يحيى محمد
يوظف الغزالي قانون الشبه لكافة عوالم الوجود، ويرى بين عالم الشهادة وعالم الملكوت مناسبة ومماثلة لولاها ما كان من الممكن الارتقاء من العالم الأول إلى الثاني. وكما يقول: «ما من شيء في هذا العالم إلا وهو مثال لشيء من ذلك العالم، وربما كان الشيء الواحد مثالاً لأشياء من عالم الملكوت. وربما كان للشيء الواحد من الملكوت أمثلة كثيرة من عالم الشهادة، وإنما يكون مثالاً إذا ماثله نوعاً من المماثلة، وطابقه نوعاً من المطابقة. واحصاء تلك الأمثلة يستدعي استقصاء جميع موجودات العالمين بأسرها، ولن تفي به القدرة البشرية، ولن تتسع لفهمه القوة البشرية»[1].
ويركز الغزالي إهتمامه على علاقة الشبه الدائرة بين عالم الإنسان والعوالم الأخرى بما في ذلك مبدأ الوجود الأول. فعنده أن الإنسان عبارة عن عالم صغير وإنعكاس لحقيقة العالم الأكبر، أو هو صورة مصغرة ومضاهية للعالم، فقلبه مركز السلطان وهو أشبه بالعرش، ودماغه أشبه بالكرسي، وخزانة التخيل كاللوح المحفوظ، وحواسه الخاضعة لأوامره أشبه بالملائكة المنقادين للمشيئة الإلهية، وأعصابه وأعضاؤه بمثابة السماوات، وقدرته في الاصبع كالطبيعة المسخّرة في الأجسام، وكل ما يتصرف به الإنسان في بدنه إنما هو على مثيل ما يتصرف به الله في عالمه الأكبر[2]. فهو يقرر بأن النفس مع أنها واحدة إلا أن لها قوى عديدة، فاشرافها على البدن والروح الحيواني يجعلها تفعل في كل موضع فعلاً محدداً يختلف عن المواضع الأخرى، لإختلاف القوى، ففي موضع تفعل الإبصار، وفي غيره تفعل السمع، وفي آخر الحس المشترك، وكذا التخيل والتوهم وغير ذلك. وهذه الأفعال المتعددة للنفس الواحدة تشابه أفعال مبدأ الوجود الأول، إذ هو بالنسبة إلى وجود العقل إبداع، وبالنسبة إلى دوامه تكميل بالفعل، وبالنسبة إلى النفس تتميم وتوجيه من القوة إلى الفعل، وبالنسبة إلى الطبيعة تحريك، والى الأجسام تعريف، والى الطبائع والعناصر تعديل، والى المركبات تصوير، والى المصورات إحياء، والى الحيوان إحساس وهداية، والى العقل الإنساني تكليف وتعريف، والى الأنبياء (ع) أمر وكلام وكلمات وقول وكتاب ورسالات[3].
ويوظف الغزالي لهذا المعنى الحديث المروي عن النبي «خلق الله آدم على صورته»، وفي رواية أخرى «على صورة الرحمن»، فعدّه دالاً على وجود مضاهاة بين الإنسان وخالقه في الذات والصفات والأفعال، مؤكداً بأن تصرف الإنسان في عالمه يشبه تصرف الحق في العالم الأكبر، فالأول إنموذج للأخير، ولا يخلو الإنموذج من محاكاة ما هو إنموذج له[4]. وهذا يعني أن بمعرفة النفس تتحقق معرفة غيرها من الوجود والعالم.
ويشير الغزالي إلى أن المضاهاة والنسخة المصغرة للعالم في الإنسان هي التي تجعل المعرفة المتبادلة بينهما ممكنة، فبمعرفة العالم تتحقق معرفة النفس، كما أن بمعرفة الأخيرة ينتج عنها معرفة العالم، ما دام لكل شيء فيها نظير[5]، طبقاً لقانون الشبه والسنخية. بل ويسحب الغزالي ذلك حتى على معرفة الشريعة من الوحي والنبوة والمعجزات والدار الآخرة والمغيبات وغيرها، فهو يوظف للمعنى الآنف الذكر الحديث المروي عن النبي «من عرف نفسه فقد عرف ربه»، إذ يفسّره بأن من عرف نفسه عرف ربه وصفاته وأفعاله ومراتب العالم، مبدعاته ومكنوناته، وعرف أيضاً الملائكة ومراتبهم، وعرف لمّة الملك ولمّة الشيطان والتوفيق والخذلان، وعرف الرسالة والنبوة وكيفية الوحي وكيفية المعجزات والإخبار عن المغيبات، وعرف الدار الآخرة والشقاوة والسعادة ولذة البهجة فيها، كما وعرف غاية السعادة التي هي لقاء الحق تعالى[6].
ومع ذلك فالغزالي لا يسلم من السقوط في براثن التردد حول الشبه مع مبدأ الوجود الأول. فهو يسلّم أحياناً بعدم وجود شبه بينه وبين العالم، رغم إقراره بوجود علاقة شبه بين النفس من جهة والعالم ومبدأ الوجود الأول من جهة ثانية، مما يعني أن هناك نوعاً من الشبه بين الحق والعالم، لأن شبيه الشبيه شبيه بالشيء. كذلك فإنه يجعل نسبة العقل المفارق (المطاوع) إليه كنسبة الشمس إلى النور المحض، أو الجمر إلى جوهر النار الصرف[7]، وهو ما يفضي إلى نوع من علاقة الشبه والسنخية مع الكل.
بل يبلغ حد التردد لدى الغزالي هو أنه يعتبر الحق لا يُعرف إلا بالسلب، فهو وإن تجلى على الكل، لكن لشدة ظهوره يكون خفاؤه وبطونه[8]، وبالتالي تُحال معرفته. ومع ذلك فهو يقر بإكتساب الإنسان للصفات الإلهية والتخلق بأخلاق الله فيصير العبد «ربانياً» بالقرب منه، إذ يصبح حاملاً لضرب من الشبه بصفات الملائكة فيكون قريباً منها، والتي هي قريبة من الحق لهذا الشبه. لكنه مع ذلك نفى هذه المشابهة مع الحق وأثبت المشاركة في الصفات كالعلم والقدرة والحياة وغيرها[9]، رغم أن المشاركة ما هي إلا نوع من المشابهة.
لكن يظل الإتجاه العام للغزالي هو أنه من دعاة الوحدة والشبه الذي لا يقبل الاستثناء، فهو صريح القول بوحدة الشهود والوجود، إذ يقول: «ترقى العارفون من حضيض المجاز إلى ذروة الحقيقة واستكملوا معراجهم فرأوا بالمشاهدة العيانية أنه ليس في الوجود إلا الله، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، لا أنه يصير هالكاً في وقت من الأوقات، بل هو هالك أزلاً وأبداً..»[10].
وتوضيحاً لعبارته هذه ينص الغزالي على أن «الوجود ينقسم إلى ما للشيء من ذاته وإلى ما له من غيره، وما له الوجود من غيره فهو عدم محض. وإنما هو موجود من حيث نسبته إلى غيره، وذلك ليس بوجود حقيقي.. فالموجود الحق هو الله تعالى، كما أن النور الحق هو الله تعالى..»[11]. وهو يؤكد هذا المعنى فيعتبر أن «سائر الأنوار مستعارة، وإنما الحقيقي نوره فقط، وأن الكل نوره، بل هو الكل، بل لا هوية لغيره إلا بالمجاز. فإذاً لا نور إلا نوره، وسائر الأنوار أنوار من الذي يليه لا من ذاته»[12].
ويُعدّ مثال النور مهماً في توجيه نظرية الغزالي بما يبعدها عن مقالة الصوفية. فالنور ظاهر بذاته ومظهر لغيره بالعرض، ولولا إظهاره لذاته ما ظهر شيء إطلاقاً، وبالتالي فإن كل شيء من حيث هو وبغض النظر عن النور المظهر له يكون عدماً وسراباً لا حقيقة ولا وجود له. وهذا المفهوم هو أقرب إلى التصور الفلسفي لوحدة الوجود منه إلى التصور الصوفي رغم الشعرة القصيرة التي تفصل بينهما والتي سنشهد إنقطاعها لدى المتأخرين من الإشراقيين.
ويستعين الغزالي بمثال نور الشمس لتوضيح نظريته عن الوجود، حيث منه يستمد القمر نوره الذي يمكن أن يُرى في كوة المنزل، وبه ينعكس الضوء على مرآة معلقة على الحائط، فتنعكس صورته في مرآة أخرى معلقة على الجدار المقابل، ومنه على الأرض.. وهكذا يكون الضوء الحاصل على الأرض تابعاً لما في المرآة على الحائط، وهو بدوره تابع إلى غيره حتى ينتهي في الأخير إلى نور الشمس، بل إلى الشمس ذاتها[13]، مثلما هو الحال في علاقة الموجودات بالموجود الأول. الأمر الذي يجعلنا نعتبر الغزالي هو أول من حدد طريقة الفلاسفة في وحدة الوجود، والتي تختلف عن طريقة العرفاء كما سنرى.
والأهم من ذلك أن الغزالي قام بتشييد قاعدة تفسيرية جديدة لمفاهيم الشرع تسعى للمصالحة بين الفلسفة وطريقة السلف البيانية، لما فيهما من طابع مشترك، إعتماداً على منطق الشبه والسنخية. فالفلسفة في هذه المرة ترضى أن تأخذ بظاهر ما ورد في الشرع دون حاجة للتوجيه والتأويل. ومن ثم إذا كانت طريقة السلف البيانية تقر بما جاء به الشرع من صفات إلهية، كالسمع والبصر والغضب والضحك والفرح وال إستواء والاستهزاء والمكر والتعجب والمجيء والهرولة واليد والقدم والعين والوجه وما إلى ذلك من صفات مذكورة في القرآن والحديث، فإنه بحسب طريقة الغزالي الفلسفية التي تجعل عوالم الوجود متطابقة، بعضها من سنخ البعض الآخر، يصبح ما ذكره الشرع من صفاتٍ إلهية يمثل حقيقةً ظهر على سنخها كل ما نراه من صفات الخلق في العالم الدنيوي، بلا نظير أو مثيل، وذلك للبون الشاسع بين العالمين، وعليه يصدق على هذا العالم ما جاء ذكره في الخطاب القرآني: ((ليس كمثله شيء وهو السميع البصير))[14]، كما فصلنا ذلك في حلقة (الفلسفة والعرفان والإشكاليات الدينية).
[1] الغزالي: مشكاة الانوار، ضمن القطب الأول من الفصل الثاني.
[2] معراج السالكين، ضمن مجموعة رسائل الإمام الغزالي (1)، ص22. كذلك: سليمان دنيا: الحقيقة في نظر الغزالي، دار المعارف بمصر، الطبعة الثالثة، 1971م، ص108ـ109.
[3] انظر معراج السالكين، ضمن القصور العوالي للغزالي، دار الطباعة المحمدية بالأزهر، الطبعة الثانية، 1390هـ ـ 1970م، ج3، ص103، وما بعدها.
[4] الغزالي: رسالة روضة الطالبين، ص57ـ58.
[5] الغزالي: مقاصد الفلاسفة، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف بمصر، 1961م، ص228.
[6] معراج السالكين من رسائل القصور العوالي، ج3، ص111. كذلك: كيمياء السعادة، ضمن رسائل الجواهر الغوالي للغزالي، مطبعة السعادة بمصر، الطبعة الأولى، 1353هـ ـ 1934م، ص17.
[7] مشكاة الأنوار، تحقيق وتقديم أبو العلا عفيفي، نشر الدار القومية في القاهرة، ص70.
[8] الغزالي: جواهر القرآن، دار الآفاق الجديدة ببيروت، الطبعة الرابعة، 1979م، ص13. والمقصد الأسنى، مكتبة المعاهد العلمية بالصنادقية بمصر، ص147. كذلك: دي بور: تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمه وعلّق عليه محمد عبد الهادي أبو ريدة، الطبعة الرابعة، 1377هـ ـ 1957م، ص340.
[9] المقصد الأسنى، ص14 وما بعدها.
[10] مشكاة الأنوار، ص55ـ56. والأسفار، ج2، ص342. ومحمد مهدي النراقي: قرة العيون، مقدمة وتعليق وتصحيح جلال الدين اشتياني، انتشارات دانشگاه فردوسي، مشهد، ص196 و233.
[11] مشكاة الأنوار، ص55.
[12] المصدر السابق، ص60.
[13] مشكاة الأنوار ضمن الجواهر الغوالي، ص120. كذلك: محمود قاسم: دراسات في الفلسفة الإسلامية، الطبعة الثالثة، ص113.
[14] الشورى/ 11.