يحيى محمد
يصور العرفاء الولاية بان لها معنى مباطناً للنبوة. فالنبوة هي ظاهر الولاية، والولاية باطنها1. او يمكن القول ان الولاية هي نوع من النبوة؛ تلك التي اطلق عليها ابن عربي (النبوة العامة)، وان النبوة هي درجة من الولاية. كما يصح القول ان للنبوة درجتين، احداهما دنيا، وهي الرسالة التي تختص في العلم بالشريعة. والاخرى هي الولاية التي تفوق الاولى درجة ومكانة. كذلك يصح عكس المسألة والقول بان للولاية درجتين، احداهما النبوة الخاصة او الرسالة، والاخرى النبوة العامة. وكما يقول ابن عربي: ‹‹النبوة والرسالة هي خصوص رتبة في الولاية على بعض ما تحوي عليه الولاية من المراتب››2. وفي هذه الحالة يكون النبي ولياً، كما يكون الولي نبياً.
ولدى تقسيم العارف حيدر الاملي فان هناك ثلاث مراتب بعضها يستبطن البعض الاخر، وهي الرسالة والنبوة والولاية. حيث ان لها ظاهراً وباطناً وباطن الباطن، اي ان لها قشراً ولباً ودهناً، فالقشر هو الرسالة، واللب هو النبوة، والدهن هو الولاية، وان الاخيرة هي باطن النبوة، وان النبوة هي باطن الرسالة. وبالتالي فان الولي باطن النبي والنبي باطن الرسول. وان كل رسول نبي، وكل نبي ولي، لكن من غير عكس، اي ليس كل نبي رسولاً، ولا ان كل ولي نبي. واعظم هذه المراتب الثلاث هي الولاية ثم النبوة ثم الرسالة، تبعاً لغور الباطن. وعلى شاكلة هذه المراتب هناك الشريعة التي هي دون الطريقة، وهذه دون الحقيقة. وكذا الوحي فانه دون الالهام3، وهذا دون الكشف. وكذا الاسلام فانه دون الايمان، وهذا دون الايقان4.
اذن لدى العرفاء ان الولاية اعظم من النبوة والرسالة. وكما يقول ابن عربي: ان ‹‹الولي فوق النبي او الرسول››5. وحيث يعظّم العرفاء الولاية قبال النبوة فانهم لا يعنون بذلك تعظيم الاولياء على الانبياء، وانما يرون ان في النبي مرتبتين احداهما باطنة وهي الولاية، واخرى ظاهرة وهي النبوة او الرسالة. ومن حيث المقارنة ذكر ابن عربي ان كون الرسل اولياء عارفين ارفع من كونهم رسلاً، فالولاية والمعرفة تحصرهم في بساط المشاهدة في الحضرة المقدسة، والرسالة تنزلهم الى العالم الاضيق ومشاهدة الاضداد ومكابدة الاسماء الالهية القائمة بالفراعنة الجبابرة. كما ان لمرتبة الولاية افضلية على مرتبة الرسالة، فمرتبة الولاية والمعرفة لها جهة حقانية، وبالتالي فهي ابدية ودائمة الوجود، ومرتبة الرسالة لها جهة خلقية، لذا فهي منقطعة غير ابدية، اذ تنقطع بالتبليغ، والفضل للدائم الباقي، وان الاولى متعلقة بالاخرة، بينما تتعلق الثانية بالنشأة الاولى الدنيوية، لان بخراب الدنيا يرتفع التكليف فلا تبقى الا الولاية. كما ان الولي العارف مقيم عنده، والرسول خارج، وحالة الاقامة اعلى من حالة الخروج6.
ومن المبررات التي ادلى بها ابن عربي في ترجيح الولاية على النبوة ما ذكره من ان الولي هو صفة من صفات الله كما جاء في النص القرآني، حيث سمى الحق نفسه (الولي الحميد)، ولم يرد من صفاته النبي او النبوة، ولهذا انقطعت النبوة والرسالة ولم تنقطع الولاية، باعتبار ان اسم الولي يحفظها، فهي ثابتة لا تزول ازلاً وابداً، اذ لو انقطعت الولاية لم يبقَ لها اسم، مع ان الولي هو اسم باق لله تعالى. وعلى عكس ذلك النبوة حيث انها من الصفات الزمانية والمكانية، لذا تنقطع بانقطاع زمن النبوة والرسالة. وللولاية من الشمول بحيث ان من درجاتها النبوة والرسالة، لكن ليس لأحد بعد النبي محمد (ص) ان يصل الى درجة النبوة الخاصة بالتشريع؛ لأن بابها مغلق، فللولاية حكم الاول والاخر والظاهر والباطن بنبوة عامة وخاصة وبغير نبوة7. على ذلك اعتبر العرفاء ان ولاية النبي محمد هي اكمل واتم واعظم من نبوته ورسالته وتشريعه.8
ومثلما انه لا بد للنبي من ولاية، فانه لا بد للولي العارف من نبوة، والا فانه غير معوّل عليه، وكما يقول ابن عربي من ان ‹‹كل ولاية لا تكون نبوة لا يعول عليها››9. وتأتي نبوة الولي العارف من حيث ان طبيعة الولاية هي نبوة عامة غير منقطعة، بخلاف الحال مع النبوة الخاصة بالتشريع، وبالتالي كان الاولياء الكاملون انبياء تابعين. اذ النبوة مقام يعطى للنبي المشرع كما يعطى لغيره من التابعين الذين يجرون على سنته، وهو باتباعه يكون قد اخذ النبوة بالاكتساب، حيث لم يأته شرع من ربه يختص به ولا شرع يوصله الى غيره، مثلما هو الحال مع هارون مقارنة مع موسى. فهذا هو معنى اكتساب النبوة، حيث يأتي بالاتباع ولا يختص بتشريع10. لذا لا يعد ابن عربي نفسه وغيره من العرفاء المسلمين الكاملين أنبياء بالمعنى الخاص الذي هم فيه مشرعون، وانما وارثين وتابعين لولاية محمد (ص). وهو في مقدمته لكتاب (فصوص الحكم) اعلن ان ما اتى به انما من محمد أمره ان يتلوه على الناس لينتفعوا به11. وصرح بان لهذه الامة اولياء اطلق عليهم انبياء الاولياء12. مما يعني انهم انبياء بالمعنى العام للنبوة، ولهم وظائف ما للنبي اذا ما استثنينا التشريع، حيث انهم يسمعون الوحي (جبريل) ويسألون النبي ويصححون الاخبار13، ولهم فوق ذلك كرامات هي معجزاتهم كاولياء مثلما للنبي معجزاته كنبي.
ولعل العرفاء مضطرون لنفي النبوة التشريعية من قائمة وظائفهم العرفانية لاعتبارات التقية، كي لا يُتهموا باستحداث اديان جديدة. والا فمن حيث الاتساق ان نبوة التشريع ليست بعزيزة عليهم طالما ان مقامهم يفوق مقام هذه النبوة نظراً لولايتهم، وانهم مطلعون على الغيب ومتصلون بالقطب الازلي للولاية، وهو الحقيقة المحمدية. فلو اخذنا بهذه الاعتبارات حقّ ان يكون كل ولي عارف نبياً، مثلما يكون كل نبي ولياً عارفاً.
لذا ينقل عن السهروردي انه كان يقول:لا أموت حتى يقال لي: قم فأنذر. كما يقال انه اشتهر عن ابن سبعين (المتوفي سنة 667هـ) انه قال: لقد تحجر ابن آمنة واسعاً بقوله: لا نبي بعدي.. فعلّق الذهبي على ذلك بالقول: إن كان ابن سبعين قال هذا فقد خرج به عن الاسلام14.
***
على ان بين الولاية العرفانية والنبوة عنصراً مشتركاً هو كشف حقائق الوجود بقوة قدسية تفوق العقل. وقد كان الغزالي يرى ان فوق العقل طوراً للكشف تشاهد فيه ارواح الانبياء والملائكة وسماع اصواتهم وغير ذلك. وذكر ابن عربي في (رسالة الانوار) ان بين النبوة والولاية ثلاثة مشتركات، احدها ان العلم عندهما هو علم من غير تعلم كسبي، والثاني ان الفعل لديهما هو فعل بالهمّة بخلاف ما جرت عليه العادة بوجود الاثر المادي في التأثير الفعلي، اي ان الفعل عندهما هو فعل خارق للعادة. أما الثالث فهو انهما يريان عالم الخيال في الحس المشهود خلافاً لسائر الناس. لكن مع هذا فانهما يفترقان بمجرد الخطاب، حيث ان مخاطبة الولي غير مخاطبة النبي. وهو يرى ان كل ولي لله فانه يأخذ بوساطة روحانية نبيه الذي هو على شريعته، ومن ذلك المقام يشهد15. لكنه في الفصوص والفتوحات ذهب الى ان الكل يأخذ من مصدر واحد.
مهما يكن فان الاعتراف بمشاركة الاولياء للانبياء بمزية العلم بالحقائق ومشاهدة عالم الخيال، وكذا التأثير على العالم الجسماني بالهمة مما يطلق عليه المعجزات والكرامات، كل ذلك يجعل من الولي تعبيراً اخر عن النبي، والعكس صحيح ايضاً، وبالتالي جاز ان لا يسد باب النبوة مثلما ان باب الولاية غير مسدود، رغم ان الولاية مكتسبة بالرياضات والمجاهدات، بخلاف النبوة الخاصة بالتشريع، حيث تأتي مباشرة من غير اكتساب.
ويظل انه بنظر العرفاء ان العارف افضل من النبي في نبوته الخاصة بالتشريع، تبعاً لفضل الولاية على النبوة الخاصة. فالولي على قسمين كما يذكر الاملي: احدهما هو الذي تكون ولايته ازلية ذاتية حقيقية، ويسمى بالولي المطلق، وهو القطب الاعظم. اما الاخر فهو الذي تكون ولايته مستفادة من ذلك الولي المطلق، ويسمى بالولي المقيد، وهو الامام او الخليفة. وكلا القسمين يرجعان الى حقيقة نبينا محمد (ص) وورثته من اهل بيته. وحيث ان النبوة مختومة من حيث الانباء فلم يبق الا الولاية من حيث التصرف في النفوس ابد الاباد، اذ يكون التصرف الى غير نهاية، فباب الولاية مفتوح وباب النبوة مسدود كالذي اطلعنا عليه. 16
فمن هذه الناحية يعتقد العرفاء الشيعة بافضلية الاولياء الائمة من اهل بيت النبوة على سائر الانبياء باستثناء نبينا محمد، وكذا يرى بعض العرفاء السنة افضلية ولاية عرفائهم على اولائك الانبياء، ومن ذلك ان ابن عربي نصّب نفسه كولي يفضل سائر الانبياء بفضل مقام تبعيته لولاية النبي (ص) على جميع سائر الانبياء والمرسلين. اذ جعل من نفسه خاتماً للاولياء على غرار خاتمية محمد للانبياء، ورأى بحسب هذه الخاتمية التابعة لنبينا محمد؛ ان كل نبي او رسول او ولي انما يرث منه العلم الباطن باعتباره خاتماً للاولياء، وهو بدوره ورثه مباشرة من نبع الفيض؛ روح محمد او الحقيقة المحمدية17. فقد اعلن بان الرسل لا تشهد العلم ‹‹الا من مشكاة خاتم الاولياء، فان الرسالة والنبوة - اي نبوة التشريع ورسالته - ينقطعان، والولاية لا تنقطع ابداً. فالمرسلون من كونهم اولياء، لا يرون ما ذكرناه الا من مشكاة خاتم الاولياء، فكيف من دونهم من الاولياء››18.
وبعبارة اخرى، تبعاً لهذه الرؤية فانه يمتنع وصول احد من الانبياء وغيرهم الى الحضرة الالهية ما لم يكن ذلك بالولاية. وهي من حيث جامعية الاسم الاعظم تكون لخاتم الانبياء، ومن حيث ظهورها بتمامها في الشهادة تكون لخاتم الاولياء، فصاحبها واسطة بين الحق وجميع الانبياء والاولياء19.
ولا شك ان هذا المعنى يعطي لخاتم الاولياء ما ليس لخاتم الانبياء من الفضل والرتبة، سواء كان الخاتم بالولاية العامة كما يتمثل بعيسى، او بالولاية الخاصة المقيدة كما يتمثل بابن عربي ذاته20. وفعلاً فان هذا الشيخ جعل خاتميته للاولياء تفضل خاتمية الرسل، او ان مقام ختمه للاولياء يعلو مقام ختم النبي للرسل، وذلك من حيث رسالته لا ولايته. فهو يتفوق على النبي (ص) كرسول مشرع، وإن كان دونه من حيث الولاية. وكما يقول: ‹‹وإن كان خاتم الاولياء تابعاً في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من الشرايع، فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا اليه، فانه من وجه يكون انزل، كما انه من وجه يكون اعلى››. وقد ايد كلامه هذا بشواهد حسية تاريخية، مثل فضل عمر في حكمه بمثل ما حكم به الله في قتل اسرى بدر، وكان رأي النبي هو العكس، وكذا ان النبي قال في تأبير النخل: ‹‹انتم اعلم بامور دنياكم››21. وكل ذلك يعود الى اختلاف المقامات، وان العارف والولي يمكنه الترقي من مقام الى مقام اخر غيره حتى يصل الى بغيته في الفناء في التوحيد الذي هو ارقى المقامات، كالذي سنتحدث عنه قريباً.
الاتحاد وتعدد مقامات الانبياء والعرفاء
لدى العرفاء ان الحقيقة الواحدة لها تنزلات متفاوتة بالكمال والنقص والعلة والمعلولية. وحقيقة الانسان لا تبعد عن هذه الاعتبارات، حيث تتضمن عدداً من المقامات المتفاوتة اعتماداً على درجة الكمال والرقي. فبحسب نظرية الاتحاد يمكن للعارف ان يترقى من مراتب العقول والنفوس الى اقصى الغايات؛ مسافراً من المحسوسات الى الموهومات ثم منها الى المعقولات حتى يتحد بالعقل الفعال بعد تكرر الاتصالات وتعدد المشاهدات22، الامر الذي يفضي الى جواز اتحاده وفنائه في ذات المبدأ الحق، فيكون له بذلك مقامات متعددة تتفاوت بالكمال، وإن كانت تتطابق في الحقيقة وفقاً لمنطق السنخية.
وكذا هو الحال مع الانبياء ومنهم نفس نبينا محمد (ص)، فكما جاء عن صدر المتألهين انه في مقام ‹‹قاب قوسين او ادنى›› عقل بسيط قرآني متحد مع المعقولات كلها، وهو قلم الحق الاول وكلمة الله التامة التي فيها جوامع الكلم كما جاء في قوله (ص): ‹‹اوتيت جوامع الكلم››. وفي مقام آخر هو لوح نفساني فيه تفاصيل العلوم وصور الحقائق المرسومة من قبل قلم الحق الفعال23. وهو في جميع المقامات تارة يأخذ الكلام عن الله مباشرة بلا واسطة ملك24، وتارة ثانية بواسطة جبريل25، وثالثة في مقام غير هذا المقام الالهي الشامخ26، واخيراً انه كان يسمع كلام الله في هذا العالم الحسي27. فعلى ذلك تكون هناك مقامات اربعة للنبي (ص) في اخذه واستماعه للكلام الالهي28.
وبسبب تلك المقامات المتفاوتة والمتفقة الحقيقة، اعتبر صدر المتألهين ان للانبياء نوعاً واقعاً بين الانسان والملك، او هو في الحد المشترك بين عالمي الملك والملكوت، فانهم كالملائكة في اطلاعهم على ملكوت السماوات والارض، وكالبشر في احوال المطعم والمشرب والمنكح، فمثلهم كمثل المرجان حيث انه كالحجر والنخل في الوقت نفسه. لذلك فسّر قوله تعالى: {ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً} الانعام/929. وبهذا استطاع فيلسوفنا ان يجمع بين اعتبار النبي (ص) كسائر الناس في صفته البشرية على ما صرحت به النصوص القرآنية وبين اعتباره غيرهم على ما هو طريقة الصوفية والعرفاء. فاعتبر النبي (ص) في قوله على ما روي عنه: ‹‹لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل›› قد اخبر عن حاله ومرتبته الباطنية، وعد هناك حالاً اخر غير ذلك المقام؛ كما جاء في بعض الآيات مثل قوله تعالى: {ما ادري ما يُفعل بي ولا بكم إن الحكم الا لله} الاحقاف/9، وقوله سبحانه: {لا اعلم الغيب ولا اقول لكم اني ملك، ولو كنت اعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء} الاعراف/18830. وقد افضى به ذلك التلفيق الى ان يأول سياق بعض الايات ويحكم بكفر من اعتبر النبي ذا حقيقة بشرية، فذكر يقول: ‹‹لا شبهة في ان نفس من هو خير الخلائق لا تساوي في الحقيقة النوعية لنفس من هو شر الخلائق.. واعلم ان الله قد حكم بكفر من قال بان نفس النبي (ص) مماثلة لنفوس سائر البشر في قوله: {ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا} التغابن/6، وقوله تعالى: {أبشراً منا واحداً نتبعه} القمر/24، واما قوله تعالى: {قل انما انا بشر مثلكم} الكهف/110، فانما ذلك بحسب هذه النشأة الظاهرة››. 31
كذلك فبحسب نظرية المقامات المتعددة علل صدر المتألهين امتناع النبي (ص) عن اجابة اليهودي الذي سأله عن معنى الروح في قوله تعالى: {ويسألونك عن الروح، قل الروح من امر ربي وما اوتيتم من العلم الا قليلاً} الاسراء/85، فعزا ذلك الى محدودية السائل وعدم استيعابه، باعتبار ان النبي وكذا العارفين اذا ما عبروا من مقام الى مقام، كإن يعبروا من عالم الروح ليصلوا الى ساحل بحر الحقيقة، فانهم سيعرفون عالم الارواح وما دونها بانوار مشاهدات صفات الجمال، واذا ما فنوا بسطوات الجلال عن انانية وجودهم ووصلوا الى لجة بحر الحقيقة فانهم يكاشفون بهوية الحق، واذا ما استغرقوا في بحر الهوية الاحدية وبقوا ببقاء الالوهية فانهم يعرفون الله بالله، فيوحدونه ويقدسونه ويعرفون به كل شيء، كما هو مسئول دعاء النبي (ص) فيما روي عنه انه قال: ‹‹ربي ارني الاشياء كما هي››32.
لهذا قام بتأويل الاية التي تقول: {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا} الشورى/52، ففسرها بانها تعني ما كنت تكتسب بالدراية والفهم صورة ما في الكتب العلمية، ولست تتعلم الايمان من معلم غير الله، ولكن جعل الله قلبك نوراً عقلياً تتنور به حقائق الاشياء ويهتدى به الى ملكوت الارض والسماء.33
ومثل ذلك قام بتأويل اية عدم تمكن موسى من رؤية الحق تبعاً لاختلاف المقامات. فالقرآن الكريم صريح في نفي إمكان الرؤية الالهية حتى بالنسبة الى الانبياء كالنبي موسى رغم مكانته الشامخة34. لكن بحسب المفاهيم الوجودية فان كل موجود يرى الحق ويشاهده بحسب وعائه الخاص. وبالتالي ان مسألة شهود الحق ورؤيته قد تثير بعض المشاكل المتعلقة بالنص الديني، وهذا ما دعا فيلسوفنا الى محاولة التوسط والتوفيق بين صراحة النص وبين مضامين تلك المفاهيم القبلية، فاجاب بان موسى انما كان يرى الحق تعالى بما هو متجل للاولياء، واراد ان يراه في صورة التجلي التي لا يدركها الا الانبياء، وحيث ان الانبياء متفاوتون في مقام المشاهدة، فبعضهم لم ينل ما يناله البعض الاخر، لذا اراد موسى ان يرى الحق سبحانه على الوجه الذي يطلبه مقامه كنبي، لانه كولي يراه دائماً ولا يمكن طلب المحصول عليه35. رغم ان هذا الجواب بعيد عن الاقناع، لان الله سبحانه قد اسند رؤيته الى استقرار الجبل، وبحسب المفاهيم الوجودية لم يكن الجبل اعظم ادراكاً من موسى حتى يسند اليه ويعول عليه. وبالتالي فما ذلك الا التأويل الذي نهى عنه هذا العارف.
ونخلص مما سبق الى ان العارف وكذا النبي والولي بامكانه الاتحاد بحسب المقامات المتعددة، لا فقط مع العقل الفعال بل حتى مع ذات الحق والفناء فيه.
فصدر المتألهين وان كان ينكر الحلول والاتحاد، فانما يريد بذلك وجود امرين مختلفين، اما مع وجود حقيقة واحدة غير متعددة فالاتحاد عنده من الضرورات العرفانية، فهو لا يعني اجتماع امرين معاً، بل هناك رقائق تذهب وتتكامل فتتحد وتفنى في الحقائق التي اعلى منها، دون ان تترك محلها خالياً، بل تنشأ ابدالها من الرقائق الاخرى لتحل مكانها وتتخذ دورها على سبيل الخلق والاعادة. وان العارف والولي يمكنه الترقي بفعل سلسلة الاتحادات فيتحول من مقام الى مقام اخر اعلى حتى يصل الى اخر المقامات، وهو مقام المعاد والفناء. رغم انه في تفسيره لسورة البقرة نفى ان يكون هناك اكثر من مقام لغير الانسان الكامل، فالملك والانسان والشيطان والحيوان وغيرها كلها ليس لها الا مقام واحد فقط، وهو ان كلاً منها يكون تابعاً لاسم الهي واحد هو ربّه الخاص لا يتعداه، اما تعدد المقامات فهي من خاصة ذلك الكامل.36
وذكر بعض المحققين من العرفاء ان الخلق اتصف اولاً بالوجود ثم العلم فالقدرة فالارادة فالفعل، وحيث ان المعاد هو عود الى الفطرة الاصلية والرجوع الى نقطة البداية، فلا بد على ذلك ان تنتفي تلك الصفات على التدريج والترتيب المعاكس. على هذا فان السالك العارف لا بد ان ينتفي منه الفعل اول الامر، فيكون تقياً زاهداً في الدنيا. ثم بعد هذا المقام لا بد ان ينتفي منه الاختيار والارادة، حيث يستهلك ارادته في ارادة الله. وبعده لا بد ان تنتفي عنه القدرة حتى لا يرى لنفسه حولاً ولا قوة وقدرة مغايرة لقوة الحق وقدرته، فيكون في مقام التوكل والتفويض. وبعده لا بد ان تنتفي منه صفة العلم لاضمحلال علمه في علم الله، وهو مقام التسليم. ثم بعد ذلك لا بد ان ينتفي وجوده فيكون في وجود الله حتى لا يكون له في نفسه عند نفسه وجود، وهو مقام اهل الوحدة والذي هو اجل المقامات وافضلها، حيث انه عبارة عن الفناء في التوحيد37. وبذلك تكون مقامات الانبياء والعرفاء مقامات منبسطة بانبساط الوجود الواحد مثلما قدمنا.
***
إذاً بحسب الرؤية الوجودية، يتجسد الاله في النبوة بكل ما يحمله من علم وفعل. فمن حيث العلم ان العلم الالهي شامل لكل شيء، وكذا هو حال العلم في النبوة، فلها هذا المعنى الشمولي، وذلك بما تمتلكه من العقل الفلسفي كما يصوره لنا الفلاسفة في اتصال النبي بالعقل المفارق الفعال، او بما لديها من العقل العرفاني كالذي يصوره لنا العرفاء في جعل النبوة بمنزلة العقل الاول او الروح الاعظم.
أما من حيث الفعل فيمكن القول ان الالوهة في النبوة بادية الظهور. فهي لدى التصور الفلسفي نابعة عن اتصال النبي بالعقل المفارق الفعال، وهو اله البشر الذي يتوسط بالنيابة عن المبدأ الحق38، ومنه يكتسب النبي القدرة على الخلق والتكوين كما يظهر ذلك في صنع المعاجز والكرامات. وتبلغ الالوهة اوجها عند القول باتحاد النبي مع العقل الفعال، حيث يكون هذا هو ذاك؛ مثلما يصرح به بعض الفلاسفة احياناً. أما لدى التصور العرفاني فالامر اعمق من السابق، فالالوهة بحسب التصور الفلسفي لا تتجاوز حدود العقل الفعال الاخير، لكنها في المعنى العرفاني تندك في الوسيط الذي تقوم به الخلائق كلها، وهو المعبر عنه بالاله الصانع والوجود المنبسط والفعل الشامل والحق المخلوق به والمشيئة الالهية واسم الله الاعظم ومسمى الله وغير ذلك.
وبحسب الفهم الوجودي ان الوظيفة الجوهرية للنبوة ليست معيارية كالتي تتعلق باصلاح الناس في سلوكهم واخلاقهم ومعاملاتهم الفردية والاجتماعية، بل هي وظيفة وجودية حتمية تتعلق بكل من العلم والايجاد تبعاً لسلسلة مراتب الوجود، فغرضها امداد التنزلات العلمية وايصالها الى النفوس البشرية حتى يتم لها السعادة بفعل الفيض العلمي الذي تقتبسه من فوق، وهي من هذه الناحية مختصة بتكميل النوع البشري39. فهي تلعب دور الوسيط العلمي في ربط النفوس بالعالم العلوي. وهي من حيث العلم تحكي السيرة الذاتية لطبيعة المبدأ الحق، كما انها من حيث الفعل تحاكي ما يقوم به هذا المبدأ من ايجاد العالم والتأثير فيه. لكن لما كانت السيرة الذاتية للمبدأ الحق هي العلم بذاته، وان هذا العلم سبب الايجاد والصنع، لذا فالنبوة هي على هذا النحو من السيرة، اي انها علم وايجاد. وهي من حيث كونها علماً فانها تؤثر وتوجد. فالنبي - اذن - عالم بالموجودات وصانعها بقدر ما له من العلم بها.
وبعبارة اخرى ان اتصال الفلاسفة والعرفاء بالعلة التكوينية للعالم، والتي هي لدى الفلاسفة عبارة عن العقل الفعال الاخير، ولدى العرفاء عبارة عن العقل الاول وما شاكله.. يجعل منهم الهة في العلم والتكوين، اذ يعرفون كل شيء، وبوسعهم خلق كل شيء، وذلك من منطلق ان العلم هو علة الايجاد والتكوين، او من منطلق ان الاتصال بالعلة يكسب المتصل صفاته الشبيهة، الامر الذي يوظفون به ما يروى: (عبدي اطعني تكن مثلي تقل للشيء كن فيكون). فكيف بالقائلين بنظرية الاتحاد، اذ يصبح العارف والفيلسوف هو ذاته عبارة عن ذلك العقل الذي هو علم بكل شيء، وفعله سار في كل شيء.
1 شرح الفصوص، ص238. ومطلع خصوص الكلم، ج1، ص124.
2 شرح الفصوص، ص493.
3 لدى الغزلي مفاضلة اخرى معاكسة بين الوحي والالهام، تبعاً للاصطلاح التقليدي لهما. فهو يقول: >لم يفارق الوحي الالهام في شيء من ذلك، بل في مشاهدة الملك الملقي للعلم، فان العلم انما يحصل في قلوبنا بواسطة الملائكة< (الغزالي: ميزان العمل، حققه وقدم له سليمان دنيا، دار المعارف، مصر، الطبعة الاولى، 1964م، ص221).
4 جامع الاسرار، ص385-386.
5 شرح الفصوص، ص492.
6 كتاب القربة، من رسائل ابن عربي، ج1، ص8-9. وكتاب مقام القربة، ضمن رسائل ابن عربي (1)، ص242. ومطلع خصوص الكلم، ج2، ص139-143. وجامع الاسرار، ص386 و389.
7 الفتوحات، ج3، ص100. ومطلع خصوص الكلم، ج1، ص243.
8 شرح الفصوص، ص492. ومطلع خصوص الكلم، ج2، ص139-140.
9 رسالة لا يعول عليه، من رسائل ابن عربي، ج1، ص10.
10 الفتوحات، مصدر سابق، ج2، ص6. ويقول الجندي في هذا الصدد: ‹‹لما كانت النبوة نسبة بين الخلق والنبي فهي منقطعة ولا بد، اي لا ينزل الملك الى احد بعد رسول الله (ص) بشريعة مخالفة لهذه الشريعة ابداً، فهي منقطعة لذلك. واما الولاية فغير منقطعة، لان الاخذ عن الله والقاؤه وتجليه وتعليمه واعلامه والهامه غير منقطعة ابداً عن اولياء الله، لان الله سمى نفسه بالولي الحميد، ولم يسم بالنبي ولا الرسول›› (شرح الفصوص، ص239-240).
11 شرح فصوص الحكم، ص109 و111 و112. وفصوص الحكم والتعليقات عليه، ج1، ص47.
12 الفتوحات، دار احياء التراث العربي، ج1، ص203.
13 الفتوحات، مصدر سابق، ج1، ص203-204.
14 الفلسفة الصوفية في الاسلام، ص547 و586. وفي رواية اخرى انه قال:لقد زرب ابن آمنة حيث قال: لا نبي بعدي (عن: درء تعارض العقل والنقل، ج1.).
15 رسالة الانوار، من رسائل ابن عربي، ج1، ص15-16.
16 اسرار الشريعة، ص99-100.
17 الفصوص والتعليقات عليه، ج2، ص24-25 ، وج 1، الفص الثاني، ص62.
18 شرح الفصوص، ص238 و231. ومطلع خصوص الكلم، ج1، ص243-244.
19 مطلع خصوص الكلم، ج1، ص243.
20 شهد الشيخ الأعرابي في الفصوص وغيره من الكتب على نفسه وعلى النبي عيسى بختم الولاية، اذ عدّ نفسه خاتم الأولياء بالولاية الخاصة، وان عيسى هو خاتمهم بالولاية العامة، فذكر انه اجتمع مع جميع الأنبياء حين أقام بقرطبة حيث بشّره هود بأن الأنبياء اجتمعوا لتهنئته على ختمه للولاية. وهو في الفتوحات شهد لعيسى بالولاية العامة ولرجل في عصره ادعى انه شاهده وجالسه، وقد عده اقل رتبة من عيسى (الفتوحات، مصدر سابق، ج1، ص243).
21 شرح الفصوص، ص240-241. ومطلع خصوص الكلم، ج1، ص244-245.
22 مقدمة رسائل فلسفي، ص4.
23 اسرار الايات، ص13.
24 كما قال سبحانه: {ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين او ادنى، فأوحى الى عبده ما اوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى، أفتمارونه على ما يرى} النجم/ 8-12.
25 كما في قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحي، علّمه شديد القوى ذو مرّة فاستوى، وهو بالافق الاعلى} النجم/ 3-7.
26 كما في قوله تعالى: {ولقد رآه نزلة اخرى، عند سدرة المنتهى، عندها جنة المآوى، اذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى، لقد رأى من آيات ربه الكبرى} النجم/ 13-18.
27 كما في قوله عز وجل: {وانه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين، وانه لفي زبر الاولين} الشعراء/ 192-196.
28 اسرار الايات، ص53.
29 اسرار الايات، ص154-155.
30 اسرار الايات، ص172-173.
31 اسرار الايات، ص143-144.
32 اسرار الايات، ص105-106. كذلك: التفسير الكبير (مفاتيح الغيب) للفخر الرازي، ج، سورة الاسراء، تفسير اية ويسألونك عن الروح. وقد ورد الدعاء بصيغة: ارنا الاشياء كما هي.
33 اسرار الايات، ص18.
34 مثلما جاء في قوله تعالى: {قال ربي ارني انظر اليك، قال لن تراني، ولكن انظر الى الجبل فان استقر مكانه فسوف تراني، فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً} الاعراف/ 143.
35 مفاتيح الغيب، ص191.
36 تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج3، ص411-412.
37 اسرار الايات، ص224-225.
38 السياسة المدنية، طبعة انتشارات الزهراء، ص80.
39 شواكل الحور في شرح هياكل النور، مصدر سابق، ص246.