يحيى محمد
من المبرر له أن يكون الإشتراك في المولّد المعرفي لكل من الفلسفة والعرفان قادراً على جعل جهازيهما جهازين متكاملين. فالرؤية التي ينتجها أحدهما تكاد تكون متماثلة مع الأخرى. إذ الإختلاف الذي سبق أن حددناه بينهما - والقائم بين نظام السببية واللاسببية، أو المثنوية والوحدة - هو إختلاف قابل للتلاشي والاختراق، إلى الحد الذي يمكن للوجودي أن ينقلب فيه من رؤية إلى منافستها. فهناك شعرة قصيرة بين الرؤيتين قابلة للقطع لأدنى سبب ومناسبة، وهو ما يفضي بالجهازين مما يبدو عليهما من نزاع وصراع إلى التعاون والتكامل، بحيث أن الرؤية لدى أحدهما تجر إلى الأخرى أو تتممها، بلا تنازع ولا إختلاف. ورغم ما يبدو لدى البعض بأن هناك إختلافاً جذرياً بين المشربين، فإن التدقيق في الأمر يجعل المرء يذعن إلى الوحدة والإتفاق بينهما طبقاً للمولّد المشترك.
وقديماً كان افلوطين يعرض أفكاره بحسب الطريقة العقلية، لكنه مع هذا لا يتخلى أحياناً عن نزعته العرفانية. فليس فقط أن الكثير من آرائه كان مقتبساً من عرفانيات نومانيوس، كما اتهمه على ذلك تلامذته1، بل كذلك أنه لم يتخلّ عن العرفان كمنهج وطريقة، فله مكاشفاته عن النفس عند خلوته بنفسه وخلعه بدنه جانباً ثم رؤيته ذاته في حسن وبهاء وضياء، حتى ارتاضت نفسه على ذلك فارتقت واتصلت بالعالم الإلهي، كما هو قول الصوفية2.
إلا أن عملية الجمع والتكامل بين الفلسفة والعرفان غالباً ما كانت لصالح الأخير منهما. أما الفلسفة فقد كان مصيرها لا يعدو أكثر من مقدمة ممهدة له على صعيد الرؤية. فحتى الفلاسفة الذين أبدوا امتعاضاً من العرفان لم تتخلص رؤاهم من هذا المصير، ففي النهاية جعلوا فلسفاتهم لخدمة الرؤية العرفانية. فإبن باجة مثلاً يقسم المراحل المعرفية للناس فينهيها نهاية عرفانية تخص الفلاسفة، فيجعل منهم يدركون الشيء فيصيرون هم نفس هذا الشيء المدرك، أو أنهم يرون الشيء بنفسه، وذلك بعد تدرجهم من مرحلة الجمهور فمرحلة النظّار الطبيعيين حتى يصلوا أخيراً إلى مرحلة الفلاسفة3، فعند ذاك يكون الفيلسوف تام العقل، إذ ينظر إلى كل شيء بعين العقل فيرى العقل في كل شيء ويصير هو إياه، وهي السعادة القصوى4.
وبهذا فإن إبن باجة لم يعترض على العرفان إعتراضاً جذرياً من حيث الرؤية، بقدر ما كان يشترط تقدم النظر العقلي عليه كشرط أساس وطبيعي، إذ يرى أن مجاهدات الصوفية ورياضاتهم ترمي إلى تجنيد قوى النفس الثلاث (الحس المشترك والمخيلة والذاكرة) لتجتمع على صورة روحانية واحدة تظهر كأنها محسوسة، فيشاهد ما هو عجيب من فعل إجتماع تلك القوى، حيث تُرى «صور غريبة ومحسوسات بالقوة هائلة المنظر وأنفس أحسن كثيراً مما في الوجود..». لكنه مع ذلك لا يعتبر هذه المشاهدات غاية الإنسان وسعادته القصوى، بل أنه يشكك في صدقها ويرى أنها من الظنون بإعتبارها أمراً خارجاً عن الطبع5، إذ لا بد من استكمال التدرج العقلي الذي يتحقق به إتحاد العقل بما يدرك ويصير هو إياه، مما ينتج عنه السعادة القصوى. وبذلك فإن إبن باجة قد وقع في نفس مستنقع العرفان ولو بصورة «خجولة» غير معلنة. فعملية الإتحاد ما زالت تنتظم انتظاماً مضاداً للانتظام العقلي بإعتبارها تعني خرقاً لقانون السببية في حفظ مراتب العلة والمعلول.
وحال إبن رشد لا يختلف عن حال سابقه إبن باجة، فهو أيضاً يؤيد طريقة هذا الأخير ويعتبرها برهانية. فمؤاخذاته على العرفان هو لكونه لم يتخذ السلوك الطبيعي للتدرج العلمي، وبالتالي يرى - هو الآخر - أن العقل والتعليم شرط طبيعي للوصول إلى حالة الإتحاد كغاية قصوى، وهو يذكر بأن «هذه الحال من الإتحاد هي التي ترومها الصوفية، وبيّن أنهم لم يصلوها قط، إذ كان من الضروري في وصولها معرفة العلوم النظرية... ولذلك كانت هذه الحال كأنها كمال إلهي للإنسان»6. كما يقول في محل آخر: «أما الصوفية فطرقهم في النظر ليست طرقاً نظرية، أعني مركبة من مقدمات وأقيسة، وإنما يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس عند تجردها من العوارض الشهوانية واقبالها بالفكرة على المطلوب.. ونحن نقول أن هذه الطريقة وأن سلّمنا وجودها، فإنها ليست عامة للناس بما هم ناس، ولو كانت هذه الطريقة هي المقصودة بالناس لبطلت طريقة النظر، ولكان وجودها عبثاً، والقرآن إنما هو دعاء إلى النظر والإعتبار وتنبيه إلى طريق النظر»7.
وهذا يعني أن الفلسفة وإن كانت تستند إلى طريقة العقل والتفكير النظري من التعليم الكسبي، لكنها تفضي إلى نهاية عرفانية لا تنتظم ضمن منطق العقل وشروطه في حفظ مراتب العلة والمعلول. وفعلاً أن لإبن رشد رؤية عرفانية إتحادية تتجلى في نظريته الخاصة حول خلود النفس، والتي يضن بها على الجمهور والعامة. فهو يرى أن زيداً من الناس هو غير عمرو بالعدد، لكنه هو وعمرو واحد من حيث الصورة أو النفس، وهذا يعني أن نفس زيد وعمرو هي واحدة بالصورة، وإنما لحقت الكثرة العددية لهما أو القسمة بينهما من قبل المادة. ويضرب على ذلك مثلاً فيرى أنه مثلما أن الجسم ينقسم بالذات، وأن البياض منقسم بالعرض، إذ ينقسم بإنقسام الأجسام، فكذا في علاقة النفس بالبدن، أو الصورة بالمادة، فالنفس والصورة تنقسم بالعرض بإنقسام محلها من البدن والمادة. وعليه إذا فارقت النفوس الأبدان فإنها ستعود واحدة بالعدد حيث لا مادة هناك. أي أن الخلود عنده هو خلود جمعي إتحادي، مشبّهاً ذلك بالضوء، حيث ينقسم بإنقسام الأجسام المضيئة، ثم يتحد عند إنتفاء الأجسام، وكذا الأمر في النفوس مع الأبدان، إذ تتحد بإنتفاء هذه الأخيرة8.
كذلك يشير إبن رشد في نظريته عن الوجود الواحد المتعدد الرتب إلى نفس مقالة الصوفية (لا هو إلا هو)، وتكاد رؤيته العامة للوجود تمسّ المنظور الصوفي له - إن لم نقل أنها مسّته فعلاً - في الوقت الذي كانت تتبع فيه خطى طريقة الغزالي في مشاكلات المراتب الوجودية، وهي الطريقة التي تبنّاها بعده صدر المتألهين، والتي كان لها الأثر الحاسم في تغيير طريقة التعامل مع الشريعة من موقع نظرية «التمثيل» والتأويل القائم على الباطن إلى موقع آخر يعتمد على الظاهر من خلال نظرية «المشاكلة» للموجود الواحد. فإبن رشد يعتبر للشيء الواحد أطواراً ومراتب من الوجود بعضها أشرف من البعض الآخر، كما هو معلوم من أمر النفس من حيث تكاثر أطوارها مع أنها شيء واحد. فمثلاً «أن اللون نجد له مراتب في الوجود بعضها أشرف من بعض، وذلك أن أخس مراتبه هو وجوده في الهيولى، وله وجود أشرف من هذا وهو وجوده في البصر، وذلك أن هذا الوجود هو وجود للون مدرك لذاته، والذي له في الهيولى هو وجود جمادي غير مدرك لذاته، وقد تبيّن أيضاً في علم النفس أن للون وجوداً أيضاً في القوة الخيالية وأنه أشرف من وجوده في القوة الباصرة، وكذلك تبيّن أن له في قوة الذاكرة وجوداً أشرف من وجوده في القوة الخيالية، وأن له في العقل وجوداً أشرف من جميع هذه الوجودات، وكذلك نعتقد أن له في ذات العلم الأول وجوداً أشرف من جميع وجوداته، وهو الوجود الذي لا يمكن أن يوجد وجود أشرف منه»9.
فهو في هذه الطريقة التي يتبع فيها فلاسفة المشرق كالغزالي ومن على شاكلته، يدرك أنها لا تفضي فقط إلى أن يكون المبدأ الأول يمثل الموجودات كلها، بل وأنها تعني نفس ما قاله «رؤساء الصوفية (لا هو إلا هو)» كما أشار بنفسه إلى ذلك، معتبراً أن هذا الإعتقاد «هو من علم الراسخين في العلم» الذي ينبغي أن يضن به على كل من هو ليس من أهله10.
ومما له دلالة في الأمر تلك المحاورة التي جرت بين إبن رشد وهو في أواخر عمره، وبين إبن عربي وكان - آنذاك - فتى يافعاً، وهي تدلنا على نوع العلاقة التي تربط الفلسفة بالعرفان، فقد أصبح شيخ الفلسفة الكهل يستفتي فتى العرفان عن حقيقة أمره وفلسفته وما عساها أن تكون مدركة للحق واصابته، في الحال الذي يطلعه الفتى عن بقاء الروح فيها، ولكن لا بالكامل، إذ لم تدرك من الحق إلا بعضاً، فهي حية ميتة، أو أنها بين بين. إذ يقول إبن عربي: «دخلت يوماً بقرطبة، على قاضيها أبي الوليد بن رشد، وكان يرغب في لقائي، لما سمعه وبلغه بما فتح الله عليّ في خلوتي، وكان يظهر التعجب مما سمع. فبعثني والدي إليه في حاجة، قصداً منه حتى يجتمع بي، فإنه كان من أصدقائه، وأنا صبي ما بقل وجهي، ولا طر شاربي. فلما دخلت عليه قام من مكانه اليّ محبة وإعظاماً، فعانقني وقال لي: نعم؟ فقلت له: نعم؟ فزاد فرحة بي لفهمي عنه، ثم استشعرت بما أفرحه من ذلك، فقلت له: لا. فانقبض وتغيّر لونه، وشكّ في ما عنده، وقال: كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي؟ هل هو ما أعطاه النظر؟ قلت له: نعم ولا، وبين نعم ولا تطير الأرواح. فاصفرّ لونه وقعد يحوقل، وعرف ما أشرت به إليه».
ثم أن إبن عربي يتحدث عن لقائه بإبن رشد مرة ثانية فيقول: «وطلب إبن رشد من أبي بعد هذا الإجتماع أن يلتقي بنا ليعرض ما عنده علينا، لنرى أهو يوافق أم يخالف؟ فإنه كان من أرباب الفكر والنظر العقلي، فشكر الله إذ كان في زمان رأى فيه من دخل خلوته جاهلاً وخرج مثل هذا الخروج من غير درس ولا بحث ولا مطالعة ولا قراءة، وقال: هذه حالة اثبتناها وما رأينا لها أرباباً. فالحمد لله الذي أنا في زمان فيه واحد من أربابها، الفاتحين مغاليق أبوابها، والحمد لله الذي خصّني برؤيته»11.
أما عند فلاسفة المشرق فصورة التكامل بين الجهازين المعرفيين تبدو واضحة تماماً، وذلك منذ معلم الفلاسفة الفارابي وحتى خاتمهم صدر المتألهين. فالرؤية الفارابية وإن كانت فلسفية قائمة على إعتبارات العقل والتفكير النظري، إلا أنها ترتد أحياناً إلى المدخل العرفاني عبر مقالة الإتحاد الصوفية. فالفارابي وإن كان في بعض كتبه ينحى منحاً فلسفياً خالصاً فيعتبر سعادة الإنسان وكماله لا يتحققان عند بلوغ مرتبة العقل الفعال المسمى بالروح الأمين (جبريل)، بل دونه درجة، وذلك بتأمل الحقائق الأزلية فيه12.. لكنه في محل آخر يرتد إلى الإتجاه الصوفي بجعل مآل الفلسفة عبارة عن العرفان، فيقرر بأن أقصى مراتب الكمال والسعادة التي يمكن أن يبلغها الإنسان هو أن يصير في مرتبة العقل الفعال أو الروح الأمين (جبريل)، ولا يحصل ذلك إلا بمفارقة الأجسام، فلا يحتاج في قوامه إلى شيء آخر مما هو دونه كالجسم والمادة وغيرهما، وأن يبقى على ذلك الكمال دائماً13.
وتتجلى الصورة أكثر لدى إبن سينا، فهو يعترف بإتفاق العرفاء مع الفلاسفة في ما يحصل للنفس من صعود ومصير. فالفلاسفة يرون أن هذه النفس تعمل على استكمال ذاتها بكسب العلم والمعرفة، مستعينة لذلك بآلة البدن، حتى يصل كمالها إلى أن لا تحتاج لهذه الآلة فتلتحق بالعالم الإلهي وتصبح ملكاً من ملائكته في سعادة لا نهاية لها، وهي نفس الرؤية التي يراها «جماعة من أرباب الرياضة وأصحاب المكاشفة، فإنهم شاهدوا جواهر أنفسهم عند انسلاخهم عن أبدانهم واتصالهم بالأنوار الإلهية».
ويُروى أن إبن سينا التقى أبا سعيد الخير فتحدثا معاً ثم أنهما بعد أن افترقا وصف أحدهما الآخر، فقال أبو سعيد في حق إبن سينا: «إنه يعلم ما أُشاهد». في حين قال إبن سينا في حق أبي سعيد: «إنه يشاهد ما أعلم»14.. هكذا فهناك عقل يعلم وقلب يشاهد والأمر واحد.
من هنا كانت رسالة (حي بن يقظان) دعماً لهذه السبيل، فهي تشدد على وجود إتفاق تام بين الفريقين: أصحاب المجاهدة والرياضة وأصحاب العلم الكسبي والعقلي. ففي القصة التي يشرح فيها إبن طفيل الفلسفة المشرقية لإبن سينا، يدرك حي بن يقظان أنه يرى في قلبه بالكشف نفس ما يعلمه صاحبه (أبسال) بالعقل. كما أن هذا الأخير يدرك بأن ما يكسبه من علم هو نفس ما يراه صاحبه من كشف.
ولو انتقلنا إلى الغزالي، فسنرى أنه عمل على تعزيز هذه الطريقة، ففي بعض تردداته اعترف بأنه لا فرق بين علم الكشف وعلم العقل الكسبي في إدراكهما الحقيقة، رغم إختلاف طريقهما، فالعلم الأول يأتي «من داخل القلب من الباب المفتوح إلى عالم الملكوت»، بينما العلم الآخر يأتي «من أبواب الحواس المفتوحة إلى عالم الملك»، وبالتالي كان على المكتسب في الحالة الثانية أن يعمل على رفع الحجاب بنفسه عن نفسه ليصل إلى إدراك المطلوب، بينما لا يحتاج العارف في حالة الكشف إلى ذلك، إذ الله هو الذي يتكفل بهذا الأمر.
وهو في مجال الرؤية يكاد يمسّ المنظور الصوفي من موقع فلسفي، إذ لا يجعل في الوجود موجوداً سوى الله من حيث الحقيقة، أما غيره فلا هوية له من حيث الحقيقة، أو أن حقيقته هي عدم محض، وإنْ أُعتبر موجوداً من حيث نسبته إلى الموجود الحق15. وهو ما مهّد لبعض الإشراقيين من إعتبار هذه النسبة المطلق عليها «العلّية» بأنها نسبة إعتبارية، أو أن لها وجوداً من حيث الظاهر، وإن كانت الحقيقة باطناً تعبّر عن عدم وجود شيء في العين سواه. وهي الرؤية التي وظفها صدر المتألهين لتحقيق التكامل في العلاقة بين العرفان والفلسفة.
1تكوينالعقلالعربي،ص173.
2انظر: اثولوجيا،ضمن: افلوطينعندالعرب،ص22.
3رسالةاتصالالعقلبالإنسان،ضمن: رسائلإبنباجة،ص167ـ168.
4المصدرالسابق،ص168.
5رسالةالمتوحدضمنرسائلإبنباجة،ص55.
6تلخيصكتابالنفسلإبنرشد،ص95.
7إبنرشد: مناهجالأدلة،تقديموتحقيقمحمودقاسم،مكتبةالانجلوالمصرية،الطبعةالثالثة،ص150.
8تهافتالتهافت،ص26ـ30.
9تهافتالتهافت،ص228
10نفس المصدر،ص463.
11انظرهذيناللقاءينفيكلمنمقدمةالأسرارلإبنعربي،تحقيقوتقديمأحمدزكيعطيهوطهعبدالباقيسرور،دارالفكرالعربي،الطبعةالأولى،1961م،ص13ـ15. والفتوحاتالمكية،داراحياءالتراثالعربي،ج1،ص404 و702. كذلك: إبنعربيحياتهومذهبه،ص12ـ13.
12آراءأهلالمدينةالفاضلة،ص85.
13كتابالسياسةالمدنية،ص3 و6ـ7.
14الخوانساري: روضاتالجنات،تحقيقأسداللهإسماعيليان،مكتبةإسماعيليانبقم،ترجمةإبنسينا(268)،ص184.
15مشكاةالأنوار،ص60.