يحيى محمد
معلوم أن الشيخ الرئيس إبن سينا (المتوفى سنة 428هـ) لا يختلف في وجهات نظره وتحليلاته عن شيخه الفارابي غالباً، فإذا جاز لنا أن نقارن بينهما مقارنة «عقلية» فإن من اللائق أن نحسب الفارابي «عقلاً مجملاً»، في حين نعتبر إبن سينا «عقلاً مفصلاً» لما امتاز به من بسط وشرح لقضايا الفلسفة التي كان يثيرها شيخه بالإختصار والإجمال.
وقد بسط الشيخ الرئيس – كشيخه الفارابي - قانون الأصل والشبه على الموجودات عموماً. ففي عالم الطبيعة استفاد من قاعدة الإمكان الأشرف الأرسطية كموجه عام لإثبات وحدة انضمام الكائنات بعضها للبعض الآخر على نحو الكمال، إذ صرح بأن «الطبيعة ما لم توف على النوع الأتم شرايط النوع الأنقص الأقل بكماله، لم تدخله في النوع الثاني والمرتبة الثانية. مثال ذلك أن ذات النوع الأخس وهو الجسمية ما لم تعطها الطبيعة جميع خصائص الكيفيات الجسمية الموجودة في هذا العالم، لم تخط به إلى النوع الثاني الأشرف بالإضافة وهو النباتية. وما لم تحصله جميع خصائص النباتية كالقوة الغاذية والنامية والمولّدة في النوع الأخس الأول، لم يتجاوز به إلى النوع الثاني كمرتبة الحيوانية. والمرتبة الحيوانية منقسمة إلى حس وحركة ارادية، فما لم يحصل للنوع الأخس الأدنى الأول جميع الحواس المدركة بجميع المحسوسات فمن الواجب أيضاً أن لا يتعدى الطبيعة بالنوع الحيواني إلى النوع النطقي ولكن الطبيعة قد حصلت في المواليد جوهراً ناطقاً، فمن الضروري أنها أوفت جميع القوى الحسية بكمالها فاتبعته إفادة القوة الناطقة. فإذا كان للنوع الناطق جميع القوى المدركة للمحسوسات، فإذاً النوع الناطق يدرك لجميع المحسوسات، فإذاً لا محسوس ما خلا ما يدركه الناطق»[1].
كما تحدّث إبن سينا عن تنزلات الوجود ومراتبه وفق قاعدة الإمكان الأشرف وسلسلة الصعود والنزول بما يجعل العالم السفلي محكوماً بالعالم العلوي وعلى شاكلته. وكما قال: «يجب أن تعلم أن الوجود إذا ابتدأ من عند الأول لم يزل كل تال منه أو دون مرتبة من الأول، ولا يزال ينحط درجات، فأول ذلك درجة الملائكة الروحانية المجردة التي تسمى عقولاً، ثم مراتب الملائكة الروحانية التي تسمى نفوساً وهي الملائكة العملية، ثم مراتب الأجرام السماوية وبعضها أشرف من بعض، إلى أن تبلغ آخرها، ثم بعدها يبتدئ وجود المادة القابلة للصورة الكائنة الفاسدة، فتلبس أول شيء صور العناصر، ثم تتدرج يسيراً يسيراً، فيكون أول الوجود فيها أخس وأرذل مرتبة من الذي يتلوه، فيكون أخس ما فيه المادة ثم العناصر ثم المركبات الجمادية ثم الناميات وبعدها الحيوانات، وأفضلها الإنسان، وأفضل الناس من استكملت نفسه عقلاً بالفعل ومحصلاً للأخلاق التي تكون فضائل عملية. وأفضل هؤلاء هو المستعد لمرتبة النبوة وهو الذي في قواه النفسانية خصائص ثلاث ذكرناها». ثم قال: «وكما أن أول الكائنات من الابتداء إلى درجة العناصر كان عقلاً ثم نفساً ثم جرماً، فها هنا يبتدئ الوجود من الأجرام ثم تحدث نفوس ثم عقول، وإنما تفيض هذه الصور لا محالة من عند تلك المبادئ، والأمور الحادثة في هذا العالم تحدث من مصادمات القوى الفعالة والمنفعلة الأرضية، تابعة لمصادمات القوى الفعالة السماوية »[2].
ومن جهة أخرى، اعتبر إبن سينا - كسائر من سبقه من الوجوديين - أن الإنسان عالم أصغر، بكل قوة يشارك صنفاً من الموجودات، فبالحيواني يشارك الحيوانات، وبالطبيعي يشارك النبات، وبالإنساني يوافق الملائكة[3].
ورغم أن إبن سينا بسط قانون الوحدة والشبه على مراتب الوجودات المختلفة، لكنه تردد حول مبدأ الوجود الأول بما لم يسبق إليه أحد من الوجوديين. ففي غالب كتبه استثنى المبدأ الأول من ذلك البسط والهيمنة، كما يظهر من تحديده لكيفية العلم الإلهي بالغير. فهو كشيخه الفارابي نفى أن تكون صور الأشياء مرتسمة في الذات الإلهية، واعتبرها من لوازم هذه الذات بترتيب علّي لا زماني، لتُحفظ بذلك الوحدة الإلهية من دون انثلام[4]. فعلمه بالصور لازم عن علمه بذاته، وهذا العلم هو عين ايجادها بلا إختلاف، احترازاً من أن يفضي تقدم تعقّل الصور على وجودها إلى التسلسل[5].
إلا أنه في بعض رسائله العرفانية وخلافاً لما سبق عمد إلى بسط قانون الوحدة والشبه على كافة الموجودات وعلى رأسها مبدأ الوجود الأول، جاعلاً إياه الباسط والمبسوط معاً، إذ اعتبر بأن الله تعالى ظاهر في جميع الموجودات من دون احتجاب، وهذا التجلي والظهور هو حقيقة ذاته، مصرحاً بأن هذا هو نفس ما يسمى عند الصوفية بالإتحاد، ومقراً بأنه لولا هذا التجلي ما كان بالإمكان معرفته أبداً[6]. وعنده أن أول مراتب التجلي هو ما يتعلق بالعقول الفعالة التي تتقبله بغير توسط أمر آخر، ثم تناله النفوس الإلهية، وبعدها القوة الحيوانية فالنباتية فالطبيعية. فهذا التجلي هو الذي يجعل الموجودات شبيهة بالأول مع حفظ مراتب تعيناته تبعاً لمراتب القرب والبعد عنه. وفي جميع الأحوال أن الكل يتشبه بالحق وينال التجلي بالشوق لهذا التشبه[7].
كما أثار في كتابه (الإشارات والتنبيهات) العديد من ردود الفعل، فأتهم بأنه قائل بحلول الصور الذهنية في ذات المبدأ الحق، مما يستلزم القول بوحدة الشبه بين مختلف مراتب الوجودات قاطبة دون استثناء. ففي هذا الكتاب تعرّض إبن سينا إلى إنكار شارحه المحقق نصير الدين الطوسي، بإعتبار أن هذه النظرية تفضي إلى حلول الكثرة في ذات الحق، مما حدا به لتعديلها إلى حيث الطريقة التقليدية وذلك بتحويل الصور من تلك الذات إلى العقل الأول، سيما أن هذا العقل يتصف باللزوم والحضور لذات الحق، فيتم علمها من خلاله[8]، وهو ما أثار حفيظة بعض العرفاء فنقض نقد الطوسي لإبن سينا معتبراً أن الكثرة في ذات الأول ليست حالة فيه وإنما هي عينه، بإعتباره الواحد والكثير[9]، وهذا ما ينتظم تماماً مع المفهوم الفلسفي لوحدة العاقل والعقل والمعقول كما سبق أن صرح بها أرسطو.
والواقع أن ما كشفه إبن سينا من وجود الصور في ذات الحق - إن صحّ النقل عنه - هو أول خطوة تعلن عن نفسها صراحة في الكشف عن طبيعة العلم الإلهي بين الوجوديين. كما أن رد الفعل الذي تلقاه من قوله هذا يدل على مدى إهتمام الأتباع بحفظ الشذوذ الخاص بذات الحق.
[1] المبدأ والمعاد لصدر المتألهين، ص60ـ61.
[2] إبن سينا: النجاة، مطبعة السعادة بجوار محافظة مصر، الطبعة الثانية، 1357هـ ـ 1938م، ص698ـ700. ومثله في: إلهيات الشفاء، تحقيق الأب قنواتي وسعيد زايد مع مراجعة وتقديم ابراهيم مدكور، ص435ـ436.
[3] رسالة ماهية الصلاة، ضمن رسائل إبن سينا في أسرار الحكمة المشرقية، مكتبة المثنى ببغداد، طُبعت بالاوفست على طبعة بريل في ليدن، ص30ـ31.
[4] إبن سينا: التعليقات، تحقيق وتقديم عبد الرحمن بدوي، ص120 و152ـ154. وصدر المتألهين: المبدأ والمعاد، ص98. وملا نظر علي كيلاني: تحفه، ضمن رسائله الفلسفية، انتشارات أنجمن إسلامي حكمت وفلسفه ايران، ص219.
[5] التعليقات، ص48ـ49 و149.
[6] رسالة العشق، ضمن رسائل إبن سينا، ص22ـ23.
[7] المصدر السابق، ص23ـ26. كذلك: الأسفار، ج1، ص419.
[8] القسم الثاني من الإشارات والتنبيهات، دار المعارف، الطبعة الثانية، ص133ـ134 و115ـ116. كذلك عبد الرحمن الجامي: الدرة الفاخرة، مع انضمام حواشي وشرح عبد الغفور اللاري مع حكمت عمادية، مؤسسة مطالعات إسلامي، دانشگاه مك گيل، شعبة طهران، 1980م، ص14ـ18. لكن يلاحظ أن رأي إبن سينا المدون في (الإشارات والتنبيهات) لا يتعدى دائرة الطريقة التقليدية بتحويل الصور العلمية من الذات الإلهية إلى العقل الأول لا العكس، كما هو واضح من قوله: «إدراك الأول للأشياء من ذاته في ذاته هو أفضل أنحاء كون الشيء مدرِكاً ومدرَكاً... ولعلك تقول: إن كانت المعقولات لا تتحد بالعاقل ولا بعضها مع بعض لما ذكرت، ثم قد سلمت أن واجب الوجود يعقل كل شيء، فليس واحداً حقاً بل هناك كثرة. فنقول: إنما لما كان يعقل ذاته بذاته، ثم يلزم قيموميته عقلاً بذاته لذاته، أن يعقل الكثرة، جاءت الكثرة لازمة متأخرة لا داخلة في الذات مقومة، وجاءت أيضاً على ترتيب. وكثرة اللوازم من الذات مباينة أو غير مباينة لا تثلم الوحدة. والأول تعرض له كثرة لوازم اضافية وكثرة سلوب، وبسبب ذلك كثرة أسماء. لكن لا تأثير لذلك في وحدانية ذاته» (القسم الثالث من الإشارات والتنبيهات، طبعة دار المعارف الثانية، ص202. كذلك نفس المصدر، القسم الثالث والرابع، طبعة دار المعارف، 1958م، ص714ـ715).
[9] الدرة الفاخرة، ص18ـ19.