يحيى محمد
لقد نالت ظاهرة ما أُطلق عليه (الشطح الصوفي) إهتماماً بالغاً لدى أصحاب العقل من الوجوديين. فهي ظاهرة مُعدّة من صميم السلوك العرفاني، إذ ما من عارف إلا وله شطحاته الخاصة التي يجد فيها نفسه مندكاً في الوجود الحق الواحد. وهو أمر طالما أثار حفيظة أولئك الذين التزموا بالسلوك العقلي حتى من الإشراقيين، إذ رفضوا هذا المعطى من الإدراك وحسبوه حسباناً يمتّ إلى الوهم والتخيل، أو أنهم وجهوا شطحات زملائهم وجهة أخرى مؤوّلة. أما عند العرفاء أنفسهم فإنهم لم يشكّوا أبداً في صدق الإدراك الذي يتحدث عنه إخوانهم، وإن كان الكثير منهم يرى أن عيبه هو إظهاره على طرف اللسان.
فالجرجاني في (التعريفات) يعتبر «الشطح عبارة عن كلمة عليها رائحة رعونة ودعوى، تصدر من أهل المعرفة باضطرار واضطراب، وهو زلات المحققين، فإنه دعوى حق يفصح بها العارف لكن من غير إذن إلهي»1. وكذا هو رأي إبن عربي الذي اعتبره كلمة صادقة صادرة من رعونة نفس، يبعد صاحبها عن الله في تلك الحال2، الأمر الذي جعل طريقته تتصف بالغموض، فهي ميّالة إلى التلويح والرمز طبقاً للمقولة الرائجة (افشاء سر الربوبية كفر)3، وهي المقولة التي ينصّ عليها إبن عربي نفسه4. وكما قال: «فأنا الآن أبدي، وأعرض تارة، وإياك أعني فاسمعي يا جارة. وكيف أبوح بسر، وأبدي مكنون أمر، وأنا الموصى به غيري في غير موضع من نظمي ونثري؟ نبّه على السر ولا تفشه. فاصبر له واكتمه حتى يصل الوقت. فمن كان ذا قلب وفطنة شغله طلب الحكمة عن البطنة، فقف على ما رمزناه وفك المعمى الذي ألغزناه. ولولا الأمر الإلهي لشافهنا به الوارد والصادر، وجعلناه قوت المقيم وزاد المسافر، ولكن جفّ القلم بما سبق في القِدم..». وقال أيضاً: «فإن مذهبي، في كل ما أورده، أنني لا أقصد لفظة بعينها دون غيرها، مما يدل على معناها إلا لمعنى. ولا أزيد حرفاً إلا لمعنى، فما في كلامي بالنظر إلى قصدي حشو، وإن تخيله الناظر، فالخلط عنده في قصدي، لا عندي»5.
وقال بعض العارفين كما ينقل إبن عربي: من صرح بالتوحيد وافشى سر الوحدانية فقتله أفضل من إحياء عشرة. وقال بعضهم للربوبية سر لو ظهر لبطلت النبوة، وللنبوة سر لو كشف لبطل العلم، وللعلماء بالله سر لو ظهر لبطلت الأحكام، فقوام الإيمان واستقامة الشرع بكتم السرية6.
وكثيراً ما ينسب العرفاء أبياتاً من الشعر للإمام زين العابدين علي بن الحسين تفيد كتمان سر الإعتقاد، كالتالي7:
إني لأكتم من علمي جواهرهكي لا يرى الحق ذو جهل فيفتننا
وقد تقدم في هذا أبو حسنإلى الحسين ووصى قبله الحسنا
يارب جوهر علم لو أبوح بهلقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولإستحل رجال مسلمون دمييرون أقبح ما يؤتونه حسنا
لكن في المقابل هناك من ينظر إلى الشطح نظرة ايجابية خالصة تماماً، كما هو الحال مع العارف السرّاج الطوسي الذي رأى أنه مظهر كمالٍ لا بد أن يظهر على العارف دون إرادته، بل هو «أقل ما يوجد لأهل الكمال»، وعرّفه بأن «معناه عبارة مستغربة في وصف وجْدٍ فاضَ بقوته وهاج بشدة غليانه وغلبته.. إلا ترى أن الماء الكثير إذا جرى في نهر ضيق فيفيض من حافّتيه يقال شطح الماء في النهر، فكذلك المريد الواجد إذا قوي وجْده ولم يُطق حمل ما يردُ على قلبه من سطوة أنوار حقايقه شطح ذلك على لسانه فيترجم عنها بعبارة مستغربة مشكلة على فهم سامعيها إلا من كان من أهلها ويكون متبحراً في علمها..»8.
وفي جميع الأحوال يعبّر الشطح لدى العرفاء عن صدق الإدراك الصوفي وصحته، سواء ظهر كحالة كمالية على لسان العارف، أو هو عيب ليس للعارف حق التفوّه بما يدركه من حقيقة. وكذا سواء ظهر الشطح في حالة السكر، أو في حالة الصحو مما لا يعتبر إصطلاحاً ضمن العنوان المذكور.
والشواهد على شطحات الصوفية كثيرة لا تحصى، منها تلك المنسوبة إلى أبي يزيد البسطامي (المتوفى سنة 271هـ)، كما في أقواله التالية:
ـ رفعني الله مرة فأقامني بين يديه وقال لي: يا أبا يزيد أن خلقي يحبّون أن يَرَوْك، فقلت: زيّني بوحدانيتك وألبسني أنانيتك وارفعني إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقُك قالوا رأيناك، فتكون أنت ذاك ولا أكون أنا هناك9.
ـ نظرت إلى ربي بعين اليقين.. فأراني عجائب من سرّه، وأراني هويته فنظرت بهويته إلى أنائيتي فزالت: نوري بنوره، وعزّتي بعزته، وقدرتي بقدرته، ورأيت أنائيتي بهويته وإعظامي بعظمته ورفعني برفعته. فنظرت إليه بعين الحق فقلت له: من هذا؟ فقال: هذا لا أنا ولا غيري لا اله إلا أنا. فغيرني عن أنائيتي إلى هويته، وأزالني عن هويتي بهويته وأراني هويته فرداً فنظرت إليه بهويته. فلما نظرتُ إلى الحق بالحق رأيت الحق بالحق، فبقيت في الحق بالحق زماناً لا نفس لي ولا لسان ولا إذن لي... فنظر اليّ بعين الجود فقوّاني بقوته وزينني وتوّجني بتاج كرامته على رأسي، وأفردني بفردانيته ووحدني بوحدانيته ووصفني بصفاته التي لا يشاركه فيها أحد. ثم قال لي: توحد بوحدانيتي، وتفرّد بفردانيتي، وارفع رأسك بتاج كرامتي، وتعزز بعزتي، وتجبّر بجبروتي، واخرج بصفاتي إلى خلقي أر هويتي في هويتك. ومن رآك رآني، ومن قصدك قصدني، يا نوري في أرضي وزينتي في سمائي. فقلتُ: أنت عيني في عيني، وعلمي في جهلي، كن أنت نورك تُرَ بك، لا اله إلا أنت10...
ـ انسلخت من نفسي كما تنسلخ الحيّة من جلدها، ثم نظرت إلى ذاتي فإذا أنا هو11.
ـ كنتَ لي مرآة فصرت أنا المرآة12.
ـ وجاء عن البعض أنه دقّ رجل على أبي يزيد باب داره فقال له: من تطلبه؟ فقال: أطلب أبا يزيد. فقال مُرَّ ويحك فليس في الدار غير الله13.
ـ طاعتك لي يا رب أعظم من طاعتي لك14.
ـ بطشي أشد من بطشه بي15.
ـ لأن تراني مرة خير لك من أن ترى ربك ألف مرة16.
ـ تا الله أن لوائي أعظم من لواء محمد، لوائي هو من نور تحته الجن والانس كلهم من النبيين17.
ـ وقيل أن أبا يزيد سمع رجلاً يقول: عجبت ممن عرف الله كيف يعصيه، فقال: عجبت ممن عرف الله كيف يعبده18.
تلك هي جملة من الشواهد التي تنقل عن شطحات أبي يزيد البسطامي. وهناك عرفاء غيره اشتهرت عنهم شطحات أخرى لا تقل عن تلك التي أوردناها. وعلى رأسهم الحسين بن منصور الحلاج (المتوفى سنة 309هـ) الذي من شطحاته قوله: «فالحقيقة حقيقة، والخليقة خليقة، دع الخليقة لتكون أنت هو، وهو أنت من حيث الحقيقة»19. وقوله: «أنا الحق». وقد حاول أن يوجّه كلامه هذا توجيهاً مخففاً معتمداً في ذلك على القرآن الكريم، إذ قال: «ومن العجب لم يسمعوا كلام الله تعالى من الشجرة بأني أنا الله لا اله إلا هو، ويقولون قال الله تعالى كذا ولا ينسبونه إلى الشجرة، وانهم يسمعون من شجرة وجود إبن منصور الحلاج: أنا الحق، ويقولون قال إبن منصور كذا، ولا يقولون أن الله قال كذا على لسان الحلاج». ومبرر هذا النوع من التوحيد عند الحلاج هو لأن «العبد إذا وحد ربّه فقد أثبت نفسه، ومن أثبت نفسه فقد أتى بالشرك الخفي، وإنما الله تعالى هو الذي وحد نفسه على لسان من شاء من خلقه». لذلك فهو يرى نفسه ليس (الحق) بل هو (حق) أو (سر الحق):
أنا سر الحق ما الحق أنابل أنا حق ففرِّقْ بيننا20
وللحلاج رسالة كتبها إلى بعض تلامذته يقول فيها: السلام عليك يا ولدي ستر الله عنك ظاهر الشريعة وكشف لك حقيقة الكفر، فإن ظاهر الشريعة كفر خفي وحقيقة الكفر معرفة جلية. واعلم أن الله تعالى تجلى على رأس ابرة لمن شاء وتستر في السماوات والأرضين عمن شاء، شهد أنه لا هو وشهد ذلك أنه غيره، فالشاهد بإثباته والشاهد على نفيه غير مذموم. والمقصود من هذا الكتاب أن أوصيك أن لا تغتر بالله ولا تيأس منه ولا ترغب من محبته ولا ترض أن تكون له غير محب ولا تقل بإثباته ولا تمل إلى نفيه واياك والتوحيد والسلام21.
وله بيت شعر يفيد هذا المعنى، يقول فيه:
كفرتُ بدين الله والكفر واجبلدي وعند المسلمين قبيح22
ومن أبياته الشطحية قوله:
سبحان من أظهر ناسوتهسر سنى لاهوته الثاقب
حتى بدا في خلقه ظاهراًفي صورة الآكل والشارب23
وقوله أيضاً
مزجت روحك في روحي كماتمزج الخمرة بالماء الزلال
فاذا مسك شيء مسنيفاذا أنت أنا في كل حال24
وكذا قوله:
أنا من أهوى ومن أهوى أنانحن روحان حللنا بدنا
فاذا أبصرتني أبصرتهواذا أبصرته أبصرتنا25
ومن الشطحات الأخرى قول الشبلي (المتوفى سنة 334هـ): «ما في الجنة أحد سوى الله»26. وقوله: «أنا أقول وأنا أسمع، فهل في الدارين غيري»27، وقوله أيضاً: «لو خطر ببالي أن الجحيم بنيرانها وسعيرها تحرق مني شعرة لكنتُ مشركاً»28. وكذا ما قاله العارف أبو سعيد أبو الخير لصديقه إبن سينا: «ما دامت المساجد والمدارس لم تُهدم هدماً تاماً، فسوف لا ينجز الدراويش عملهم، وما دام الكفر والإيمان لم يتشابها ولم يتماثلا تماماً، فما من رجل يكون صحيح الإسلام والإيمان»29. وأيضاً ما قاله فريد الدين العطار (المتوفى سنة 586هـ): «أقول لك السر. اعلم يا أخي أن النقش هو النقّاش، أنا الحق، أنا الله..»30. كما نُسب إلى العارف عفيف الدين التلمساني (المتوفى سنة 690هـ) وهو من مريدي إبن عربي، قوله: «القرآن كله شرك ليس فيه توحيد، وإنما التوحيد في كلامنا..»31.
***
كانت مثل تلك الشطحات - سيما ما يتعلق بدعاوى الحلول والإتحاد - محور الصراع الدائر بين ذوي الكشف وذوي العقل. ففي الوقت الذي ينكر فيه أصحاب الكشف مقدرة العقل على تخطي إدراك طور ما هو فوقه، يرى العقليون أن مهامهم الأساسية هي تعقيل الكشف بإضفاء نظام السببية على الرؤية الوجودية للمشاهدة الصوفية، وهو ما جعل موقفهم من الشطحات سلبياً. فهم تارة يحسبونها أوهاماً يتخيلها العارف لإنبهاره بنور الحقيقة التي يراها، وأخرى يأولون مضمونها من العبارات الشنيعة «المستغربة» فيحولونها من نظام اللاسببية إلى نظام السببية الذي يدين له العقل بالإعتراف والتصديق، كما يتضح من المحاولات العديدة التي قام بها الغزالي عند مواجهته هذه المشكلة لدى العرفاء. فهو يعي أن قطع صلة الكشف بالعقل والتعليم يعني السقوط في دائرة نظام اللاسببية الناتج عن دعاوى شطحات الحلول والإتحاد ووحدة الوجود الشخصية. لذلك حرص على التمسك بالعقل، فهو الوسيلة الوحيدة التي تصحح حالات الكشف وشطحاته، الأمر الذي أعابه عليه إبن عربي واعتبره «زلة قدم»، لأنه يعي هو الآخر أن ما كان يرومه - الغزالي - هو إدخال الوجود تحت سلطة نظام السببية الدال على الثنائية لا الوحدة.
لقد وضع الغزالي العقل موضع الميزان في معرفة ما هو ممكن وما هو مستحيل من دعاوى الكشف. فمثلاً أن تحديد المكاشف لوقت موت فرد من الناس هو مما لا يحيله العقل، رغم أنه يعجز عن إثباته وإدراكه مستقلاً. كذلك فإن المكاشفات الدالة على رؤية ملكوت السماوات والأرض والملائكة وأرواح الأنبياء وسماعهم، هي أيضاً مما يصح ويصدق. أما ما يمتنع عند العقل، فهو أن تكون هناك دعوى تقول: إن الله تعالى يخلق مثله، أو أنه يحل في الأفراد أو يتحد معهم32.
من هنا اعتبر الغزالي أن مقالات الإتحاد والحلول والوصول هي مقالات باطلة ناتجة عن التخيل لشدة استغراق العارف وقربه وهو في حالة السكر والوجد، سيما عندما لا تكون له قدم راسخة في المعقولات تمكّنه من التمييز بين ما هو ممكن وما هو مستحيل. فهو يترقى «من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق، فلا يحاول معبّر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الاحتراز عنه. وعلى الجملة، ينتهي الأمر إلى قرب يكاد يتخيل منه طائفة الحلول وطائفة الإتحاد وطائفة الوصول، وكل ذلك خطأ.. بل الذي لابسته تلك الحالة لا ينبغي أن يزيد على أن يقول: وكان ما كان مما لستُ أذكره، فظنْ خيراً ولا تسأل عن الخبر»33.
لكن الغزالي يعي بأن مصدر هذا التخيل والاشتباه يعود أساساً إلى إعتبارات الشبه والسنخية بين ذات العارف وذات الله، سيما وأن الأول مخلوق على صورة الثاني، فلهذه المشابهة بينهما يظن العارف أنه ذات الحق، فيشطح بمقولة «أنا الحق». ذلك أن «الله يتجلى ظاهراً من جهة أفعاله، ولكنه يظل باطناً لشدة ظهوره، وعندئذ لا يظهر إلا للعقل لا للحواس، وإذا فهم الذوق هذا الفهم لم يكن هناك ما يدعو العقل لإنكاره.. فإن من ليس له قدم راسخ في المعقولات ربما لم يتميز له أحدهما عن الآخر - ذات الله وذاته - فينظر إلى كمال ذاته وقد زيّن بما تلألأ فيه من حلية الحق، فيظن أنه هو فيقول أنا الحق». وهو نفس الوهم الذي سبق أن وقع فيه النصارى وهم ينظرون إلى المسيح «فرأوا إشراق نور الله قد تلألأ فيه فغلطوا فيه، كمن يرى كوكباً في مرآة، أو في ماء فيظن أن الكوكب في المرآة أو في الماء فيمدّ يده إليه ليأخذه وهو مغرور»34.
لذلك كان العلاج الوحيد الذي يراه الغزالي لمثل هذه المشكلة من الوهم هو العودة إلى «سلطان العقل الذي هو ميزان الله في أرضه»، فلو أن العرفاء رجعوا إليه بعد وجدهم وسكرهم لعلموا «أن ذلك لم يكن حقيقة الإتحاد بل شبه الإتحاد، مثل قول العاشق في حال فرط عشقه: أنا من أهوى ومن أهوى أنا...»35. مما يعني أن التمايز بين أهل الشطح وأهل العقل هو تمايز قائم على نوع علاقة الشبه، إن كانت وحدوية لا عقلية أو ثنائية عقلية.
ولم يكتف الغزالي بهذا، فله أيضاً بعض التبريرات والتوجيهات التي تمس جُمل العرفاء الشطحية. فهو يرى أنهم اضطروا إلى تلك العبارات مبالغة في التوحيد كي لا يقعوا في الشرك، فبعضهم قال «ما في الجبة إلا الله»، وبعض آخر قال «سبحاني سبحاني ما أعظم شأني»، كل ذلك كي لا يكون هناك فرق، فلو «قلنا سبحان الله، فمعناه نفي الشريك ولا يكون النفي إلا مع توهم الشريك. فالموحدون منهم بلغ بهم التوحيد إلى أن رأوا التبري منه سوء أدب». ومع ذلك فالغزالي يرى أنه لا معنى لهذا الهرب من إنساب الكلام لله والنطق به، إذ وقع العرفاء بما هو أشد من سوء الأدب ذاك، فمثلهم كمثل الفلاسفة الذين زعموا «ان الباري تعالى لا يقال له موجود فإن ذلك يؤدي إلى دخوله مع الموجودات تحت الجنس»، مع أن هذا القول هو «نفي معنى» لوجوده36.
وهناك محاولة أخرى اعتمدها الغزالي لتوجيه بعض العبارات الشطحية وتأويلها. فهو يرى أنه «قد أخطأ من قال أنا الحق إلا بأحد تأويلين أحدهما أن يعني أنه بالحق، وهذا التأويل بعيد لأن اللفظ لا ينبئ عنه ولأن ذلك لا يخصه، بل كل شيء سوى الحق فهو بالحق. التأويل الثاني أن يكون مستغرقاً بالحق حتى لا يكون فيه متسع لغيره وما أخذ كلية الشيء واستغرقه فقد يقال أنه هو هو كما يقول الشاعر: أنا من أهوى ومن أهوى أنا. ويعني به الاستغراق، وأهل التصوف لما كان الغالب عليهم رؤية فناء أنفسهم من حيث ذاتهم كان الجاري على لسانهم من أسماء الله تعالى في أكثر الأحوال هو الحق لأنهم يلحظون الذات الحقيقية دون ما هو هالك في نفسه..». وبهذا يصدق عليهم قول الشاعر:
رقّ الزجاج وراقت الخمرفتشابها فتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدحوكأنما قدح ولا خمر37
وقريب من المعنى الأخير ما ذكره القونوي الذي أحال الإتحاد والحلول في بعض رسائله، إذ لا يوجد إلا وجود واحد هو الحق المطلق، أما الأشياء فهي موجودة به معدومة بنفسها. لهذا فقد وجّه مقالة الصوفية في الإتحاد بمعنى شهود الوجود الحق الذي به الكل موجود، إذ «يتحد به الكل من حيث كون كل شيء موجوداً به ومعدوماً في نفسه، لا من حيث أن له وجوداً خاصاً اتحد به الكل، فإنه محال»38.
وهناك من قدّم العذر لأصحاب الشطحات كما هو حال إبن خلدون الذي اعتبرهم أهل غيبة عن الحس، فالواردات تملكهم حتى ينطقوا بما لا يقصدون. وعلى رأيه أن صاحب الغيبة غير مخاطب والمجبور معذور39.
أما لدى العرفاء أنفسهم فالأمر لا يستحق مثل هذه التخريجات والتأويلات التي اصطنعها لهم الغزالي - وغيره - كدفاع عن منطق العقل في نظام السببية. فهم يثبتون هذه المعاني الصوفية ويدافعون عنها. فبعضهم لا يعيب على أصحاب الشطح مقالاتهم، كما هو الحال مع العارف الشيخ أحمد الطيب الذي يقول: فمن قال أنا الله، علينا أن نسلم ونستسلم له، فإنه نور من ربه. وقد قال عبد الكريم الجيلي:
فصرت أنا هي، وهي صارت كذا أناومن بيننا كاف المخاطب ضائع40
كما استعان بعض بشاهد كمثال لتقريب المعنى على صدق عبارات أصحاب الشطح، كما هو الحال مع العارف حيدر الآملي الذي يقول: «قد ضرب أهل الله.. مثالاً لطيفاً لئلا يتوهم الجاهل أن كلامهم ليس له تحقيق، وهو أنهم قالوا نفرض هناك ناراً موصوفة بالضوء والاحراق والحرارة والانضاج وغير ذلك، ونفرض بازائها فحماً موصوفاً بالظلمة والكدورة وعدم الحرارة والانضاج، ثم نفرض أنه حصل لهذا الفحم قرباً إلى تلك النار بالتدريج واتصف بجميع صفاتها فصار ناراً، وحصل منه ما يحصل من النار، وبل صار هو هي، أفلا يجوز له أن يقول أنا النار؟ كما قال العارف أنا الحق. ومعلوم أنه يجوز لأنه صادق في قوله، وفيه قيل: أنا من أهوى ومن أهوى أنا»41.
حتى أن بعض من اشتهر بنزعته الفلسفية اقترب أيضاً من هذا المعنى، تاركاً العقل ونظام السببية وراءه، كما هو الحال مع نصير الدين الطوسي الذي فسّر شطحة أبي يزيد البسطامي «سبحاني سبحاني ما أعظم شأني» وشطحة الحلاج «أنا الحق» بأن «أياً منهما لم يدّع دعوى الإلهية، بل دعوى نفي أنيته ليثبت أنية غيره، وهو المطلق»42.
1الجرجاني: التعريفات/ مادةشطح.
2الشيخالأكبرمحيالدينبنالعربي،ص8.
3مفاتيحالغيب،ص547. والاحياء،ج4،ص174.
4رسالةإلىالإمامالرازي،ضمنرسائلإبنعربي،ج1،ص10.
5كتابشقالجيببعلمالغيب،ضمنرسائلإبنعربي(1)،ص339ـ340. ودراساتفيالفلسفةالإسلامية،ص257 و261.
6رسالةإلىالإمامالرازي،ص10. كذلك: الفتوحاتالمكية،طبعةدارإحياءالتراث،ج2،ص469.
7لطائفالعرفانص122. وابراهيمبنعبداللهالقارئالبغدادي: مناقبإبنعربي،تحقيقصلاحالمنجد،مؤسسةالتراثالعربي،1959م،ص79. وأحمدبنزينالدينالاحسائي: شرحالزيارةالجامعةالكبيرة،دارالمفيد،الطبعةالأولى،1420هــ1999م،ج3،ص214.
8اللمعللسراجالطوسي،ص357ـ376 و380.
9المصدرالسابق،ص382.
10عبدالرحمنبدوي: شطحاتالصوفية،وكالةالمطبوعاتفيالكويت،الطبعةالثالثة،1978م،ج1،ص175ـ177.
11المصدرالسابق،ص100.
12المصدرالسابق،ص30.
13المصدرالسابق،ص84.
14المصدرالسابق،ص30
15المصدرالسابق،ص30.
16المصدرالسابق،ص30.
17المصدرالسابق،ص30.
18المصدرالسابق،ص109.
19الحسينبنمنصورالحلاج: كتابالطواسين،ضمنفقرةطسالصفاء،مكتبةالنفريالإلكترونية: http://alnafry.googlepages.com
20ماسينون: أخبارالحلاج،طبعةالسوربونفيباريس،1957م،ص93. كذلك: الفلسفةالصوفيةفيالإسلام،ص369 ـ371.
21رسالةإلىالإمامالرازي،ضمنرسائلإبنعربي،ج1،ص13. كذلك: أخبارالحلاج،ص63.
22نفسالمصدروالصفحةالسابقة،وأخبارالحلاج،ص99.
23إبنكثير: البدايةوالنهاية،حققهودققأصولهوعلقحواشيهعليشيري،دارإحياءالتراثالعربي،عنمكتبةيعسوبالدينالإلكترونية،ج11،ترجمةالحلاج.
24البدايةوالنهاية،نفسالمعطياتالسابقة.
25الفلسفةالصوفيةفيالإسلام،ص358.
26كاملمصطفىالشيبي: الفكرالشيعيوالنزعاتالصوفية،مكتبةالنهضة،بغداد،الطبعةالأولى،1386هــ1966م،ص233.
27شطحاتالصوفية،ص43.
28نفسالمصدروالصفحة.
29عن: العقيدةوالشريعةفيالإسلام،ص153.
30الفلسفةالصوفيةفيالإسلام،ص398.
31إبنتيمية: الفرقانبينأولياءالرحمنوأولياءالشيطان،المكتبالإسلاميفيبيروت،الطبعةالثانية،1390هـ،ص88. ورسالةالردعلىإبنالعربيوالصوفية،ضمنمجموعةرسائلشيخالإسلامإبنتيمية،مطبعةالسنةالمحمدية،الطبعةالأولى،1386هــ1949م،ص42.
32انظركتبالغزاليالتالية: المقصدالأسنى،ص76. وميزانالعمل،ص408. ورسالةروضةالطالبين،ضمنفرائداللآلي،ص141.
33المنقذمنالضلال،ص131ـ132. والاحياء،ج1،ص17.
34المقصدالأسنى،ص166. والكشفوالتبيينفيغرورالخلقاجمعين،ضمنمجموعةرسائلالإمامالغزالي(5)،دارالكتبالعلمية،بيروت،الطبعةالأولى،4141هــ4991م،ص581. كذلك: الفلسفةالصوفيةفيالإسلام،ص234. والتصوفالإسلامي،ص90.
35مشكاةالأنوار،ص57.
36رسالةمعراجالسالكين،ص72.
37المقصدالأسنى،ص61 و75.
38مرآةالعارفين،ص17ـ18.
39تاريخإبنخلدون،الطبعةالثالثة،المكتبةالمدرسيةودارالكتاباللبناني،1967م،ج1،ص881.
40عبدالقادر: الفكرالصوفيفيالسودان،دارالفكرالعربي،الطبعةالأولى،1968مـ1969م.
41حيدرالآملي: أسرارالشريعة،مقدمةوتصحيحمحمدخواجوي،مؤسسةمطالعاتوتحقيقاتفرهنگي،1983م،ص213ـ214.
42اوصافالأشرافلنصيرالدينالطوسي،عن: الفكرالشيعيوالنزعاتالصوفية،ص100.