يحيى محمد
يعد الفارابي (المتوفى سنة 339هـ) أول فيلسوف مسلم محافظ يستحق هذا الوصف طبقاً لطريقة الفلسفة التقليدية. فرغم أن الكندي (المتوفى سنة 252هـ) مارس النشاط الفلسفي قبل ولادة الفارابي بنصف قرن من الزمان تقريباً، لكننا لا نعدّه ضمن قائمة الفلاسفة المحافظين على قانون الأصل والشبه بانتظام، سيما أن اعتقاده بخلق العالم وانفصاله عن مبدأ الوجود الأول مثلما هو اعتقاد الكلاميين، قد قضى تماماً على قانون السنخية وعلاقات الحتمية.. وهو جوهر ما تقوم عليه طريقة الفلسفة التقليدية.
أما الفارابي فيختلف عمن سبقه بكونه ظل محافظاً على القانون العام لعلاقة الشبه والسنخية، كما بقي بعيداً عن تسخير الفلسفة للأغراض المذهبية والايديولوجية مثلما فعلت الاسماعيلية. ففي موقفه من الوجود نراه يلتزم باخضاع جميع العوالم تحت هيمنة قانون الأصل والشبه باستثناء مبدأ الوجود الأول، إذ يلاحظ لديه شيء من التردد يكاد يوقعه في التناقض. فهو من جهة لا يتقبل وجود صور للموجودات في ذاته الخاصة، خشية تكثر الذات، مما يستلزم انعدام الشبه في ما بينها وبين غيرها من الموجودات، لذا يجعل علم المبدأ الاول بغيره يتحقق بوجود الصور الحاضرة في العقول الفائضة عنه بالترتيب، مما يلزم أن تكون هذه العقول هي كل الأشياء باعتبارها تحمل صور جميع الأشياء التي دونها مرتبة. فطبقاً لقوله: ان مبدأ الوجود الأول «يعقل ذاته التي هي المبدأ لنظام الخير في الوجود الذي ينبغي أن يكون عليه، فيكون هذا التعقل علة للوجود بحسب ما يعقله، فان عقله للكل ليس بزماني، بل على أنه يعقل ذاته ويعقل ما يلزمه على الترتيب معاً وليس يلحقه تكثر في ذاته لتعقله للكل والكثرة..»[1].
هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فرغم أن الفارابي ينفي وجود صور علمية للغير في ذات مبدأ الوجود، الا أنه مع ذلك يصفه بأنه الكل في وحدته، بل ويجعل له وجهاً ما من الشبه مع الموجودات. فهو يقول: «واجب الوجود.. له الكل من حيث لا كثرة فيه.. فعلمه بالكل بعد ذاته وبعد علمه بذاته، ويتحد الكل بالنسبة الى ذاته فهو الكل في وحدته»[2]. ويقول أيضاً: «الأول يعقل ذاتها ـ أي المعقولات ـ وان كانت بوجه ما هي الموجودات كلها، فانه اذا عقل ذاتها فقد عقل بوجه ما الموجودات كلها، لأن سائر الموجودات انما اقتبس كل واحد منها الوجود عن وجوده..»[3].
ولو أخذنا بظاهر عبارات الفارابي التي سقناها لكنّا قد أسقطنا فيلسوفنا في شبك التناقض، فهو من جهة ينفي أن تكون ذات مبدأ الوجود الأول محلاً للصور والتكثر، لكنه من جهة أخرى يجعل بينها وبين سائر الموجودات الأخرى نوعاً من السنخية والشبه، فيصرح بأنها «بوجه ما هي الموجودات كلها». وهذا هو التناقض!
أما حقيقة مذهب الفارابي فهو أنه يجعل من العقول اللازمة أو المعلولة عن المبدأ الاول هي نفسها عبارة عن صفاته، مما يعني أن علمه بكل الأشياء هو صفة لذاته، لأن هذا العلم هو لازم من لوازم ذاته وليس فيها. وبالتالي فان ما قصده الفارابي من تعبيره بأن واجب الوجود عبارة عن الموجودات كلها؛ هو صفاته التي اشتمل عليها، لكون هذه الصفات هي كل الأشياء. وهذا ما يوضحه نصه التالي: «ليس علمه بذاته مفارقاً لذاته بل هو ذاته، وعلمه بالكل صفة لذاته ليست هي ذاته بل لازمة لذاته، وفيها الكثرة الغير المتناهية بحسب كثرة المعلومات الغير المتناهية، بحسب مقابلة القوة والقدرة الغير المتناهية، فلا كثرة في الذات بل بعد الذات، فان الصفة بعد الذات لا بزمان بل بترتب الوجود لكن تلك الكثرة ترتيب يرتقي به الى الذات يطول شرحه، والترتيب يجمع الكثرة في نظام، والنظام وحدة ما به، واذا اعتبر الحق ذاتاً وصفاتاً كان كلاً في وحدة. فاذاً كل كلٍ متمثل في قدرته وعلمه، ومنها حقيقة الكل مقررة... فهو كل الكل من حيث صفاته، وقد اشتملت عليها أحدية ذاته»[4].
وهنا نجد في نظرية الفارابي نوعاً من الجدّة بمحاولته التوسط والتعبير عن حالة التردد في ما يخص علاقة مبدأ الوجود الأول بقانون الأصل والشبه. فبحسب هذه المحاولة يمكن اعتبار هذا المبدأ خالياً من الشبه بالموجودات، فذاته ليست محلاً للصور العلمية الخاصة بهذه الموجودات. لكن من جهة أخرى يمكن اعتباره حاملاً لنوع من الشبه بها، وذلك من حيث الصفات التي تلزم عنه. وبالتالي فان المسألة مسألة «جهة اعتبار»، أوَ ليست الفلسفة قائمة على الاعتبارات؟! فلولا الاعتبارات لبطلت الحكمة او الفلسفة كما يقول صدر المتألهين[5].
يضاف الى ما سبق فان للمعلم الثاني عدداً من القضايا التي طرحها لأول مرة والتي أثارت الكثير من الجدل في الأوساط العلمية وغيرها، وكان لها علاقة حميمة بقانون الأصل والشبه. وأبرز هذه القضايا ما يأتي:
1ـ قام الفارابي بوضع منهج «الاعتبارات» الذي يصحح وظيفة قاعدة الفيض أو الصدور (الواحد لا يصدر عنه إلا واحد). ذلك أنه اذا كانت هذه القاعدة هي من مخلفات الافلوطينية أو حتى يمكن الرجوع بها الى ما قبل أرسطو تطبيقاً لقانون الشبه والسنخية، فان ما استحدثه الفارابي بهذا الخصوص هو منهجه الخاص بالاعتبارات. وهو المنهج الذي يبرر صدور الكثرة عن الوحدة البسيطة المتمثلة بالعلة الأولى، كمحاولة للحفاظ على السنخية دون خرق لها. فمن المفترض لدى الفارابي واتباعه من الفلاسفة أن ما يصدر عن مبدأ الوجود الأول يجب أن يكون عقلاً من سنخه، وهو الذي يكون وجوده ومعقوليته من قبل المبدأ الأول أمراً واحداً كما هو الحال في وحدة وجود المبدأ الأول وعاقليته ذاته. فلا فرق بين الوجود والمعقولية بالنسبة للعقل الصادر، مثلما لا فرق بين الوجود والعاقلية بالنسبة للمبدأ الأول. لذا فليست علّية وجود المبدأ الأول لوجود معلوله منفصلة عن علّية عاقلية ذاته لعاقليته معلوله. فبغير هذا يصبح المبدأ الأول متكثراً وهو منزّه عن ذلك[6]. وبالرغم من ان العقل الصادر الأول يُعدّ واحداً تبعاً للسنخية في ما بينه وبين مبدعه الأول، فانه مع ذلك ينفرد في كونه برزخاً جامعاً لكل من الوحدة والكثرة، مما جعله مصدر التعويل في تفسير كيفية صدور الكثرة عن الواحد طبقاً للنهج الذي خطّه الفارابي، وسرعان ما تهافت عليه أغلب الفلاسفة بالتأييد والرضوخ.
ومع أننا نجد لدى الفارابي طريقتين مختلفتين من «الاعتبارات» التي تبرر صدور الكثرة عن الوحدة، احداهما ثلاثية الاعتبار، والأخرى ثنائية، إلا أن ما ساد وشاع بعده هي طريقته الثلاثية، فضلاً عن أن هناك من الفلاسفة من حاول تجاوز هذه الطريقة بانتاج طرق أخرى؛ كالرباعية والسداسية[7]، ومنهم من تجاوزها كلياً فبرر عملية الصدور من غير حاجة للاعتبارات[8].
أما بالنسبة لطريقة الفارابي الثلاثية فهي تنص على أن العقل الصادر الأول وإن كان واحداً من حيث وجوده وذاته، لكن حيث أن له تعقلات واعتبارات متكثرة هي بالتحديد ثلاثة، فان ذلك يبرر حصول التكثر الثلاثي في ما يصدر عنه. فهو بما يعقل مبدأه الأول يلزم عنه وجود عقل ثان، وبما يعقل ذاته يلزم عنه وجود النفس المسماة بصورة الفلك الأقصى، وبما انه ممكن الوجود بذاته وواجب بغيره يلزم عنه جرم الفلك الأقصى. وهكذا تترسم طريقة المشائين من الفلاسفة، فبهذه الاعتبارات تتسلسل العقول والنفوس والأفلاك حتى العقل الأخير، وهو العاشر. إذ ينتج عن العقل الثاني فلك البروج، وعن الثالث فلك زحل، وعن الرابع فلك المشتري، وعن الخامس فلك المريخ، وعن السادس فلك الشمس، وعن السابع فلك الزهرة، وعن الثامن فلك عطارد، وعن التاسع فلك القمر، أما العقل العاشر فينتج عنه باعتبار تعقل امكانه الخاص الهيولى المشتركة للعناصر، وباعتبار تعقل ماهيته ينتج عنه صورها النوعية والجسمية. وبحدود ما ينتج عن العقل الأخير يبدأ خلاف الاشراقيين مع المشائين[9].
أما طريقة الفارابي الثنائية لتبرير حصول الكثرة من الوحدة فهي تعتمد فقط على ادراك العقل لعلته ولذاته معاً، من غير اضافة اعتبار ما أطلق عليه (الممكن بذاته الواجب بغيره)[10]، وهي المقولة التي نسبها ابن رشد الى ابن سينا واعتبرها من المفاهيم الكلامية لا الفلسفية لكونها تنطوي على التصريح بوجود وسط بين الوجود والعدم، أو الوجوب والاستحالة، وهو «الامكان»، مع أن عالم العقول العلوية ليس فيه إلا الضرورة والوجوب[11].
2 ـ محاولة الفارابي للجمع بين مذهبي افلاطون وأرسطو كطريقة تسعى الى توحيد الفلسفة. وهي محاولة لها ما يبررها معرفياً اعتماداً على قانون السنخية، رغم أنها أضلّت السبيل، فاعتمدت على بعض المصادر المنسوبة الى أرسطو، والتي أثبت البحث العلمي أنها منحولة عليه، وكان من بينها ذلك الأثر المهم المسمى بأثولوجيا، وهو مستوحى أو ملخص من التاسوعات الرابعة والخامسة والسادسة لإفلوطين[12]، والذي كان الفلاسفة المسلمون يظنون أنه من تصانيف أرسطو، سوى عدد قليل منهم ربما راودتهم بعض الشوك حوله، ومنهم الكندي الذي لم يشر في احصائه لكتب أرسطو الى هذا الكتاب. وكذلك ابن سينا كما يشير المستشرق بول كراوس في بحثه عن (افلوطين عند العرب)[13]، سيما أن ابن سينا قد طعن بوجود المثل العقلية، وعاب على افلاطون وسقراط ذلك، حتى أن صدر المتألهين الشيرازي كان يؤاخذ ابن سينا على نقده للمثل ويجعل من ذلك علامة على عدم الاعتراف بصحة نسبة (أثولوجيا) الى أرسطو، لما في هذا الكتاب من التصريح بوجود تلك المثل، وطبقاً لعبارته: «وكأنه لم ينظر الى كتاب أثولوجيا، أو كأنه لم ينسبه الى أرسطو طاليس بل الى افلاطون!»[14].
كما أن ابن رشد هو الآخر ـ كما يشير عبد الرحمن بدوي ـ لم يذكر (أثولوجيا) ولا كتاب (الخير المحض) ضمن كتب أرسطو. وقد فسّر بدوي هذا الإغفال الى أن ابن رشد أدرك بأن الكتابين منحولان عليه، فأغفل ذكرهما والإفادة منهما وهو بمعرض شرحه لأرسطو[15].
بل هناك من يرى بأن الفارابي ذاته كان يشعر بأن (أثولوجيا) منحول على أرسطو، لتناقض مضمونه مع مضامين كتبه الأخرى، ومع ذلك أخفى الفارابي هذا التناقض في نفسه وأظهر للآخرين استبعاده واستبعاد أن تكون بعض كتب أرسطو منحولة ليتم له الافتراض الثالث وهو أن يكون لكلام أرسطو شيء من التأويل والتوجيه، كل ذلك لأجل الأغراض الايديولوجية السياسية والاجتماعية التي أملاها عليه واقع عصره المتأزم. فطبقاً لهذا الرأي أن الفلاسفة العرب المسلمين لم يهمهم أبداً التعرف على فلسفة أرسطو الحقيقية، بل همهم ما كانوا يريدونه من هذه الفلسفة ليبحثوا فيها، وبالتالي ليس لأثولوجيا تلك الأهمية والخطورة التي يعطيها له الرأي الحديث القائل: لولا أثولوجيا أرسطو لتعرف الفلاسفة على فلسفة أرسطو كما هي في حقيقتها[16].
والواقع ان العبرة التي نستفيد بها من دراسة ما قام به الفارابي، ليس تصور ما عسى يمكن أن يكون عليه الفكر الفلسفي في الحضارة الاسلامية لولا كتاب (أثولوجيا) الذي أخفى خصوصية المعلم الأول تحت مظلّة افلاطونية. كما ليس العبرة في الغرض الايديولوجي إن كان هناك غرض وراء طريقة الفارابي المعرفية. بل العبرة في ذلك هو أن المعلم الثاني لم يكن باستطاعته أن يفعل شيئاً مهماً من عملية الجمع لولا وجود الأصل المشترك الفعال الذي يجمع ما بين الفلاسفة، وعلى رأسهم افلاطون وأرسطو. لهذا سبقت عمل الفارابي محاولات عديدة من هذا القبيل كلها مبررة للسبب المذكور، منها ـ كما يذكر بعض الغربيين ـ محاولة الشارح الافلوطيني (سيمبليسيوس) خلال القرن السادس الميلادي. كذلك أن جالينوس قام هو الآخر بنوع من هذا العمل. يضاف الى أن تلميذ افلوطين (فورفوريوس) شارح أرسطو والمتغذي على فكره لم يكن يرى في أرسطو ما يخالف به افلاطون[17]. وعليه فحتى لو لم يقم الفارابي بما قام به، بل وحتى لو كان نسب أثولوجيا معلوم الحقيقة، وكانت فلسفة أرسطو محققة كما هي، فان كل ذلك لا يؤثر شيئاً في مآل الفلسفة على ما عرفنا عنها من اتفاق عام يجعل سائر الاختلافات الجزئية ليس لها من الأهمية اذا ما قسناها بالروح العامة المشتركة من التفكير والتي يحددها أصل الأصول (السنخية).
فالخلاف بين الحكيمين، وكما سبق طرحه، ليس بذلك الشرخ، فهو خلاف أُعيد ترجمته مرة أخرى في الحضارة الاسلامية، بين اتباع أرسطو (المشائين) واتباع افلاطون (الاشراقيين). فهناك قضايا عديدة اختلف حولها هؤلاء، كان أهمها مسألة وجود العقول العرضية المطلق عليها أحياناً (أرباب الأنواع) أو المثل الافلاطونية. وفي هذا الخلاف يتبين عمق المغزى الذي لم تتوضح فيه معارضة أرسطو لافلاطون من قبل. فقد افترض الاشراقيون تلك العقول أو المثل ليتسق تفسير وجود الكثرة النوعية في عالم الطبيعة، والتي يتعذر تفسيرها بمجرد افتراض وجود العقل الطولي الأخير كالعقل العاشر، طبقاً لقانون التناسب السنخي القائل بأن الكثرة لا تصدر عن البسيط أو الواحد باعتباره بسيطاً أو واحداً. فاذا كان أرسطو قد نقد وجود المثل الافلاطونية طبقاً للسنخية كما رأينا من قبل، فان اتباع افلاطون الجدد هم أيضاً يثبتونها من هذه الطريق لا غير.
وهذا في حد ذاته ما يبرر عمل الفارابي بالرغم من أنه جانب الحقيقة، إذ ظن بأن الحكيمين متفقان كلياً، حتى بحدود قضية المثل التي أبدى الحيرة فيها دون غيرها. فقد اقتبس الفارابي شواهد من (أثولوجيا) وغيره من الكتب ليثبت عدم اختلاف أرسطو عن افلاطون في جملة قضايا مفصلية، مثل اثبات الصانع وعلاقة النفس بالعقل وحدوث العالم والمثل العقلية. وتعدّ المسألتان الأخيرتان أهم هذه القضايا. فهو في مسألة حدوث العالم استبعد تهمة القِدم عن اعتقاد أرسطو، فأشار الى أن الأخير ذكر في كتاب (السماء والعالم): «إن الكل ليس له بدء زماني»، فظن الآخرون بأنه يعتقد بقدم العالم «وليس الأمر كذلك، إذ قد تقدم فبين في ذلك الكتاب وغيره من الكتب الطبيعية والإلهية، ان الزمان انما هو عدد حركة الفلك وعنه يحدث.. ومعنى قوله ان العالم ليس له بدء زماني انه لم يتكون أولاً فأولاً بأجزائه، كما يتكون البيت مثلاً أو الحيوان.. فمحال أن يكون لحدوثه بدء زماني ويصح بذلك أنه انما يكون عن ابداع الباري إياه دفعة بلا زمان وعن حركته حدث الزمان»[18].
وهذا التحليل يتفق مع قول ابن رشد في أن القدماء يقولون بقدم العالم لكنهم لا يعنونه كما هو الظاهر من الاسم[19]. وسبق أن بيّنا المقصود من ذلك ومورد الخلاف المحتمل بين الحكيمين.
أما مع مسألة المثل فقد لجأ الفارابي الى كتاب (أثولوجيا) مباشرة، فوجد فيه تناقضاً مع ما مدوّن في سائر كتب أرسطو الأخرى، الأمر الذي جعله يشعر بحيرة وارتباك الى حدّ أنه في هذه المسألة بالخصوص طرح افتراضات محتملة للتوصل الى رأي أرسطو الحقيقي. فبرأيه أنه إما أن يكون متناقضاً مع نفسه، أو يكون بعض كلامه منحولاً عليه، وقد استبعد هذين الافتراضين وأخذ بالافتراض الثالث، وهو أن يكون ما نفاه أرسطو من المثل في بعض كتبه له تأويلات ومعان ترفع الشك والحيرة[20].
3 ـ إن التصور الحالي عن مشاريع الفارابي هو أنه لم يعمل على توحيد الفلسفة بالجمع بين رأيي الحكيمين إلا لغرض توحيد الأمة كآيديولوجيا دفعته اليه ظروف عصره الممزق الى دويلات. وهو ما جعله يخطو خطوته الأخرى للبحث عن طريقة مثالية لتوحيد الأمة انطلاقاً من البعد الفلسفي الذي دار في رحاه. هكذا هي الصورة الحالية المرسومة عن مشروع (آراء أهل المدينة الفاضلة)، فهو باختصار مشروع متوّج لكتاب (الجمع بين رأيي الحكيمين).
لكن الواقع هو أن ما قام به الفارابي، سواء كان عمله معرفياً خالصاً، او كان يهدف الى غرض ايديولوجي، ففي كلا الحالين أنه لم يتجاوز الالتصاق «المنطقي» بطبيعة التفكير الوجودي. فهو مصداق جديد مبتكر من مصاديق تطبيق قانون السنخية. فما قام به الفارابي مفسر تلقائياً استناداً الى هذا الأصل المولد، دون حاجة للمغالات بإفتراض الدور الايديولوجي، ففيه إغفال للبعد المنطقي للمشروع. فالعمل الايديولوجي وإن كان محتملاً فعلاً، لكن ليس من المنطقي الاكتفاء به كوضع تفسيري للمشروع ما دام الأخير لا ينطوي على عملية تلفيقية متسترة وخارجة عن اطار التفكير الذي يفكر فيه الفارابي كفيلسوف محترف.
فطبقاً للسنخية لم يكتف الفارابي برسم علاقات الشبه لمراتب الوجود، بل سحبها ايضاً على الهيكل الاجتماعي لمدينته الفاضلة، فجعل من هذه المدينة على غرار تلك المراتب، واعتبر شروط السعادة فيها هو لتشبهها بالوجود ومراتبه المتسلسلة، فهي تبدأ ببداية الوجود من العلّة الأولى، حيث يكون مدبر المدينة شبيهاً بهذه العلة، ثم تنتهي بنهايته من الهيولى. وهو يشترط أن «يحتاج في كل واحد من أهل المدينة الفاضلة أن يعرف مبادئ الموجودات القصوى ومراتبها والسعادة والرئاسة الأولى للمدينة الفاضلة ومراتب رئاستها، ثم بعد ذلك الأفعال المحمودة التي اذا فعلت نيلت بها السعادة»[21].
هكذا يجعل الفارابي من مدينته الفاضلة مدينة فلسفية تحاكي الوجود من جهة، وتجعل من أفرادها كلهم عبارة عن فلاسفة أو أشباه فلاسفة؛ يعون ويدركون مراتب الوجود وتناسقه طبقاً لقانون الشبه والسنخية.
4 ـ لم يقتصر الفارابي في تمديده لحكم قانون الشبه والسنخية على المجتمع، بل سحبه كذلك على تفسير النبوة والشريعة، وعمّق من نظرية المثال والممثول التي نادت بها الاسماعيلية لأول مرة، فجعل من الشريعة ظلاً محاكياً للفلسفة، وزاد على ذلك فاعتبر الأولى مصدر الظن والاقناع، والثانية مصدر اليقين والبرهان، على ما فصلناه في حلقة (الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية).
[1] رسالة الدعاوي القلبية، ص4. ورسالة التعليقات، ضمن رسائل الفارابي، ص8.
[2] كتاب الفصوص، ضمن رسائل الفارابي، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن في الهند، الطبعة الأولى، 1926م ـ1345هـ، ص5.
[3] كتاب السياسة المدنية، ضمن رسائل الفارابي، ص5ـ6. كذلك نفس المصدر، تحقيق فوزي نجار، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1964م، ص34.
[4] كتاب الفصوص، ضمن رسائل الفارابي، ص21.
[5] صدر المتألهين: ايقاظ النائمين، مقدمة وتصحيح محسن مؤيدي، مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرهنگي، 1982م، ص31.
[6] صدر المتألهين الشيرازي: المبدأ والمعاد، مقدمة وتصحيح الاشتياني، انجمن حكمت وفلسفه ايران، 1976م، ص105ـ112.
[7] لاحظ مثلاً: ملا نعيم طالقاني: أصل الأصول، طبعة طهران، ص82ـ84.
[8] كما لدى ابن رشد وصدر المتألهين الشيرازي (انظر: الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية).
[9] لاحظ كلاً من: الفارابي: رسالة الدعاوي القلبية، ص4. وابن سينا: الاشارات والتنبيهات، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف في مصر، 1958م، القسم الثالث، ص192. والمبدأ والمعاد لابن سينا، مؤسسة مطالعات اسلامي، دانشگاه مك كيل، طهران، ص79. والغزالي: مقاصد الفلاسفة، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، مصر، 1961م، ص290 ـ291. ورسالة معراج السالكين من فرائد اللآلي للغزالي، نشر فرج الله ذكي الكردي بمصر، 1924م ـ1343هـ، ص39. وصدر المتألهين: المبدأ والمعاد، ص190ـ192. وشهاب الدين السهروردي: المشارع والمطارحات، ضمن مجموعة من الحكمة الإلهية، تصحيح هنري كوربان، ج1، ص450.
[10] الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة، تقديم وتحقيق البير نصري نادر، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1959م، ص44ـ45.
[11] انظر حول ذلك كتابنا: نقد العقل العربي في الميزان، طبعة مؤسسة افريقيا الشرق، 2009م، الفصل الخامس. كذلك دراستنا: الجابري والقطيعة المزعومة بين الفكر المغربي والمشرقي، مجلة الفكر العربي، سنة 1994م، العدد (76).
[12] تصدير عبد الرحمن بدوي لكتاب افلوطين عند العرب. وأرسطو عند العرب، ص7. كما لاحظ مقدمتي البير نصري نادر لكتابي: الجمع بين رأيي الحكيمين، ص62، وآراء أهل المدينة الفاضلة، ص7.
[13] لاحظ اشارة عبد الرحمن بدوي الى ذلك في كتابه: أرسطو عند العرب، حاشية ص121.
[14] لاحظ كتاب عرشية لصدر المتألهين، ص240 ـ241.
[15] عبد الرحمن بدوي: الافلاطونية المحدثة عند العرب، مكتبة النهضة المصرية، 1955م، ج1، ص19.
[16] نحن والتراث، ص63ـ64. كذلك: عبد السلام بنعبد العالي: الفلسفة السياسية عند الفارابي، دار الطليعة ببيروت، الطبعة الثالثة 1986م، ص97ـ98.
[17] عن: الفلسفة السياسية عند الفارابي، ص97ـ98.
[18] الفارابي: الجمع بين رأيي الحكيمين، تقديم وتعليق البير نصري نادر، الطبعة الثانية، دار المشرق ـ المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1986م، ص101.
[19] تهافت التهافت، ص162.
[20] الجمع بين رأيي الحكيمين، ص100ـ101 و105ـ106.
[21] الفارابي: السياسة المدنية، ص84 ـ 86. وكتاب الملة، تحقيق محسن مهدي، دار المشرق، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1960م، ص65ـ66.