يحيى محمد
إذا ما انتقلنا إلى فلاسفة الاندلس وعرفائها، أول ما نصادفه أمامنا هو الفيلسوف إبن باجة (المتوفى سنة 533هـ)، وهو لا يختلف عن زملائه الفلاسفة في إسناد آرائه وتحكيمها طبقاً لقانون الشبه والسنخية. وأهم ما جاء به هذا الفيلسوف العقلي هو أنه أعاد النظر في الصيغة التي رسمها الفارابي لوحدة الفلاسفة، وحوّلها مما هي دراسة لايجاد الإتفاق بين آراء الفلاسفة، وبالخصوص آراء افلاطون وأرسطو، إلى صيغة تكشف عن وحدة العقل والإدراك لإثبات وحدة الفلاسفة. فبنظره أنه لما كان الإدراك واحداً حين يبلغ مرحلة العقل المستفاد، إذ يصبح الإنسان عين هذا العقل، لذا فليس ثمة فرق حقيقي بين الفلاسفة، إنما الإختلاف بينهم من جهة الزي أو المظهر المغرر بالتمايز والكثرة، فجميع الفلاسفة يصبحون - حينذاك - عقلاً واحداً خالداً غير بال ولا فاسد[1].
ويجعل إبن باجة من هذه المرتبة التي يصل إليها الفلاسفة جميعاً أرقى مراتب الإدراك. فهي مرتبة أخيرة تتحقق بعد مرور الإنسان بمرتبتين دونيتين من الإدراك. وتتدرج المراتب الثلاث بالتناسخ والتكامل. فالمرتبة الأولى عنده هي مرتبة إدراك الجمهور، إذ يكون المعقول فيها غير مفصول عن الصور الهيولانية الحسّية، فلا يدركه الجمهور «إلا بها وعنها ومنها ولها». أما المرتبة الثانية فهي مرتبة النظّار الطبيعيين، إذ يكون للمعقول فيها نوع من التجرد عن تلك الصور، بحيث يكون له ذات ووجود في نفسه. في حين تختص المرتبة الثالثة بالفلاسفة، فهي مرتبة السعداء الذين يرون الشيء نفسه. وهو يشبّه هذه المراتب المتسانخة تشبيهاً افلاطونياً، فيعتبر حال الجمهور من المعقولات أشبه بحال «المبصرين في مغارة لا تطلع عليهم الشمس فيها فيرونها، بل يرون الألوان كلها في الظل، فمن كان في فضاء المغارة رأى في حال شبيهة بالظلمة، ومن عند مدخل المغارة رأى الألوان في الظل ولم يبصر قط ذلك الضوء. وعليه كما أنه لا وجود للضوء مجرداً عن الألوان عند أهل المغارة، كذلك لا وجود لذلك العقل عند الجمهور ولا يشعرون به، وأما النظريون فينزلون منزلة من خرج من المغارة إلى البراح، فلمح الضوء مجرداً عن الألوان، ورأى جميع الألوان على كنهها. وأما السعداء فليس لهم في الإبصار شبه، إذ يصيرون هم الشيء. فلو إستحال البصر ضوءاً لكان عند ذلك يتنزل منزلة السعداء»[2].
وقد كان إبن باجة كثير الإعتماد في طرحه على كل من أرسطو وافلاطون والفارابي. مما جعل أثر ذلك واضحاً في صياغته لعلاقات الوجود، حيث إنها مستمدة من هذا المزيج الثلاثي المركب، مع ما أضاف إليه من طابع صوفي.
وإذا كان إبن باجة في رسائله القليلة التي وصلتنا لا يتحدث عن نظرية الفيض؛ فهذا لا يعني أنه لا يلتزم بها بشكل ما من الأشكال. فعلى الأقل لو إننا اعتبرناه أرسطياً خالصاً في هذا المضمار، مثله في ذلك مثل إبن رشد؛ لكان يكفي أنه يعترف بها ضمنياً، خاصة وإن النظرية الأرسطية تقرّ بقاعدة (الإمكان الأشرف) التي تتضمنها كلياً، بل وإن نظريته في العقل الفعّال لها دلالة خاصة على طبيعة هذا الفيض الذي يخرجها عن الصيغة الأرسطية، بل وعن الطريقة الفارابية السينية الشائعة؛ ليدخلها في الدائرة الصوفية الخاصة. فإبن باجة ينظر إلى العقل الفعّال بأنه عقل مفارق بريء من المادة، وهو موجود في حد ذاته، وكما يقول: «إننا لا نراه بذاته، بل نراه مع غيره، كما نرى الشمس مثلاً ونحن في الماء، ثم نراها ونحن في الهواء، والهواء قد يغلظ ويكدر ويكون أصفى، فإن هذا العقل لا نقدر أن نراه بذاته بل نرى أثره في غيره، فلذلك نراه في بعض المعقولات رؤيةً هي أقرب من ذاته، وفي بعضها رؤية هي أبعد، ويراه الراؤون برؤية متفاضلة على بصائرهم كما تُرى الشمس على تفاضل الأبصار. فأما رؤيته بذاته، وهي ممكنة، فكرؤية الشمس بدون متوسط إن أمكن ذلك، أو بمتوسط لا يؤثر في رؤيتها إن وجد ذلك».
بل أكثر من هذا إن إبن باجة يزيد الفلاسفة (من الشعر بيتاً)، فهو لا يقول بمجرد اتصال العقل المستفاد بالفعّال، بل يجعل الأول يصير نفس هذا الأخير من دون اختلاف، فحينها يكون «النظر من هذه الجهة هو الحياة الآخرة وهو السعادة القصوى الإنسانية المتوحدة، وعند ذلك يشاهد ذلك المشهد العظيم». وكدلالة على مثل هذا الإتحاد الصوفي عرض مثال المغارة الافلاطوني، الأمر الذي جعله يتجاوز فعلاً كل الذين سبقوه من فلاسفة المشرق. وهو يدرك هذا جيداً، حيث يشير إلى أنه قد انفرد بتوصله إلى تلك النتيجة التي وصفها بأنها «أجلّ الأُمور التي وقفتُ عليها وهي صفة الغاية التي ينتهي الطبع بالسلوك إليها». فبرغم أن هناك من تقدمه في بحث هذه المسألة وإطالة النظر فيها، ومنهم الفارابي الذي «مكانه من هذا العلم مكانة» لكنه لم يجد في كتبه التي وصلت الأندلس مثل هذا النحو من النظر الذي وقف عليه، ولا عند غيره من الفلاسفة سوى ما جاء في بعض مقولات أرسطو في الأخلاق، ومع ذلك فإن ما جاء به هذا المعلّم هو «مجمل جداً لا يمكن الإكتفاء به».
هكذا ندرك أن ما رامه إبن باجة ليس سوى التصوف العقلي. فهو الجديد الذي تفرّد به، والذي فيه أقام (الحبل السري) المتصل مع العرفان. مما يعني أن الجديد عنده هو سحب البساط من (العقل) بالعقل. إذ ليس لديه مؤاخذة يؤاخذ الصوفية عليها سوى عدم التزامها النظر العقلي الذي يراه شرطاً للمعرفة الإتحادية أو (الصوفية)، أي أنه شرط للمعرفة التي تتجاوز حفظ المراتب لعلاقة السببية ونظام الوجود، والتي تحقق حالة ما يطلق عليه (اللا معقول العقلي) أو الفلسفي في الوحدة العقلية.
لذلك فإنه يعدّ الوحدة هي «أكمل في التوحد من جميع أنواع التوحد المشهورة التي تُطلب في بادئ الرأي»، ملوّحاً بهذا إلى المؤاخذة التي يؤاخذ عليها الصوفية، إذ بدون الشرط العقلي تصبح المعرفة الصوفية عنده عبارة عن خيالات توهم بأنها حقائق (إتحادية) الأمر الذي سيستقطب نقد إبن طفيل له، دفاعاً عن المسلك الصوفي وطريقته الذوقية في الاتحاد والسعادة.
ومن الجدير بالذكر إن اعتبار إبن باجة لشرط النظر العقلي في تحقيق حالة الاتحاد بالعقل الفعّال لا يعني أن الفيض عنده صاعد من حيث الأساس، بل ان جميع الفلاسفة بدون استثناء يرون أن الفيض نازل، على الرغم من أن عملية النزول قد تتحقق في عالمنا ضمن شروط لا غنى عنها. فحسب النظرية الأرسطية كما يطرحها إبن رشد: إن الفاعل للعقل البشري هو عقل مفارق يُخرجه من القوة إلى الفعل، وإن سائر الصور الهيولانية تتكون من خلال فيض النفس السماوية المنحصرة في حرارة الكواكب. أي إنه سواء في الصور العقلية أو الهيولانية فإن الفيض يكون على الدوام نازلاً، إذ العالي هو الذي يؤثر في السافل وليس العكس.
على أن تنظير إبن باجة للوحدة بين الفلاسفة من خلال اللقاء العقلي الإلهي، وذلك بتحليله للعقل، يجعله يكرر ما سبق أن سعى إليه الفارابي بطريقة مختلفة. وبالتالي فإن إبن باجة لا ينظر إلى فلاسفة المشرق نظرة خارجة عن هذه الوحدة واللقاء الخالد غير الخاضع للزمان والمكان، فهو لا يرى بين الفلاسفة قاطبة من فرق إلا في المظهر، مشبّهاً ذلك بمثال يقول فيه: «لو أنه أقبل إلينا ربيعة بن مكرم وقد لبس درعاً وحمل بيضة حديد واعتقل قناة وسيفاً، فرأيناه في هذا الزي، ثم غاب عن أبصارنا وأقبل وقد لبس جوشناً وفي رأسه الجلة المصنوعة من الريش، وقد عمل مزراقاً ودبوساً فسبق إلى الظن أنه غير ربيعة بن مكرم» مع أنه هو بالذات.
وهو حتى في هذا اللقاء الخالد يكاد يكرر ما سبق إليه الفارابي، مع أخذ اعتبار الفارق بينهما، وهو أن فليسوف المشرق جعل لقاء الفلاسفة يقوم على الاتصال (الفلسفي)، بينما عمل الآخر على جعله قائماً على الاتحاد (الصوفي). فالفارابي قد سبق إلى الاعتقاد بأنه حين تمضي طائفة من طوائف المدينة الفاضلة، بأن تبطل أبدانهم وتخلص نفوسهم بالمفارقة؛ فإن هناك من يأتي ليقوم مقامهم في المدينة، ثم إن هؤلاء حينما يلحقون بأولئك بنفوسهم بعد الموت؛ فإنهم يصبحون في جوار منهم، فتتصل نفوسهم المتشابهة بعضها ببعض، باعتبارهم ينتمون إلى طائفة واحدة، وكلما زاد عدد هذه النفوس المفارقة زاد اتصالها ببعضها، فتزيد بذلك لذّاتها وسعادتها، وهكذا باضطراد، إذ كل نفس تعقل نفسها، وتعقل ما يشابه ذاتها بحسب تكثرها، مما يجعل لذّات كل واحدة منها بغير نهاية «فهذه هي السعادة القصوى الحقيقية التي هي غرض العقل الفعال».
[1] إبن باجة: رسالة اتصال العقل بالإنسان، ضمن الرسائل الإلهية لإبن باجة، حققها وقدم لها ماجد فخري، دار النهار، بيروت، 1968م، ص170.
[2] رسالة اتصال العقل بالإنسان، ص168ـ169.