يحيى محمد
لقد اقتفى إبن طفيل (المتوفى سنة 581هـ) أثر إبن سينا وحذا حذوه كالقدة بالقدة والنعل وبالنعل، فأخضع مراتب الوجودات تحت طائلة قانون الشبه والسنخية، وبسط فكرته مموهة عبر حكايته عن (حي بن يقظان) المستعارة من إبن سينا في الكشف عن أسرار الفلسفة المشرقية. فهو كإبن سينا قام بتطبيق قاعدة (الإمكان الأشرف) الأرسطية، فاعتبر الوجود واحداً وإن تعددت مظاهره وتفاوتت مراتبه، وأن كل مرتبة من مراتب الكائنات تشتمل على جوهر وكمال ما دونها فيكون لها زيادة خاصة. فالإنسان مثلاً يشارك الحيوان بكل ما فيه ويزيد عليه بالنفس العاقلة، والحيوان يشارك النبات بأبعاده الثلاثة - التغذية والنمو والتوليد - ويزيد عليه بالحس والحركة، كما أن النبات يشارك الجماد بما يملك ويزيد عليه بتلك الأبعاد الثلاثة.. وكذا هو الحال مع سائر المراتب الوجودية الأخرى. وهو بذلك لا يستثني حتى مبدأ الوجود الأول، إذ يراه مشتملاً على جميع المراتب الوجودية والكونية التي دونه، فهو الأصل الذي منه ينحدر النظام الواحد على إختلاف مظاهره ورتبه[1]. وهو بهذا يقول بوحدة الوجود التامة إتساقاً مع منطق قانون الشبه والسنخية.
وهو كسائر الفلاسفة يعول على الاخذ بنظرية المثال والتشبيه، وهو كغيره يعتبر الفيلسوف يعلم ما يعلمه النبي، لكن النبي يتكلم بالامثال ليقرب المطلوب الى الافهام العامة، بينما ينقل الفيلسوف الحقيقة كما هي صراحة من دون تغليف ولا تلبيس[i]. هذا هو ما آلت اليه قصته الاشراقية (حي بن يقظان) والتي اتبع فيها المسلك الذي سار عليه الفلاسفة قبله. فالقصة تؤكد على أن الحقيقة تظهر مباشرة وبالذوق لأصحاب الكشف والمشاهدة من العرفاء، كذلك تؤكد على أن أصحاب الفلسفة والعقل الكسبي يصلون هم أيضاً الى المعطى المعرفي او المفهومي عينه الذي يصل إليه أهل الكشف، في حين إنها تنظر الى رجال الدين بانهم الجمهور العام الذين تستهويهم الحجج الخطابية والإقناعية. فهم ليسوا من أصحاب البرهان ولا من أهل العرفان، بل نفوسهم غير مستعدة لأن تتقبل سوى تلك الحجج، وهي ما تقدمه لهم العينة الدينية من الظواهر التي يحتجّون بها، وهذا ما أدركه بطل القصة (حي ابن يقظان) بفطنته، فعلم به وجه الحكمة في كون العينة الدينية ليست مصدراً للبرهان والحقيقة، بل هي مصدر التمثيل والرمز. وهو جوهر ما يؤكد عليه ابن سينا كما في رسالة (أضحوية في أمر المعاد)، ومن قبله الفارابي، بل وقبلهما الكثير من الاسماعيلية. فهم جميعاً يعتقدون بان العينة الدينية هي مصدر التمثيل والرمز لا البرهان والحقيقة، وأن وظيفتها هي لاجل مخاطبة الجمهور واقناعهم، طالما ان نفـوسهم لا تتعقل الحـقيقة والـبرهان.
هكذا فان اهمية هذه القصة هو انها تعكس التصورات التي يريدها الاشراقيون، اذ يرون وحدة الحقيقة لدى كل من الفلاسفة والعرفاء، حيث الفلاسفة بعقولهم ومفاهيمهم النظرية، والعرفاء بمشاهداتهم وكشوفهم الذوقية. اي الحقيقة التي يصل اليها الفلاسفة عبر الاستدلالات والبراهين المعرفية التي تعتمد على التعليم الكسبي من الصنعة والمقدمات المنطقية، وكذا الحقيقة التي يتذوقها اهل الكشف والمشاهدة بفعل زهدهم عن الدنيا وممارسة الرياضات الروحية والتأملات الوجدانية الخاصة.
كما تؤكد القصة ايضاً على طبيعة العلاقة التي ينبغي ان تكون بين الحقيقة التي يصلها كل من اصحاب الفلسفة والمشاهدة من جهة، وبين المعطيات الدينية من جهة اخرى، وذلك تبعاً لنظرية المثال والتمثيل، والاخذ بالباطن وحمل الظاهر على التشبيه والتمثيل. وبالتالي التفريق بين ظاهر العينة الدينية وباطنها، فالاول يدركه الجمهور، والثاني يدركه الخواص من اصحاب التأمل الفلسفي وارباب المشاهدات الروحية. وان هناك حكمة في عدم اظهار الحقائق لعموم الناس عبر التنزيل الديني، وهو امر يفهمه اصحاب الكشف والمشاهدة اعتماداً على القابليات الضعيفة لافهام اغلب الناس بمن فيهم رجال الدين والفقهاء، وانه لا يسعهم غير ما وسعهم، وكل ميسر لما خلق له مثلما جاء في الحديث النبوي. وبالتالي كان يجب على اصحاب التأمل واهل المشاهدة ستر الحقائق عن هؤلاء الناس ومعاملتهم بالرفق واظهار انهم يرون من الاعتقادات مثل ما يراه هؤلاء، ومن ثم الضن بالحقائق والاسرار على كل من هو من غير اهلها. فمهما يكن فان اغلب الناس ينتفعون من التنزيل الديني في سلوكهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم، وهذه الوظيفة تكفيهم وتسد حاجاتهم الفعلية، رغم انهم بعيدون عن ادراك الحقائق الدينية، اذ انها لا تنكشف الا لذينك الصنفين من الرجال: الفلاسفة والعرفاء. فهؤلاء هم وحدهم من يفهم سر ما يجري عليهم وعلى غيرهم من العباد، أما رجال الدين فليس لهم من الامر سوى القشر والظاهر.[ii]
وبحسب هذه المفاهيم كان من الطبيعي ان يوافق ابن طفيل الفلاسفة على القول بنفي المعاد الجسماني[iii]، وهو رغم تردده في قضية قدم العالم او حدوثه من حيث وجود ما يعترض كل منهما من الشبهات، الا انه كان ينتهي احياناً الى نتيجة قد تكون لديه كشفية ذوقية لا تتعلق بالشبهات العارضة، وهي ان العالم قديم كله بسماواته وارضه وكواكبه بما فيها وما تحتها وما فوقها وما بينها، فكلها قديمة زماناً وان كانت حادثة ذاتاً[iv]. وقد اشار احياناً الى ان العالم الالهي وإن كان مستغنياً عن العالم الحسي التابع له كالظل للشخص، الا انه رغم ذلك يستحيل ان يطرأ على وجود هذا العالم الحسي عدم بجملته، وذلك استناداً الى هذه التبعية[v]. مما يعني انه لا بد ان يكون قديماً كالعالم الالهي، قدماً بقدم.
[1] إبن طفيل: رسالة حي بن يقظان، تقديم وتحقيق البير نصري نادر، دار المشرق، الطبعة الثانية، 1968م، ص33ـ36. كذلك: أعلام الفلسفة العربية، ص681ـ682.
[i] ابن طفيل: رسالة حي ابن يقظان، طبعة دار الافاق الجديدة، ص76-77.
[ii] حي بن يقظان، ص76-77.
[iii] حي بن يقظان، ص48-49 و74.
[iv] لاحظ الرسالة السابقة، ص44-45.
[v] حي بن يقظان، ص70.