يحيى محمد
يتفق الفلاسفة القدماء على أن للسماء إلوهة حاكمة على عالم ما تحت القمر، لكنهم مع ذلك يختلفون في كيفية هذه الإلوهية ونوع تأثيرها. فقد كان أرسطو على خلافٍ مع من سبقه من القدماء الذين نادوا بنظرية المُثل الصورية، ومنهم استاذه افلاطون، اذ كانوا يرون أن هناك جواهر مفارقة تؤثر على عالم ما تحت القمر تأثيراً مباشراً، بحيث تكون الصور الطبيعية في عالمنا تابعة ومطيعة لها، فضلاً عن أنها على شاكلتها.وقد كان بعض شراح أرسطو مثل ثامسطيوس يرى نفس هذا الرأي، فهو يعتقد أنه إذا كان من الصحيح والمقنع تفسير ولادة الأشياء عن مثيلاتها بالنوع كالانسان من الانسان والحصان من الحصان والنار من النار، فإن ما ليس بمبرر لديه هو ولادة كائنات من غير أنواعها، كولادة بعض الزنابير من أبدان الخيل الميتة، والضفادع من العفونة، والنار من الحركة... الخ. لذلك فهو يرى أن هذا لا يُفسر إلا بافتراض وجود صور مفارقة هي التي تعطي صور تلك الأنواع من الخارج1.
ثم جاء المتأخرون من الفلاسفة المسلمين فاعتبروا المفارق الذي يعطي جميع الأنواع الطبيعية صورها الخاصة من الخارج؛ عقلاً مفارقاً، مطلقين عليه لقبـ (واهب الصور) باعتباره يفيض على كل جسم ما يناسبه من الصورة. وأعقب هؤلاء جماعة من المتأخرين قالوا بالعقول العرضية أو (أرباب الأنواع)، حيث الرجوع إلى أصل النظرية الافلاطونية، كما هو الحال عند السهروردي وأتباعه من الإشراقيين. فهذه النظرية ترى الأنواع توابع إلى أربابها، فهي بهذا تستعيد القول بوجود جواهر هي كالجواهر المحسوسة لكنها سرمدية، وأن الانسان فيها كالانسان المحسوس، وكذا سائر الكائنات الأُخرى، فهي جواهر تقع في رتبة وسط بين الجواهر المحسوسة وبين الصور المفارقة المحضة. وهي من حيث تحكمها بعالم ما تحت القمر فقد عُدّت بمثابة آلهة أو أرباب، فكما يصف أرسطو نظرية من سبقوه هذه بقوله: إن «قول هؤلاء يشبه قول الذين يزعمون أن - هناك - آلهة وأن صورهم كصور الناس»2.
وبحسب رأي أرسطو انه لو صحت هذه النظرية لأفضت إلى استحالة أن تكون في عالمنا الطبيعي علل فاعلة ومحركة، وبالتالي يصبح وجودها عبثاً3.
وقبل أن نبين نظرية أرسطو في هذا المجال ونوع اختلافها عن الطريقة السابقة ولو من خلال التوجيه الرشدي؛ يحسن أن نستعرض حدود الآراء التي قيلت في هذا الشأن كما يذكرها إبن رشد في تفسيره لما بعد الطبيعة.
في البدء، يعترف إبن رشد بأن «هذه المسألة هي في غاية من الصعوبة والعواصة». لكنه مع ذلك يقر بتسليمه بمذهب أرسطو، فهو عنده «كما يقول الاسكندر أقل المذاهب شكوكاً وأشدها مطابقة للوجود». أما المذاهب التي يذكرها بهذا الشأن فهي خمسة، منها اثنان متضادان غاية التضاد، أحدهما مذهب الكمون الذي يقول «إن كل شيء في كل شيء، وإن الكمون هو خروج الأشياء بعضها من بعض، وإن الفاعل إنما احتيج اليه في الكون لإخراج بعضها من بعض وتمييز بعضها من بعض»، بالتالي فإن الفاعل هو «ليس أكثر من محرك». أما الآخر فهو مذهب أهل الإبداع والإختراع، وهو يعتبر «أن الفاعل هو الذي يبدع الموجود بجملته ويخترعه إختراعاً، وأنه ليس من شرط فعله وجود مادة فيها يفعل، بل هو المخترع للـكل، وهـذا هو الرأي المشهور عـند المتـكلمين من أهل ملتنا» وكذلك من النصارى «حتى لقد كان يوحنا النحوي النصراني ـ يقول ـ إنه ليس ها هنا إمكان إلا في الفاعل فقط..». ويضاف إلى هذين المذهبين المتضادين هناك مذهبان آخران وسطيان، أحدهما ينقسم إلى قسمين، فيكون الجميع عبارة عن ثلاثة مذاهب وسطية، وهي بحسب ما حددها إبن رشد فإن أصحابها يتفقون على «أنهم يضعون الكون تغيراً في الجوهر وأنه لا يتكون عندهم شيء من لا شيء، أعني أنه لا بد في الكون عندهم من موضوع، وأن المتكون إنما يحدث عن ما هو من جنسه بالصورة، فالرأي الواحد منها هو رأي من يرى أن الفاعل هو الذي يخترع الصورة ويبدعها ويثبتها في الهيولى، وهؤلاء منهم من يرى أن الفاعل الذي بهذه الصفة ليس هو في هيولى أصلاً، وهو الذي يسمونه واهب الصور، وابن سينا من هؤلاء. ومنهم من يرى أن الفاعل الذي بهذه الصفة يوجد بحالتين؛ إما مفارقاً للهيولى وإما غير مفارق، فالغير مفارق عندهم مثل النار تفعل ناراً، والانسان يولد انساناً، والمفارق هو المولد للحيوان والنبات الذي لا يوجد عن حيوان مثله، ولا عن بزر مثله، وهذا هو مذهب ثامسطيوس، ولعله مذهب أبي نصر(الفارابي) فيما يظهر من قوله في الفلسفتين.. وأما المذهب الثالث فهو الذي أخذناه عن أرسطو، وهو أن الفاعل إنما يفعل المركب من المادة والصورة، وذلك بأن يحرك المادة ويغيرها حتى يُخرج ما فيها من القوة على الصورة إلى الفعل. وهذا الرأي يشبه رأي الذين يذهبون إلى أن الفاعل إنما يفعل اجتماعاً وانتظاماً للأشياء المتفرقة، وهو مذهب انبادقليس، إلا أن الفاعل عند أرسطو طاليس هو جامع بين شيئين بالحقيقة، وإنما هو مخرج ما بالقوة إلى الفعل، فكأنه جامع بين القوة والفعل، أعني الهيولى والصورة، من جهة إخراج القوة إلى الفعل من غير أن يبطل الموضوع القابل للقوة، فيصير حينئد في المركب شيئان متعددان وهما المادة والصورة. وهو يشبه الإختراع أيضاً من جهة أنه يصير ما كان بالقوة إلى الفعل، ويفارق الإختراع بأنه ليس يأتي بالصورة من لا صورة. وكذلك فيه شبه من الكمون»4 .
والملاحظ انه يمكن توجيه ما يقوله المذهب الثاني من الإبداع والمنسوب إلى افلاطون وأصحابه؛ بأنه جاء ليس على النحو الكلامي الذي يخرجه من (القوانين الحكمية)، خصوصاً وأن من القدماء من فهم الحدوث الذي تكلم عنه افلاطون هو ليس الحدوث بالمعنى الكلامي كما هو الحال مع شارح أرسطو فورفوريوس5 ، فلو صحّ هذا لـكان الإبداع أيضاً مـأخوذاً بالضرورة ليس بهذا المعنى. إضافة إلى أن افلاطون حين يقسّم الوجود تقسيمه الذي يضفي عليه روح السنخية ومنطقها؛ يجعلنا من الصعب إخراج اضفائه عن دائرة (القوانين الحكمية) لإدخاله في دائرة (القوانين الكلامية). فليس هناك من مبرر يدعو إلى مثل هذا الضم والإقحام إلا أن يعوّل على كون المخترع أحب بملئ إرادته أن تكون مخترعاته بعضها على سنخ البعض الآخر، لا أن تكون بالضرورة هكذا.
على ذلك إنّنا لو فهمنا ما ذُكر عن هذا المذهب كما لجأ اليه افلوطين ومن اتبعه من متأخري الفلاسفة من المسلمين كصدر المتألهين وغيره؛ لما كان تحديد العلاقات التي أقامها إبن رشد بين المذاهب التي ذكرها صائباً، بل لكانت هذه المذاهب لا تفترق افتراقاً جوهرياً طبقاً لما تقوم عليه من الروح العامة لمنطق الضرورة والسنخية.
فبحسب الكمون تكون السنخية متحققة بما تحمله المادة من صفات الأشياء بالقوة، أما بحسب الإبداع فإنه تكون متحققة بما يحمله الفاعل ـ لا المادة ـ من صفات الأشياء. في حين إن الاتجاه الوسط هو ذلك الذي يقول بالمنطقين معاً، كما هو الحال مع الطريقة الأرسطية، فهي تجعل من المادة لا فقط أنها تحمل صفات الأشياء بالقوة، بل وتحمل صفات الفاعل بالقوة أيضاً. فهي بهذا لا تختلف جوهراً عن منطق الإبداع، لأنها ترد صفات الأشياء إلى الفاعل الحقيقي، كما أنها لا تختلف عن منطق الكمون، لأنها تُرجع هذه الصفات إلى المادة. والفارق بينها وبين منطق الكمون هو أن أصحاب هذا المنطق لا يعترفون بوجود المشاكلة أو السنخية بين ما تحمله المادة من صفات الأشياء وبين الفاعل الحقيقي، والا لكان منطقهم مطابقاً تماماً للمنطق الأرسطي.
أما الفارق مع أصحاب منطق الإبداع، فهو أن هؤلاء لا يأخذون القوة أو المادة بنظر الاعتبار، إما بنكران وجودها، أو نكران تأثيرها حقيقة؛ باعتبار أن وجودها مستمد من وجود الفاعل ذاته، أو أنها ـ على الأقل ـ لا تحمل في حد ذاتها صفات الفاعل الحقيقي، وهذا كله يخالف ما تراه الطريقة الأرسطية، إذ بحسب هذه الطريقة أن العلاقة السائدة بين الفاعل الحقيقي وبين المادة هي علاقة مزدوجة، فهي من جهة علاقة (انفعال) وذلك باخراج الفاعل الصور التي تحملها المادة بالقوة إلى الفعل، كما أنها علاقة (مشاكلة) من حيث أن في الفاعل كل ما تحمله المادة من صور بالقوة، لكن على نحو الفعل والتمام والكمال. فعلى حد قول إبن رشد إنه «لو لم تكن القوة موجودة لما كان ها هنا فاعل أصلاً، ولو لم يكن الفاعل موجوداً لما كان ها هنا شيء هو بالفعل أصلاً، ولذلك قيل إن جميع النسب والصور هي موجودة بالقوة في المادة الأُولى وهي بالفعل في المحرك الأول بنحو من الأنحاء، شبيه بوجود المصنوع بالفعل في نفس الصانع..» 6.
بذلك فإن الفارق الحقيقي بين الطريقة الأرسطية وبين منطق الإبداع، سواء عند افلاطون أو عند الفلاسفة المسلمين من أمثال إبن سينا، إنما يتعلق بالمادة أو الهيولى، باعتبار أنهما يتفقان ضمن حدود على علاقة المشاكلة أو (المواطأة) بين الفاعل الحقيقي وبين صفات الأشياء التي يفعلها «فمعنى قول أرسطو أن المواطئ يكون من المواطئ أو قريب من المواطئ ليس معناه أن المواطئ يفعل بذاته وصورته صورة المواطئ له، وإنما معناه إنه يُخرج صورة المواطئ من القوة إلى الفعل، وليس هو فاعل بأن يورد على الهيولى شيئاً من خارج أو شيئاً هو خارج عنها، والحال في الجوهر في ذلك هو كالحال في سائر الأعراض. ولذلك لا يلزم أن يكون الفاعل ولا بد مواطئ هو هو من جميع الوجوه، فالمولد للنفس ليس معناه أنه يثبت نفساً في الهيولى وإنما معناه أنه يُخرج ما كان نفساً بالقوة إلى أن يصير نفساً بالفعل، ولذلك نجد النار تتكون عن الحركة كما تتكون عن نار مثلها.. وكل مُخرج شيئاً من القوة إلى الفعل فيلزم أن يوجد فيه بوجه ما ذلك المعنى الذي أخرجه، لا أنه هو هو من جميع الوجوه»7 .
فالطريقة الأرسطية تجعل من المشاكلة قائمة بين ما موجود في المادة من صورة بالقوة وبين ما يحدث عنها بالفعل، سواء أيحدث ذلك في الكائنات المتولدة عن مثيلاتها كما في البذور، أو في تلك التي لا تتولد عن مثيلاتها كما هو الحال في تولد الحرارة عن الحركة، وتولد بعض الكائنات عن العفونة. فسواء كان الحدوث بهذا الشكل أو بذاك فإن هناك عنصر (مواطأة) أو تشاكل مع ما موجود في المادة أو الهيولى بالقوة. وليس هناك من فرق سوى أن الفاعل في غير المتماثلات هو الشمس، بينما الفاعل في المتماثلات هو عبارة عن المتماثل الأصل والشمس، فالانسان مثلاً يولده انسان والشمس8.
على أن ردّ عملية التوليد والحدوث في عالمنا الى عنصر الشمس والفلك المائل جعل بعض الشراح يُأوّل مراد أرسطو بصيغة تكون في النتيجة لا تختلف كثيراً عما أراده افلاطون وأصحابه. فالفيلسوف ثامسطيوس وجّه مقالة أرسطو في كل ما يحدث لغير المتماثلات بأنه لا يحصل إلا من خلال حدوث (نفس) بالفعل عن الفلك المائل والشمس. لكن إبن رشد رفض مثل هذا التأويل، فنفى أن يكون هناك حدوث في النفس، بل رأى أن حرارة الشمس والكواكب هي المكونة لما يحدث في عالمنا من متولدات؛ طبقاً لإخراج ما بالقوة إلى الفعل9 ، لكن بواسطة الفيض النفسي المنحصر في هذه الحرارة على ما سنرى.
ومع ذلك فإن إبن رشد يدرك أن ظاهرة حدوث غير المتماثلات هي مما «يُحتجّ به لافلاطون على أرسطو»10، وهو ما دفع (ثامسطيوس) إلى التمسك بقوله في حدوث النفس السماوية، بل ويقول في آخر مقالته السادسة من تلخيصه لكتاب النفس: «إن النفس ليست هي التي فيها جميع الصور فقط، أعني المعقول والمحسوس، بل وهي التي تركز جميع الصور في المواد وتخلقها»، وهو يعني بالنفس هنا على ما يرى إبن رشد عبارة عن الصور المفارقة11.
لكن رغم كل ذلك فإن الطريقة الأرسطية ليست بذلك البعد عن طريقة أصحاب الإبداع كافلاطون وأتباعه، فهي لا تعزل ما يحصل في عالمنا عما هو موجود في عالم ما فوق القمر من عناية سماوية عقلية فلكية ونفسية، إذ ترى أن الأجرام السماوية بما كونها «موجودات مدركة حيّة ذوات اختيار وإرادة» فهي لذلك تدبّر الحياة في عالمنا الأرضي، إذ «الحي لا يُدبره إلا حي أكمل حياة منه»12، وإن كان ذلك يجري لا على القصد الأول، إذ من المحال أن يفعل من أجل الأنقص، بل ذلك يجري بطريقة التشبّه بالعلة أو المبدأ الأول والإلتفات اليه. فمن هذه الناحية يكون للأجرام عنايتها بعالمنا السفلي، فالقصد من حركتها لا يتعلق بخروج صور الطبيعة من القوة إلى الفعل، بل ذلك يحصل ويتحقق بشكل تابع لكمالها الأول، وهو الشوق لما هو أكثر منها حُسناً وكمالاً13.
فبهذا النحو يكون التأثير المفارقي والإلهي لما يحدث من متكونات في عالمنا، وهو لا يختـلف عـما يقـوله فلاسفـة المـشرق وفـقاً للـقاعدة العامة التي صرحوا بها والتي تقول: (العالي لا يريد السافل ولا يلتفت اليه)، وذلك بحسب القصد الأول14.
الفلاسفة والوسيط الالهي
الأهم من كل ما تقدم هو أن الطريقة الأرسطية لا تنفي تدخل النفس السماوية كوسيط بين عالم ما فوق القمر وعالم ما تحته، فالفلاسفة القدماء «لا يعتقدون أن الجسم ـ الهيولاني ـ بأسره يصدر عن مفارق، وإن صدر عندهم فإنما يصدر الصورة الجوهرية»، ومن هذه الصورة تكون مقادير أجزائها من حيث هي تابعة للصورة15 ، وهو ما يكشف عن حالة التوسط. كذلك فإنهم يعتقدون أيضاً بوجود النفوس العلوية ذات المادة الروحانية والأجسام اللطيفة التي لا تحس، كأمر وسيط بين المفارق والجسم، وعلى حد قول إبن رشد: «ما من أحد من الفلاسفة إلا وهو معترف بهذه النفوس، وإنما يختلفون هل هي التي في الأجسام ـ الطبيعية التي في عالمنا ـ أو جنس آخر غيرها»، وهذا هو موضع خلاف إبن رشد مع الذين قالوا بواهب الصور، فهم «جعلوا هذه القوى عقلاً مفارقاً، وليس يوجد ذلك لأحد من القدماء إلا لبعض فلاسفة الاسلام، لأن من أُصولهم أن المفارقات لا تغير المواد تغير استحالة بذواتها وأولاً»16.
مع أن الفارابي في بعض كتبه لا يختلف في نزعته عن النزعة الأرسطية، وذلك إنه يجعل العقل المفارق ليس له تأثير مباشر على الجسم، بل إن تأثيره يخص ما هو على شاكلته من العقل الانساني، في الوقت الذي يجعل التأثير على الأجسام الطبيعية هو من اختصاص جوهر الأجسام السماوية. فهو إذ يؤكد أن جوهر الأجسام السماوية فيها ما يمنح كل ما في طبائع المادة أن تقبله؛ يؤكد في نفس الوقت وجود كمالات أُخر «ليس من شأن الأجسام السماوية أن تعطيه، بل ذلك من شأن العقل الفعال. وليس من هذه نوع يمكن أن يعطيه العقل الفعال الكمالات الباقية سوى الانسان»، إذ يمنح الانسان «قوة ومبدأً به يسعى أو به يقدر الانسان على أن يسعى من تلقاء نفسه إلى سائر ما يبقى عليه من الكمالات. وذلك المبدأ هو العلوم الأُول والمعقولات الأُول التي تحصل في الجزء الناطق من النفس»17.
والملاحظ في بعض رسائل الفارابي إنه حتى في حدود قوله بتأثير العقل الفعال على الأجسام الطبيعية؛ فإنه لا يجعل ذلك بشكل مباشر، بل يرى أن للأجرام السماوية تخيّلات متصلة، فيحصل من جزئيات هذه التخيّلات «الحركات الجسمانية ثم تلك التغيرات تصير سبباً لتغير الأركان الأربعة وما يظهر في عالم الكون والفساد من التغير»18. كذلك هو الحال مع إبن سينا، فهو وإن قال بإفاضة الصور الطبيعية والنفوس النباتية والحيوانية عن العقل الفعال، وكذا هو الحال مع الهيولى التي تلزم هي الأخرى عنه، إلا أن صدور ذلك يكون بوساطة الأجرام السماوية وطبقاً لاعتبارات نظرية الفيض التي أدخلها الفارابي. ففيضان صور العناصر على الهيولى بحسب استعداداتها المختلفة إنما يكون «بحسب نسبها من السمائية»19 .وكما يعبّر السهروردي عن هذه الطريقة المشائية بأن «العقل العاشر بمعاونة السماويات يحصل منه هيولى العناصر وصورها. فبجهة تعقّل الوجوب تحصل النفوس الناطقة البشرية، وبجهة الامكان ـ تحصل ـ الهيولى المشتركة. ولما كان ما يحصل منه إنما يحصل بتوسط معاونة حركات أجرام سماوية صحّ وجود كثرة وافرة منه»20.
ومما يؤكد نفي إبن سينا أن يكون العقل بالفعل هو المباشر في عملية التأثير على الأجسام ما جاء في نقده للطريقة الأرسطية واتهامها بهذا القول الذي اتهمه به إبن رشد، فقد نقدها لكونها قد جعلت من الجرم السماوي قوة عقلية مؤثرة في التحريك، مصرحاً بأن العقل لا يمكن له أن يكون مباشراً في التحريك والتأثير.
فقد دافع إبن سينا عن موقفه الآنف الذكر حتى في كتابه (المباحثات) الذي وضعه لمناصرة المشرقيين، إذ يقول: «والعقول الفعالة هي بالفعل من كل وجه، فليس يصح أن تكون محركة إلا على وجه الشوق، وكل محرك فإنه يطلب شيئاً وليس له، فالمباشر للحركات الفلكية غير العقول الفعالة، بل معنى مادي، وعلى هذا فإن المحرك لأجزاء النبات والحيوانات إلى الاجتماع لا يصح أن يكون عقلاً بالفعل، بل يجب أن يكون المباشر للحركة طالب شيء ليس له، وذلك الشيء مادي أو مقارن للمادة»21 .
هذا من جهة، أما في المقابل فهو أن الطريقة الأرسطية قامت بوصف القوى النفسية الوسيطة التي تتولد عنها المتولدات؛ وصفاً إلهياً (مشرقياً)، فعبرت عنها بأنها «قوى طبيعية إلهية تكون مثلها على ما تكون المهن الصناعية مصنوعاتها». ويرى أرسطو أن هذه القوى شبيهة بالعقل من حيث «أنها تفعل فعل العقل، وذلك أن هذه القوى تشبه العقل في أنها لا تفعل بآلة جسمانية»، حتى أن جالينوس كان يشك ويقول: «لا أدري أهذه هي الخالق أم لا». لذلك عظّم أرسطو أمر هذه القوة ونسبها إلى المبادئ الإلهية لا الطبيعية رغم أنها غير مفارقة ولا تعقل ذاتها22. بل كل ما هنالك هو «أنها ملهمة من قوى فاعلة هي أشرف منها وهي المسمى عقلاً». ويرى إبن رشد أن هذه النسب والقوى الحادثة في الأسطقسات عن حركات الشمس وسائر الكواكب هي التي ظن بها افلاطون أنها الصور. بينما عند أرسطو أن الفاعل لا يخترع الصورة، إذ لو اخترعها لكان هناك شيء من لا شيء23. وهو النقد الذي وجهه إبن رشد لافلاطون وأتباعه كإبن سينا الذي يعتبر الفاعل يفعل الصورة في الهيولى، بينما عند إبن رشد إنه لو كان الفاعل يفعل ذلك «لكان يفعلها في شيء لا من شيء، وهـذا كـله لـيس رأياً لـلفـلاسفـة»24، معتبراً أن تـوهم إختـراع الصور كمـا هـو الحال عـنـد افلاطون «هو الذي صيّر من صيّر إلى القول بالصور والى القول بواهب الصور، وإفراط هذا التوهم هو الذي صيّر المتكلمين من أهل الملل الثلاث.. إلى القول بأنه يمكن أن يحدث شيء من لا شيء، وذلك أنه إن جاز الإختراع على الصورة جاز الإختراع على الكل»25 .
مع إنّا لو حملنا مسألة (الإبداع) على النحو المجازي، مثلها مثل الكثير من العبارات الفلسفية التي يطلقها الفلاسفة؛ لكان إشكال إبن رشد في غير محله. فلغة إبن سينا وغيره من الفلاسفة والمظنون كذلك من افلاطون؛ هي ليست لغة كلامية قائمة على الإمكان والجواز والخلق من لا شيء والإبداع والإختراع، بل هي لغة مؤسسة على الضرورة والسنخية. والفعل المقال في هذه المسألة لا يتخلّف عن هذه القاعدة من حيث إنه قائم على كون ما يحدث في عالمنا إنما هو مرتبط بما هو حاصل في العالم العلوي إرتباط الضرورة والسنخية، إذ لا يحدث في عالمنا شيء إلا وله أصله وسنخه الذي يحمل صفته بأكمل وجه وأجلّ صورة في العالم الآخر. والطريقة الأرسطية وإن كانت لا تقول بإختراع الصور، بل وتنكر التأثير المباشر للعقل المفارق، إلا أنها تحكّم العالم العلوي على العالم السفلي تحكماً قائماً على أساس العقل المفارق بصورة غير مباشرة، وعلى أساس النفس السماوية بصورة مباشرة، الأمر الذي يجعلها ليست مختلفة كثيراً عن النظرية الافلاطونية والفارابية السينوية، فهي تقصد بالإلهام العقلي في القوى الطبيعية بأنه عبارة عن الفيض النفسي الثابت والدائم أزلاً وأبداً كوسيط ورابط نازل من العالم العلوي إلى العالم السفلي.
بل إن هذا الفيض النفسي هو محل اتفاق جميع الفلاسفة القدماء كما يقرّ بذلك إبن رشد الذي يعبّر عنه بأنه «مادة لطيفة وهي الحرارة النفسانية التي تفيض من الأجرام السماوية، وهي الحرارة التي ليست هي ناراً ولا فيها مبدأ نار، بل فيها النفوس المخلّقة للأجسام التي ههنا». وهو يرى أن الفلاسفة لا يختلفون بأن في الأسطقسات حرارة سماوية حاملة للقوى المكونة للحيوان والنبات، لكن البعض يسميها قوة طبيعية سماوية، بينما يطلق عليها جالينوس (القوة المصوّرة)، ويسميها أحياناً (الخالق)، حتى أنه يقول «يظهر أن ههنا صانعاً للحيوان حكيماً مخلّقاً له، وأن هذا يظهر من التشريح، فأما أين هو هذا الصانع وما جوهره، فهو أجل من أن يعلمه الانسان». لذلك كان افلاطون يستدل على مفارقة النفس للبدن باعتبارها هي المخلّقة والمصورّة له لا العكس.
على أن النتيجة التي يريد أن يصل اليها إبن رشـد هـو أن الفلاسفة لا يختـلفـون في وجود النـفـوس المخـلّقة لجمـيع أنـواع الحـيوانات والنباتات والمعادن. فهذه النفوس - كما يقول ابن رشد- إما أن تكون كالمتوسطة بين نفوس الأجرام السماوية وبين النفوس التي ههنا في الأجسام المحسوسة، ويكون لها تسليط ولا بد على النفوس والأبدان التي ههنا، ومن هنا نشأ القول بالجن، أو تكون بذواتها هي التي تتعلق بالأبدان التي تكونها للشبه الذي بينها، وإذا فسدت الأبدان عادت إلى مادتها الروحانية وأجسامها اللطيفة التي لا تحس26.
***
نخلص مما سبق إلى أن الاختلافات الخاصة بين أرسطو ومن سبقه من جهة، وبينه وبين من لحقه من جهة أُخرى، هي على الصعيد الابستمولوجي ليست بتلك الاختلافات الجوهرية، وذلك فيما يخصّ تأثير عالم النفوس والعقول السماوية على عالمنا التحتاني. فجميع الفلاسفة يتفقون على وجود هذا التأثير كتأثير إلهي حاسم، سواء قالوا بمقالة فيض الصور على عالمنا، أو قالوا بطريقة إخراجها من المادة عبر فيض النفس السماوية. أما ما يؤاخذه إبن رشد على بعض الفلاسفة المسلمين كإبن سينا لقوله بالتأثير المباشر للعقل الفعال المنعوت بـ (واهب الصور)؛ فقد سبق أن بيّنا رأيه في ذلك، وهو أنه يجعل هناك نوعاً ما من الوساطة عبر الأجرام السماوية، ومن ثم فهو لا يقر التأثير المباشر للعقل المفارق.
لكن في المقابل يمكن لحاظ أن الطريقة الأرسطية تنطوي بدورها على خلل كبير في منظومتها الفلسفية. فهي من جهة تجعل المادة مفصولة ومستقلة عن فعل الفاعل، في حين أنها من جهة أُخرى تحمّلها صفات الفاعل بالقوة على نحو ما من الأنحاء. وهنا الخلل والمفارقة، إذ كيف حصل مثل هذا التسانخ والتشابه إن كانت المادة من عالم مستقل كلياً عن عالم الفاعل الحقيقي؟
فربما كان هذا هو من الأسباب التي جعلت إبن رشد يشعر أحياناً بغموض وعواصة مسألة تكوين الأشياء وولادتها، دون أن يتخذ رأياً قاطعاً في الموضوع.
بل إن ذلك الخلل والمفارقة يصدق أيضاً على المفهوم الأرسطي للعلم الالهي. إذ طبقاً لهذا المفهوم إن المبدأ الأول يعلم الأشياء جميعاً، حتى الأُمور المستقبلية كلها، فهو يعلمها بعلمه بذاته على نـحو الفعـل من غير قـوة أبداً27 ، بينما من الواضح أن الحوادث المستقبلية هي موجودة في المادة بالقوة، فالعلم بها في حد الذات الإلهية؛ يعني وجود المسانخة بين العالمين الإلهي والمادي، مع أن المادة معتبرة غريبة ومنفصلة عن عالم الإله، فكيف يصحّ التسانخ والعلم مع ما فيها؟!
1تفسير ما بعد الطبيعة، ج3، ص .1494 – 1492
2 تفسير ما بعد الطبيعة، ج1، ص 204 وما بعدها.
3المصدر السابق، ج3، ص .1731
4تفسير ما بعد الطبيعة، ج3، ص .1499 – 1497
5الملل والنحل، نفس المعطيات السابقة، ص .196
6تفسير ما بعد الطبيعة، ج3، ص .1505 – 1504
7 المصدر السابق، ج3، ص .1552 - 1551
8المصدر السابق، ج3، ص .1465 – 1464
9 المصدر السابق، ج3، ص.1502
10المصدر السابق، ج2، ص .881
11المصدر السابق، ج2، ص .882
12تهافت التهافت، ص .190 – 189
13 المصدر السابق، ص 484 و 504 . كذلك: تفسير ما بعد الطبيعة، ج3، ص .1598 – 1596
14انظر بصدد هذه القاعدة مصادر إبن سينا التالية: التعليقات، تحقيق وتقديم عبد الرحمن بدوي، ص 19 – 18 . والنجاة، مطبعة السعادة بمصر، الطبعة الثانية، 1357 7 5 3 1هـ ـ 1938 م، ص 268. والمبدأ والمعاد، مؤسسة مطالعا ، دانشگاه مك كيل في طهران، ص 75. كما انظر مصادر صدر المتألهين التالية: الأسفار، ج2، ص 281 / ج 7، ص 163 . ومفاتيح الغيب، تقديم وتصحيح محمد خواجوي، مؤسسة مطالعات وتحقيق فرهنگي، ص 370. والمبدأ والمعاد، مقدمة وتصحيح سيد جلال الدين اشتياني، انجمن حكمت وفلسفة ايران، 1976م، ص .141 – 136
15تهافت التهافت، ص .240
16المصدر السابق، ص .579 – 578
17 السياسة المدنية، ص .73 – 71
18 رسالة عيون المسائل، ضمن الثمرة المرضية في الرسالات الفارابية، نفس المعطيات السابقة، ص .60
19 الإشارات والتنبيهات، القسم الثالث، نفس المعطيات السابقة، ص 192 2 9 1.
20 كتاب المشارع والمطارحات، ضمن مجموعة في الحكمة الإلهية، نفس المعطيات السابقة، ج1، ص .450
21المباحثات، ضمن: أرسطو عند العرب، ج1، ص .163
22تفسير ما بعد الطبيعة، ج2، ص .885 – 884
23المصدر السابق، ج3، ص .1502
24تهافت التهافت، ص .241
25تفسير ما بعد الطبيعة، ج3، ص .1503
26تهافت التهافت، ص .579 – 577
27تهافت التهافت، ص 345 – 343 و 506. كذلك: تفسير ما بعد الطبيعة، ج3، ص .1708