الشرط لا يقتصر على المصلحة، بل يشمل ايضاً القياس والإستحسان ومختلف ضروب الإجتهاد في القضايا التي لا نص فيها، زاعماً اتفاق كلمة العلماء على أنه لا إجتهاد في العبادات، ومثل ذلك الحدود والكفارات وفروض الارث وشهور العدة بعد الموت والطلاق وكل ما شرع محدداً مقدراً. وأما ما عدا ذلك من أحكام المعاملات والتعزيرات وطرق الاثبات واحكام الاجراءات وسائر أنواع الأحكام فقد اختلف العلماء في الاستنباط فيها بالإستصلاح[32].
لكن مع ما يلاحظ من ان العلماء إتفقوا فعلاً على أن تكون المصلحة المرسلة خارج دائرة العبادات باعتبارها تعني اعطاء حكم جديد لحادثة بكر لم يرد ذكرها بالشرع طبقاً لإدراك العقل للمصلحة والمفسدة، ولا شك ان ذلك يكون بعيداً عن دائرة العبادات باعتبارها موقوفة فكيف يمكن ان يضاف اليها شيء آخر بالمصلحة العقلية؟!.. إلا أن الحال مع القياس والإستحسان مختلف، إذ لا يمكن قبول الدعوى التي تقول بأن العلماء إتفقوا على أن يكون هذان المبدءان جاريين خارج حدود العبادات على إطلاق. فهذا الزعم الذي صرح به الأستاذ خلاف يعارضه المسلك الذي عليه الصحابة والعلماء فيما لو أُخذ على إطلاقه. فهناك شواهد كثيرة تثبت ان هؤلاء أجروا القياس والإستحسان حتى في دائرة العبادات والتقديرات والحدود وما إليها. فالقياس وإن كان فعلاً يدور على الحوادث التي لا نص فيها؛ الا ان مرجعه فهم النص، وبالتالي فقد يرد في العبادات وغيرها ما يمكن ان يناط به لتحديد الحكم على الحوادث الجديدة، وذلك عندما تكون هذه العبادات مفهومة المعنى لينشأ منها القياس، وعلى حد قول الشاطبي ان كثيراً من العبادات هي كالعوائد (لها معنى مفهوم هو ضبط وجوه المصالح)[33]. فمن هذه الناحية ان العلماء أجروا القياس في العبادات وما اليها. ومن ذلك القياس الذي قدرت به عقوبة شارب الخمر، حيث جاء في أحد الآراء أنه لم يرد هناك حد لتلك العقوبة في عهد النبي (ص)، ولما جاء عمر (رض) أراد تحديدها فاستشار الصحابة، فأشار عليه الإمام علي (ع) بثمانين جلدة مستدلاً بدليل قياسي هو أنه (اذا شرب سكر، واذا سكر هذى، واذا هذى افترى). وقد نقل العلماء هذا الحد وقبلوه حتى ولو كان نتاج القياس، وعلى رأسهم الإمام مالك في (الموطأ)[34]. ونفس الشيء فيما يخص القياسات الخاصة بموارد النجاسات، ومنها القياس الظاهر لنجاسة سؤر سباع الطير على سباع البهائم والذي رجح الحنفية عليه القياس الخفي كما مر علينا. بل ذهب ابن العربي - وهو من المالكية - صراحة إلى صحة القياس في المقدرات خلافاً لأبي حنيفة[35]. ومثل ذلك ما ذهب اليه صفي الدين الحنبلي[36]، وايضاً جماعة من الشافعية من امثال القاضي أبي الطيب وسليم وابن السمعاني وأبي منصور[37]، حيث ذهبوا إلى صحة القياس حتى في موارد الحدود والكفارات.
وكذا الحال يقال بخصوص الإستحسان، إذ أن من ضمن ما يعنيه هو تخصيص النص؛ لذا فهو يقبل التأثير على العبادات والحدود وما اليها، والا فما معنى تغيير عمر للحد عام المجاعة والذي اعترف الاستاذ خلاف بانه من الإستحسان؟! ومثله نفي الضرر، والعسر عند التعارض مع حكم النص والذي اعتبره العلماء من الإستحسان الذي يقدم فيه على عموم النص سواء في دائرة العبادات أو المعاملات. بل ان خلاف ذاته يذكر دليلين على الإستحسان؛ أحدهما وهو الاهم، ما ثبت من إستقراء النصوص التشريعية بأن الشارع الحكيم عدل في بعض الوقائع عن موجب القياس أو عن تعميم الحكم إلى حكم آخر جلباً للمصلحة أو درءاً للمفسدة، وذكر على ذلك أمثلة بعضها مستمد من العبادات والتعبدات وليس المعاملات، مثل تحريم الله تعالى للميتة والدم وغيرهما، واستثنى من ذلك المضطر، كذلك توعد من كفر به واستثنى من ذلك التقية[38].
إذاً، ان الإجتهاد لدى الصحابة والعلماء في القضايا التي لا نص فيها لا ينحصر كله في دائرة المعاملات، اذا ما استثنينا المصلحة المرسلة باعتبارها عقلية شبه محضة لا علاقة لها بالنص رغم ما لها من علاقة بمقاصد الشرع العامة.
***
مهما يكن فإن مجال المصلحة المرسلة لدى العلماء ينحصر فعلاً في المعاملات ذاتها. لكن مع ذلك اختلف العلماء في سائر الشروط التي حددوا بها حجيتها. فاذا كان الإمامية يوردون شرطاً واحداً هو قطعية العقل بالحكم؛ فإن الغزالي من الشافعية يزيد على ذلك فيرى أنه لا بد من شروط ثلاثة كما يلي:
1 ـ أن تكون ضرورية داخلة ضمن مقصود الشرع من الضرورات الخمس دون سواها، والتي هي عبارة عن: الحفاظ على الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
2 ـ أن تكون كلية لا جزئية.
3 ـ أن تكون قطعية أو شبه قطعية لا ظنية[39].
ولتوضيح ما يريده الغزالي من هذه الشروط فإنه يضرب مثلاً على ذلك. وهو ان من المعلوم حرمة قتل المؤمن عمداً، لكن اذا صادف في الحرب أنْ تترس العدو بمؤمن أو أكثر بحيث أن قتل العدو يفضي لا محالة إلى قتل المؤمن معه، ففي هذه الحالة لا يجوز قتل المؤمن الا ضمن الشروط الثلاثة الآنفة الذكر، وهو أنه بدون قتله يُستأصل جميع المسلمين من غير حصر، وهذا هو شرط الكلية في المصلحة. لذا لو قُتل عدد محصور من المسلمين كعشرة أو مائة وما اليه؛ لما جاز قتل ذلك المسلم رغم الفارق في الكثرة والقلة. ومثله لو زاد عدد راكبي سفينة عن حمولتها بحيث لو لم يُرمَ احدهم لغرقوا جميعاً؛ فإنه لا يباح ذلك الرمي لأن المصلحة هنا جزئية لا كلية. وقد يقال ان العمل في هذه الحالة يمكن أن يعالج بالقرعة، لكن الغزالي منع ذلك ونفى ان يكون لها أصل في الشريعة.
كذلك يرى الغزالي أنه لا بد ان تكون المصلحة ضرورية. فلو تترس أهل قلعة بمسلم أو أكثر فإنه لا يباح قتل الاسير المتترس به لأجل فتح القلعة، باعتبارها ليست ضرورية. وكذا لا بد ان تكون المصلحة قطعية أو شبه قطعية، ذلك أنه اذا لم نقطع بقتل كافة المسلمين لما جاز قتل الترس في الدفع[40].
تلك هي الشروط الثلاثة والأمثلة التي اوردها الغزالي حولها. ويلاحظ ان هذا الإمام يعترف بأن مقصود الشرع هو تقليل القتل وحسم سبيله عند الامكان، بل ويعتبر ان العلم بهذه المصلحة لم يأت بدليل واحد وأصل ونص معينين، وانما بأدلة خارجة عن الحصر؛ تتمثل بتفاريق الأحكام واقتران الدلالات التي لم يبق معها شك في كون حفظ خطة الإسلام ورقاب المسلمين أهم في مقاصد الشرع من حفظ شخص معين[41]. لكن رغم ذلك فإنه لم يقبل الترجيح بالمصلحة طبقاً لأهمية الكثرة في قبال القلة، بل توقف عند حدود الكلية في قبال الجزئية، أو اللا محصور في قبال المحصور، وذكر بأن للعلماء خلافاً في الرأي حول ذلك، لكنه اعتقد بصحة الترجيح انطلاقاً من ترجيح مقصود الشرع الأهم على المقصود الأقل منه اهمية، أي الكلي على الجزئي، لكثرة الدلالات والقرائن من النصوص الدالة على ضرورة حفظ الإسلام ورقاب المسلمين مما هو مقدم على حفظ شخص معين. أما ترجيح الكثير على القليل، كما في السفينة وفي المخمصة أو المجاعة لعدد محصور؛ فلم يجوزه استناداً إلى دعوى الاجماع، حيث أشار إلى ان الأمة أجمعت على أنه لو أُكره شخصان على قتل شخص لا يحل لهما قتله، كما أنه لا يحل لمسلمين أكل مسلم في المخمصة[42].
ذلك هو رأي الغزالي في شروط المصلحة. وقد نُقد من قبل القرطبي بأن القيود التي وضعها لا ينبغي ان يُختلف في اعتبارها[43]. أي أن شروط الغزالي ليست شروطاً بقدر ما هي من المسلمات التي ينبغي أن تُقبل كحد أدنى. لهذا فقد ذهب جماعة من الفقهاء إلى الأخذ بالمصالح حتى مع عدم ضرورتها وكليتها وقطعيتها، طالما أنها مما لم ينص الشرع على إلغائها وكانت مما يلائم مقاصده وانها معقولة في ذاتها بحيث لو عرضت على العقول تلقتها بالقبول[44].
فقد ذكر الشاطبي في (الاعتصام) ان شروط المصلحة عبارة عما يلي:
1 ـ أن تكون ملائمة لمقاصد الشرع دون ان تتنافى مع أصل من اصوله ولا دليل من أدلته.
2 ـ أن تكون عقلائية بحيث تتقبلها العقول عند عرضها عليها. لذا لا مدخل لها في التعبدات.
3 ـ أن تكون راجعة إلى حفظ أمر ضروري، أو رفع حرج لازم في الدين. فرجوعها إلى حفظ الضروري من باب ما لم يتم الواجب الا به وجب. أما رجوعها إلى رفع الحرج فراجع إلى باب التخفيف في قبال التشديد[45].
فيما اعتبر بعض آخر ان المصلحة مشروطة بأن تثبت بالبحث وإمعان النظر والإستقراء، وانها حقيقية لا وهمية، وان تكون عامة لا شخصية بحيث تجلب لاكثر الناس نفعاً أو تدرأ عنهم المضرة، وان لا تعارض نصاً ولا اجماعاً[46].
وقد يقال ان بعض الشروط المذكورة لا يجعل من المصلحة دليلاً مستقلاً . فشرط رفع الحرج في الدين مثلاً لا يحتاج إلى استقلالية المصلحة، ذلك ان دليل رفع الحرج هو من القواعد الشرعية المقررة التي يتأسس بها الحكم. ونفس الشيء يقال في شرط حفظ الأمر الضروري، حيث يعلم شرعاً ان ذلك واجب.
وربما يجاب على الإشكال بأن حكم المصلحة ليس في حد ذاته داخلاً ضمن حفظ الأمر الضروري أو رفع الحرج وانما هو مقدمة (عقلية) يلزم عنها ذلك، ولو على سبيل الظن لا القطع.
ومع هذا لا نرى ان حكم المصلحة مما يتوقف على هذين الأمرين، كما لا نرى لزوم الشرط القائل بأن تكون المصلحة عامة لا شخصية. إذ يكفي لجريان حكمها اعتبارها عقلائية وملائمة لمقاصد الشرع العامة. فبهذا الاعتبار يمكن الأخذ بالمصلحة الشخصية. كما يمكن الأخذ بالمصالح الكمالية مما لا يعود إلى الضرورات المتعارف عليها، ولا إلى رفع الحرج، وذلك بما يتسق مع التطورات التي يمر بها الإنسان في خلافته الأرضية.
بذلك فإن شروط المصلحة تكون على النحو التالي:
1 ـ ان تكون مبنية على البحث والاستقصاء ليُعرف أنها مصلحة حقيقية. ومن ذلك أنها لو عرضت على العقول لقبلتها.
2 ـ ان تكون مصلحة ذات شأن يعتد به قوة أو منفعة.
3 ـ ان لا تكون معارضة لمصلحة أخرى أهم منها واقوى، سواء منصوص عليها أو غير منصوص.
4 ـ ان تكون مما يتسق مع مقاصد الشرع والفطرة الإنسانية، بحيث ان العمل بخلافها يقتضي التضارب مع هذه المقاصد أو الفطرة.
فمن هذه النقاط يتبين ان العمل بالمصلحة إنما هو عمل بالمقاصد، أي ان هذه الاخيرة هي المحددة لطبيعة المصلحة اللازمة.
ونلفت النظر إلى ان بدون هذه الشروط لا يعني عدم جواز العمل بالمصلحة، إنما كل ما يعنيه ذلك هو أنها ليست موضع إلزام وإيجاب. إذ بدون تلك الشروط، يمكن ارجاع جواز العمل بها إلى العفو الذي سمح الشرع بممارسته وتركه من غير أمر ونهي فيما لو لم يكن هناك دليل إجتهادي ناهض. وكذا يمكن العمل بها باعتبار الأولوية، من دون ان يلزم ذلك الإيجاب.
[1] المستصفى من علم الاصول، ج1، ص287.
[2] رسالة في رعاية المصلحة، مصدر سابق، ص111.
[3] الشوكاني: ارشاد الفحول إلى تحقيق الحق من الأُصول، دار الفكر، ص242.
[4] تاريخ المذاهب الإسلامية، ص428.
[5] بنظر بعض الاحناف ان لفظ الإستحسان لم يبتدعه ابو حنيفة، إذ كثيراً ما كانت تقرأ آية استماع القول التي تتضمن أحد مشتقات اللفظ، وهي قوله تعالى: ((فبشّر عباد الّذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه)) (الزمر/17ـ18). كما ورد اللفظ في السنة النبوية ايضاً، وهو قول النبي (ص): ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن (ابن ابي الوفا: الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية، شبكة المشكاة الالكترونية، ص620).
[6] البحر المحيط، فقرة 1416. ايضاً: ارشاد الفحول، ص218. ويقصد بالمناسبة عند من لم يعلل أفعال الله بالغرض أنها الملائمة لأفعال العقلاء في العادات، وعند من يعللها أنها ما يجلب للإنسان نفعاً أو يدفع عنه ضرراً (البحر المحيط، فقرة 1408).
[7] ارشاد الفحول، ص243.
[8] المنار، ج7، ص193.
[9] البحر المحيط، فقرة 1416.
[10] أحكام القرآن، ج2، ص755.
[11] روى البخاري عن زيد بن ثابت الأنصاري أنه قال: أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة، وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن. قال أبو بكر: قلت لعمر: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر، قال زيد بن ثابت، وعمر عنده جالس لا يتكلم، فقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فإجمعه. فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله (ص)؟ فقال أبو بكر: هو والله خير، فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر، فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب، وصدور الرجال، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره.. (صحيح البخاري، حديث 4402).
[12] الاعتصام، ج2، ص115.
[13] المصدر، ص116.
[14] علماً بأن هناك من فسّر الحد المذكور بتفسير آخر لا يمت إلى المصلحة. والحديث مروي في المصادر الشيعية فضلاً عن السنية (انظر: الحر العاملي: وسائل الشيعة، ج28، ص220). وننبه بأنه جاء في (الاعتصام، ج2، ص118) للشاطبي ان الحادثة كانت في عهد عثمان. وهو على ما يبدو خطأ، إذ المعروف لدى مختلف المصادر الإسلامية أنها كانت في عهد عمر.
[15] ابن الأزرق: بدائع السلك في طبائع الملك، تحقيق علي سامي النشار، منشورات وزارة الاعلام، بغداد، 1977م، ج1، ص295.
[16] الاعتصام، ج2، ص119.
[17] وإن كان هذا الأمر محل خلاف بين العلماء (الاعتصام، ج2، ص120 ). لكن لدى البعض ان هذا الضرب كان يمارس في عهد النبي (ص) كأحد سياساته مثلما بيّن ذلك ابن القيم في (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، مراجعة وتصحيح أحمد عبد الحليم العسكري، دار الفكر، بيروت، ص19).
[18] الاعتصام، ج2، ص115ـ125. وبدائع السلك في طبائع الملك، ج1، ص295.
[19] الاعتصام، ج2، ص141.
[20] مصادر التشريع في ما لا نص فيه، ص68-69.
[21] خصوصاً وان هناك من يرفض اشتراط شيء على حكم النص استناداً إلى ما روي عن النبي (ص) قوله: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) (اعلام الموقعين، ج1، ص333).
[22] ابو زهرة: ابن حنبل، دار الفكر العربي، ص303 . وإن كان ما يروى عن ابن حنبل شيء آخر مختلف، حيث يعدّ الرأي والقياس من الباطل في الدين، كالذي تحدثنا عنه في كتاب (العقل والبيان والاشكاليات الدينية).
[23] الإحكام، ج4، ص394.
[24] ابن حنبل، ص303.
[25] تاريخ المذاهب الإسلامية، ص378 . ومثل ذلك في: ابو زهرة: ابو حنيفة، حياته وعصره، آراؤه وفقهه، دار الفكر العربي، 1977م، ص349.
[26] عن: الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، ج1، ص130ـ131.
[27] الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، ج1، ص124ـ125.
[28] مصادر التشريع في ما لا نص فيه، ص90.
[29] مثلاً يرى الأحناف بأن سؤر سباع الطير كالصقر والنسر نجس قياساً على سباع البهائم بجامع كون كل من الجنسين غير مأكول لحمه، لكن من حيث قياسه على الإنسان يكون طاهراً بقياس خفي هو كون الإنسان يجتمع مع تلك الطيور بكونه لا يؤكل وسؤره طاهر، في الحال الذي تكون فيه سباع الطير مختلفة عن سباع البهائم؛ حيث الأولى تشرب بمنقارها وهو عظم طاهر، بينما الثانية تشرب بلسانها المختلط بلعابها المتولد من لحمها. على ان ترجيح هذا القياس الخفي على ذلك الظاهر هو ما يعرف عند الحنفية بالإستحسان. وقد عدّه الاستاذ عبد الوهاب خلاف بانه ليس إستحساناً في حقيقته الا تجوزاً، لكونه عبارة عن معارضة قياس بمثله (انظر: الاعتصام، ج2، ص322 . ومصادر التشريع في ما لا نص فيه، ص75).
[30] الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، ج1، ص94ـ95.
[31] الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، ج1، ص125ـ126.
[32] مصادر التشريع في ما لا نص فيه، ص89ـ90.
[33] الموافقات، ج2، ص308.
[34] المسوى شرح الموطأ، ج2، ص299. ومجموع فتاوى ابن تيمية، ج28، ص336. وابو يوسف: الخراج، دار بو سلامة، تونس، 1984م، ص167. والماوردي: الأحكام السلطانية والولايات الدينية، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الاولى، 1405هـ ـ1985م، ص228. وابن فرج القرطبي: أقضية رسول الله، مطابع قطر الوطنية، ص19 . ونيل الاوطار، ج7، ص320ـ321.
[35] أحكام القرآن، ج4، ص1761.
[36] صفي الدين الحنبلي: قواعد الأصول ومعاقد الفصول، وهو مختصر كتاب تحقيق الأمل في علمي الأصول والجدل لصفي الدين الحنبلي، عن شبكة المشكاة الالكترونية، ضمن فقرة (القياس).
[37] البحر المحيط، فقرة 1282.
[38] مصادر التشريع في ما لا نص فيه، ص78.
[39] المستصفى، ج1، ص301ـ303. كذلك: الإحكام للامدي، ج4، ص394.
[40] المستصفى، ج1، ص294 وما بعدها.
[41] المستصفى، ج1، ص295 و313.
[42] المستصفى، ج1، ص313ـ314.
[43] ارشاد الفحول، ص242.
[44] يعود القول عن المصلحة (ما لو عرضت على العقول تلقتها بالقبول) إلى أبي زيد الدبوسي. لكن قيل ان ذلك يستلزم تعذر اثباتها على الخصم، لأنه ربما يقول: عقلي لا يتلقى هذا بالقبول. لذا قال الدبوسي: هو حجة للناظر لأنه لا يكابر نفسه، دون المناظر. وقال الغزالي: والحق أنه يمكن إثباته على الجاحد بتبيين معنى المناسبة على وجه مضبوط، فإذا أبداه المعلل فلا يلتفت إلى جحده (البحر المحيط، فقرة 1408).
[45] الاعتصام، ج2، ص129ـ133.
[46] مصادر التشريع في ما لا نص فيه، ص99ـ100.