نود الاشارة اولاً إلى أنّا قدّمنا في بعض الدراسات عرضاً يكفي لإعادة النظر في الموقف المرسوم لكل من الفلسفة والتصوف، سواء من الناحية التاريخية لهما، أو من حيث العلاقة المنطقية الصمـيمة التي تربطهما معاً(1). فالدراسات التي تـعدّ العـرفـان عبارة عن (عقل مستقيل)، وتضع بينه وبين الفلسفة حاجزاً أصماً؛ هي دراسات موهومة طبقاً لما قدّمناه هناك. صحيح إن الاتجاه العرفاني والباطني غالباً ما يبعد التفكير العقلي عن دائرته، كما إنه كثيراً ما يظهر العلاقات المعرفية اللا معقولة، بحيث أنه يمكن أن يستدل من أي شيء على أي شيء، مغالياً بذلك لبسط قانون السنخية على مختلف العلاقات، أو لخدمة أغراضه المذهبية الآيديولوجية.. لكن رغم هذه المظاهر التي تلبسه ثوبـ (اللا معقول) أو (العقل المستقيل)، فإنه يظل من حيث الأساس مشدود الحركة والارتباط بدينامو تفكير هو نفس الدينامو الذي يشغّل حركة التفكير الفلسفي، وإن اختلفا في بعض الاعتبارات. وليس أدل على قوة الفكر العرفاني من أن نتائج العلم المعاصر في فهم الطبيعة أصبحت تتماثل إلى حد بعيد مع تلك التي وضعها العرفاء طبقاً لاعتبارات السنخية، كما فصلنا ذلك في خاتمة كتاب (مدخل إلى فهم الإسلام).
ومهما كان حجم الاختلاف بين الفلسفة والعرفان؛ فهو لا يعدو عند الوجوديين أكثر من شعرة سرعان ما تقبل القطع، حيث فيه ينقلب الفيلسوف ليكون عارفاً، كما وينقلب العارف ليكون فيلسوفاً. ولهذا الاختلاط يصبح من الصعب أحياناً التمييز بين الوجوديين، وتقدير أن هذا فيلسوف وذاك عارف. فإذا كان من الواضح إن أرسطو وابن باجة وابن رشد هم من الفلاسفة الصريحين، وكذلك إن إبن عربي والآملي والجيلاني هم من العرفاء الصريحين؛ فإن من أمثال إبن سينا والغزالي والسهروردي وصدر المتألهين يمكن عدّهم باعتبارات معينة فلاسفة، وباعتبارات أُخرى عرفاء ذوي نزعة باطنية. يضاف إلى أن هناك بعض الوجوديين من لهم مداخل يدخلون من خلالها إلى غير البيوت المخصصة لهم، كما هو الحال مع إبن باجة، فمع أنه فيلسوف قح لكن له بعض المداخل الصوفية التي يتسلل من خلالها إلى بيت العرفان. بل إن هذا الأمر ينطبق على إبن رشد ذاته، فهو يتسلل أحياناً إلى موقع آخر غير موقعه كفيلسوف. كل هذا التلون والإختلاط إنما يعود إلى وحدة الجامع المشترك لدينامو التفكير الوجودي المتمثل بمبدأ السنخية.
على ذلك فإن ما يقيمه الجابري من حاجز معرفي أصم بين الفلسفة والعرفان لا يسعه أن يفسر ما كشفنا عنه من الارتباط والاشتراك إلى درجة يكاد يصل إلى حد التماثل بينهما في الرؤية، استناداً إلى ذلك الجامع المشترك لدينامو التفكير الوجودي. فقد طرح الجابري فواصل مكبّرة بين أرسطو وابن باجة وابن رشد وحتى إبن طفيل من جهة، وبين الفارابي وابن سينا والغزالي والاسماعيلية والعرفاء والاشراقيين جميعاً من جهة أُخرى. كما وضع فواصل مضخّمة بين ما يسمى بالفلسفة المشرقية والمغربية. وبدورنا سنكشف عن زيف مثل هذه المزاعم، وذلك بالبحث حول محورين أساسيين، أحدهما يتعلق بتزييف الزعم الخاص بوجود فواصل جذرية بين الفكر الأرسطي وبين فكر المشرقيين ومنهم إبن سينا. أما الثاني فيتعلق بتزييف الزعم الخاص بوجود قطيعة بين الفكرين المشرقي والمغربي..
بين فلسفة إبن سينا وفلسفة أرسطو
قبل الدخول في تفاصيل هذا المحور لا بد من التطرق إلى ما جاء في التراث العربي الاسلامي من وجود نوعين من الفلسفة هما الفلسفة المشرقية والفلسفة المغربية، فما حقيقة هاتين الفلسفتين؟ وما هو معيار التمايز بينهما؟
الملاحظ إن التمييز بين هاتين الفلسفتين يرجع إلى ما ذكره إبن سينا في تصدير كتابه (المباحثات)، إذ يقول: «.. إني كنت صنفت كتاباً سميته كتاب الانصاف وقسّمت العلماء قسمين، مغربيين ومشرقيين، وجعلت المشرقيين يعارضون المغربيين حتى إذا حقّ اللّدد تقدمت بالانصاف»(2). كما وذكر في فاتحة كتابه (الشفاء) دعوته إلى الفلسفة المشائية، حيث يقول: «ولي كتاب غير هذين الكتابين ـ أي كتاب الشفاء واللواحق ـ أوردتُ فيه الفلسفة على ما هي في الطبع، وعلى ما يوجبه الرأي الصريح الذي لا يُرعى فيه جانب الشركاء في الصناعة، ولا يُتقى فيه من شقّ عصاهم ما يُتقى في غيره، وهو كتابي في الفلسفة المشرقية. وأما هذا الكتاب ـ الشفاء ـ فأكثر بسطاً، وأشد مع الشركاء من المشائين مساعدة. ومن أراد الحق الذي لا مجمجة فيه فعليه بطلب ذلك الكتاب، ومن أراد الحق على طريق فيه ترضّ ما إلى الشركاء، وبسط كثير، وتلويح بما لو فطن له استغنى عن الكتاب الآخر فعليه بهذا الكتاب ـ أي الشفاء ـ».
لكن لحد الآن لم يُعثر؛ لا على كتاب (الانصاف) الذي قسّم فيه إبن سينا العلماء إلى مشرقيين ومغربيين، ولا على الجانب الفلسفي من كتاب (الفلسفة المشرقية). فقد سبق لابن سينا في تصديره لكتاب (المباحثات) أن ذكر أنه ضيّع الكتاب الأول وهو ما يزال مسوّدة في إحدى الهزائم الحربية(3). أما الكتـاب الثاني فلم يعثر الباحثون إلا على مقـدمة وقطعة منه في المنطق أطلقوا عليها كتاب (منطق المشرقيين). لذلك فقد كانت مشكلة التمييز بين المشرقيين والمغربيين مدار بحث بعض المعاصرين، ومنهم الجابري الذي لم يوافق على رأي الدكتور عبد الرحمن بدوي القائل بأن (المشرقيين) في اصطلاح إبن سينا هم المشاؤون المعاصرون له من أهل بغداد، وأن (المغربيين) هم شراح أرسطو من أمثال الاسكندر وثامسطيوس ويحيى النحوي(4). أما هو فقد استـفاد من بعض النـصوص التـاريخية التي ذُكر فيها اقتران اسم العراق في قبال بلاد خراسان كمشارقة، الأمر الذي جعله يعتقد أن العراق أو بغداد هو بمثابة المغرب. فقد نُقل أن أبا الحسن العامري كان يقول: «أصح ما يتفق للانسان: أن تكون طينته مشرقية وصورته عراقية، فإنه يصير بهذا جامعاً بين متانة خراسان وظرف العراق، مفارقاً لبلادة خراسان، ورعونة العراق»(5). كما استفاد الجابري من بعض اشارات إبن سينا التي لها دلالة على أن المغربيين هم مناطقة بغداد، فهم المشاؤون الذين عرّضهم ابن سينا للنقد، وأغلبهم نصارى(6)، حيث تأسست مدرستهم على يد أبي بشر متّى، ثم تحولت الى تلميذه يحيى بن عدي ثم من هذا إلى تلميذه السجستاني المعاصر للشيخ الرئيس. في حين إن المشرقيين من بلاد خراسان كانوا حرانيين وليسوا نصارى طبقاً لما ذكره المقدسي صاحب كتاب (البدء والتاريخ)، مما يدل على أن إبن سينا أراد بالمشرقية الفلسفة الحرانية التي تبناها الاسماعيلية ومن على شاكلتهم من أمثال البلخي والعامري(7).
ويرجع تاريخ مصدر هذا التمايز بنظر الجابري إلى نوع التمايز الذي حلّ في المدرسة الافلوطينية، فهو يقسّم أتباع نومينيوس الأفامي الى مغربيين من أمثال افلوطين وشراح أرسطو كالاسكندر، والى مشرقيين كبوزيدون وامليخ وبرقلس وفورفوريوس الصوري والفـارابي وابن سينا، وهـم «الذين عـملوا على عقـلنـة العـرفـان» (8). كما قد اعـتبر أن المدرسة المغربية ذات صيغة (اسكندرانية ـ مسيحية) انتشرت في كل من روما والاسكندرية والمدارس المتفرعة عنها، كالمدارس السريانية (انطاكية والرها ونصيبين وجنديسابور). بينما طبيعة المدرسة المشرقية هو أنها ذات صيغة (حرانية ـ فارسية) انتشرت في كل من سوريا والعراق وشمال ايران إلى خراسان(9). ومن هذا التمايز ظهرت مدرسة بغداد المسيحية التي تبنّت الافلوطينية بصيغتها المغربية، والتي هي أقل توظيفاً واستهلاكاً لأرسطو من المدرسة المشرقية الحرانية(0 1).
كما يرى الجابري إن أهم ما يميّز التوظيف المشرقي عن المغربي للافلوطينية هو الديانة المحلية التي تعدّ الكواكب آلهة، حيث تكون واسطة بين الانسان وبين الله، لهذا يعظمونها ويستبدلونها بالنبوة، إذ يعتبرون سبيل الاتصال بها عن طريق تطهير النفس ومفارقة المحسوسات، ولأنها تُعدّ آلهة فقد ظهر القول بنظرية العقول العشرة عند الفارابي وأتباعه من الفلاسفة، مما يعني أن «فكرة الفيض تشكل القاعدة الايبستيمولوجية للفكر النظري الفلسفي في المشرق»، وهو موجّه بالنتيجة إلى نوع ما من التصوف المطلق. أما التوظيف المغربي فلما كان خاضعاً إلى معطيات العقيدة المسيحية كما هو الحال مع افلوطين وأتباعه، فإن الفيوضات لديه كانت ثلاثة هي عبارة عن (التثليث المسيحي)(1 1).
ومع ما يلاحظ من أن الفكرة الأساسية للفيض سواء في التوظيف المغربي أو في التوظيف المشرقي هي واحدة بلا اختلاف، فقد تصوّر الباحثون أن فكرة إلوهية الكواكب هي الفكرة الأساسية في مصدر اختلاف طبيعة نظرية الفيض لدى كل منهما. لذلك سبق أن رأى الدكتور جبور عبد النور في بحث له في مجلة الكتاب المصرية (عدد مايو 6 4 9 1م)؛ أن الفارابي حينما قال بتسلسل الفيوض المفارقة فإنه يتجاوز مذهب افلوطين وأتباعه من الاسكندرانيين، وهو بالتالي لم يتبع هؤلاء، بل إتبع الحرانيين، فقوله موضح عندهم(2 1). وكما يقول: إن «مرد التباين بين افلوطين والفارابي إلى الأثر الصابئي كما يتجلى لنا، فإن الثاني لم يأخذ من الأول، كما يقول كل الذين بحثوا في مذهب الفارابي ودرسوا مؤلفاته، وإنما أخذ عن الحرانيين واتبع خطتهم في تحصيل الفيض. وهذه العقول المفارقة أو الملائكة أو الروحانيات، كما يسميها الحرانيون؛ تمتاز بالصفات نفسها عند الفريقين: هي جواهر ليس لها مادة ولا هيولى وهي التي تتصرف بشؤون العالم الأرضي... وهي مكلفة في المذهبين بالهياكل العلوية أو الكواكب السيارة التي تقوم لديها مقام البدن للروح الانسانية وبنسبة بعضها إلى البعض الآخر، وهنا يكون الحدوث الطبيعي فإذا به واحد عندهما معاً»(3 1).
مع أنا سنلاحظ أن أغلب ما نُسب إلى الحرانيين موجود إما لدى أرسطو أو ما قبله بما في ذلك تسمية العقول المفارقة وصفاتها ووظائفها وتأثيرها.
أما بخصوص إبن سينا فقد سبق لإبن تيمية أن اتهمه صراحة بالميل إلى الصابئة أو الاتجاه الحراني في تأثير الحركات الفلكية. وقبله كان إبن رشد نقل عن أصحاب الشيخ الرئيس قولهم بأنه سمّى ما يدعو اليه (فلسفة مشرقية) وذلك «لأنها مذهب أهل المشرق، فإنهم يرون أن الآلهة عندهم هي الأجرام السماوية على ما كان يذهب اليه»(4 1). وفي الوقت الحاضر عدّ الجابري فلسفة إبن سينا تشكل قمة ما آلت اليه الفلسفة المشرقية الحرانية.
بل واتهم صاحبها بأنه يحمل آيديولوجية قومية (فارسية) خلف مشروعه الخاص بـ (الفلسفة المشرقية) ضد الفلسفة المشائية المغربية، وهو الأمر الذي يفسر نقده لشراح أرسطو وكذلك تابعيه من المشائيين الاسلاميين سوى الفارابي باعتباره يلتقي معه في النزعة المشرقية. كما واعتبر أن هذا الدافع الآيديولوجي قد ظهر صراحة عند تابعه ومقلده الشيخ السهروردي، فهو الآخر يدعو إلى نفس المآل(5 1).
لكن الملاحظ هو أن السهروردي ذاته نفى أن يكون إبن سينا استطاع فعلاً ان يتخلص من حبسه المشائي، فكما يقول: إن «الكراريس التي نسبها إلى المشرقيين هي بعينها من قواعد المشائين والحكمة العامة، إلا أنه ربما غيَّر العبارة أو تصرّف في بعض الفروع تصرفاً لا يباين كتبه الأُخرى بوناً يُعتد به، ولا يتقرر به الأصل المشرقي المقرر في عهد الخسراوية فإنه هو الخطب العظيم وهو الحكمة الخالصة»(6 1). وهذا التصريح من قبل زعـيم الإشراق لم يقنع صاحبنا، فهو يضعهما معاً في خانة (الفلسفة المشرقية) دون أن يرى بينهما خلافاً، فكتاب السهروردي (حكمة الإشراق) يحمل نفس العنوان، وهو يعبّر عن بناء فلسفي لا يختلف عن الصياغة (الفارابية ـ السينوية)، فهيكل البناء وأساسه واحد يتمثل بالميتافيزيقا الفيضية، كما أن الهدف واحد هو السعادة بنفس المعنى الذي أعطاه إبن سينا لها، وبالتالي فليس هناك خلاف إلا بالاصطلاح، حيث «بدلاً من (واجب الوجود) السينوي يضع السهروردي (نور الأنوار)، وبدلاً من (العقول السماوية) العشرة نجد (الأنوار القاهرة)، أما (عالم ما تحت فلك القمر) فهو (عالم الظلمة) أو (عالم البرازخ). واذن فـ (الأصل المشرقي) الذي ادعى السهروردي إنه اهتدى اليه وحده، دون إبن سينا، ليس شيئاً آخر سوى المصطلحين الفارسيين المعروفين: النور والظلمة»(7 1). وقد سبق لبعض الباحثين العرب أن اعتقد بعدم وجود فرق بينهما، باستثناء فرق جوهري هو أن التصوف عند السهروردي يعد «كل العلم وكل الفلسفة، في حين إنه عند الشيخ الرئيس ليس إلا مجرد باب من أبوابها»(8 1).
عناصر اختلاف السهروردي عن إبن سينا
وواقع الأمر هو أن هناك اختلافات عديدة بين الفيلسوفين، فلم يكن السهروردي صاحب ادعاء مجرد، بل كان يحمل معه شهاداته ومستنداته. ويبدو لي إن أهم العناصر التي امتاز بها هذا الفيلسوف عن الشيخ الرئيس ما يأتي:
أولاً: على الصعـيد المنهجي إن السهروردي يتحفظ من طريقة البحث المجرد، أو الطريقة العقلية في التفكير، والتي تعتمد على منطق البرهان والمقايسات، وذلك لشعوره بوجود قضايا لا يمكن اثباتها عن هذه الطريق، كما هو الحال فيما يتعلق بالأنوار القاهرة أو العقول الأُفقية العرضية، والتي هي فروع للعقول العمودية الطولية. فهو يحكم بأنه قد قُدّر لعدد من الحكماء القدماء أن ينسلخوا عن هياكل أبدانهم ويشاهدوا هذه الأنوار، ومنهم هرمس وأغاثاذيمون و (افلاطن)، فضلاً عن حكماء الهند والفرس. وهو يرى أنه إذا كان هؤلاء قد أخبرونا بمثل هذه المشاهدة، فليس من حقنا مناظرتهم، مثلما لا يناظر المشاؤون بطليموس وغيره في علم الهيئة «حتى أن أرسطو يعوّل على أرض بابل، ففضلاء بابل ويونان وغيرهم كلهم ادعوا المـشاهدة في هذه الأشياء. فالرصد كـالرصد، والإخبار كـالإخبار»(9 1). بل إن شيخنا السهروردي لا يخفي التصريح بأنه في بادئ الأمر كان «شديد الذب عن طريقة المشائين» في إنكار هذه الأنوار أو العقول العرضية، وكاد يبقى في هذا الوهم ((لولا أن رأى برهان ربه))(0 2). فهذه القضية عنده هي أهم قضايا الحكمة المشرقية التي كان إبن سينا معزولاً عنها.
لكن مع ذلك فالسهروردي لا يبطل طريقة البحث والبرهان العقلي، بل يرى أن الأَوْلى تأسيس الطريقتين معاً جنباً الى جنب، وبتقديره إن أحكم الحكماء المتألهين هو من يمتثلهما معاً. فإحداهما تلتزم البرهان ومقدمات القياس، أما الأُخرى فباعتبارها تمثل تجربة ذوقية، لذا فإنها تقوم على (الرمز). وبهذا تكون محكمة وغير قابلة للرد والمناظرة، إذ إن ذلك يتوقف على فهمها، لكن المفهوم من الظاهر غير مراد، لذا كان من غير الممكن تطبيق قوانين العقل عليها(1 2).
ولا شك إن هذا التنظير هو الجديد الذي أتى به السهروردي في الجمع بين طريقة البحث العقلي والسلوك الذوقي. فإذا كان إبن سينا يقر للسلوك العرفاني شرعيته، إلا أنه على ما يبدو لا يرى ذلك مما يصح أن يتجاوز حدود البرهان في الدائرة العقلية. وهو ما جعل السهروردي يعرّض به ومن على شاكلته من أصحاب البحث العقلي، جاعلاً من مسألة العقول العرضية محوراً لهذا التعريض. فمن المسلم به حتى ذلك الوقت إن الطريقة العقلية تتنكر لها باعتبارها لا تحظى بمنال أحكام العقل وبراهينه، لذلك فهي تكتفي باثبات وجود العقول الطولية (العشرة) كعلل بعضها أصل للبعض الآخر، وتعدّ العقل الأخير منها أصل وعلة كل ما يكون من نظام في عالم ما تحت القمر، فهو الذي يهب الصور الجسمية والنفسية والعقلية لمختلف استعدادات الهيولى المشتركة. هذا في حين إنه بحسب المنهج الجديد كان من الممكن القول بوجود عقول أُخرى ثواني ليس فيما بينها أيّ علاقة من علاقات العلية كما هو الحال في العقول الطولية، في الوقت الذي تفسّر فيه - هذه العقول- وجود الكثرة العظيمة للأنواع في عالمنا، فهي علل وآلهة باعتبارها أصل وجود هذه الأنواع والقائم بالعناية بها. لهذا كان السهروردي ينظر إلى إبن سينا نظرة مشائية حتى في حدود ميله (المشرقي)، ذلك إنه في جميع الأحوال لم يتجاوز حدود الطريقة العقلية البرهانية.
ثانياً: إن العلم الإلـهي عند السهروردي هـو علم حـضوري شهـودي، وهو يتناسب مع اعتبار (الله) نور الأنوار، وليس مجرد (واجب الوجود) كما يظن الجابري، وذلك باعتبار أن الله يشهد نفسه بنفسه، كما به يكون كل شيء مشهوداً وحاضراً أمامه أزلاً وأبداً، فالنور نور لذاته ولغيره معاً. وبذلك يكون المبدأ الأول مستغن عن الصور العلمية (المشائية)، فله «الإشراق والتسلط المطلق فلا يعزب عنه شيء، والأُمور الماضية والمستقبلة، مما صورها تثبت عند المدبرات السماوية، حاضرة له؛ لأن له الإحاطة والإشراق على حامل تلك الصور، وكذا للمبادئ العقلية، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض... وفي الجملة؛ الأول محيط بجميع الأشياء من دون حاجة له إلى صورة وفكرة وتغير.. وعلمه وبصره واحد..»(2 2).
وهذا يعني أن المفاهيم السهروردية في النور والظلمة والاشراق لها مكانة متميزة على الصعيد المعرفي الابستمولوجي. ذلك أن العلم الإلهي عند إبن سينا وجميع المشائين هو علم صوري بحت لا يسعه أن يحمل معنى النورية والاشراق كما هو الحال عند السهروردي.
ثالثاً: يضـاف إلى ما سبق إن السهـروردي اسـتحـدث بعـض النـظريات المـيتافيزيقـية الهامة، خاصة فيما يتعلق بالحشر الجسماني، وذلك انطلاقاً من تأسيسه الخاص بوجود عالم جامع لكل من المحسوس والمعقول، وهو عالم الخيال والمُثل المعلقة، إذ يجمع صور جميع الموجودات العقلية منها والحسية طبقاً للسنخية. وتتصف هذه المُثل بأنها خارجية منفصلة عن النفس في عالم التجرد والآخرة. وبهذا فإن السهروردي يستلهم نظرية افلاطون وإن كان لا يعتبر مُثله عين مُثل ذلك الفيلسوف. فالمُثل الافلاطونية نورية ثابتة، بينما المُثل المعلقة؛ منها مستنيرة للسعداء ومنها ظلمانية للأشقياء، وسواء هذه أو تلك فإنها ليست حالّة في قوام مادي، كما إنها ليست خيالات نفسية داخلية كما تصورها نظرية التمثيل للمشائين، والذي منهم إبن سينا. الأمر الذي ينسجم مع نظريته النورية في الشهود والحضور، حيث في هذه الحالة تكون النفس مدركة لتلك (البرازخ) من المُثل إدراكاً حضورياً بالشهود، وليس بالطريقة الصورية كما هو الحال عند المشائين.
فلهذه التمايزات وغيرها كان الفلاسفة المتأخرون ينظرون الى ابن سينا نظرة مشائية، بينما أوسموا السهروردي سمة (زعيم الإشراق) كأول فيلسوف مؤسس لهذا الاتجاه. لكن دون أن ينكر ما تأثر به هذا الفيلسوف بالشيخ الرئيس، سواء على صعيد الأفكار أو على صعيد الاسلوب الخاص في مطارحاته المشرقية الإشراقية.
والواقع إن الجدل الخاص حول حقيقة مذهب إبن سينا لم ينته بعد. فحديثاً أخذ البحث يدور حول طبيعة المفارقة الابستمولوجية في الكتب التي وضعها هذا الفيلسوف. فهل إنها تحمل تمايزاً جوهرياً من الناحية المعرفية، أو إنها ظلت ضمن حد التمايز المعتاد للمذهب والطريقة الواحدة؟ فجملة من المستشرقين والباحثين يفرقون بين كتب إبن سينا المشرقية الإشراقية، والمغربية المشائية، فيرون أن كتبه المشرقية هي عبارة عن كتاب الفلسفة المشرقية والانصاف والاشارات وجملة من الرسائل العرفانية وقصصه الرمزية في النفس وغيرها، أما كتبه المغربية المشائية فهي الشفاء وملخصه النجاة، فضلاً عن مجموعة من رسائله المنطقية والفلسفية. وفي قبال هذه النظرة هناك بعض المستشرقين والباحثين العرب من لا يرى وجود تمايز جوهري بين تلك الكتب، كما هو الحال مع المستشرقة الفرنسية (غواشون)، فهي ترفض فكرة ذلك التناقض بين كتابات إبن سينا، وترى ان كتاب (الاشارات والتنبيهات) الذي كتبه في أواخر سني حياته والذي يعدّ أنضج كتبه قاطبة، لا يناقض الخطوط العامة لما موجود في كتاب (الشفاء)، وإنْ بدى شديد الاختلاف عنه. وهي تعمم هذه الصورة على فلسفته المشرقية كلها، حيث تستفيد من تصريحه في مقدمة (منطق المشرقيين) بأن كتاب (الشفاء) نفسه يحتوي على كل ما يحتاج اليه عامة الفلاسفة. وبالتالي فإنها تنظر إلى الفارق في كتابات إبن سينا، هو أن بعضها قد عُرض عرضاً فلسفياً عقلياً خالصاً، والبعض الآخر يتجاوز هذا الحد باتجاه التصوف، لكن من دون أن يخلّ بالنزعة العقلية الفلسفية، الأمر الذي لا يصحّ عندها اطلاق لقبـ (صوفي) عليه. فحتى في معالجته للنفس، كجوهر مفارق يحيا حياته السعيدة بمفارقته البدن؛ لا ترى هذه المستشرقة أن في ذلك ما يجعله صوفياً، وذلك باعتبار أن السعادة الخالدة للنفس تظل قائمة على أساس الإدراك المعرفي، «فمفهوم السعادة في السماء، والشقاء في جهنم حيث تحرم العقول معرفة المعقولات، مفهوم عقلاني بحت. فلا يمكن، والحال هذه، تبين الصوفية السينوية والتعرّف الى طبيعتها على ما يقال». وهكذا فهي تنتهي الى ان «عقل إبن سينا العظيم قد وضع نفسه في نقطة يظهر فيها إنتاجه كلاً واحداً متماسك الأجزاء»(3 2).
ويشاطر هذه الباحثة في الرأي بعض الباحثين العرب كما هو الحال مع الدكتورين ابراهيم مدكور وماجد فخري. فالأخير منهما يرى أن لا فرق من حيث المضمون بين كتب إبن سينا المـشرقـية والمـغربية(4 2). أما الأول فيعد إبن سينا مشائـي الاتـجاه سواء في كتبه الكبرى كالشفاء أو الصغرى كالاشارات، إلا أنه يضيف بأن مشائيته قد امتزجت بعناصر افلوطينية وافلاطونية(5 2).
وكتأكيد على عدم وجود فرق جوهري بين الفلسفتين المغربية والمشرقية؛ هو أن إبن سينا والسهروردي وكذلك تلميذه الشهرزوري كانوا يظنون أن اليونان قد استقت الحكمة والمنطق من بلاد فارس، فكما يقول الشهرزوري: «ويقال إن المنطق والحكمة التي ألّفها وهذبها أرسطو طاليس أصل ذلك مأخوذ من خزائن الفرس حين ظفر الاسكندر بدارهم وبلادهم، وإنه ما قدر أرسطو على ذلك إلا بمدد من كتبهم ومعاونتها»(6 2)، وبالتالي فكل ما عُدّ من الفلسفة المشرقية نجد ما يشابهه، أو على الأقل جذوره عند الفلسفة المغربية، بل وعند أرسطو نفسه. ويكفي أن نتأمل طبيعة الجامع المشترك لدينامو التفكير الوجودي، فهو في حد ذاته يُحيل أن يكون ثمة تضاد بين العناصر المشرقية كما في فلسفة إبن سينا، وبين فلسفة أرسطو وأتباعه من أمثال إبن باجة وابن رشد، على ما سنتعرف على ذلك لاحقاً.
جوهر مشرقية إبن سينا
لقد اعتبر الجابري أن جوهر ما يسميه إبن سينا بالحكمة المشرقية هو ما يتعلق بنظريته في النفس وامتداداتها الروحانية السماوية، وهي النظرية الغنوصية التي أضفى عليها التعقل ببراهينه(7 2)، والتي ترتبط بفلسفته للسعادة، حيث تتصل النفس بنفوس الأجـرام السمـاوية والعقل الفعال وتنشغل بتأمل واجب الوجود، ثم أنها تحصل على السعادة التامة بمفارقة البدن، حيث أنها تستخدم بدناً جديداً من الأجرام السماوية. فهذا هو جوهر ما يريده إبن سينا من الحكمة المشرقية(8 2). مع أن إبن سينا لم يقطـع بالأمر الأخير المـتعلق باستـخدام النفس للجرم السماوي، فهو وإن بدى عليه بعض الميل إلى هذا الاعتقاد في شرحه لكتاب (اثولوجيا)، إلا أنه في كتاب المباحثات الذي فيه يناصر المشرقيين اعترف بالقصور عن إدراك مثل هذا الأمر، ولم يجزم إن كان يمكن للنفس استخدام الجرم السماوي بعد مفارقة البدن(9 2).
كما أضاف الجابري إلى ذلك بعض الآراء السينوية التي عدّها متفقة تماماً مع الحرانيين أو الفلسفة المشرقية، من قبيل قوله بقدم العالم ـ الحدوث بالذات والقدم بالزمان ـ والايجاب بالذات الذي يعني (الصدور ليس على سبيل القصد والاختيار) بل الصدور الضروري كصدور الأشعة عن الشمس، وأيضاً قوله في الخير والشر، وما إلى ذلك من اعتقادات تنسب إلى الحرانيين(0 3).
لقد كان إبن سينا في نظر الجابري محملاً بأقوى شحنة مشرقية مضادة لفلسفة أرسطو والمغربيين. فمع أن شيخه الفارابي هو الآخر كان محملاً بتلك الشحنة الحرانية، خاصة فيما يتعلق بنظرية الفيض(1 3)؛ لكنه مع ذلك لا يصل إلى ما انتـهى اليه الشيخ الرئيس. فالفارابي بلغ في عصره أوج عقلانية متفتحة وصل اليها الفكر الاسلامي في المشرق العربي بعد أن حمل لواءها المعتزلة، في حين إن إبن سينا ارتد عن هذه العقلانية «إلى لا عقلانية ظلامية قاتلة»(2 3). فالفارق بينهـما هو اختلافـهما في العقلانية وموقفهما المتباين من بعض جوانب النظرية الهرمسية الخاصة بنفوس الأجرام والنفس البشرية ومسألة السعادة. فالجابري يرى أن إبن سينا حين اعتبر الأجرام السماوية تحس وتتخيل فقد أضاف إلى ما اقتصر عليه الفارابي من كونها تتعقـل فقـط(3 3). وربما أنه اعتمد على إبن رشد الذي نفى وجود قائـل يقول بأن الأجـرام السماوية تتـخيل إلا إبن سينا(4 3). مع أن الفارابي في بعض تصانيفه أثبت إضافة إلى مرتبة العقل؛ وجود مرتبة للنفس الفلكية وظيفتها التخيل باتصال واستمرار(5 3).
كما إعتقد الجابري أن الفارابي على عكس إبن سينا رأى أن النفس مرتبطة بوجود الجسد دون أن تفـارقـه، وذلـك لأن إبن سينا أقر بجـوهـرية النفس واستـقلالها(6 3). مـع أن الفارابي هو الآخر أقر أيضاً بهذه الجوهرية والاستقلال ورأى أنها تفارق البدن كلياً دون أن تعود اليه(7 3). بل أكثر من ذلك هو أنه جعل من كمال قوة التخيل النفسية عبارة عن (نبوة). أو أن النبوة تحصل عنده بأكمل المراتب التي تنتهي اليها القوة المتخيلة النفسية(8 3). نعم لا شك إنه ظهرت هناك ترددات عديدة حول مصير النفس في كتبه كما نبّه على ذلك إبن طفيل.
ففي كتاب (السياسة المدنية) اعتبر النفوس الشريرة التي لا تصغي إلى قول مرشد ولا معلم ولا مقوم تنحل وتعدم لأنها تظل نفوساً هيولانية غير مستكملة استكمالاً تفارق به المادة أو البدن، فإذا بطل البدن بطلت هي معه(9 3). بينما في كتاب (آراء أهل المدينة الفاضلة) أثبت بقاءها بعد الموت في آلام أبدية لا نهاية لها، مقراً إن ما يهلك ويصير الى عدم إنما هي فقط النفوس الجاهلة تماماً والتي تكون على مثال ما يكـون لـلبهائم والسباع والأفاعي(0 4). لكن في شرحه لكتاب (الأخلاق) وعلى ما يذكر إبن طفيل بأنه قد وصف «شيئاً من أمر السعادة الانسانية وأنها إنما تكون في هذه الحياة التي في هذه الدار. ثم قال عقب ذلك كلاماً هذا معناه: (وكل ما يذكر غير هذا فهو هذيان وخرافات عجائز).. إذ جعل مصير الكل إلى العدم. وهذه زلة لا تقال..»(1 4). أما إبن سينا فبما أنه لم يظفر باثبات تجرد القوة الخيالية للانسان؛ فقد صار متحيّراً في بقاء النفوس الساذجة بعد الموت، فتارة اضطر الى القول ببطلانها كما في رسالته (المجالس السبعة)، وأُخرى قال ببقائها لكونها تدرك بعض الأوليات والعمومات(2 4).
كذلك رأى الجابري أن إبن سينا يختلف عن الفارابي في فهمه لمنشأ السعادة. فعند إبن سينا إن منشأها الكامل بمفارقة البدن، بينما عند شيخه أن المهم في ذلك هو مفارقة العقل النظري حتى مع وجود البدن، وذلك بتجرد العقل واستكمال النفس بالعلم، لهذا هو يسخر من المعتقدين بكون السعادة الحقيقية هي فيما بعد الموت، وإلا كما يقول «يلزم هؤلاء أن يقتلوا أنفسهم وأن يقتلوا الناس جميعاً». وعليه فهو يوصي سكان المدينة الفاضلة وينصح الفاضل فيها على أن لا يستـعجل المـوت ليستـفيد من فعـلـه أهـل المدينة(3 4).
والواقـع أنه لا يوجد فارق جوهري بين الفيلسوفين، فالفارابي في بعض رسائله يؤكد هو الاخر على أن تمام السعادة يكون بعد الموت، وذلك حين يبلغ الانسان مرتبة العقل الفعال المسمى بالروح الأمـين (جبريل)(4 4). كما إنه في (آراء أهـل المـدينة الفاضلة) يعتبر الموت عاملاً من عوامل زيادة الابتهاج والسعادة، إذ النفوس الناطقة بعد الموت تتصل ببعضها للتشابه فيما بينها، فيعقل بعضها بعضاً على جهة اتصال معقول بمعقول، وكلما زاد تعقلها زادت لذتها وابتهاجها تبعاً لذلك(5 4).
وعليه إذا كان الفارابي يلحظ في منشأ السعادة والابتهاج الجانب العقلي والعلمي من الإدراك؛ فإن الأمر مع إبن سينا لا يختلف شيئاً، سواء في كتبه المشرقية أو المغربية، وسواء في حياة البدن أو بعد مفارقته. ذلك إن المهم في الكمال وتحصيل السعادة عند إبن سينا هو الحصول على العلم والوصول إلى أبلغ درجات العقل. وكتأكيد على هذا المعنى فإنه يقسّم عوالم الإدراك إلى ثلاثة هي: عالم الحس، وعالم الخيال والوهم، وعالم العقل. ويعتبر العالم الأخير وحده هو الجنة، أما عالم الحس فهو عالم القبور، في حين عنده عالم الخيال والوهم عبارة عن عالم العطب والجحيم، ومع ذلك فهو ينظر إلى أن تحصيل الجنة أو السعادة القصوى لا يتم إلا من خلال المرور بالصراط الدقيق من الحس فالخيال والوهم ثم إلى العقل(6 4).
والواقع إن طرح إبن سينا وتأكيده على كون السعادة الحقيقية التامة تأتي بعد مفارقة البدن؛ لا يخرج عن دائرة التفكير الفلسفي العقلي المحض. فحينما يتحول العقل من مرحلة العقل الهيولاني إلى بعض مراحله العليا تصبح المادة بنظره كفيلسوف معيقة عن بلوغ العقل أقصى درجات الكمال والسعادة، لذلك فتحصيل هذه الدرجة الرفيعة لا يتم إلا بمفارقة البدن كلياً عند الموت(7 4).
أخيراً فإن الجابري يرى أن الفيلسوفين يختلفان عموماً في الرؤية العامة. فالرؤية الفارابية الميتافيزيقية هي عبارة عن جمع بين الالهيات الهرمسية وبين المدينة الافلاطونية. أما الرؤية السينوية فكانت جمعاً بين إلهيات الفارابي وأُخرويات الاسماعيلية. وبالتالي فهو ينظر إلى أن فلسفة إبن سينا هي عبارة عن امتداد لفلسفة الفارابي وخروج عنها في نفس الوقت. فهي امتداد لها لكونها تتبنى هيكلها العام، وهي خروج عنها لأنها تتجه بذلك الهيكل غير الوجهة التي وضعه فيها الفارابي(8 4).
على أن الجابري يُرجع اختلاف إبن سينا عن جميع المشرقيين ومنهم الفارابي؛ بفارق عام يتعلق بكيفية توظيف أرسطو. ذلك أن المشرقيين قد وظفوا كلاً من المنطق والعلم والميتافيزيقا الأرسطية عبر تأويل هذه الميتافيزيقا «تأويلاً يسمح بتمرير مفاهيمها المؤسسة للمنطق والعلم، إلى الفكر الاسلامي حتى يتمكن هذا الفكر من أن يؤسس من داخله العلم والمنطق.. أي حتى يغدو منبعاً للعقلانية لا مستورداً لها» وهذا ما تمّ تحقيقه من خلال الكندي والرازي الطبيب وإخوان الصفا والاسماعيلية، ثم تصل قمتها على يد الفارابي. لكن الأمر مع إبن سينا يختلف، حيث إن الحاجة عنده لم تكن عبارة عن توظيف أرسطو عقلانياً بقدر ما كانت عبارة عن التخلص منه «فكان بذلك المدشّن الفعلي لمرحلة أُخرى في تطور الفكر الفلسفي في الاسلام، مرحلة التراجع والانحطاط»(9 4).
وبذلك يكون إبن سينا لدى الجابري قد بلغ أرقى درجات التضاد والتناقض مع أرسطو. فهو يعد فلسفته الفيضية وما تتضمنه من اعتقادات حرانية، سبق أن ذكرناها، هي جميعاً ليس لها أثر أرسطي.
حقيقة الأمر أنّنا لو عدنا إلى دراسة أرسطو من زاوية تلك المقولات المشرقية الحرانية التي مرت معنا؛ لوجدنا أن بعضها مما يقول بها، وأن للبعض الآخر شيئاً من الأثر والجذور عنده، وبالتالي فليس هناك من اختلاف يصل إلى حد الجذرية والحسم من الناحية الابستمولوجية، كما سيتضح لنا كالآتي:
بدءاً لا بد من الاشارة الى أن أرسطو يقول بفكرة العقول السماوية ومراتبها بحسب الطبع. فهناك العقل الأول الذي يحرك الكل، يضاف اليه عقل ثان وثالث ورابع الخ.. حيث يتحدد عنده عدد هذه المفارقات بحسب عدد الحركات الفلكية. ولما كان هذا غير مقطوع به، فهو يعتمد على ما يقرّه علماء الهيئة، وهم مختلفون حول ذلك، لذا فهو يعوّل على قول عالمين مشهورين منهم، وطبقاً لهما تكون الحركات الفلكية إما خمساً وخمسين أو سبعاً وأربعين حركة، وبالتالي فإن عدد العقول هو بعدد هذه الحركات. وهذه العقول عنده وإن كانت مرتبة بانتظام ومقطوعاً به من الأول، إلا أن ترتيب بعضها من البعض الآخر يُعدّ غير مقطوع به، وهو يرجح أن يكون هذا الترتيب بحسب الترتيب في الموضع(0 5).
ومما لا شك فيه هو أن هذه الفكرة عن العقول ومراتبها بحسب الطبع تعتبر من أهم الأفكار التي استقاها فلاسفة المشرق الاسلامي عن أرسطو، كما هو الحال مع الفارابي وابن سينا. فالفارابي لم يأخذ فكرة العقول السماوية مجردة عن نظامها التنازلي، وهو البُعد الذي يضفي على الوجود طابعه الفيضي المتميز، خصوصاً إذا ما علمنا أن أرسطو يعتقد بما اطلق عليه قاعدة (الامكان الأشرف) من حيث أسبقية الكامل على الناقص في الوجود وإنه وسائر الفلاسفة القدماء من المحال عندهم «أن يُخلق الأفضل من أجل الأنقص، لكن عـن الأفـضـل ولابد يلـزم وجـود الأنـقـص»(1 5)، مـما يعني أن لـنظرية الفيض جذورها الأرسطية. فهو إذ يجعل السماوات واحدة من حيث النوع ويعتبر مبادئها المفارقة واحدة بالنوع كثيرة بالعدد أيضاً(2 5)؛ يرى أن ارتباطها بمبدأ الوجود الأول يعد ارتباطاً واحداً إلا أنه قائم على نظام التسلسل بحسب الطبع والكمال.
وإذا لم يكن من حقنا تحميل أقوال أرسطو ونظريته أكثر مما ينبغي، خاصة إنها كانت محاطة بكثير من الغموض؛ فإن ما نظّر اليه المتأخرون من اتباعه يعدّ خطوة واضحة للانضمام الى مقالة الفيض دون انفصال، كما هو الحال مع إبن رشد الذي كاد قوله يطابق مقالة الفيض المشرقية لدى صدر المتألهين، كما سنرى. لكن يظل الخلاف الرئيسي بين الطريقة الأرسطية وطريقة المشرقيين الاسلاميين هو أن الأُولى تجعل من المبدأ الأول هو المحرك للفلك الأقصى، بينما يُفترض عودة ذلك عند المشرقيين إلى المعلول الأول المسمى (العقل الأول). وهذا الخلاف مردّه إلى الفارق المتعلق بتصور طبيعة الوحدة الخاصة بمبدأ الوجود الأول وما يحمله هذا الخلاف من تردد(3 5)، وهو بالنتيجة خاضع الى (القوانين الحكمية) وليس بمعزل عنها كما سنرى.
وإذا أخذنا بالرأي العام القائل بأن أول من قال بنظرية الفيض العقلية هو افلوطين المعدّ زعيم الفلسفة المغربية، فإن هذا لا يجعل من الفلاسفة المسلمين (مشرقيين) للقول بها، رغم ما كان لهم من الخصوصيات الثانوية التي لم ترد عن ذلك الفيلسوف الاسكندراني. وإذا أضفنا إلى هذا ما يحمله افلوطين من مشارب صوفية تتجلى بحديثه العرفاني عن النفس(4 5)؛ فإن ذلك سيزيح الحاجز الذي يوضع في التمايز بين طريقته المعدّة مغربية وبين الطريقة المشرقية للهرمسية والحرانية والصوفية.
ومن الجذور الأرسطية للنزعات المشرقية، هو أن أرسطو يعتبر عالم السماوات لا يتصف بالعقول الصورية المحضة المفارقة فحسب، بل يمتاز كذلك بنفوس ذات قوى شوقية. فالأجرام إنما تتحرك بعلة فاعلية عبارة عن العقول المحضة، والتي هي في نفس الوقت تمثل غايات هذه الحركة الدورية، إذ الحركة تتولد من جهة الشوق في نفوس هذه الأجرام(5 5). فـ «الذي يتحرك بما هي حركة هو متشوق لها ضرورة، والذي يتشوق لحركة فهو متصور لها ضرورة»(6 5). وإذا كان الحال في عالمنا هو أن «المحرك القريب هو المـتخيل وآلـته هـو الشوق»(7 8)؛ فإن الأمر في عالم الأجرام السمـاوية والمـفارقات ـ حسب الطريقة الأرسطـية ـ يختلف تماماً، فمبدأ حركة الجرم السماوي «ليس هو التخيل ولا الحس، وإنما هو التصور بالعقل، والشوق المحرك لهذا الجرم في المكان هو عن التصور بالعقل»(8 5).
وبذلك فإن الأجرام السماوية هي ذوات عقول وشوق، إذ «المحرك لها هو عقل بريء من المادة ـ لذا ـ لزم أن لا يحرك إلا من جهة ما هو معقول ومتصور، وإذا كان كذلك فالمتحرك عنه عاقل ومتصور ضرورة»(9 5)، وهو يعقل مبدأه المحرك له على جهة الأمـر والامتثال، طاعة ومحبة(0 6). مما يعني أن هناك محركين للجرم السماوي؛ أحدهما مفارق ليس في مادة وجسم، وهو عبارة عن «محرك غير متناهي التحرك»، أما الآخر فهو ليس بمفارق، ذلك إنه عبارة عن «محرك متناهي التحرك وهي النفس التي فيه»، لذلك كان الجرم من هذه الجهة «يتحرك عن القوة المتناهية التي فيه يتحرك في زمن»(1 6).
على ذلك يكون للأجرام السماوية نفوس وعقول كثيرة، حيث لكل كرة فلكية مبدأها المفارق ونفسها التي تخصها والتي تمتاز بالشوق مما يحقق من خلالها الحركة لجميع الأجرام. فالمحرك الأول يحرك المتحرك الأول كما يحرك المحبوب المحب له، وهو «يحرك ما دون المتحرك الأول عنه بوساطة المتحرك الأول». أي إن السماء الأُولى تتحرك عن المحرك الأول بالشوق اليه؛ وذلك بأن «تتشبه بقدر ما في طاقتها، كما يتحرك المحب إلى التشبّه بمـحبوبه، وتـتـحرك سـائـر الأجـرام السماوية على جـهة الشـوق لـحركة الجرم الأول»(2 6). وهـذا الحال مستمر ودائم، أزلاً وأبداً، باعتبار أن أرسطو وغيره من الفلاسفة يعدون المفارقات والأجرام ونفوسها لا تموت ولا تقبل الفناء، فالأجرام عندهم ليست مركبة من مادة وصورة، بل «مركبة من جسم ـ بسيط ـ وصورة نفسانية عقلية»، كما أنها متنفسة بذاتها وحيّة بذاتها لا بغيرها، لأن كل حي بحياة هو كائن فاسد(3 6).
وأول ما يلاحظ في التصوير الأرسطي الآنف الذكر هو أنه لا يختلف كثيراً عما تقوله مشرقية إبن سينا وأصحابه. فالتعبير عن الأجرام السماوية بأن لها نفوساً شوقية غايتها من الحركة طلب العقول المحركة؛ يجعلها تقع في مقام النفس المتخيلة التي يقول بها المشارقة. ذلك أنهما يتفقان على عدة أُمور بهذا الصدد، فمن جهة أنهما يتفقان على أن عالم السماوات هو عالم حيّ بسيط كامل وثابت وبريء من المادة الهيولانية، كما ويتفقان على ضرورة وجود المبادئ المفارقة المحركة بالشوق، وعلى ضرورة وجود أمر ما يتوسط بين الجسم والمفارق في عالم السماء. وهنا موضع الخلاف الجزئي بينهما، حيث أن هذا الأمر المتوسط والذي هو عبارة عن النفس الجرمية، يكون عند التصور الأرسطي عبارة عن العقل، أما عند التصور المشرقي فهو عبارة عن النفس المتخيلة.
أما السبب الذي يجعل الطريقة الأرسطية تخشى من قبول وجود النفس المتخيلة والحساسة كرتبة وسيطة بين العقل المفارق وبين الجسم السماوي؛ فهو كما ذكر الاسكندر من «أن هذه الأجرام ليست متخيلة لأن الخيال إنما كان في الحيوان من أجل السلامة، وهذه الأجرام لا تخاف الفساد، فالخيالات في حقّها باطل، وكذلك الحواس، ولو كان لها خيالات لكان لها حواس لأن الحواس شرط في الخيالات، فكل متخيل حساس ضرورة وليس ينعكس»(4 6).
وقد ردّ المشرقيون على هذه الحجة المنبنية بقياس الغائب على الشاهد، إذ ذكر إبن سينا قولهم من أن ما اعتمده الأرسطيون في أن الأجرام السماوية لا ينبغي أن يكون لها حس وخيال باعتبارها لا تحتاج إلى غذاء، ولا لها طلب شيء ولا هرب من شيء؛ فكل ذلك بنظر المشرقيين ليس بواجب، لأن «الحس والإدراك بنفسه معنى مطلوب لذاته، فليس بمنكر أن يكون للأجرام السماوية ضرب من الحس لا يحتاج فيه إلى انفعال واستحالة، بل يكون كحال القمر في استضاءته من الشمس، ولعل لها حاجة من وجه ما إلى أمر حسي وإدراك زماني كما يذكره المشرقيون»(5 6). بل إبن سينا نفسه قد عجب من الموقف الشاذ الذي اتخذه الأرسطيون فيما يتعلق بالتصورات العقلية للأجرام السماوية، وذلك باعتبار «أن التصور العقلي غير ممكن لجسم ولا لقوة جسم، فهو غير ممكن لما يتحرك بذاته، أو يتحرك بالعرض، أي بسبب متحرك بذاته»(6 6). كذلك فإن شيخ الاشراق السهروردي هو الاخر اعتبر «أن المباشر للحركة لا يجوز أن يكون عقلاً محضاً، أي مجرداً عن المادة بالكلية، إذ لا بد له من تخيل حدود جزئية.. ورعاية الأوضاع لا بد لها من قوة تخيلية في جسم، فلا يمكن للمجرد عن المادة ذلك، بل المباشر للحركة نفس»(7 6).
على أية حال فالاختلاف بين الفريقين ليس بالأمر الكبير، بدلالة إن إبن رشد نفسه يضع مجالاً من الفرض يوجّه فيه الاعتقاد بوجود النفس المتخيلة للجرم السماوي. فهو وإن كان ينفي أن يكون للقدماء قول بوجود رتبة خيالية للجرم السماوي، بل ويرى أن ما يلزم عن أُصولهم هو نفي الخيال بأي شكل كان في ذلك العالم، باعتبار أن غاية وجود الخيالات هي لموضوع السلامة سواء كانت خيالات عامة أم خاصة، وأنها من نتاج تصورنا بالعقل «ولذلك كان تصورنا كائناً فاسداً وتصور الأجرام السماوية إذ كان غير كائن ولا فاسد فيجب أن لا يقترن بخيال»، فمع كل هذا فإنه يضع افتراضاً اقناعياً غير برهاني لتحديد شكل الخيال في ذلك العالم، إذ يرى أنه إن كان هناك خيال فلا بد أن يكون خيالاً عاماً لا جزئياً، أي أنه وسط بين الإدراكات العقلية والجزئية، وبالتالي فإنه خيال من طبيعة الكلي وليس خيالاً جزئياً مستفاداً من الحس والحواس. فطبيعة هذا الخيال الكلي يكون باعثاً للإرادة الكلية التي لا تقصد شخصاً دون شخص(8 6).
أرسطو والمفهوم الإلهي للأجرام
يضاف إلى ما سبق أن أرسطو يعتقد بأن عالم ما فوق القمر له تأثير على عالم ما تحته، وهو تأثير شامل وحاسم يمسّ ظاهرة الكون والفساد. وقد ظن الجابري وبعض الأساتذة من طلبته أن هذا المفهوم قد وجد إخراجاً هرمسياً بالقول بأن في الكواكب آلهة(9 6). لكن واقع الأمر هو أن نظرية أرسطو والتوجيهات المشائية التي لحقت بها كلها تؤكد على حقيقة التسليم بوجود عنصر الآلهة أو الملائكة في تلك الكواكب، وبالتالي فإن مصدر هذا الاعتقاد لم يكن حرانياً أو مشرقياً متأخراً على أرسطو، وهو بالنتيجة ليس ذا ميزة مشرقية كما يعتقد الكثير من الباحثين. فأرسطو صريح القول بأن عالم ما فوق القمر هو عالم إلهي، وأن الأجرام التي فـيه هي أجـرام إلـهية(0 7). وهو يعد صور الأجسام السماوية عبارة عن صور روحـانية، موافقاً قول القدماء الذين ينقل عنهم في أول كتابه (السماء والعالم) رأيهم «أن السماء مسكن الروحـانيين»(1 7). لذلك كان المشاؤون من أمثال إبن باجة وإبن رشد يجيزون تسمية نفوس تلك الأجرام السماوية بأنها روحانية وملائكية، ويعتبرونها جارية على أُصول الفلاسفة(2 7). فلم تكن هذه التسمية ميزة للحرانيين ولا المشرقيين من أمثال إبن سينا. بل أكثر من ذلك إن أرسطو لا يمانع صراحة من اعتبار مبادئ الأجرام السماوية آلهة. فهو ينقل رأي القدماء ـ المظنون بأنهم الكلدانيون كما يرى إبن رشد ـ القائلين بأن الأجرام السماوية عبارة عن آلهة، فيعتبر أن هذا القول هو أساس ما بناه أصحاب نظرية الصور المثالية المفارقة، لكنه يرى بأن الانسان لو تأول كلامهم بأنهم «إنما رمزوا بالآلهة وهم كانوا يريدون الجواهر الأُولى التي هي مبادئ الأجرام السماوية والأجسام السماوية، فسيكون تأويلاً صحيحاً ورمزاً يوافق الحق، لأنه إن عبّر بالإله عن شيء من الأشياء فهذه الجواهر هي أحق بهذه العبارة..»(3 7).
وربما كان مثل هذا القول هو السبب الحقيقي وراء نكبة إبن رشد المعروفة والتي كادت تقضي على حياته. ذلك أن جماعة من المؤرخين قالوا إنها بدأت بتقديم بعض التلاخيص التي كان يكتبها إبن رشد على كتب أرسطو، وفيها هذه العبارة: (فقد ظهر أن الزهرة إحدى الآلهة)، إذ قُدمت إلى ملك المغرب المنصور يعقوب، وعلى أثر ذلك بدأت نكبة إبن رشد وأُحرقت كتب الفلسفة إلا ما كان منها في الطب والحساب والنجوم(4 7).
ويعود السبب في قول الفلاسفة بأن في الأجرام السماوية آلهة؛ الى كونها تحمل نفوساً أو عقولاً شريفة كاملة تقوم بحفظ وعناية عالمنا التحتاني «لذلك عظّمها القدماء ورأوا أنها آلهة» كما يقول إبن رشد(5 7).
طبيعة إلوهية الأجرام عند الفلاسفة
لكن مع أن الفلاسفة يتفقون على هذا النحو من الإلوهية السماوية على عالم ما تحت القمر؛ فإنهم يختلفون في كيفية هذه الإلوهية ونوع تأثيرها. فقد كان أرسطو على خلافٍ مع من سبقه من القدماء الذين نادوا بنظرية المُثل الصورية، ومنهم استاذه افلاطون، اذ كانوا يرون أن هناك جواهر مفارقة تؤثر على عالم ما تحت القمر تأثيراً مباشراً، بحيث تكون الصور الطبيعية في عالمنا تابعة ومطيعة لها، فضلاً عن أنها على شاكلتها. وقد كان بعض شراح أرسطو مثل ثامسطيوس يرى نفس هذا الرأي، فهو يعتقد أنه إذا كان من الصحيح والمقنع تفسير ولادة الأشياء عن مثيلاتها بالنوع كالانسان من الانسان والحصان من الحصان والنار من النار، فإن ما ليس بمبرر لديه هو ولادة كائنات من غير أنواعها، كولادة بعض الزنابير من أبدان الخيل الميتة، والضفادع من العفونة، والنار من الحركة... الخ. لذلك فهو يرى أن هذا لا يُفسر إلا بافتراض وجود صور مفارقة هي التي تعطي صور تلك الأنواع من الخارج(6 7). ثم جاء المتأخرون من الفلاسفة المسلمين فاعتبروا المفارق الذي يعطي جميع الأنواع الطبيعية صورها الخاصة من الخارج؛ عقلاً مفارقاً، مطلقين عليه لقبـ (واهب الصور) باعتباره يفيض على كل جسم ما يناسبه من الصورة. وأعقب هؤلاء جماعة من المتأخرين قالوا بالعقول العرضية أو (أرباب الأنواع)، حيث الرجوع إلى أصل النظرية الافلاطونية، كما هو الحال عند السهروردي وأتباعه من الإشراقيين. فهذه النظرية ترى الأنواع توابع إلى أربابها، فهي بهذا تستعيد القول بوجود جواهر هي كالجواهر المحسوسة لكنها سرمدية، وأن الانسان فيها كالانسان المحسوس، وكذا سائر الكائنات الأُخرى، فهي جواهر تقع في رتبة وسط بين الجواهر المحسوسة وبين الصور المفارقة المحضة. وهي من حيث تحكمها بعالم ما تحت القمر فقد عُدّت بمثابة آلهة أو أرباب، فكما يصف أرسطو نظرية من سبقوه هذه بقوله: إن «قول هؤلاء يشبه قول الذين يزعمون أن - هناك - آلهة وأن صورهم كصور الناس»(7 7). وبحسب رأي أرسطو انه لو صحت هذه النظرية لأفضت إلى استحالة أن تكون في عالمنا الطبيعي علل فاعلة ومحركة، وبالتالي يصبح وجودها عبثاً(8 7).
وقبل أن نبين نظرية أرسطو في هذا المجال ونوع اختلافها عن الطريقة السابقة ولو من خلال التوجيه الرشدي؛ يحسن أن نستعرض حدود الآراء التي قيلت في هذا الشأن كما يذكرها إبن رشد في تفسيره لما بعد الطبيعة.
في البدء، يعترف إبن رشد بأن «هذه المسألة هي في غاية من الصعوبة والعواصة». لكنه مع ذلك يقر بتسليمه بمذهب أرسطو، فهو عنده «كما يقول الاسكندر أقل المذاهب شكوكاً وأشدها مطابقة للوجود». أما المذاهب التي يذكرها بهذا الشأن فهي خمسة، منها اثنان متضادان غاية التضاد، أحدهما مذهب الكمون الذي يقول «إن كل شيء في كل شيء، وإن الكمون هو خروج الأشياء بعضها من بعض، وإن الفاعل إنما احتيج اليه في الكون لإخراج بعضها من بعض وتمييز بعضها من بعض»، بالتالي فإن الفاعل هو «ليس أكثر من محرك». أما الآخر فهو مذهب أهل الإبداع والإختراع، وهو يعتبر «أن الفاعل هو الذي يبدع الموجود بجملته ويخترعه إختراعاً، وأنه ليس من شرط فعله وجود مادة فيها يفعل، بل هو المخترع للـكل، وهـذا هو الرأي المشهور عـند المتـكلمين من أهل ملتنا» وكذلك من النصارى «حتى لقد كان يوحنا النحوي النصراني ـ يقول ـ إنه ليس ها هنا إمكان إلا في الفاعل فقط..». ويضاف إلى هذين المذهبين المتضادين هناك مذهبان آخران وسطيان، أحدهما ينقسم إلى قسمين، فيكون الجميع عبارة عن ثلاثة مذاهب وسطية، وهي بحسب ما حددها إبن رشد فإن أصحابها يتفقون على «أنهم يضعون الكون تغيراً في الجوهر وأنه لا يتكون عندهم شيء من لا شيء، أعني أنه لا بد في الكون عندهم من موضوع، وأن المتكون إنما يحدث عن ما هو من جنسه بالصورة، فالرأي الواحد منها هو رأي من يرى أن الفاعل هو الذي يخترع الصورة ويبدعها ويثبتها في الهيولى، وهؤلاء منهم من يرى أن الفاعل الذي بهذه الصفة ليس هو في هيولى أصلاً، وهو الذي يسمونه واهب الصور، وابن سينا من هؤلاء. ومنهم من يرى أن الفاعل الذي بهذه الصفة يوجد بحالتين؛ إما مفارقاً للهيولى وإما غير مفارق، فالغير مفارق عندهم مثل النار تفعل ناراً، والانسان يولد انساناً، والمفارق هو المولد للحيوان والنبات الذي لا يوجد عن حيوان مثله، ولا عن بزر مثله، وهذا هو مذهب ثامسطيوس، ولعله مذهب أبي نصر(الفارابي) فيما يظهر من قوله في الفلسفتين.. وأما المذهب الثالث فهو الذي أخذناه عن أرسطو، وهو أن الفاعل إنما يفعل المركب من المادة والصورة، وذلك بأن يحرك المادة ويغيرها حتى يُخرج ما فيها من القوة على الصورة إلى الفعل. وهذا الرأي يشبه رأي الذين يذهبون إلى أن الفاعل إنما يفعل اجتماعاً وانتظاماً للأشياء المتفرقة، وهو مذهب انبادقليس، إلا أن الفاعل عند أرسطو طاليس هو جامع بين شيئين بالحقيقة، وإنما هو مخرج ما بالقوة إلى الفعل، فكأنه جامع بين القوة والفعل، أعني الهيولى والصورة، من جهة إخراج القوة إلى الفعل من غير أن يبطل الموضوع القابل للقوة، فيصير حينئد في المركب شيئان متعددان وهما المادة والصورة. وهو يشبه الإختراع أيضاً من جهة أنه يصير ما كان بالقوة إلى الفعل، ويفارق الإختراع بأنه ليس يأتي بالصورة من لا صورة. وكذلك فيه شبه من الكمون»(9 7).
والملاحظ انه يمكن توجيه ما يقوله المذهب الثاني من الإبداع والمنسوب إلى افلاطون وأصحابه؛ بأنه جاء ليس على النحو الكلامي الذي يخرجه من (القوانين الحكمية)، خصوصاً وأن من القدماء من فهم الحدوث الذي تكلم عنه افلاطون هو ليس الحدوث بالمعنى الكلامي كما هو الحال مع شارح أرسطو فورفوريوس(0 8)، فلو صحّ هذا لـكان الإبداع أيضاً مـأخوذاً بالضرورة ليس بهذا المعنى. إضافة إلى أن افلاطون حين يقسّم الوجود تقسيمه الذي يضفي عليه روح السنخية ومنطقها؛ يجعلنا من الصعب إخراج اضفائه عن دائرة (القوانين الحكمية) لإدخاله في دائرة (القوانين الكلامية). فليس هناك من مبرر يدعو إلى مثل هذا الضم والإقحام إلا أن يعوّل على كون المخترع أحب بملئ إرادته أن تكون مخترعاته بعضها على سنخ البعض الآخر، لا أن تكون بالضرورة هكذا.
على ذلك إنّنا لو فهمنا ما ذُكر عن هذا المذهب كما لجأ اليه افلوطين ومن اتبعه من متأخري الفلاسفة من المسلمين كصدر المتألهين وغيره؛ لما كان تحديد العلاقات التي أقامها إبن رشد بين المذاهب التي ذكرها صائباً، بل لكانت هذه المذاهب لا تفترق افتراقاً جوهرياً طبقاً لما تقوم عليه من الروح العامة لمنطق الضرورة والسنخية.
فبحسب الكمون تكون السنخية متحققة بما تحمله المادة من صفات الأشياء بالقوة، أما بحسب الإبداع فإنه تكون متحققة بما يحمله الفاعل ـ لا المادة ـ من صفات الأشياء. في حين إن الاتجاه الوسط هو ذلك الذي يقول بالمنطقين معاً، كما هو الحال مع الطريقة الأرسطية، فهي تجعل من المادة لا فقط أنها تحمل صفات الأشياء بالقوة، بل وتحمل صفات الفاعل بالقوة أيضاً. فهي بهذا لا تختلف جوهراً عن منطق الإبداع، لأنها ترد صفات الأشياء إلى الفاعل الحقيقي، كما أنها لا تختلف عن منطق الكمون، لأنها تُرجع هذه الصفات إلى المادة. والفارق بينها وبين منطق الكمون هو أن أصحاب هذا المنطق لا يعترفون بوجود المشاكلة أو السنخية بين ما تحمله المادة من صفات الأشياء وبين الفاعل الحقيقي، والا لكان منطقهم مطابقاً تماماً للمنطق الأرسطي.
أما الفارق مع أصحاب منطق الإبداع، فهو أن هؤلاء لا يأخذون القوة أو المادة بنظر الاعتبار، إما بنكران وجودها، أو نكران تأثيرها حقيقة؛ باعتبار أن وجودها مستمد من وجود الفاعل ذاته، أو أنها ـ على الأقل ـ لا تحمل في حد ذاتها صفات الفاعل الحقيقي، وهذا كله يخالف ما تراه الطريقة الأرسطية، إذ بحسب هذه الطريقة أن العلاقة السائدة بين الفاعل الحقيقي وبين المادة هي علاقة مزدوجة، فهي من جهة علاقة (انفعال) وذلك باخراج الفاعل الصور التي تحملها المادة بالقوة إلى الفعل، كما أنها علاقة (مشاكلة) من حيث أن في الفاعل كل ما تحمله المادة من صور بالقوة، لكن على نحو الفعل والتمام والكمال. فعلى حد قول إبن رشد إنه «لو لم تكن القوة موجودة لما كان ها هنا فاعل أصلاً، ولو لم يكن الفاعل موجوداً لما كان ها هنا شيء هو بالفعل أصلاً، ولذلك قيل إن جميع النسب والصور هي موجودة بالقوة في المادة الأُولى وهي بالفعل في المحرك الأول بنحو من الأنحاء، شبيه بوجود المصنوع بالفعل في نفس الصانع..»(1 8).
بذلك فإن الفارق الحقيقي بين الطريقة الأرسطية وبين منطق الإبداع، سواء عند افلاطون أو عند الفلاسفة المسلمين من أمثال إبن سينا، إنما يتعلق بالمادة أو الهيولى، باعتبار أنهما يتفقان ضمن حدود على علاقة المشاكلة أو (المواطأة) بين الفاعل الحقيقي وبين صفات الأشياء التي يفعلها «فمعنى قول أرسطو أن المواطئ يكون من المواطئ أو قريب من المواطئ ليس معناه أن المواطئ يفعل بذاته وصورته صورة المواطئ له، وإنما معناه إنه يُخرج صورة المواطئ من القوة إلى الفعل، وليس هو فاعل بأن يورد على الهيولى شيئاً من خارج أو شيئاً هو خارج عنها، والحال في الجوهر في ذلك هو كالحال في سائر الأعراض. ولذلك لا يلزم أن يكون الفاعل ولا بد مواطئ هو هو من جميع الوجوه، فالمولد للنفس ليس معناه أنه يثبت نفساً في الهيولى وإنما معناه أنه يُخرج ما كان نفساً بالقوة إلى أن يصير نفساً بالفعل، ولذلك نجد النار تتكون عن الحركة كما تتكون عن نار مثلها.. وكل مُخرج شيئاً من القوة إلى الفعل فيلزم أن يوجد فيه بوجه ما ذلك المعنى الذي أخرجه، لا أنه هو هو من جميع الوجوه»(2 8).
فالطريقة الأرسطية تجعل من المشاكلة قائمة بين ما موجود في المادة من صورة بالقوة وبين ما يحدث عنها بالفعل، سواء أيحدث ذلك في الكائنات المتولدة عن مثيلاتها كما في البذور، أو في تلك التي لا تتولد عن مثيلاتها كما هو الحال في تولد الحرارة عن الحركة، وتولد بعض الكائنات عن العفونة. فسواء كان الحدوث بهذا الشكل أو بذاك فإن هناك عنصر (مواطأة) أو تشاكل مع ما موجود في المادة أو الهيولى بالقوة. وليس هناك من فرق سوى أن الفاعل في غير المتماثلات هو الشمس، بينما الفاعل في المتماثلات هو عبارة عن المتماثل الأصل والشمس، فالانسان مثلاً يولده انسان والشمس(3 8).
على أن ردّ عملية التوليد والحدوث في عالمنا الى عنصر الشمس والفلك المائل جعل بعض الشراح يُأوّل مراد أرسطو بصيغة تكون في النتيجة لا تختلف كثيراً عما أراده افلاطون وأصحابه. فالفيلسوف ثامسطيوس وجّه مقالة أرسطو في كل ما يحدث لغير المتماثلات بأنه لا يحصل إلا من خلال حدوث (نفس) بالفعل عن الفلك المائل والشمس. لكن إبن رشد رفض مثل هذا التأويل، فنفى أن يكون هناك حدوث في النفس، بل رأى أن حرارة الشمس والكواكب هي المكونة لما يحدث في عالمنا من متولدات؛ طبقاً لإخراج ما بالقوة إلى الفعل(4 8)، لكن بواسطة الفيض النفسي المنحصر في هذه الحرارة على ما سنرى.
ومع ذلك فإن إبن رشد يدرك أن ظاهرة حدوث غير المتماثلات هي مما «يُحتجّ به لافلاطون على أرسطو»(5 8)، وهو ما دفع (ثامسطيوس) إلى التمسك بقوله في حدوث النفس السماوية، بل ويقول في آخر مقالته السادسة من تلخيصه لكتاب النفس: «إن النفس ليست هي التي فيها جميع الصور فقط، أعني المعقول والمحسوس، بل وهي التي تركز جميع الصور في المواد وتخلقها»، وهو يعني بالنفس هنا على ما يرى إبن رشد عبارة عن الصور المفارقة(6 8).
لكن رغم كل ذلك فإن الطريقة الأرسطية ليست بذلك البعد عن طريقة أصحاب الإبداع كافلاطون وأتباعه، فهي لا تعزل ما يحصل في عالمنا عما هو موجود في عالم ما فوق القمر من عناية سماوية عقلية فلكية ونفسية، إذ ترى أن الأجرام السماوية بما كونها «موجودات مدركة حيّة ذوات اختيار وإرادة» فهي لذلك تدبّر الحياة في عالمنا الأرضي، إذ «الحي لا يُدبره إلا حي أكمل حياة منه»(7 8)، وإن كان ذلك يجري لا على القصد الأول، إذ من المحال أن يفعل من أجل الأنقص، بل ذلك يجري بطريقة التشبّه بالعلة أو المبدأ الأول والإلتفات اليه. فمن هذه الناحية يكون للأجرام عنايتها بعالمنا السفلي، فالقصد من حركتها لا يتعلق بخروج صور الطبيعة من القوة إلى الفعل، بل ذلك يحصل ويتحقق بشكل تابع لكمالها الأول، وهو الشوق لما هو أكثر منها حُسناً وكمالاً(8 8). فبهذا النحو يكون التأثير المفارقي والإلهي لما يحدث من متكونات في عالمنا، وهو لا يختـلف عـما يقـوله فلاسفـة المـشرق وفـقاً للـقاعدة العامة التي صرحوا بها والتي تقول: (العالي لا يريد السافل ولا يلتفت اليه)، وذلك بحسب القصد الأول(9 8).
الفلاسفة والوسيط الالهي
الأهم من كل ما تقدم هو أن الطريقة الأرسطية لا تنفي تدخل النفس السماوية كوسيط بين عالم ما فوق القمر وعالم ما تحته، فالفلاسفة القدماء «لا يعتقدون أن الجسم ـ الهيولاني ـ بأسره يصدر عن مفارق، وإن صدر عندهم فإنما يصدر الصورة الجوهرية»، ومن هذه الصورة تكون مقادير أجزائها من حيث هي تابعة للصورة(0 9)، وهو ما يكشف عن حالة التوسط. كذلك فإنهم يعتقدون أيضاً بوجود النفوس العلوية ذات المادة الروحانية والأجسام اللطيفة التي لا تحس، كأمر وسيط بين المفارق والجسم، وعلى حد قول إبن رشد: «ما من أحد من الفلاسفة إلا وهو معترف بهذه النفوس، وإنما يختلفون هل هي التي في الأجسام ـ الطبيعية التي في عالمنا ـ أو جنس آخر غيرها»، وهذا هو موضع خلاف إبن رشد مع الذين قالوا بواهب الصور، فهم «جعلوا هذه القوى عقلاً مفارقاً، وليس يوجد ذلك لأحد من القدماء إلا لبعض فلاسفة الاسلام، لأن من أُصولهم أن المفارقات لا تغير المواد تغير استحالة بذواتها وأولاً»(1 9). مع أن الفارابي في بعض كتبه لا يختلف في نزعته عن النزعة الأرسطية، وذلك إنه يجعل العقل المفارق ليس له تأثير مباشر على الجسم، بل إن تأثيره يخص ما هو على شاكلته من العقل الانساني، في الوقت الذي يجعل التأثير على الأجسام الطبيعية هو من اختصاص جوهر الأجسام السماوية. فهو إذ يؤكد أن جوهر الأجسام السماوية فيها ما يمنح كل ما في طبائع المادة أن تقبله؛ يؤكد في نفس الوقت وجود كمالات أُخر «ليس من شأن الأجسام السماوية أن تعطيه، بل ذلك من شأن العقل الفعال. وليس من هذه نوع يمكن أن يعطيه العقل الفعال الكمالات الباقية سوى الانسان»، إذ يمنح الانسان «قوة ومبدأً به يسعى أو به يقدر الانسان على أن يسعى من تلقاء نفسه إلى سائر ما يبقى عليه من الكمالات. وذلك المبدأ هو العلوم الأُول والمعقولات الأُول التي تحصل في الجزء الناطق من النفس»(2 9).
والملاحظ في بعض رسائل الفارابي إنه حتى في حدود قوله بتأثير العقل الفعال على الأجسام الطبيعية؛ فإنه لا يجعل ذلك بشكل مباشر، بل يرى أن للأجرام السماوية تخيّلات متصلة، فيحصل من جزئيات هذه التخيّلات «الحركات الجسمانية ثم تلك التغيرات تصير سبباً لتغير الأركان الأربعة وما يظهر في عالم الكون والفساد من التغير»(3 9).
كذلك هو الحال مع إبن سينا، فهو وإن قال بإفاضة الصور الطبيعية والنفوس النباتية والحيوانية عن العقل الفعال، وكذا هو الحال مع الهيولى التي تلزم هي الأخرى عنه، إلا أن صدور ذلك يكون بوساطة الأجرام السماوية وطبقاً لاعتبارات نظرية الفيض التي أدخلها الفارابي. ففيضان صور العناصر على الهيولى بحسب استعداداتها المختلفة إنما يكون «بحسب نسبها من السمائية»(4 9). وكما يعبّر السهروردي عن هذه الطريقة المشائية بأن «العقل العاشر بمعاونة السماويات يحصل منه هيولى العناصر وصورها. فبجهة تعقّل الوجوب تحصل النفوس الناطقة البشرية، وبجهة الامكان ـ تحصل ـ الهيولى المشتركة. ولما كان ما يحصل منه إنما يحصل بتوسط معاونة حركات أجرام سماوية صحّ وجود كثرة وافرة منه»(5 9).
ومما يؤكد نفي إبن سينا أن يكون العقل بالفعل هو المباشر في عملية التأثير على الأجسام ما قد سبق أن عرفنا نقده للطريقة الأرسطية واتهامها بهذا القول الذي اتهمه به إبن رشد، فقد نقدها لكونها قد جعلت من الجرم السماوي قوة عقلية مؤثرة في التحريك، مصرحاً بأن العقل لا يمكن له أن يكون مباشراً في التحريك والتأثير.
فهل يعني هذا أن صرامة إبن سينا في المحافظة على كبرياء العقل أشد من صرامة أرسطو ذاته..؟!
لندع هذا الأمر بحسب تقدير القارئ، ولنستمع إلى إبن سينا وهو يدافع عن موقفه الآنف الذكر حتى في كتابه (المباحثات) الذي وضعه لمناصرة المشرقيين، إذ يقول: «والعقول الفعالة هي بالفعل من كل وجه، فليس يصح أن تكون محركة إلا على وجه الشوق، وكل محرك فإنه يطلب شيئاً وليس له، فالمباشر للحركات الفلكية غير العقول الفعالة، بل معنى مادي، وعلى هذا فإن المحرك لأجزاء النبات والحيوانات إلى الاجتماع لا يصح أن يكون عقلاً بالفعل، بل يجب أن يكون المباشر للحركة طالب شيء ليس له، وذلك الشيء مادي أو مقارن للمادة»(6 9).
هذا من جهة، أما في المقابل فهو أن الطريقة الأرسطية قامت بوصف القوى النفسية الوسيطة التي عنها تتولد المتولدات؛ وصفاً إلهياً (مشرقياً)، فعبرت عنها بأنها «قوى طبيعية إلهية تكون مثلها على ما تكون المهن الصناعية مصنوعاتها». ويرى أرسطو أن هذه القوى شبيهة بالعقل من حيث «أنها تفعل فعل العقل، وذلك أن هذه القوى تشبه العقل في أنها لا تفعل بآلة جسمانية»، حتى أن جالينوس كان يشك ويقول: «لا أدري أهذه هي الخالق أم لا». لذلك عظّم أرسطو أمر هذه القوة ونسبها إلى المبادئ الإلهية لا الطبيعية رغم أنها غير مفارقة ولا تعقل ذاتها(7 9). بل كل ما هنالك هو «أنها ملهمة من قوى فاعلة هي أشرف منها وهي المسمى عقلاً». ويرى إبن رشد أن هذه النسب والقوى الحادثة في الأسطقسات عن حركات الشمس وسائر الكواكب هي التي ظن بها افلاطون أنها الصور. بينما عند أرسطو أن الفاعل لا يخترع الصورة، إذ لو اخترعها لكان هناك شيء من لا شيء(8 9). وهو النقد الذي وجهه إبن رشد لافلاطون وأتباعه كإبن سينا الذي يعتبر الفاعل يفعل الصورة في الهيولى، بينما عند إبن رشد إنه لو كان الفاعل يفعل ذلك «لكان يفعلها في شيء لا من شيء، وهـذا كـله لـيس رأياً لـلفـلاسفـة»(9 9)، معتبراً أن تـوهم إختـراع الصور كمـا هـو الحال عـنـد افلاطون «هو الذي صيّر من صيّر إلى القول بالصور والى القول بواهب الصور، وإفراط هذا التوهم هو الذي صيّر المتكلمين من أهل الملل الثلاث.. إلى القول بأنه يمكن أن يحدث شيء من لا شيء، وذلك أنه إن جاز الإختراع على الصورة جاز الإختراع على الكل»(0 0 1).
مع إنّا لو حملنا مسألة (الإبداع) على النحو المجازي، مثلها مثل الكثير من العبارات الفلسفية التي يطلقها الفلاسفة؛ لكان إشكال إبن رشد في غير محله. فلغة إبن سينا وغيره من الفلاسفة والمظنون كذلك من افلاطون؛ هي ليست لغة كلامية قائمة على الإمكان والجواز والخلق من لا شيء والإبداع والإختراع، بل هي لغة مؤسسة على الضرورة والسنخية. والفعل المقال في هذه المسألة لا يتخلّف عن هذه القاعدة من حيث إنه قائم على كون ما يحدث في عالمنا إنما هو مرتبط بما هو حاصل في العالم العلوي إرتباط الضرورة والسنخية، إذ لا يحدث في عالمنا شيء إلا وله أصله وسنخه الذي يحمل صفته بأكمل وجه وأجلّ صورة في العالم الآخر. والطريقة الأرسطية وإن كانت لا تقول بإختراع الصور، بل وتنكر التأثير المباشر للعقل المفارق، إلا أنها تحكّم العالم العلوي على العالم السفلي تحكماً قائماً على أساس العقل المفارق بصورة غير مباشرة، وعلى أساس النفس السماوية بصورة مباشرة، الأمر الذي يجعلها ليست مختلفة كثيراً عن النظرية الافلاطونية والفارابية السينوية، فهي تقصد بالإلهام العقلي في القوى الطبيعية بأنه عبارة عن الفيض النفسي الثابت والدائم أزلاً وأبداً كوسيط ورابط نازل من العالم العلوي إلى العالم السفلي.
بل إن هذا الفيض النفسي هو محل اتفاق جميع الفلاسفة القدماء كما يقرّ بذلك إبن رشد الذي يعبّر عنه بأنه «مادة لطيفة وهي الحرارة النفسانية التي تفيض من الأجرام السماوية، وهي الحرارة التي ليست هي ناراً ولا فيها مبدأ نار، بل فيها النفوس المخلّقة للأجسام التي ههنا». وهو يرى أن الفلاسفة لا يختلفون بأن في الأسطقسات حرارة سماوية حاملة للقوى المكونة للحيوان والنبات، لكن البعض يسميها قوة طبيعية سماوية، بينما يطلق عليها جالينوس (القوة المصوّرة)، ويسميها أحياناً (الخالق)، حتى أنه يقول «يظهر أن ههنا صانعاً للحيوان حكيماً مخلّقاً له، وأن هذا يظهر من التشريح، فأما أين هو هذا الصانع وما جوهره، فهو أجل من أن يعلمه الانسان». لذلك كان افلاطون يستدل على مفارقة النفس للبدن باعتبارها هي المخلّقة والمصورّة له لا العكس.
على أن النتيجة التي يريد أن يصل اليها إبن رشـد هـو أن الفلاسفة لا يختـلفـون في وجود النـفـوس المخـلّقة لجمـيع أنـواع الحـيوانات والنباتات والمعادن. فهذه النفوس - كما يقول ابن رشد- إما أن تكون كالمتوسطة بين نفوس الأجرام السماوية وبين النفوس التي ههنا في الأجسام المحسوسة، ويكون لها تسليط ولا بد على النفوس والأبدان التي ههنا، ومن هنا نشأ القول بالجن، أو تكون بذواتها هي التي تتعلق بالأبدان التي تكونها للشبه الذي بينها، وإذا فسدت الأبدان عادت إلى مادتها الروحانية وأجسامها اللطيفة التي لا تحس (1 0 1).
خلل الطريقة الأرسطية
نخلص مما سبق إلى أن الاختلافات الخاصة بين أرسطو ومن سبقه من جهة، وبينه وبين من لحقه من جهة أُخرى، هي على الصعيد الابستمولوجي ليست بتلك الاختلافات الجوهرية، وذلك فيما يخصّ تأثير عالم النفوس والعقول السماوية على عالمنا التحتاني. فجميع الفلاسفة يتفقون على وجود هذا التأثير كتأثير إلهي حاسم، سواء قالوا بمقالة فيض الصور على عالمنا، أو قالوا بطريقة إخراجها من المادة عبر فيض النفس السماوية. أما ما يؤاخذه إبن رشد على بعض الفلاسفة المسلمين كإبن سينا لقوله بالتأثير المباشر للعقل الفعال المنعوت بـ (واهب الصور)؛ فقد سبق أن بيّنا رأيه في ذلك، وهو أنه يجعل هناك نوعاً ما من الوساطة عبر الأجرام السماوية، ومن ثم فهو لا يقر التأثير المباشر للعقل المفارق.
لكن في المقابل يمكن لحاظ أن الطريقة الأرسطية تنطوي بدورها على خلل كبير في منظومتها الفلسفية. فهي من جهة تجعل المادة مفصولة ومستقلة عن فعل الفاعل، في حين أنها من جهة أُخرى تحمّلها صفات الفاعل بالقوة على نحو ما من الأنحاء. وهنا الخلل والمفارقة، إذ كيف حصل مثل هذا التسانخ والتشابه إن كانت المادة من عالم مستقل كلياً عن عالم الفاعل الحقيقي؟
فربما كان هذا هو من الأسباب التي جعلت إبن رشد يشعر أحياناً بغموض وعواصة مسألة تكوين الأشياء وولادتها، دون أن يتخذ رأياً قاطعاً في الموضوع.
بل إن ذلك الخلل والمفارقة يصدق أيضاً على المفهوم الأرسطي للعلم الالهي. إذ طبقاً لهذا المفهوم إن المبدأ الأول يعلم الأشياء جميعاً، حتى الأُمور المستقبلية كلها، فهو يعلمها بعلمه بذاته على نـحو الفعـل من غير قـوة أبداً(2 0 1)، بينما من الواضح أن الحوادث المستقبلية هي موجودة في المادة بالقوة، فالعلم بها في حد الذات الإلهية؛ يعني وجود المسانخة بين العالمين الإلهي والمادي، مع أن المادة معتبرة غريبة ومنفصلة عن عالم الإله، فكيف يصحّ التسانخ والعلم مع ما فيها؟!
يضاف إلى ما سبق إن القول بالعقل الفعال قد سبق اليه أرسطو، واصفاً إياه بأنه مفارق وروحاني خالد لا يموت. أو هو كما يصرح إبن رشد عقل دائم وموجود في نفسه سواء عقلناه أم لا. فعدم تصورنا للأُمور المفارقة إنما يكون في العقل منّا أول الأمر «شبيه بالعمى في العين»، أما عند الوجود الكامل فالأمر ينقلب إلى العكس، إذ يكون «النظر إلى العقل المفارق هو بقوة تحدث في العقل النظري عند كماله شبيه بالقوة التي تحدث عند النظر إلى الألوان». وإبن رشد لا ينسى أن يؤكد بأن ذلك يحصل «لا بقوة من نوع القوى الفكرية التي تنال بروية وفكرة، لأنه بيّن إنه ليس في العقل منّا في أول الأمر إلا هو والقوة، فإنه ليس الأمر كما ظن أبو بكر بن الصائغ ـ إبن باجة ـ أن ذلك شيء ينال بفكرة»(3 0 1).
فالطريقة الأرسطية تجعل جميع ما في عالمنا هذا بما في ذلك العقل البشري متأثراً في تكوينه بالعالم العلوي السماوي، ويختص العقل المفارق في أن يكون فاعلاً في حدوث القوى العقلية فقط باعتبارها غير مخالطة للهيولى، إذ من المحال «أن تعطي العقول المفارقة صورة من الصور المخالطة»، وبالتالي كان من الضروري «أن يتولد ما ليس بمخالط للهيولى بوجه ما عن غير مخالط للهيولى باطلاق، كما وجب أن يتولد كل مخالط للهيولى عن مخالط للهيولى»(4 0 1). وكما ينقل إبن رشد رأي شيخه أرسطـو مـن أن العقل المفارق يعد مبدأً محركاً وفاعلاً لنا «وذلك أن العقول المفارقة بما هي مفارقة يجب أن تكون مبدأً لما هي له مبدأ بالنحويين جميعاً، أعني من جهة ما هي محركة ومن جهة ما هي غاية. فالعقل الفعال من جهة ما هو مفارق ومبدأ لنا قد يجب أن يحركنا على جهة ما يحرك العاشق المعشوق، وإن كانت كل حركة يجب أن تتصل بالشيء الذي يحركها على جهة الغاية. فواجب أن نتصل بآخرة بهذا العقل المفارق حتى نكون قد عقلنا بمثل هذا المبدأ الذي عقلت به السماء كما يقول أرسطو»(5 0 1). حيث يصبح العقل منّا بريئاً مـن المادة في النهاية، وبذلـك يكون حاله حال جميع العقول المفارقة لجميع الأجرام السماوية، فهي أيضاً عبارة عن الكمال الأخير للأجرام السماوية(6 0 1)، وإن كانت العقول الفلكية المفارقة أشرف وأكمل من العقل الانساني(7 0 1).
هكذا فجميع هذه الاعتقادات ليست ميزة خاصة من مميزات التفكير المشرقي كما يحلو للجابري أن ينسبها لهم ولإبن سينا.
يضاف إلى ذلك أن أرسطو هو كإبن سينا وغيره من الفلاسفة يجعل من السبب في اللذة راجعاً إلى الإدراك(8 0 1)، وأن تمام هذه اللذة تكون في حالة تمام الإدراك، أي أنها تتحقق حال الكمال العقلي، لذلك فمن حيث أن أكمل شيء في الانسان لديه هو العقل الذي تتحقق به السعادة القصوى؛ فإنه يرى سعادة الانسان هي باتصاله بالعقل المفارق(9 0 1)، حيث التجرد عن المادة والطبيعة والإلتحاق بعالم الإلوهية الذي فيه النشوة والخلود. لذا هو يدعو الانسان الكامل الى أن «يسعى إلى الخلود وأن يحقق بقدر طاقته تلك الحياة الإلهية، فتلك هي وحدها الحياة الكفيلة بتحقيق السعادة الكاملة»، والتي لا تكون على وجهها الأتم إلا للحكيم محبوب الآلـهة(0 1 1). وهذا هو نفس المعنى الذي يريده ويؤكده الفـلاسفة المـسلمون بمن فيهم أصحاب الفلسفة المشرقية كإبن سينا وغيره.
ان عودة العقل الانساني الى الاصل الالهي لا يتعارض مع القول بالتحاق النفس ايضاً الى ذلك الاصل؛ حيث اللذة والسعادة الأبدية الناشئة عن شدة الإدراك بسبب مفارقة البدن أو المادة، وهو ما يؤكد عليه إبن سينا والمشرقيون، بل جميع الفلاسفة، سواء تعلق ذلك بالنفوس المخالطة للهيولى وهي التي يذكر إبن رشد أن الفلاسفة يتفقون على أنها تعود إلى مادتها الروحانية الإلـهية، حيث توصف بانها مخلّقة لانواع الاجسام والابدان الارضية ومصورة لها (1 1 1)، أو تلك التي لا تخالط الهيولى ولا علاقة لها بتخليق البدن وتصويره، والتي يختلف الفلاسفة في حدود ما هو قابل للتجرد والرجوع إلى الأصل الإلهي.
فأرسطو وإن كان لا يقدّر لأغلب قوى النفس هذا التجرد والرجوع بعد فساد البدن، لكن ذلك لا يشكل عقبة أمام الرؤية الحكمية العامة والمشتركة بين الفلاسفة، وهي الرؤية القائلة بعودة وخلود كل ما هو قابل للتجرد حيث السعادة القصوى. فالخلاف مع أرسطو حتى من جهة الأرسطيين التابعين لا يضر ولا يغير من هذه الرؤية الكلية. فأرسطو كان يرى أن قوى النفس التي وجودها في المادة كقوى الحس والتخيل والشهوة وما اليها كلها تفنى ولا تبقى، بل ويرى أن «العقل الذي بالملكة والعقل الهيولاني كلاهما فاسد»، فهو لا يجعل من قوى النفس أو العقل شيئاً باقياً وخالداً سوى العقل المكتسب المسمى (العقل المستفاد). أما الأرسطيون فإنهم لا يوافقون شيخهم على هذا الحد من البقاء لقوى العقل، فكما يذكر إبن رشد بأن هذا الرأي هو ليس مذهب تافرسطس ولا غيره من قدماء المشائين ولا مذهب تامسطيوس، بل أكثر المفسرين ـ كما يقول ـ كانوا يذهبون إلى أن العقل الهيولاني باق لا يفسد «وأن العقل الفعال المفارق هو كالصورة في العقل الهيولاني شبه المركب من المادة والصورة، وأنه الذي يخلق المعقولات من جهة ويقبلها من جهة، أعني أنه يفعلها من جهة ما هو صورة، ويقبلها من جهة العقل الهيولاني»(2 1 1).
أما إبن رشد فمع أنه في كتاب (تهافت التهافت) يعتقد مثل أسلافه من الأرسطيين بأن العقل الهيولاني ليس فاسداً ولا مندثراً، إذ هو «يعقل أشياء لا نهاية لها في المعقول الواحد ويحكم عليها حكماً كلياً، وما جوهره هذا الجوهر فهو غير هيولاني أصلاً»(3 1 1). لكنه في (تفسير ما بعد الطبيعة) اتخذ رأياً وسطاً بين أرسطو وأتباعه من الأرسطيين، حيث ذكر اعتقاده الذي نقله عن كتاب (النفس) والذي يخالف فيه أتباع أرسطو في مصير العقل الهيولاني، متفقاً بذلك مع شيخهم في أنه كائن فاسد، إلا أنه في الوقت نفسه خالف أرسطو في مصير العقل الذي بالملكة، إذ رأى أن «فيه جزء كائن وجزء فاسد، وأن الفاسد هو فعله، وأما هو في ذاته فليس بفاسد وأنه داخل علينا من خارج»(4 1 1).
لكن ما فهمه إبن سينا من موقف أرسطو من العقل الهيولاني فشيء مختلف، فهو يعترض على فهم الاسكندر لأرسطو في هذا الشأن، تعويلاً على عبارة أرسطو التي يقول فيها عن ذلك العقل: «فلذلك صار بالواجب ليس مخالطاً للبدن». فهو يستفيد من هذه العبارة بأن أرسطو معتقد بمفارقية العقل الهيولاني دون أن يناله الفساد والبطلان، لذلك تعجّب من الاسكندر، وقال في حقه: «فما أدري كيف جوّز الاسكندر أن ينسب إلى هذا الرجل ـ أرسطو ـ إنه يقول أن العقل الهيولاني، وهو هذه القوة الاستعدادية، هيولانية مادية، وأن النفس التي لها هذه القوة هيولانية مادية»(5 1 1). وابن سينا نفسه لا ينكر اعتـقاده بمفارقة العقل الهيولاني، فكما يقول: «فيجب أول كل شيء أن نبيّن أن هذه النفس المستعدة لقبول المعقولات بالعقل الهيولاني ليس بجسم ولا قائم صورة في جسم»(6 1 1).
وعلى العموم لا يرى إبن سينا للنفس تعلقاً بالبدن، بل تعلقها في الوجود بالمبادئ الأُخرى التي لا تستحيل ولا تبطل(7 1 1). حيث تحدث الأنفس وتتكثر مع تهيؤ الأبدان، إذ عند ذلك يتوجـب على العلـل المفارقة أن تـفيض علـيها النفوس(8 1 1). وهو بهذا الحدوث ينفي عنها وجودها السابق سواء كان هذا الوجود واحداً أم متكثراً بالعدد في الوقت الذي يثبت خلودها المتكثر(9 1 1)، الأمر الذي جعل إبن رشد يمتعض من هذه الإزدواجية، إذ يقول: «لا أعلم أحداً من الحكماء قال إن النفس حادثة حدوثاً حقيقياً ثم قال إنها باقية إلا ما حكاه ـ الغزالي ـ عن إبن سينا(0 2 1)، وإنما الجميع على أن حـدوثها هو إضافي وهو اتصالها بالامكانات الجسمـية القابلة لذلك الاتصال كالامكانات التي في المرايا لاتصال شعاع الشمس بها، وهذا الامكان عندهم ليس هو من طبيعة امكان الصور الحادثة الفاسدة، بل هو امكان على نحو ما يزعمون أن البرهان أدى اليه، وأن الحامل لهذا الامكان طبيعة غير طبيعة الهيولى»(1 2 1).
ومع ذلك فإن إبن سينا في بعض رسائله لا ينكر الوجود السابق للنفس على البدن كما هو الحال في قصيدته العينية الشهيرة. لكن حتى مع قوله بالحدوث، فليس المقصود منه بأنه الحدوث عن عدم كما هي طريقة المتكلمين، بل هو عبارة عن تعلق فيضي دائم بالمبدأ المفارق من حيث إنه علة لها. وبذلك فإنه سواء بهذا المعنى من الحدوث، أو بالقول بالوجود السابق على البدن، فإن الأمر واحد من حيث أن له دلالة على الأصل الإلهي للنفس.. هذا الأصل الذي لا يُعدّ ميزة مشرقية ـ كما يتصور الجابري ـ. فالفلاسفة يقرون بهذا المقال، رغم ما بينهم من اختلاف في حدود ذلك وكيفيته. فافلاطون لا يخفي هذا الاعتقاد، كما أن الصيغة الأرسطية تقر به حتى في حدود النفوس غير المفارقة، إذ إنها بحسب هذه الصيغة تكون منحصرة في حرارة الكواكب «شبيهة بانحصار النفس في الأجرام السماوية»، كما أن بذواتها «تتعلق بالأبدان التي تكونها للشبه الذي بينها، وإذا فسدت الأبدان عادت إلى مادتها الروحانية وأجسامها اللطيفة التي لا تحس» (2 2 1) . كما أن افلوطين المعدّ زعيم الفلسفة المغربية لا يحيد هو الآخر عن الاعتقاد بالأصل الإلهي للنفس، وقد سخّر لهذا المبحث كما في كتابه (اثولوجيا) عدداً من الميامر، ابتداء من الميمر الأول(3 2 1).
وما نريد التأكيد عليه أخيراً هو أن للفلاسفة إنتماءهم الخاص الذي يجعلهم يقفون على خشبة مسرح واحد. فآراؤهم وإن بدت مختلفة من هنا وهناك، إلا أنها غالباً ما تكون متفقة على النحو الكلي، ذلك لأن المبررات والأسس التي تقوم عليها تظل تحت هيمنة (القوانين الحكمية) ولو من بعض الوجوه. والأهم من ذلك كله هو أن هناك وحدة ابستمولوجية تجمعهم، فهي تجمع بين أرسطو وابن سينا، وبين الفلسفة المغربية والمشرقية، كذلك بين الفلسفة عموماً والعرفان. فلكل هذه الثنايا والمجاميع وحدة تجمعها هي عبارة عن دينامو التفكير الوجودي، أو الأصل الفعال المتمثل بالسنخية.
(1) وذلك خلال القسم الثاني من كتاب: مدخل إلى فهم الاسلام. وكذا كتاب: الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية.
(2) إبن سينا: المباحثات، المقدمة، في: أرسطو عند العرب لعبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية، 7 4 9 1م، ج 1، ص 1 2 1.
(3) فيما يتعلق بمصير كتاب (الانصاف) انظر: أرسطو عند العرب، نفس المعطيات السابقة، ج 1، ص 3 2 ـ 1 3.
(4) نحن والتراث، حاشية، ص 0 4 1. كما انظر: أرسطو عند العرب، ج 1، ص 4 2 و 8 2.
(5) نحن والتراث، ص 9 3 1.
(6) انظر: المباحثات، في: أرسطو عند العرب، ج 1، ص 0 2 1.
(7) نحن والتراث، ص 0 4 1 ـ 3 4 1.
(8) بنية العقل العربي، ص 0 6 2.
(9) نحن والتراث، ص 6 3 1.
(10) المصدر السابق، ص 6 4 1.
(11) انظر: نحن والتراث، ص 8 2 1 و 6 3 1 و 0 5 2.
(12) من الجدير بالذكر إن فكرة تسلسل الفيوض عند الفارابي لا تعود إلى الحرانيين، بل تمتد جذورها إلى ما قبل أرسطو، وربما تعود أساساً إلى الفيثاغوريين. أما علة تحديد العقول بالعشرة، فالبعض يرجع ذلك إلى نظرية افلاطون حول مثل المثل، إذ إن افلاطون يرى أن هناك عشرة مجردات عقلية هي بمثابة المثل للمثل المتوسطة (أبو ريان، محمد علي: الاشراقية مدرسة افلاطونية اسلامـية، بحث ضمن الكتاب التذكاري: شيخ الاشراق شهاب الدين السهروردي، في الذكرى المئوية الثامنة لوفاته، اشراف وتقديم الدكتور ابراهيم مدكور، المكتبة العربية في القاهرة، 4 9 3 1هـ ـ 4 7 9 1م، ص2 5 ـ 3 5). كما أن هناك من يعتبر هذا التحديد عائداً الى عدد الأفلاك التي قررها بطليموس في كتاب المجسطي (انظر مقدمة الدكتور ابراهيم مدكور لإلهيات الشفاء (1)، طبعة الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية في القاهرة، 9 6 9 1م، ص 2 2). لكن الذي يبدو هو أن بطليموس اعتبر الأفلاك عشرة لا تسعة كما هو رأي الفلاسفة المسلمين. أما الجابري فله موقفان كلاهما غير صحيح. فهو في كتابه (نحن والتراث، ص4 8 و 3 7) ذهب إلى أن التحديد بالعدد عشرة جاء يتلاءم مع المضمون الاسلامي، حيث هناك الله ثم سدرة المنتهى (أو العرش العظيم) ثم السماء العليا (أو الكرسي) ثم السماوات السبع الطباق. والخطأ في هذا التصور هو أن الفارابي لا يعدّ الله من ضمن العقول العشرة، فهو مبدأ لهذه العقول، ومعه تصبح العقول أحد عشر لا عشرة. الأمر الذي جعله يلتفت إلى ذلك في بعض الهوامش (انظر هامش ص 3 0 1)، وربما وضع هذا الهامش بعد الطبعة الأُولى للكتاب. أما في كتابه (بنية العقل العربي، هامش ص 1 5 4) فإنه يعتبر اطروحة التعشير في نظرية الصدور راجعة إلى فكرة الكواكب العشرة عند الفيثاغوريين، وقد سبق لأرسطو أن قال بأن من القدماء من أنهى العقول إلى عشرة، مشيراً بذلك على ما يبدو إلى الفيثاغوريين (إبن رشد: تفسير ما بعد الطبيعة، دار المشرق، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ج 3، ص 2 4 6 1). مع أن التصور الفيثاغوري لا يتطابق مع ما أفاده الفارابي، ذلك أن الفيثاغوريين يقولون بالعقول وكواكبها العشرة، أما الفارابي فلا يرى الكواكب ولا العقول عشرة، فهو يعدّ الكواكب تسعة، والعقول مع المبدأ الأول أحد عشر.
(3 1) عن: نحن والتراث، ص 0 3 1.
(4 1) إبن رشد: تهافت التهافت، المطبعة الكاثوليكية ببيروت، ص 1 2 4.
(5 1) نحن والتراث، ص 9 5 1.
(6 1) السهروردي، شهاب الدين: المشارع والمطارحات، ضمن مجموعة في الحكمة الإلهية من مصنفات شهاب الدين السهروردي، تصحيح هـ. كوربين، مطبعة المعارف في استانبول، 5 4 9 1م، ج 1، ص9 5 1.
(7 1) نحن والتراث، ص 6 5 1.
(8 1) مدكور، ابراهيم: بين السهروردي وابن سينا، بحث في الكتاب التذكاري: شيخ الاشراق شهاب الدين السهروردي، نفس المعطيات السابقة، ص 8 7.
(9 1) انظر: كتاب المشارع والمطارحات، نفس المعطيات السابقة، ص 0 6 4. كذلك: السهروردي، شهاب الدين: حكمة الاشراق، ضمن المجموعة السابقة، ج 2، ص 8 5 1.
(0 2) حكمة الاشراق ضمن المجموعة السابقة، ج 2، ص 6 5 1ـ 7 5 1. كما انظر: كوربين، هنري: السهروردي الحلبي مؤسس المذهب الاشراقي، بحث في: شخصيات قلقة في الاسلام، لعبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية، 6 4 9 1م، ص5 0 1.
(1 2) انظر تصديره لحكمة الاشراق، وأيضاً بحث كوربين الآنف الذكر، في: شخصيات قلقة في الاسلام، ص 1 1 1 ـ 2 1 1.
(2 2) المشارع والمطارحات، نفس المعطيات السابقة، ص 7 8 4 ـ 8 8 4.
(3 2) فلسفة إبن سينا لغواشون، ص 8 1 و9 4 ـ 3 5. عن: النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية، ج 1، ص 8 3 1 ـ 9 3 1.
(4 2) فخري، ماجد: السهروردي ومآخذه على المشائين العرب، ضمن الكتاب التذكاري: شيخ الاشراق شهاب الدين السهروردي، نفس المعطيات السابقة، ص 4 5 1.
(5 2) بين السهروردي وابن سينا، نفس المعطيات السابقة، ص 9 7.
(6 2) عن: نحن التراث، ص 7 5 1.
(7 2) بنية العقل العربي ص 4 6 4.
(8 2) نحن والتراث، ص 6 2 1.
(9 2) المباحثات، في: أرسطو عند العرب، ج 1، ص 7 9 1 ـ 8 9 1.
(0 3) نحن والتراث، ص 8 2 1.
(1 3) المصدر السابق، ص 0 3 1 و 9 3.
(2 3) المصدر السابق، ص 5 6 1.
(3 3) المصدر السابق، ص 5 2 1 و 7 2 1.
(4 3) تهافت التهافت، ص 5 9 4.
(5 3) الفارابي: رسالة عيون المسائل، ضمن الثمرة المرضية في بعض الرسالات الفارابية، تصحيح الشيخ فريد ديتريصي، طبعة ليدن، ص 9 5 ـ 0 6.
(6 3) بنية العقل العربي، ص 1 5 4.
(7 3) الفارابي: رسالة الدعاوي القلبية، ضمن رسائل الفارابي، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن، الهند، الطبعة الأُولى، 5 4 3 1هـ ـ 6 2 9 1م، ص0 1.
(8 3) الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة، تقديم وتحقيق البير نصري نادر، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 9 5 9 1م، ص 5 8 و 4 9 و 4 0 1.
(9 3) الفارابي: السياسة المدنية، تحقيق وتقديم وتعليق الدكتور فوزي متري نجار، المطبعة الكاثوليكية، 4 6 9 1م، ص 3 8.
(0 4) آراء اهل المدينة الفاضلة، ص 8 1 1.
(1 4) انظر مقدمة حي بن يقظان.
(2 4) الطريحي: إبن سينا، مطبعة الزهراء في النجف، 9 4 9 1م، ص 5 7 1 ـ 6 7 1. وانظر: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، نفس المعطيات السابقة، ج 9، ص 5 1 1.
(3 4) انظر: نحن والتراث، ص 2 1 1 ـ 3 1 1.
(4 4) الفارابي : كتاب السياسة المدنية، ضمن رسائل الفارابي، نفس المعطيات السابقة، ص 3 و 6 ـ 7 .
(5 4) آراء أهل المدينة الفاضلة، ص 3 1 1 و 4 1 1. كذلك: السياسة المدنية، ص 2 8.
(6 4) إبن سينا: رسالة اثبات النبوات، حققها وقدم لها ميشال مرمورة، دار النهار للنشر، بيروت، 8 6 9 1م، ص 8 5 ـ 1 6.
(7 4) إبن سينا: كتاب النفس من الشفاء، طبعة جامعة اكسفورد، لندن، 9 5 9 1م، ص 0 2 2.
(8 4) بنية العقل العربي، ص 8 4 4 ـ 9 4 4.
(9 4) نحن والتراث، ص 8 4 1. مع أن الجابري سبق أن ذكر بأن مهمة إبن سينا كانت عبارة عن عقلنة العرفان، بينما الآن جعله يريد التخلص من العقل، وهل هذا إلا تناقض؟!
(0 5) إبن رشد: تفسير ما بعد الطبيعة، نفس المعطيات السابقة، ج 3، ص 6 4 6 1 ـ 8 4 6 1 و 0 7 6 1 وما بعدها.
(1 5) تهافت التهافت، ص 4 8 4.
(2 5) تفسير ما بعد الطبيعة، ج 3، ص 4 8 6 1. تجدر الاشارة إلى أن إبن رشد في كتابه (تهافت التهافت، ص9 4) ذكر أن الأجرام السماوية هي كثيرة الأنواع عند أرسطو. وهو لا يناقض بالضرورة ما جاء في تفسيره لما بعد الطبيعة، فكل نوع من هذه الأجرام لما كان فيه شخص واحد منها لا أكثر، فهي من هذه الجهة تعد كثيرة الأنواع، لكنها في نفس الوقت تتصف بخصائص جوهرية مشتركة تجعلها تقبل الضم إلى النوع الواحد.
(3 5) لاحظ تفاصيل هذه القضية في الفصل الثالث من كتاب: مدخل إلى فهم الاسلام.
(4 5) افلوطين: أثولوجيا، في: افلوطين عند العرب، نصوص حققها وقدم لها عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية، 5 5 9 1م، ص 2 2.
(5 5) تفسير ما بعد الطبيعة، ج 3، ص 3 9 5 1 ـ 5 9 5 1 و 4 3 5 1 ـ 5 3 5 1.
(6 5) تهافت التهافت، ص 0 8 4.
(7 5) إبن باجة: رسالة الوداع، ضمن الرسائل الالهية لابن باجة، حققها وقدم لها ماجد فخري، دار النهار، بيروت، 8 6 9 1م، ص 5 2 1. كذلك: قول يتلو رسالة الوداع، نفس المعطيات الآنفة الذكر، ص 1 5 1.
(8 5) تفسير ما بعد الطبيعة، ج 3، ص 0 0 6 1.
(9 5) تهافت التهافت، ص 0 8 4 ـ 1 8 4.
(0 6) المصدر السابق، ص 4 8 1 ـ 5 8 1.
(1 6) تفسير ما بعد الطبيعة، ج 3، ص 0 3 6 1.
(2 6) المصدر السابق، ج 3، ص 6 0 6 1. كذلك: الاسكندر الافروديسي: مقالة في القول في مبادئ الكل بحسب رأي أرسطو طاليس الفيلسوف، وهي في: أرسطو عند العرب، ج 1، ص8 6 2.
(3 6) المصدر السابق، ج 2، ص 8 7 0 1 / و ج 3، ص 7 4 4 1.
(4 6) تهافت التهافت، ص 5 9 4.
(5 6) إبن سينا: التعليقات على حواشي كتاب (النفس) لأرسطو، في: أرسطو عند العرب، ص 6 1 1.
(6 6) إبن سينا: الإشارات والتنبيهات، تحقيق الدكتور سليمان دنيا، دار المعارف بمصر، 8 5 9 1م، القسم الثالث، ص 4 8 1.
(7 6) التلويحات، نفس المعطيات السابقة، ص 6 4.
(8 6) تهافت التهافت، ص 8 9 4 ـ 0 5 5.
(9 6) يفوت، سالم : إبن حزم والفكر الفلسفي بالمغرب والأندلس، المركز الثقافي العربي في المغرب، الطبعة الأُولى، 6 8 9 1م، ص 8 5 4.
(0 7) تفسير ما بعد الطبيعة، ج 3، ص 8 7 6 1.
(1 7)انظر: قول يتلو رسالة الوداع من رسائل إبن باجة الالهية، ص 0 5 1.
(2 7)نفس المصدر والصفحة السابقة. وانظر: تهافت التهافت، ص3 8 4ـ 4 8 4 و 5 9 4.
(3 7)تفسير ما بعد الطبيعة، ج 3، ص 8 8 6 1 ـ 0 9 6 1.
(4 7)المعجب، ص 6 0 3. والتكملة لابن الآبار، ج 1، ص 0 7 2. عن: العراقي، محمد عاطف: النزعة العقلية في فلسفة إبن رشد، دار المعارف بمصر، 8 6 9 1م، ص 9 2.
(5 7) تفسير ما بعد الطبيعة، ج 3، ص 4 9 5 1.
(6 7)تفسير ما بعد الطبيعة، ج 3، ص 2 9 4 1 ـ 4 9 4 1.
(7 7) تفسير ما بعد الطبيعة، ج 1، ص 4 0 2 وما بعدها.
(8 7) المصدر السابق، ج 3، ص 1 3 7 1.
(9 7) تفسير ما بعد الطبيعة، ج 3، ص 7 9 4 1 ـ 9 9 4 1.
(0 8) الملل والنحل، نفس المعطيات السابقة، ص 6 9 1.
(1 8) تفسير ما بعد الطبيعة، ج 3، ص 4 0 5 1 ـ 5 0 5 1.
(2 8) المصدر السابق، ج 3، ص 1 5 5 1 ـ 2 5 5 1.
(3 8) المصدر السابق، ج 3، ص 4 6 4 1 ـ 5 6 4 1.
(4 8) المصدر السابق، ج 3، ص 2 0 5 1.
(5 8) المصدر السابق، ج 2، ص 1 8 8.
(6 8) المصدر السابق، ج 2، ص 2 8 8.
(7 8) تهافت التهافت، ص 9 8 1 ـ 0 9 1.
(8 8) المصدر السابق، ص4 8 4 و 4 0 5. كذلك: تفسير ما بعد الطبيعة، ج 3، ص6 9 5 1ـ 8 9 5 1.
(9 8) انظر بصدد هذه القاعدة مصادر إبن سينا التالية: التعليقات، تحقيق وتقديم عبد الرحمن بدوي، ص 8 1ـ 9 1. والنجاة، مطبعة السعادة بمصر، الطبعة الثانية، 7 5 3 1هـ ـ 8 3 9 1م، ص 8 6 2. والمبدأ والمعاد، مؤسسة مطالعات اسلامي، دانشگاه مك كيل في طهران، ص 5 7. كما انظر مصادر صدر المتألهين التالية: الأسفار، ج 2، ص 1 8 2 / ج 7، ص 3 6 1. ومفاتيح الغيب، تقديم وتصحيح محمد خواجوي، مؤسسة مطالعات وتحقيق فرهنگي، ص 0 7 3. والمبدأ والمعاد، مقدمة وتصحيح سيد جلال الدين اشتياني، انجمن حكمت وفلسفة ايران، 6 7 9 1م، ص 6 3 1 ـ 1 4 1.
(0 9) تهافت التهافت، ص 0 4 2.
(1 9) المصدر السابق، ص 8 7 5 ـ 9 7 5.
(2 9) السياسة المدنية، ص 1 7 ـ 3 7.
(3 9) رسالة عيون المسائل، ضمن الثمرة المرضية في الرسالات الفارابية، نفس المعطيات السابقة، ص 0 6.
(4 9) الإشارات والتنبيهات، القسم الثالث، نفس المعطيات السابقة، ص 2 9 1.
(5 9) كتاب المشارع والمطارحات، ضمن مجموعة في الحكمة الإلهية، نفس المعطيات السابقة، ج 1، ص 0 5 4.
(6 9) المباحثات، ضمن: أرسطو عند العرب، ج 1، ص 3 6 1.
(7 9) تفسير ما بعد الطبيعة، ج 2، ص 4 8 8 ـ 5 8 8.
(8 9) المصدر السابق، ج 3، ص 2 0 5 1.
(9 9) تهافت التهافت، ص 1 4 2.
(0 0 1) تفسير ما بعد الطبيعة، ج 3، ص 3 0 5 1.
(1 0 1) تهافت التهافت، ص 7 7 5 ـ 9 7 5.
(2 0 1) تهافت التهافت، ص3 4 3ـ 5 4 3 و 6 0 5. كذلك: تفسير ما بعد الطبيعة، ج 3، ص8 0 7 1.
(3 0 1) تفسير ما بعد الطبيعة، ج 2، ص 9 2 2 1 ـ 0 3 2 1.
(4 0 1) المصدر السابق، ج 2، ص 6 8 8.
(5 0 1) المصدر السابق، ج 3، ص 2 1 6 1 ـ 3 1 6 1.
(6 0 1) المصدر السابق، ج 1، ص 1 5 ـ 2 5.
(7 0 1) تهافت التهافت، ص 5 1 2.
(8 0 1) تفسير ما بعد الطبيعة، ج 3، ص 6 1 6 1.
(9 0 1) المصدر السابق، ج 3، ص 2 1 6 1.
(0 1 1) أرسطو: علم الأخلاق إلى نيقوماخوس، نقله إلى العربية أحمد لطفي السيد، مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة ـ انتشارات آفتاب تهران، 3 4 3 1هـ ـ 4 2 9 1م، ج 2، ص 5 6 3. كذلك: نحن والتراث، ص 5 9 1 ـ 6 9 1.
(1 1 1) التهافت، ص 8 7 5 ـ 9 7 5.
(2 1 1) تفسير ما بعد الطبيعة، ج 3، ص 8 8 4 1 ـ 9 8 4 1.
(3 1 1) تهافت التهافت، ص 8 7 5 ـ 9 7 5.
(4 1 1) تفسير ما بعد الطبيعة، ج 3، ص 9 8 4 1 ـ 0 9 4 1.
(5 1 1) التعليقات على حواشي (النفس) لأرسطو، ضمن: أرسطو عند العرب، ج 1، ص1 0 1.
(6 1 1) كتاب النفس من الشفاء، نفس المعطيات السابقة، ص 9 0 2. كما انظر مقدمة كتابه المباحثات، ص 0 2 1.
(7 1 1) كتاب النفس من الشفاء، نفس المعطيات السابقة، ص 1 3 2.
(8 1 1) المصدر السابق، ص 3 3 2.
(9 1 1) المصدر السابق، ص 3 2 2 ـ 6 2 2.
(0 2 1) هذا القول لإبن رشد يوحي أنه لم يطلع على كتاب (الشفاء) لإبن سينا، ولا ملخصه (النجاة).
(1 2 1) تهافت التهافت، ص 7 0 1.
(2 2 1) تهافت التهافت، ص 8 7 5.
(3 2 1) انظر: أثولوجيا في: افلوطين عند العرب، نصوص حققها وقدم لها عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية، 5 5 9 1م.