لمبدأ الاعتبار اهمية خاصة في تنويع انماط الممارسة الاستبطانية مع النص. ويدخل ضمن هذا الاطار بحثنا حول نظرية المشاكلة في دراسة مستقلة، فمبررها من حيث القبلية الوجودية هو منطق السنخية، اما مبررها من حيث الاطار النظري في التعامل مع النص فهو مبدأ الاعتبار. فما هو هذا المبدأ؟
المقصود بمبدأ الاعتبار هو ذلك المنهج الداعي الى العبور من ظاهر النص الى باطنه لقرينة مناسبة دالة على هذا العبور او منبهة عليه، فهو لا يلغي الظاهر، كما انه لا يتوقف عنده. اذ يمثل الظاهر اشارة لما يناسبه. وسمي بالاعتبار تبعاً لقوله تعالى: {فاعتبروا يا اولي الابصار} الحشر/ 2، او قوله: {ان في ذلك لعبرة لاولي الابصار} آل عمران/13. ومن الناحية التاريخية يبدو ان الغزالي هو اول من قدم لهذا المبدأ قوة تنظيرية، ليبرر من خلاله بعض الممارسات الاستبطانية في التعامل مع النص، بما في ذلك تبريره لنظرية المشاكلات الوجودية التي عرضناها سابقاً. أما قبل الغزالي فقد كانت قراءة النص الديني تعتمد احياناً على هذا المبدأ عملياً، وذلك من حيث الانتقال من النظير الى النظير، او من الشيء الى شبيهه او الى ما يناسبه، كالقياس التمثيلي والقياس بالاولى. فمثلاً سئل الشبلي عن قوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم} النور/30، فقال: ‹‹ابصار الرؤوس عن محارم الله تعالى وابصار القلوب عما سوى الله تعالى››. كما علّق الشاه كرماني على الاية القرآنية {الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين واذا مرضت فهو يشفين} الشعراء 78ـ80، فقال: ‹‹الذي خلقني فهو يهديني اليه لا الى غيره، وهو الذي يطعمني الرضا ويسقيني المحبة، واذا مرضت بمشاهدة نفسي فهو يشفيني››1. كذلك اضاف ابن حيون الاسماعيلي لظاهر قوله تعالى: {وثيابك فطهر} المدثر/ 4، معنى باطناً هو تطهير النفس من الذنوب التي كنى عنها بالثياب2.
لكن قد نتساءل: هل كانت مثل تلك الممارسات الانتقالية قبل الغزالي تشكل ظاهرة تفسيرية للنص لدى العرفاء - من غير الاسماعيلية - ام انها مجرد استنتاجات ذاتية تدخل في مدار الكشوف والاسترسالات الوجدانية؟
فهناك من يرى ان الموثوق به من الصوفية عندما يذكرون النظائر للمعاني القرآنية لا يريدون بها التفسير، كالذي اشار اليه ابن الصلاح الشهرزوري وهو بصدد تعليقه على كتاب ابي عبد الرحمن السلمي (حقائق التفسير)3.
وقد يكون لعنوان الكتاب الانف الذكر دلالة على ان المراد هو التفسير الباطني كما دعا اليه الغزالي ومن جاراه من العرفاء. فالغزالي لا ينكر ضرورة الاعتماد على هذا المنهج في التفسير، خلافاً للحشوية الذين يتوقفون على الظاهر فحسب، وكذا الباطنية الذين ينكرون حقيقة الظاهر. ومبدأ الاعتبار عنده هو الجمع بين الامرين معاً. فمثلاً انه بصدد تفسير قول النبي (ص): ‹‹لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب››، ذكر يقول: ‹‹القلب بيت هو منزل الملائكة ومهبط اثرهم ومحل استقرارهم. والصفات الرديئة مثل الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب واخواتها كلاب نابحة فأنى تدخله الملائكة، وهو مشحون بالكلاب، ونور العلم لا يقذفه الله تعالى في القلب الا بواسطة الملائكة.. ولست اقول المراد بلفظ البيت هو القلب وبالكلب هو الغضب والصفات المذمومة، ولكني اقول هو تنبيه عليه وفرق بين تعبير الظواهر الى البواطن وبين التنبيه للبواطن من ذكر الظواهر مع تقرير الظواهر. ففارق الباطنية بهذه الدقيقة، فان هذه طريق الاعتبار وهو مسلك العلماء والابرار، اذ معنى الاعتبار ان يعبر ما ذكر الى غيره فلا يقتصر عليه››4. وعلى شاكلة هذا النموذج ما ذكره الغزالي بالنسبة الى قوله تعالى في حق موسى: {اخلع نعليك} طه/12، فقد رفض ابو حامد إبطال الظواهر كالذي عليه الباطنية، كما رفض إبطال الاسرار الباطنية كالذي تذهب اليه الحشوية، واعتبر ان من يجمع بين الظاهر والباطن هو الكامل ذو العينين، فيكون المعنى بحسب الظاهر عبارة عن خلع النعلين، وبحسب الباطن هو طرح الكونين او العالمين. وبالتالي فان المثال في الظاهر حق، وأداؤه الى السر الباطن حقيقة، ولكل حق حقيقة، فهذا هو الاعتبار او العبور من الظاهر الى السر الباطن، او من الشيء الى غيره.5
ويشابه هذا النهج طريقة الفلسفة اليهودية الهلنستية، فكما يعبر الفيلسوف اليهودي فيلون الاسكندراني (المتوفي سنة 40م) عن هذه الطريقة بقوله: ‹‹هي في الوقت الذي تذهب فيه الى جعل المأثورات الجافة سائغة مقبولة عن طريق الرمزية والتأويل؛ تتمسك مع ذلك بالحقائق والاوامر على ظواهرها››.6
ورغم ان العرفاء يعدون الباطن اهم من الظاهر فانهم مع هذا لا يبطلون الاخير، خاصة وان ذلك يفضي الى اسقاط الاحكام الشرعية، كالذي ينقله الغزالي من ان البعض قد يترك الصلاة ويزعم انه دائم الصلاة بسره.7
مع هذا يمكن القول ان التفرقة بين العرفاء والباطنية تبعاً للاخذ بمنطق الظاهر وعدمه، اذ العرفاء يعولون على الظاهر والباطن معاً بخلاف ما تتهم عليه الباطنية من انها تعول على الباطن فحسب.. هذه التفرقة التي ذكرها الغزالي واصبحت رائجة لدى غيره من العرفاء هي تفرقة غير صحيحة. ذلك ان العديد من المحسوبين على الباطنية يتقبلون الظاهر ويضيفون اليه الباطن كالذي يصنعه العرفاء قدماً بقدم. فهناك جماعة من الاسماعيلية اعترفت صراحة بضرورة الاستناد الى كل من الظاهر والباطن، فكلاهما حق عندها8، بل واقرت عدم جواز مخالفة الظاهر بالباطن9، وعولت على ايات ضرب الامثال لتبرير معتقداتها الباطنية، ومن ذلك قوله تعالى: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون} الزمر/27، اذ اعتقدت ان الله جعل للناس مثلاً دالاً على ممثوله فعرفوا الممثول بمثله10. ومن ذلك ما قاله ناصر الدين خسرو، وهو من اسماعيلية القرن الخامس الهجري: ‹‹تفسير النص بالظاهر هو بدن العقيدة، بيد ان التفسير الاعمق يحل منه محل الروح، واين يحيا بدن بلا روح››11. وقال ايضاً: ‹‹الشريعة هي المظهر الخارجي للحقيقة، والحقيقة هي الوجه الداخلي للشريعة.. انها الرمز (او المثال)، والحقيقة هي المرموز اليه (الممثول). والمظهر الخارجي في تقلب مستمر مع حقب وادوار العالم، واما الوجه الباطن فطاقة الهية غير خاضعة للصيرورة››12.
اذن، من الناحية المبدئية، ان هولاء لا ينكرون ظاهر النص ولا يعولون على الباطن فحسب، بل يعترفون بأن للنص ظاهراً وباطناً، وانه لا يجوز عندهم مخالفة الظاهر للباطن، فكلاهما حق، وإن اختلف المطلب، اذ الظاهر وإن كان حقيقة، الا ان حقيقته لا تنبعث من حيث ذاته، فهومثال يشير الى تلك الحقيقة التي هي اعمق منه، اي الباطن. مع هذا فهم من حيث التطبيق ليسوا من اصحاب الظاهر ولا من اصحاب نظرية المثال والمشاكلة عادة، فتفسيراتهم باطنية من نوع آخر لا تختلف في جوهرها عن تلك التي تعود الى العرفاء الذين هم ايضاً يعولون على كل من الظاهر والباطن تبعاً لمنطق مبدأ الاعتبار.
ورغم ان مبدأ الاعتبار قد شكل الغطاء الشرعي لما قام به الغزالي من الممارسة الاستبطانية، الا انه لم يذهب به في التطبيق ذلك المدى الذي ذهب اليه كل من جاء بعده من العرفاء. ولعل ابن عربي هو اول من بسط تطبيقات هذا المبدأ المأخوذ عن الغزالي، فقد جعله غطاءً لتشكيل موسوعة دينية لا يعرف لها اول ولا اخر، ولا قيد ولا ضابط. فقد علّق على اية الاعتبار {فاعتبروا يا اولي الابصار} الحشر/ 2؛ معتبراً انها تعني: ‹‹جوّزوا مما رأيتموه من الصور بأبصاركم الى ما تعطيه تلك الصور من المعاني والارواح في بواطنكم فتدركونها ببصائركم ››. وهو الباب الذي اغفله العلماء، لا سيما من وصفهم بأهل الجمود على الظاهر. واكد بان المبرر في ذلك هو ان الله ‹‹قد ربط بكل صورة حسية روحاً معنوياً، بتوجه الهي عن حكم اسم رباني››، الامر الذي برر له اعتبار خطاب الشارع في الباطن على حكم ما هو في الظاهر قدماً بقدم، فالظاهر في الخطاب هو صورته الحسية، اما الباطن فهو الروح الالهي المعنوي لتلك الصورة الحسية، والانتقال من الظاهر الى الباطن، او من الصورة الحسية الى الروح المعنوي هو ما يطلق عليه الاعتبار. 13
وهذا هو لب نظرية المشاكلة التي تعترف بوجود المطابقة بين الكتابين التدويني والوجودي، فالتدويني يعبر تعبيراً مطابقاً لما هو عليه الوجود الخارجي. والعبور الذي يتحدث عنه العرفاء هو مجاوزة الظاهر الى الباطن عبر الاشتراك بينهما في روح المعنى، اي ان للمعنى ظاهراً وباطناً، وإن كان في حد ذاته عبارة عن امر واحد متفاوت القيمة والدرجة. فمثلاً ان التطهير واحد للثياب من حيث الظاهر وللنفس بحسب الباطن، وكذا الاطعام بالطعام وبالرضا، والسقاية بالشراب والمحبة، ومحاربة الكفر، سواء كانت المحاربة للعدو الخارجي، او للنفس باعتبارها الامارة بالسوء... الخ. مما يعني ان هناك خيط صلة بين نظرية المشاكلة التي استخدمها العرفاء في التفسير، وبين منهج الاعتبار.
مع هذا لا يمكن ان نعد كل ما اعتمده العرفاء في مبدأ الاعتبار هو مما يتفق ونظرية المشاكلة، بل ظهرت انماط مختلفة من الممارسات الاستبطانية في التعامل مع النص، كتلك التي نجدها لدى ابن عربي، فهو قد اجاز ان يفهم العارف من النص الديني كل ما يريده، وحيث ان المريد لا يريد غير القبلية الوجودية، لذا يكون النص تابعاً ومنقاداً الى هذه القبلية؛ بغض النظر إن كانت هناك مناسبة وقرينة دالة على المطلوب ام لا. فكما يذكر في (الفتوحات المكية) كيف ان الله ينزل كلامه ‹‹على قلوب اولياء الله تلاوة فينظر الولي ما تلي عليه مثل ما ينظر النبي فيما انزل عليه، فيعلم ما اريد به في تلك التلاوة كما يعلم النبي ما انزل عليه، فيحكم بحسب ما يقتضيه الامر››14. وهو يرى ان من ينزل على قلبه القرآن فانه يفهم ما ينزل وان كان بغير لسانه ولغته فيعرف معاني ما يقرأ، رغم ان هذه الالفاظ لا يعرف معانيها في غير القرآن باعتبارها ليست بلغته. وبالتالي فان كل موجود يمكنه ان يجد فيه ما يريد. وهو يستشهد بقول الشيخ ابي مدين: ‹‹لا يكون المريد مريداً حتى يجد في القرآن كل ما يريد، وكل كلام لا يكون له هذا العموم فليس بقرآن››15. وبالتالي يقرر بان نزول القرآن على القلب، وهو صفة الهية لا تفارق موصوفها، يعني نزول الحق في القلب، وفي الحديث ان الحق وسعه قلب عبد مؤمن، وبذا ان الحق يكلم هذا العبد من سره في سره، وهو قولهم حدثني قلبي عن ربي من غير واسطة16.
ولا شك ان هذا الذي ذكره ابن عربي يبرر فتح باب الرمزية والاستبطان على مصراعيه، كما هو حاصل سواء بالنسبة الى تعامل هذا العارف مع النص، او الى تعامل غيره معه، حيث كل مريد يريد من النص كل ما يبتغيه من التعبير عن القبلية الوجودية. وبذا يصبح القرآن كتاباً وجودياً حاكياً لما عليه الوجود، تبعاً لمبدأ الاعتبار، وهو الاداة الموظفة لتطبيق الرؤية الوجودية واسقاطها على النصوص الدينية بدعوى العبور من الظاهر الى الباطن. لكن يظل كل عارف يعبر عما يصل اليه خياله من استرسال يتعلق بالوجود، وهو بهذا الاسترسال لا يضمن الاتفاق والمطابقة مع غيره من العرفاء، رغم ان المفاهيم التي يدلون بها هي مفاهيم متقاربة باعتبارها محكومة بنفس المنطق من القبلية الوجودية واصلها المولد.
وتجدر الاشارة الى ان البعض يطلق على هذه العملية من الاعتبار او اسقاط الرؤية الوجودية على فهم النص (التطبيق)، كما جاء في التفسير المنسوب الى ابن عربي، حيث يرى المعاني الباطنية الوجودية لفهم النصوص إن هي الا تطبيقات الرؤية الوجودية منزلة على هذا الفهم. ومع ان لفظة (التطبيق) كانت تستخدم قبل العرفاء لدى الكيسانية الا انها لم تأخذ هذا المعنى، بل كانت مقيدة باجراء التماثل وسحب الرؤية المستمدة من الوجود الخارجي واسقاطها على الانفس البشرية، تبعاً لمنطق السنخية والمشاكلة بين العالمين، لكن النص الذي ورد عن الكيسانية بهذا الخصوص يحمل تشابهاً مع ما اراده العرفاء من اسقاط الرؤية الوجودية وتطبيقها على مختلف المجالات، ومنها مجال النص والتنزيل. فهم يؤمنون بأن لكل ظاهر باطناً، ولكل شخص روحاً، ولكل تنزيل تأويلاً، ولكل مثال في هذا العالم حقيقة في ذلك العالم، والمنتشر في الافاق من الحكم والاسرار مجتمع في الشخص الانساني، لذلك دعوا الى تطبيق الافاق على الانفس، وتقدير التنزيل على التأويل، وتصوير الظاهر على الباطن17. ولا شك ان هذا التصوير المجمل جاء على شاكلة المزاعم المفصلة لكل من الفلاسفة والعرفاء والباطنية الاسماعيلية.
1 التصوف الاسلامي، ص317.
2 النعمان بن حيون المغربي: تأويل دعائم الاسلام، أو تربيـة الـمؤمنين، ضمن منتـخبات اسماعيلية، تحقيق عادل العوا، مطبعة الجامعة السورية، 1378هـ ـ 1958م، ص36.
3 الزركشي: البرهان في علوم القرآن، دار الفكر، 1408هـ - 1988م، ج2، ص187.
4 احياء علوم الدين، مصدر سابق، ج1، ص49.
5 مشكاة الانوار، ضمن مجموعة رسائل الامام الغزالي (4)، مصدر سابق، ص21-22.
6 مذاهب التفسير الاسلامي، ص259.
7 مشكاة الانوار، ضمن مجموعة رسائل الامام الغزالي (4)، ص22.
8 محمد حسن الأعظمي: الحقائق الـخفية عن الـشيعة الـفاطمية والإثنى عشرية، إعداد وتقديم الأعظمي، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1970م، ص29-30.
9 اساس التأويل، مصدر سابق، ص9 و23.
10 الحقائق الخفية، ص1 3. وايضاً: تربية المؤمنين او تأويل دعائم الاسلام، مصدر سابق، ج1، ص11.
11 مذاهب التفسير الاسلامي، ص203.
12 كوربين: تاريخ الفلسفة الاسلامية، مصدر سابق، ج1، ص42.
13 الفتوحات، مصدر سابق، ج1، ص668.
14 عن: الفصوص والتعليقات عليه، ج1، ص225.
15 مضمون هذا النص نقله الغزالي عن البعض في كتابه (احياء علوم الدين، ج1، ص284).
16 الفتوحات المكية، مصدر سابق، ج3، ص93.
17 عبد الكريم الشهرستاني: الملل والنحل، مصدر سابق، ص64.